Marwiyyat al-Sirah by Akram al-Omari
مرويات السيرة لأكرم العمري
خپرندوی
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
ژانرونه
مرويات السيرة النبوية بين قواعد المحدثين وروايات الأخباريين
الأستاذ الدكتور: أكرم ضياء العمري
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
يقصد بالمحدِّثين الرواة الذين نقلوا الأحاديث النبوية بمتونها وأسانيدها خلال القرون الإسلامية الأولى حيث كانت الرواية والحفظ تحتل المقام الأول رغم ظهور الكتابة منذ عصر السيرة النبوية وتوسع التدوين خلال القرنين الأولين وظهور المصنفات الحديثية المرتبة على الأسانيد والموضوعات خلال القرن الثاني والثالث للهجرة..
وقد صاغ المحدثون قواعد نقدية دقيقة ضمن منهج واسع عرف بمصطلح الحديث، وبذلك سبقوا الآخرين في التنظير والتقعيد لكيفية التفاعل مع الروايات بفحصها وتطبيق قواعدهم عليها لغرض الحكم عليها قبولًا وردًا، مما أدى إلى اكتمال معلوماتهم عن الرواة والتدقيق في أحوالهم من حيث الصدق والورع والالتزام الديني، وظهرت مكتبة ضخمة في علم الرجال، أثرت في فن الترجمة للأعلام في سائر العلوم التي ظهرت في الإسلام. وأهم المحدثين الذين عنوا بأخبار السيرة النبوية هم أبان بن عثمان، وعروة بن الزبير بن العوام، وعاصم بن عمر بن قتادة، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وموسى بن عقبة، ومعمر بن راشد، ومحمد بن إسحاق، وسليمان بن طرخان التيمي، والوليد بن مسلم الدمشقي، ومحمد بن عائذ الدمشقي، وأبو معشر السندي، وهؤلاء جميعًا إما ثقات أو صدوقون عند أئمة النقاد – ماعدا أبا معشر السندي فإنه بصير بالمغازي ضعيف بالحديث – وقد قبلت مروياتهم إما بإطلاق وإما بقيود كما في مراسيل الزهري التي عدت ضعيفة، وكما في عنعنة محمد بن إسحاق والوليد بن مسلم، فإنهما مدلسان، وبذلك يمكن القول بأن السيرة النبوية حظيت بنخبة من أهل العلم دونت أخبارها
1 / 1
وصنفتها؛ وبذلك تم حفظها وأمكن الثقة بمعلوماتها، وهذا مما هيأه الله تعالى لسيرة نبيه ﷺ.
أما الأخباريون فهم رواة الأخبار التأريخية الذين ظهروا في القرن الثاني الهجري ومن أبرزهم:
محمد بن السائب الكلبي (ت ١٤٦هـ)، وعوانة بن الحكم (ت ١٤٧هـ)، وأبو مخنف لوط بن يحيى (ت١٥٧هـ)، وسيف بن عمر التميمي (ت١٨٠هـ)، وأبو اليقظان النسابة (ت١٩٠هـ)، والهيثم بن عدي (ت٢٠٦هـ)، وأبو عبيدة معمر بن المثنى (ت ٢٠٩هـ)، ونصر بن مزاحم (ت٢١٢هـ)، وكان علي بن محمد المدائني شيخ الأخباريين (ت٢١٢هـ) وخاتمتهم.
وقد جمع الأخباريون معلومات واسعة عن حركة الردة والفتوحات وأوضاع الحياة في عصر الخلافة الراشدة والدولة الأموية والعصر العباسي الأول، وبذلك مهدوا لظهور المؤرخين الكبار، أمثال خليفة بن خياط وابن قتيبة والبلاذري وأبي حنيفة الدينوري واليعقوبي والمسعودي، وإمام أهل هذه الصنعة محمد بن جرير الطبري (ت ٣١٠ هـ) .
ثم تتابع الاهتمام بالتدوين والتصنيف في التأريخ بما في ذلك فترة السيرة النبوية. وكان الاعتماد في نقل أخبارها على روادها الأوائل من المحدثين.
مكانة الأخباريين من الجرح والتعديل:
تناولت كتب الجرح والتعديل عددًا من مشاهير الأخباريين؛ ترجمت لهم وبينت صفاتهم وأحوالهم ومكانتهم عند المحدثين النقاد، وذلك ضمن تراجم الرواة ولم يفردوا بكتاب.
1 / 2
وأهم الأخباريين الذين تناولهم النقاد هم:
١. محمد بن السائب الكلبي (ت١٤٦هـ):
خلاصة ما قيل فيه أنه رأس في الأنساب، شيعي، متروك الحديث، ليس بثقة (١) .
٢. عوانة بن الحكم الكلبي (ت١٤٧هـ) أو (ت١٥٨هـ):
قال الذهبي: العلاّمة الأخباري، الكوفي الضرير أحد الفصحاء له كتاب التأريخ وكتاب سير معاوية وبني أمية وغير ذلك، وكان صدوقًا في نقله.
وقال ابن حجر: "أخباري مشهور كوفي، كثير الرواية عن التابعين، قلّ أن روى حديثًا مسندًا، وأورد عن عبد الله بن المعتز عن الحسن بن عليل العنزي - وهو من تلاميذ ابن معين - أنه كان عثمانيًا. فكان يضع الأخبار لبني أمية (٢) .
٣. أبو مخنف لوط بن يحيى (ت ١٥٧هـ):
قال يحيى بن معين فيه: "ليس بشيء". وقال في موضع آخر "ليس بثقة" (٣)،
وقال ابن عدي: "هو شيعي محترق، صاحب أخبارهم، وإنما له من
_________
(١) ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل ٩/٣٥١ والبخاري: التأريخ الكبير ٢/٣٢٤ والمزي: تهذيب الكمال ٣٣/١٧٧ والذهبي: الكاشف ٢/٤١٥ وابن حجر: تهذيب التهذيب ٢/١٦٨، ١٢/٥٤ وتقريب التهذيب ١/١٥٢.
(٢) الذهبي سير أعلام النبلاء ٧/٢٠١ وياقوت: معجم الأدباء٦/١٣٤ – ١٣٩ وابن حجر: لسان الميزان ٤/٣٨،٣٨٦ وسير أعلام النبلاء ١١/٩٢.
(٣) العقيلي: الضعفاء ٤/١٨
1 / 3
الأخبار المكروهة الذي لا أستحب ذكره" (١)،
وقال ابن حجر العسقلاني: "أخباري تالف، لا يوثق به، تركه أبو حاتم وغيره" (٢) .
٤. سيف بن عمر التميمي (ت١٧٠هـ):
أخباري اتهمه أئمة النقد بالوضع في الأخبار، ومن ثم تركوا مروياته (٣)، ومع ذلك فإن النقول عنه في أخبار الردة والفتوح كثيرة، ولم يتعرض لأخبار السيرة النبوية إلا نادرًا، ولم يرو أحاديث نبوية إلا نادرًا. وله حديث منكر وخبر يتعلق بالسيرة النبوية (٤)،وقد استقرأ ابن عدي مروياته وقال: "بعض أحاديثه مشهورة، وعامتها منكرة (٥) لم يتابع عليها، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق".
ويمكن أن يصار إلى نقدها من خلال ضوابط نقد المتن عند المحدثين، ومن خلال منهج النقد التأريخي الحديث.
٥. أبو اليقظان النسابة لقبه سحيم واسمه عامر بن حفص (ت١٩٠هـ):
من موالي تميم عاش بالبصرة، ميوله أموية، يكره الشعوبية، ويخالف غلاة الشيعة (٦)، ولم تترجم له كتب الجرح والتعديل مما يدل على عدم عنايته
_________
(١) ابن عدي: الكامل في ضعفاء الرجال ٦/٩٣
(٢) ابن حجر: لسان الميزان ٤/٤٩٢.
(٣) الذهبي: ميزان الاعتدال ٣ / ٣٥٢ –٣٥٣، والمزي: تهذيب الكمال ٣٢٥ – ٣٢٧.
(٤) ميزان الاعتدال للذهبي ٣/٣٥٣.
(٥) المزي: تهذيب الكمال ٣٢٦.
(٦) أكرم العمري: مقدمته لطبقات خليفة بن خياط ص٢٢م.
1 / 4
بالأحاديث، رغم وجود عدد من كبار المحدثين بين شيوخه الذين ذكرهم ضمن مصادره..
٦. الهيثم بن عدي الطائي (ت٢٠٧هـ):
قال عنه ابن المديني – وهو ناقد كبير (ت٢٣٤هـ) -: "الهيثم بن عدي أوثق عندي من الواقدي، ولا أرضاه في الحديث، ولا في الأنساب، ولا في شيء" (١) .
وكذبه يحيى بن معين (٢)، وأبو داود السجستاني (٣)، وقال البخاري: سكتوا عنه (٤) .، وهذه أدنى المراتب عنده، وتركه النسائي وغيره (٥) .
٧. أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت٢٠٩هـ):
قال الذهبي: "لم يكن صاحب حديث، وإنما أوردته لتوسعه في علم اللسان وأيام الناس ". وقال ابن قتيبة: "كان الغريب وأيام العرب أغلب عليه " وكان شعوبيًا يبغض العرب، ويذهب مذهب الخوارج فيما يقال،
والله أعلم (٦) .
٨. نصر بن مزاحم الكوفي (ت٢١٢هـ):
قال الذهبي: رافضيٌ جلد، تركوه وقال العقيلي: شيعي في حديثه اضطراب وخطأ كثير. وقال أبو خيثمة: كان كذابًا. وقال أبو حاتم: واهي
_________
(١) الخطيب: تأريخ بغداد ١٤/٥٢.
(٢) ابن معين: التأريخ، وانظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ٩/٨٥.
(٣) الخطيب: تأريخ بغداد ١٤/٥٣.
(٤) البخاري: التأريخ الكبير ٩/٨٥.
(٥) النسائي: الضعفاء ٢٤١ والذهبي: ميزان الاعتدال ٤/٣٢٤.
(٦) نهاد الموسى: أبو عبيدة معمر بن المثنى ١٠١ - ١١٩.وانظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء ٩/٤٤٦.
1 / 5
الحديث، متروك. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال العجلي: ليس بثقة ولا مأمون. وقال الخليلي: ضعفه الحفاظ جدًا وذكر له ابن عدي أحاديث وقال: هذه وغيرها من أحاديثه غالبها غير محفوظ (١) .
٩. أبو الحسن علي بن محمد المدائني (ت٢٢٥هـ):
"كان عالمًا بالفتوح والمغازي والشعر، صدوقًا في ذلك " وثقه ابن معين، وقال ابن عدي: ليس بالقوي في الحديث" (٢) .
١٠. أبو زيد عمر بن شبة النميري (ت٢٦٢هـ):
محدث ثقة، كان صاحب أدب وشعر وأخبار ومعرفة بالناس، وثقه الدارقطني (٣) . ولم يبق من مؤلفاته الكثيرة سوى أخبار المدينة، ورواياته تعدّل جوانب من الصورة التأريخية التي تقدمها روايات الأخباريين، ويظهر من الاقتباسات عن كتابه أخبار البصرة أنه تعرّض فيه لأخبار الجمل بتفصيل.
وإذا تأملنا في تراجم الأخباريين، وأحوالهم من الجرح والتعديل، وتحزباتهم القبلية والفكرية والمذهبية، فإن الصورة التأريخية التي قدموها عن القرون الهجرية الأولى الثلاثة سوف تهتز أمامنا، ولا سيما أن بعض الأحداث انفرد أحدهم بتقديم الأخبار عنها، مما يجعل إمكان المقارنة معدومًا حينًا ومحدودا حينًا آخر، وعلى أية حال فإنه ليس أمامنا سوى النقدين الباطني الإيجابي والسلبي للوصول إلى مقاربة للحقيقة التأريخية.
_________
(١) الذهبي: ميزان الاعتدال ٧/٢٤ والمغني ٢/٦٩٦ وابن أبي حاتم: الجرح والتعديل ٨/٤٦٨ والعقيلي: الضعفاء الكبير ٤/٣٠٠ والدارقطني: الضعفاء والمتروكين ٣/١٦٠.
(٢) الذهبي: سير أعلام النبلاء ١٠/٤٠٠ والمغني في الضعفاء ٢/٤٥٤. وابن حجر: لسان الميزان ٤/٢٥٣.
(٣) الخطيب: تاريخ بغداد ١١/٢٠٨. الذهبي: سير أعلام النبلاء ١٢/٣٦٩. وابن حجر: تهذيب التهذيب ٧/٤٦.
1 / 6
إن الطبري اعتمد في أخبار صفين على أبي مخنف لوط بن يحيى، إذ انفرد برواياته عنها، فقد ألف أبو مخنف كتابًا في صفين، واعتمد الطبري كثيرًا في أخبار الردة والفتوح على سيف بن عمر التميمي الذي ألف كتاب الردة والفتوح.
ولا يمكن الوثوق بما رواه الاثنان (أبو مخنف وسيف) من أخبار الصحابة في الفتن التي جرت في ذلك التأريخ المبكر، وينبغي تلمُّس الأخبار المفردة التي وردت في كتب الحديث، وتأريخ خليفة بن خياط، وأخبار المدينة، وأخبار البصرة لعمر بن شبة؛ للمقارنة مع أخبار أبي مخنف وسيف.
وقد ُبنيت الدراسات التأريخية الحديثة على تأريخ الطبري والبلاذري وعزت الأخبار إليهما دون التحقق من أثر الرواة الذين اعتمدهم الاثنان في سرد الأحداث، وإمكان تأثير الرواة المنحازين على الأخبار المنقولة عنهم، مع تشبع معظمهم بروح متحزبة لا يمكن الوثوق بنزاهتها في شهادتها على الأحداث.
ومن هنا يظهر أن كتابة حقب التأريخ الإسلامي المبكر في العصر الحديث تحتاج إلى عمل نقدي كبير لتقويمها علميًا، وللوصول إلى مقاربة أكبر للصدق والحقيقة.
ومن الطبيعي أن يشترك جمع من المحدثين والأخباريين في حيازة الوصفين: المحدث والأخباري، حيث يتوسع المحدث في جمع الأخبار خارج نطاق الأحاديث النبوية وأحداث السيرة، كما فعل محمد بن إسحاق (ت١٥١هـ)، ومحمد بن عمر الواقدي (ت ٢٠٤هـ)، وخليفة بن خياط (ت ٢٤٠ هـ) .
1 / 7
وقد ألحق المصنفون في علم الرجال تراجم الأخباريين ودرسوهم ضمن تراجم المحدِّثين، وبذلك قدموا معلومات مهمة عنهم، ولا سيما أن الأخباريين لم تفرد تراجمهم في مصنفات مستقلة. وبعضهم نأى بنفسه عن رواية الحديث النبوي إلا عرضًا، في حين غلبت الأخبار التأريخية على ثقافتهم. بل إن اهتمامهم بموضوعات السيرة النبوية قليل، حيث نجد لسيف ابن عمر في تاريخ الطبري (٧) روايات تتعلق بردة الأسود العنسي وطليحة ومسيلمة (١)، ومن الراجح أنها من كتابه (الردة والفتوح) وبوفاة النبي ﷺ، ولأبي مخنف لوط بن يحيى (روايتان) تتناول حادثة الوفاة، ولم ينقل الطبري عن معمر بن المثنى ولا أبي عبيدة ولا الهيثم بن عدي ولا أبي اليقظان النسابة أية رواية في السيرة النبوية، وإذا فحصنا أثر الأخباريين في قسم السيرة النبوية، من كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير (ت٧٧٤هـ) فإن ضآلة الأخبار تؤكد أن الأخباريين لم يهتموا بالسيرة النبوية إذ نقل عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أخبارًا قليلة تتعلق بالسيرة، حيث صنَّف أبو عبيدة كراريس في بعض موضوعاتها (٢) تتعلق بأزواج النبي ﷺ، فصنَّف كراسة في ذلك، ونقل عن سيف بن عمر التميمي (٣) خبرًا يتعلق بقاتل مسيلمة وآخر (٤) يتعلق بوفاة النبي ﷺ، وأخبارًا (٥)
_________
(١) الطبري ٣/١٤٧-١٨٤-١٨٧.
(٢) ابن كثير: البداية والنهاية ٤/٢٥٤، ٦ / ١٤٧، ١٥٠، ٨/٢١٦، ٢١٧، ٢٣٦، ٤٠١.
(٣) المصدر السابق ٥/٣٦٥.
(٤) المصدر السابق ٨/١٠٨، ١٢٣-١٢٤، ١٥٢-١٥٣.
(٥) المصدر السابق ٨/٢٠٢، ٢٠٩، ٢١٠، ٢٣٦.
1 / 8
تتعلق بأزواجه ﷺ، ونقل عن الهيثم بن عدي (١) ومحمد السائب الكلبي (٢) حول طهارة أمهاته ﷺ، وعن هواتف الجن (٣) ولم ينقل عن لوط بن يحيى ونصر بن مزاحم وأبي اليقظان النسّابة شيئًا يتعلق بالسيرة النبوية، وكذلك فإن كتب شروح الأحاديث لا تنقل عن الأخباريين إلا نادرًا، ويتضح ذلك من مراجعة شرح غني بالنقول والآثار، هو فتح الباري لابن حجر؛ فإنه نقل عن الأخباريين في حادثة وفاة النبي ﷺ وأحداث الخلافة الراشدة، ولم ينقل أخبار السيرة إلا عن المحدثين. ومعظم الأخباريين لا يوثقهم النقاد المحدثون، ولا ينفع التفتيش في أسانيد رواياتهم، بل تمت محاكمة رواياتهم، فإذا وافقوا الرواة العدول قبلت، وإذا خالفوهم رفضت، ثم إن مقارنة رواياتهم ببعضها تخدم النقد التأريخي، ومما يعين في هذا المجال معرفة ميولهم واتجاهاتهم العقدية والمذهبية، فإن كانت الرواية تخدم مذاهبهم لزم التوقف في قبولها.
وخلاصة القول: أنه ليس أمام الناقد في كثير من الأخبار سوى المحاكمات العقلية لقبول مروياتهم أو رفضها.
وهذا يوضح ضعف مشاركة معظم الأخباريين في تقييد أخبار السيرة النبوية والتصنيف فيها، باستثناء معمر بن المثنى (ت٢٠٩هـ) وعلي بن محمد المدائني (ت٢١٢هـ) اللَّذين صنفا كراريس في موضوعات مختلفة من السيرة النبوية. وثمة موضوع يحتاج إلى دراسة واسعة يتعلق بإعادة فحص مرويات
_________
(١) المصدر السابق ٤/٧١، ٢٣٨.
(٢) المصدر السابق ٣/٣٦٤.
(٣) المصدر السابق ٣/ ٥٧٢.
1 / 9
الواقدي بمقارنتها مع روايات الآخرين للكشف بتفصيل عن الأسباب التي أدت إلى تضعيفه من قبل المحدثين.
ونظرًا لظهور المحدثين المبكر على ظهور الأخباريين، فإنهم تقدموهم في وضع قوانين الرواية، وقلّدهم الأخباريون في طرائق العرض، فكلاهما يهتم بالسند من حيث الظاهر، لكن أسانيد المحدثين حَوَتْ رواة تعرف سيرهم وتتميز أشخاصهم، أما أسانيد الأخباريين فيرد فيها رواة لا نجد لهم في كتب التراجم ذكرًا. وقد انتبه السبكي (ت ٧٧١هـ) لضرورة وضع قواعد للمؤرخين، لكن محاولته كانت متأخرة وناقصة (١) .
إن المحدثين قدموا للإنسانية منهجًا متكاملًا، واسعًا وشاملًا، للتعامل مع الرواية قبل ثلاثة عشر قرنًا، في حين ظهر منهج النقد التأريخي عند الغربيين في أواخر القرن الثامن عشر. وهذا يوضح مدى السبق الذي حققه المحدثون، وقد انعكس ذلك على الحياة الأدبية والثقافية والدينية في المجتمع الإسلامي، حيث تكوَّنت العقلية النقدية في أوساط النخبة، مما كان له أثر كبير في دفع الحضارة الإسلامية في عصور ازدهارها.
لقد تطور منهج النقد عند المحدِّثين منذ القرن الثاني الهجري لغاية القرن التاسع الهجري حيث لم تَجْرِ تعديلات مهمة عليه بعد السخاوي (ت٩٠٢هـ)، ورغم أن المتخصصين في القرن العشرين أعادوا صياغة المنهج بصورة شاملة أو جوانب منه، فإنهم لم يقوموا باستقراء تام؛ لإعادة النظر في مسائله وقواعده بإضافة أو تعديل على ضوء ما انتهى إليه البشر في العلوم المختلفة.
_________
(١) راجع طبقات الشافعية٢/٢٢.
1 / 10
لقد انتبه المحدِّثون منذ القرن الثامن الهجري لأهمية دراسة السيرة وفق مناهجهم بنقد أسانيدها ومتونها مثل الذهبي وابن كثير، لكنهم غلَّبوا إكمال نقد الأحاديث النبوية على أخبار السيرة، لما يترتب على الأحاديث من أحكام شرعية.
ومع اتساع نطاق التعليم في العصر الحاضر، وازدياد الاهتمام بالسيرة النبوية على نطاق واسع، ولما لها من أثر قوي في تربية الأجيال الإسلامية وتحديد قيمها، صار من اللازم التأكد من صحة المعلومات قبل تحليلها تربويًا وقيميًا.
وقد هيأ العصر الحديث من الوسائل الحديثة والتقنيات المطورة ما يُيسر مهمة إنجاز الموسوعات الحديثية وموسوعات السيرة النبوية وبقية العلوم الإسلامية وربطها ببعضها ليخدم بعضها بعضًا، ويكمل معلوماته ولتتم المقارنة بين الروايات وتفسيرها بنطاق واسع، وقد أثبتت التجارب الأولية جدوى الإفادة من الكمبيوتر وبرامجه، وإن لم تحقق الهدف على الوجه المطلوب لقصور في البرمجة والخبرة العلمية معًا.
وتفيد الدراسات الحديثة ذات المنهج النقدي الحديثي بأن الروايات التي أوردها الرواة الضعفاء تعطي صورة مشوهة لبعض أحداث السيرة النبوية، أما أثر الأخباريين في هذا التشويه فهو محدود؛ لعدم عنايتهم بالسيرة التي عني بها المحدثون، فجاءت مروياتها تتسم بالجدية بعيدًا عن المبالغة والخيال، وكثير منها ينقلها شهود عيان معروفون بالصدق والمروءة.
ولكن دخول مرويات الرواة الضعفاء إلى كتب السيرة يظهر في الكتابات المتأخرة مثل السيرة الحلبية، ويقلُّ أثرهم في كتب السيرة المبكرة، ويبدو أن
1 / 11
الضعف في أسانيد الكتب المبكرة يرجع إلى الإرسال والتدليس والتعليق والبلاغات، وهي مظاهر لا توحي بالثقة وتقتضي إعمال المنهج الحديثي فيها أسانيد ومتونًا.
1 / 12
معالم منهج المحدثين في النقد
أولًا: المقارنة
...
معالم منهج المحدثين في النقد أساليب النقد عند المحدثين
أولا: المقارنة:
يُعَدُّ جمع طرق الخبر أو الحديث والمقارنة بينها من أميز أساليب المحدثين في نقد الرواية، قال الإمام مسلم: "فبجمع هذه الروايات ومقابلة بعضها ببعض يتميز صحيحها من سقيمها، ويتبين رواة ضعاف الأخبار من أضدادهم من الحفاظ" (١) .
وقال عبد الله بن المبارك: "إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضه ببعض" (٢)، وقال يحيى بن معين: "إذا كتبت فقمش، وإذا حدثت ففتش" (٣) .
وقد عمد المحدثون منذ وقت مبكر إلى طريقة المقارنة بين الروايات التي وردت عن حادث معين أو تنقل كلامًا نبويًا، وتتم المقارنة عادة بين سلاسل الأسانيد، ثم بين المتون للخبر الواحد. فمن أنواع المقارنات التي قاموا بها: "المقارنة بين روايات عدد من الصحابة، والمقارنة بين روايات المحدث الواحد في أزمنة مختلفة، والمقارنة بين مرويات عدد من التلاميذ لشيخ واحد، وبين رواية المحدث ورواية أقرانه، والمقارنة بين الكتاب والمذاكرة، وبين الكتاب والكتاب" (٤) . فميزوا الكلام المدرج فنسبوه إلى قائله (٥) . وبذلك تميزت ألفاظ
_________
(١) مسلم: كتاب التمييز ١٦٢.
(٢) محمد مصطفى الأعظمي: مقدمة كتاب التمييز ٣٣.
(٣) الخطيب: تاريخ بغداد ١/٤٣.
(٤) محمد مصطفى الأعظمي: مقدمة كتاب التمييز ٣٢ فما بعدها.
(٥) الصنعاني: توضيح الأفكار ٢/٥٤، والسيوطي: تدريب الراوي ١/٢٦٩.
1 / 13
الرسول ﷺ عن ألفاظ الشراح والمجتهدين التي تمثل فهمهم واستنباطهم من النص. والحق أن التدقيق في المقارنة بلغ غايته عند المحدثين، حيث ظهرت مؤلفات مستقلة تعني ببيان ما أقحم في النص الأصلي من عبارات ألحقها الرواة على سبيل الشرح والإيضاح، وأية قراءة في كتاب "الفصل لوصل المدرج في النقل" للخطيب البغدادي ستكشف عن مدى الدقة في اتباع هذا المنهج، فقد حصر روايات الخبر، وقارن بينها، وانتهى إلى تحديد الخبر الأصلي وما ألحق به فيما بعد.
وبفضل هذه المقارنات عرف وقوع التعارض بين حديثين أحيانًا يتساويان في القوة، ويتناقضان في المعنى، ويتعذر الجمع بينهما، وتسمى هذه الصورة "بالاضطراب". وكذلك عرف وقوع التقديم والتأخير في ألفاظ الحديث مما يغير المعنى المراد وهو ما يسمى "بالمقلوب" وهو يدل على عدم ضبط الراوي.
وكذلك فإن النقاد حددوا ما وقع من تصحيف وتحريف، حتى إنهم حددوا أحيانًا سبب وقوع التصحيف كالأخذ من كتاب بغير سماع (١) . ومن التصحيف ما يسهل تصحيحه، ومنه ما يتعذر إلا بالمقارنة بين الروايات.
كذلك فإن النقاد حددوا ما وقع من زيادات في ألفاظ بعض الروايات، فوضعوا ضوابط لقبول زيادة الثقة: كأن لا تخالف ما رواه الثقات، وكاشتراط تعدد المجلس وغير ذلك من الضوابط. لقد نجم عن هذه المقارنة ظهور فروع عديدة عرفت بعلوم الحديث، فكانت ثمرة مقارنة الأسانيد معرفة
_________
(١) ابن الصلاح: المقدمة ٤١١.
1 / 14
المرسل والمنقطع والموقوف والمقلوب وغيرها. وثمرة مقارنة المتون معرفة الشاذ والمضطرب والمنكر والمدرج وغيرها.
ثانيًا: إتقان أسلوب المحدث واستخدامه في النقد لقد عمد بعض النقاد إلى دراسة مجموعة من مرويات المحدث وتمرس فيها بحيث يتمكن من معرفة ما ينسب إليه من مرويات بسبب مشابهتها لها أو مخالفتها، وربما يصل الأمر عند المقارنة إلى تمييز ألفاظ بعض الرواة عن المحدث ومدى تشابهها مع المعروف عنه. قال علي بن المديني – الناقد المعروف – وقد سُئل: مَنْ أثبت الناس في محمد بن سيرين؟ فقال: أيوب، ثم ابن عون، ثم سلمة بن علقمة، ثم حبيب ابن الشهيد، ثم يحيى بن عتيق، ثم هشام بن حسان. وما قال يزيد بن إبراهيم التستري سمعت محمد بن سيرين أثبت عندي من خالد الحذاء. ألفاظ عاصم الأحول وخالد الحذاء في محمد واحدة لا تشبه ألفاظهما ألفاظ أصحابهم (١) . إن هذا الحس الدقيق لم يتكون إلا عبر معايشة طويلة لألفاظ المحدث ومعرفة دقيقة بإتقان رواته لها وتباينهم في هذا الإتقان. قال الحافظ ابن رجب: "حذاق النقاد من الحفاظ- لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم بالرجال، وأحاديث كل منهم- لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان" (٢) . لقد تراكمت الخبرة عند النقاد المسلمين لطول ممارستهم ومناظراتهم _________ (١) الفسوي: المعرفة والتاريخ ٢/٥٩-٦٠. (٢) همام سعيد: العلل في الحديث ٧.
ثانيًا: إتقان أسلوب المحدث واستخدامه في النقد لقد عمد بعض النقاد إلى دراسة مجموعة من مرويات المحدث وتمرس فيها بحيث يتمكن من معرفة ما ينسب إليه من مرويات بسبب مشابهتها لها أو مخالفتها، وربما يصل الأمر عند المقارنة إلى تمييز ألفاظ بعض الرواة عن المحدث ومدى تشابهها مع المعروف عنه. قال علي بن المديني – الناقد المعروف – وقد سُئل: مَنْ أثبت الناس في محمد بن سيرين؟ فقال: أيوب، ثم ابن عون، ثم سلمة بن علقمة، ثم حبيب ابن الشهيد، ثم يحيى بن عتيق، ثم هشام بن حسان. وما قال يزيد بن إبراهيم التستري سمعت محمد بن سيرين أثبت عندي من خالد الحذاء. ألفاظ عاصم الأحول وخالد الحذاء في محمد واحدة لا تشبه ألفاظهما ألفاظ أصحابهم (١) . إن هذا الحس الدقيق لم يتكون إلا عبر معايشة طويلة لألفاظ المحدث ومعرفة دقيقة بإتقان رواته لها وتباينهم في هذا الإتقان. قال الحافظ ابن رجب: "حذاق النقاد من الحفاظ- لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم بالرجال، وأحاديث كل منهم- لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان" (٢) . لقد تراكمت الخبرة عند النقاد المسلمين لطول ممارستهم ومناظراتهم _________ (١) الفسوي: المعرفة والتاريخ ٢/٥٩-٦٠. (٢) همام سعيد: العلل في الحديث ٧.
1 / 15
وتأملهم في النصوص.
قال الأوزاعي: "كنا نسمع الحديث ونعرضه على أصحابنا كما نعرض الدرهم الزائف، فما عرفوا منه أخذناه، وما أنكروا منه تركناه" (١) .
وقيل لعبد الرحمن بن مهدي: "إنك تقول للشيء هذا صحيح وهذا لم يثبت فعمن تقول ذلك؟ فقال: أرأيت لو أتيت الناقد، فأريته دراهمك، فقال هذا جيد وهذا بهرج أكنت تسأل عمن ذاك أو تسلم له الأمر؟ قال: أسلم له الأمر. فقال: كذلك بطول المجالسة والمناظرة والخبرة" (٢) .
إن معرفة أسلوب المحدث والمقارنة به تطور عند نقاد الأدب العربي، وصارت إحدى وسائل النقد الرئيسة عند نقاد الشعراء والكتاب. وكذلك فإن المنهج الغربي يعني بدراسة أسلوب المؤلف والإفادة من ذلك في التعرف على صحة نسبة كتاب ما إليه من خلال ملاحظة وحدة الأسلوب. وقد جاء منهج النقد الغربي ليركز على دراسة الوثيقة والكتاب من حيث التحليل الباطني لاستخراج كل الدلائل التي تعرفنا بالمؤلف وعصره (٣) . بل قد دعت الدراسات اللغوية الملتزمة بالمنهج البنيوي والتشريحي إلى عزل النص عن مؤلفه وبيئته ثم القيام بدراسته واستلهامه.
وبناء على تركيز المنهج الأوروبي على الوثيقة المدونة، فإنه قد يضطر إلى الفرض والتخمين لمعرفة أصولها ومصادرها القديمة، في حين أن ذكر الأسانيد في الرواية الإسلامية يسّر الكشف عن مصدر الخبر (٤)، مع تدقيق المنهج
_________
(١) الخطيب: الكفاية ٤٣٠.
(٢) السيوطي: تدريب الراوي ١٦٢.
(٣) لانجلوا وسينوبوس: النقد التاريخي ٦٧.
(٤) محمدعثمان موافي: منهج النقد التاريخي الإسلامي والمنهج الأوروبي ١٧٤.
1 / 16
الإسلامي في التأكد من الاتصال بين الرواة الناقلين للخبر عبر العصور خوفًا من وقوع الانقطاع الزمني مما يولد الشك في صحة الرواية.
ثالثًا: الاهتمام بشهود العيان وكثرتهم لقد وجّه المحدثون نقدهم إلى الإسناد أولًا ثم إلى المتن، وبذلك اختصروا الجهد عندما لا يصمد السند أمام النقد فلا حاجة عندئذ للاستمرار في نقد المتن. والحق أن النقد للمتن وفق المعايير العقلية خاصةً لا يعد سبيلًا قويمًا ووحيدًا لنقد الأحاديث التي لا يستحيل عادةً صدورها عن النبي ﷺ ومع ذلك فإن السند يسقطها. على أن وضع الضوابط العقلية لنقد المتن كان يواكب ضوابط نقد السند، لأن صحة السند وحدها لا يعدّها النقاد كافية لتصحيح الحديث. إن العناية بالإسناد تهدف إلى الوصول إلى شاهد عيان صادق بواسطة سلسلة من الشهود الصادقين الضابطين. ومن هنا كان تعريف الحديث الصحيح: هو ما وصل إلينا بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط من أوله إلى منتهاه، من غير شذوذ ولا علة. وانتقد الخبر إذا سقط منه شاهد العيان وصار مرسلًا ضعيفًا يحتاج إلى تعدد طرقه "مخارجه" إذا أريد الأخذ به. وموضوع تعدد المخارج يتسم بالدقة، وليس المقصود أن تنتهي سلاسل الأسانيد إلى سلسلة واحدة، بل لابد أن يستقل بعضها عن بعض حتى نهاية السند أو أعلاه (الصحابي أو التابعي أو تابع التابعي) . إن تعدد المخارج وحده هو الذي يمنع من إهمال الخبر وعدم الاعتداد به عند سقوط اسم شاهد العيان منه. وهكذا فإن الأخبار التي تضمها وثيقة أو كتاب متأخر لا تُعدُّ بعيدة عن
ثالثًا: الاهتمام بشهود العيان وكثرتهم لقد وجّه المحدثون نقدهم إلى الإسناد أولًا ثم إلى المتن، وبذلك اختصروا الجهد عندما لا يصمد السند أمام النقد فلا حاجة عندئذ للاستمرار في نقد المتن. والحق أن النقد للمتن وفق المعايير العقلية خاصةً لا يعد سبيلًا قويمًا ووحيدًا لنقد الأحاديث التي لا يستحيل عادةً صدورها عن النبي ﷺ ومع ذلك فإن السند يسقطها. على أن وضع الضوابط العقلية لنقد المتن كان يواكب ضوابط نقد السند، لأن صحة السند وحدها لا يعدّها النقاد كافية لتصحيح الحديث. إن العناية بالإسناد تهدف إلى الوصول إلى شاهد عيان صادق بواسطة سلسلة من الشهود الصادقين الضابطين. ومن هنا كان تعريف الحديث الصحيح: هو ما وصل إلينا بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط من أوله إلى منتهاه، من غير شذوذ ولا علة. وانتقد الخبر إذا سقط منه شاهد العيان وصار مرسلًا ضعيفًا يحتاج إلى تعدد طرقه "مخارجه" إذا أريد الأخذ به. وموضوع تعدد المخارج يتسم بالدقة، وليس المقصود أن تنتهي سلاسل الأسانيد إلى سلسلة واحدة، بل لابد أن يستقل بعضها عن بعض حتى نهاية السند أو أعلاه (الصحابي أو التابعي أو تابع التابعي) . إن تعدد المخارج وحده هو الذي يمنع من إهمال الخبر وعدم الاعتداد به عند سقوط اسم شاهد العيان منه. وهكذا فإن الأخبار التي تضمها وثيقة أو كتاب متأخر لا تُعدُّ بعيدة عن
1 / 17
الأحداث والأشخاص المباشرين للفعل التاريخي ما دامت الأسانيد ترقى إلى شهود العيان. فكان شاهد العيان هو المؤرخ الحقيقي، وعندئذ يبني شهادته على الملاحظة المباشرة إذ ليس بينه وبين الوقائع أية وسائط. ولكن تبقى مهمة الباحث في أن يتأكد من صدق شاهد العيان وصدق المخبرين عنه، وصدق صاحب الكتاب أو مدون الوثيقة. وهذا ينطبق على المؤلفات المتأخرة التي اعتمدت على مصادر أقدم مفقودة، فإن المؤلفات المتأخرة هي مصادر بديلة عن المتقدمة، ولا تعدُّ بعيدة عن الأحداث، لأن الاعتماد على المصادر المتقدمة في تناول الحدث أو الخبر.
وهكذا فإن (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي عندما يتناول خبرًا يتعلق بالخليفة العباسي الراضي بواسطة إسناده إلى أبي بكر الصولي لا يعدُّ متأخرًا، لأن الصولي عاصر وعاشر الخليفة الراضي فهو شاهد عيان ولكن يبقى التفتيش عن صحة سند الخطيب إلى الصولي، وهو سند نسخة كتاب "الأوراق" للصولي، التي تملّك الخطيب حق روايتها.
وفي الكتب المشهورة المتداولة يتساهل النقّاد في السؤال عن طرق تحمل الكتاب أو سنده، لصعوبة تزييف نسخة محرّفة من الكتاب المشهور المتداول بين أهل العلم، إذ سرعان ما يكشف الزيف وتسقط النسخة.
والحق أن التأكيد في منهج التأليف الإسلامي ليس على اسم الكتاب الذي يتم النقل منه بل على مؤلفه، لذلك كثيرًا ما يهمل المصنّف ذكر اسم الكتاب ويقتصر على ذكر اسم المؤلف ضمن سلسلة الإسناد دون أن يشير إلى أنه مؤلف كتاب. وهكذا تتولّد صعوبة معرفة اسم المؤلف عندما يرد في سلسلة السند ذكر عدد من المؤلفين، كما يكون من الصعب تحديد اسم
1 / 18
الكتاب للمؤلف الذي ألّف عدة كتب في موضوع واحد أو موضوعات متداخلة، بحيث يمكن تكرار روايات نفسها في كل منها. وهنا يلحظ المعني بأساليب التأليف في القرون الأولى أن النظرة إلى الكتاب حتى في عصر التدوين (القرن الثالث الهجري) لم تحظ بالقدر الكافي من الاهتمام، وظلّت النظرة إلى المؤلف بوصفه "راوية" هي الأساس، رغم طغيان الكتابة على الذاكرة وشيوع التأليف في تلك الفترة.
رابعًا: وضع شروط للراوي والمروي لقد استخدم المحدثون مبدأ التثبت في التعامل مع العلم النقلي "الرواية". إن مبدأ "التثبت" استخدمه المحدثون في القرون الأولى للهجرة، يقول عبد الرحمن بن مهدي (ت١٩٨هـ) أحد كبار النقاد: "خصلتان لا يستقيم فيهما حسن الظن: الحكم والحديث" (١) . ونظرًا لنشأة شروط صحة الرواية في ظلال الدين، فإن شروط الراوي تأثرت بذلك، فلابد أن يكون مسلمًا ليقبل أداؤه، وإن لم يعدُّ الإسلام شرطًا عند تحمله. وقد اختلف المحدثون والأصوليون حول سن التحمل "السماع" فذهب بعضهم إلى اشتراط البلوغ، وأطلق آخرون السن بشرط القدرة على ضبط ما يرى ويسمع ولو لم يبلغ، ولكنهم لم يختلفوا في ضرورة أن يكون بالغًا عاقلًا مميزًا وقت الأداء (الرواية) (٢)، وكذلك اشترطوا في الراوي العدالة بأن يكون صادقًا سليمًا من كل صفة تخل بمروءته ودينه حتى تحصل الثقة _________ (١) ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل ١/٣٦. والحكم: القضاء. (٢) الخطيب: الكفاية ٣١، ٣٢، ٥٤، ٧٦، ١٠٠.
رابعًا: وضع شروط للراوي والمروي لقد استخدم المحدثون مبدأ التثبت في التعامل مع العلم النقلي "الرواية". إن مبدأ "التثبت" استخدمه المحدثون في القرون الأولى للهجرة، يقول عبد الرحمن بن مهدي (ت١٩٨هـ) أحد كبار النقاد: "خصلتان لا يستقيم فيهما حسن الظن: الحكم والحديث" (١) . ونظرًا لنشأة شروط صحة الرواية في ظلال الدين، فإن شروط الراوي تأثرت بذلك، فلابد أن يكون مسلمًا ليقبل أداؤه، وإن لم يعدُّ الإسلام شرطًا عند تحمله. وقد اختلف المحدثون والأصوليون حول سن التحمل "السماع" فذهب بعضهم إلى اشتراط البلوغ، وأطلق آخرون السن بشرط القدرة على ضبط ما يرى ويسمع ولو لم يبلغ، ولكنهم لم يختلفوا في ضرورة أن يكون بالغًا عاقلًا مميزًا وقت الأداء (الرواية) (٢)، وكذلك اشترطوا في الراوي العدالة بأن يكون صادقًا سليمًا من كل صفة تخل بمروءته ودينه حتى تحصل الثقة _________ (١) ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل ١/٣٦. والحكم: القضاء. (٢) الخطيب: الكفاية ٣١، ٣٢، ٥٤، ٧٦، ١٠٠.
1 / 19
بروايته، والشرط الرابع في الراوي: هو الضبط، سواء أكان ضبط صدر أم كتاب: بأن يكون سليم الذاكرة والفهم إذا حفظ، صحيح الكتابة والنقل إذا دوّن. فإذا اختلط أو كثرت غفلته في فترة ما فإنه يسقط توثيقه مهما بلغ ورعه أو سلامة نيته، بل إن سلامة النية قد تؤدي إلى السذاجة والغفلة مما يؤثر في دقة الراوية، لذلك قال ابن سيرين: "لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث" (١)، فلا بد للراوي من التمتع بعقل سليم، وتصوُّر مستنير، وقدرة جيدة على التمييز، فإذا اختلت قواه النفسية والعقلية فإن روايته مرفوضة. وهذا ما انتهى إليه المنهج النقدي الحديث إذ اشترط في الباحث "أن يكون فطنًا حتى يقف دون عناء كبير على التفاصيل الهامة أو الظروف الأساسية التي تؤثر تأثيرًا فعالًا في الظاهرة التي يلاحظها ويجري التجارب عليها" (٢) .
وأما المروي فقد اشترط أن يكون مسموعًا على العلماء وليس مأخوذًا من الكتب والنسخ دون تملك حق روايتها، وهذا الشرط لحماية الرواية من التحريف والتصحيف والخطأ في الفهم، فالعالم هو الذي سيبين النطق الصحيح والفهم الصحيح للرواية.
_________
(١) مقدمة صحيح مسلم ١٣.
(٢) محمود قاسم: المنطق ومناهج البحث ١٠٥ – ١٠٦.
خامسًا: اشتراط الملاحظة العلمية من الصفات التي اشترطت في شاهد العيان لقبول شهادته، فالملاحظة العابرة ليست موضع ثقة، وإنما الملاحظة الدقيقة مع سلامة الحواس وقوة
خامسًا: اشتراط الملاحظة العلمية من الصفات التي اشترطت في شاهد العيان لقبول شهادته، فالملاحظة العابرة ليست موضع ثقة، وإنما الملاحظة الدقيقة مع سلامة الحواس وقوة
1 / 20