Marwiyat al-Mazah wa al-Doaba an al-Nabi ﷺ wa al-Sahabah
مرويات المزاح والدعابة عن النبي ﷺ والصحابة
خپرندوی
دار بلنسية
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤٢٤ هـ
د خپرونکي ځای
الرياض
ژانرونه
مرويات المزاح والدعابة عن النبي ﷺ والصحابة
تقديم
د. باسم فيصل الجوابرة
فضيلة الشيخ عبد المحسن بن ناصر العبيكان
تأليف
فهد بن مقعد النفيعي العتيبي
دار بلنسية
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد اطلعت على كتاب مرويات المزاح والدعابة عن النبي ﷺ والصحابة، فوجدته كتابًا مفيدًا جمع فيه الأخ فهد الأحاديث والآثار في المزاح والدعابة وبذل فيه جهدًا مشكورًا، فجزاه الله خير الجزاء، وجعله في موازين أعماله.
د. باسم فيصل الجوابرة
الأستاذ بكلية أصول الدين
قسم السنة
الرياض ٤/ ٨/ ١٤٢٠ هـ
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد.
فقد اطلعت على الرسالة المسماة مرويات المزاح والدعابة عن النبي ﷺ والصحابة، والتي قام بتأليفها الأخ الشيخ فهد بن مقعد العتيبي، ولقد أجاد وأفاد وبلغ الغاية في المراد.
فنسأل الله لنا وله التوفيق والسداد والإعانة من رب العباد والسير على نهج خير هاد، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الفقير إلى الله عز شأنه
عبد المحسن بن ناصر العبيكان
1 / 5
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألَّا إله إلَّا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢].
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١].
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
أمَّا بعد؛ فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
1 / 7
وبعد:
فإن الله ﷿ بعث أنبياءً ورسلًا إلى أُممهم، فأدَّى كل نبي رسالته أكمل أداء، وعلى أتم وجه، فمنهم مَن أثْمَرَت دعوته وهو بين ظهرانيهم، ومنهم من جعل بينه وبين إتمام دعوته عوائق من فعل أشقياء قومه، ومنهم من انتقم الله ﷿ له من قومه، ومنهم. . . . .، ومنهم. . .
ثم ختمهم بمحمد ﷺ، فاختصه بمنزلة رفيعة فجعله آخرهم وخاتمهم وأفضلهم، وجعل شرعه ودعوته ودينه أكمل الأديان والشرائع، ومهيمنًا عليها، ثم جعل أنصاره وأصحابه أفضل الأمم قاطبة، لكمال متابعتهم له، واقتدائهم به، فما مِن خيرٍ إلَّا حثَّ أمَّته عليه، وما مِن شرٍّ إلَّا حذَّرَهَا منه، فصار هديه أكمل الهدي، وصار أتباعه مُبَلِّغين لهديه إلى مَن بعدهم، وما ذاك إلَّا لمَّا رأوا من حُسن سياسته لهم وجميل معاملته إياهم، وكريم أخلاقه وطيب شمائله، والنفوس مجبولة على حب مَن حسنت معاشرته وصحبته، كيف لا ورب العالمين ﷿ يقول: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، فمِن رحمة الله ﷿ لهذه الأمة أن جعل نبيها أكمل الناس خُلُقًا، وأليَنَهم جانِبًا، وأكثرهم تحمُّلًا، وأسهلهم أخلاقًا، فكل هدي دون هديه، وكل خُلُق دون خلقه، وما امتداح
1 / 8
الله ﷿ له بخاف على كل ذي لب، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤]، وتع: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨].
فمِن رأفته ورحمته: إيناسه لأصحابه ومباسطته إياهم، ومداعبته لهم لتقوى الآصِرَةُ بينه وبينهم، وليكون أنموذجًا لكمال الصحبة. فكان ذلك حتى أحبوه أشد من حبهم لأبنائهم وأموالهم بل ومن أنفسهم. فقبلوا قوله وفعله وأمره ونهيه وصدَّقُوه في كُلٍّ، ثم حملوا رسالته وانتهجوا نهجه في كل صغير وكبير فكانوا بذلك خير الناس، فإنه لما كَمُلَت بنبيهم القدوة، شرف به الاقتداء، ومع ذلك لم يحبسوا هذا الخير لأنفسهم، بل بلغوه من وراءهم، ولم يكتموا شيئًا، فقبل مَن بعدهم بلاغهم لأنهم «أي صحابته» أعلم الخلق بدين الله ﷿ بعد نبيهم ﷺ، وآمنهم على شرعه، فهم خير قرن، وخير صحب، وخير رعيل، فأخذوا الدين صافيًا فبلغوه كما أخذوه.
ثم أتت بعدهم قرون تترا منهم مَن سلك سبيلهم حذوا القذّة بالقذّة فوفِّق لكل خير؛ ومنهم مَن خالف هَديهم، فَتَشَعَّبَت به الطُّرُق. وما ذاك إلَّا بالخروج عن هدي النبي ﷺ وسنته ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ فعبد الله بما لم يشرع ودَعَوْا إليه بما لم يأذن به. فلم
1 / 9
تثمر دعوتهم إلا أكلًا خمطًا، فلو أن القوم انتهجوا نهجه في الدعوة إلى الله لكفوا مؤونة الاستجابة، ولم تلحقهم بعد ذلك تبعة، لكنهم خالفوا فأخطأوا، فليتهم خرجوا كفافًا.
وأعظم من ذلك خطأ أن يُحوِّر البعض سنن النبي ﷺ بزعم أن ذلك يجعلها مقبولة عند أهل العصر، فهلَّا عرضوا فعلهم هذا على قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، وقوله ﷺ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، أم أنهم يرون أن لكل عَصْرٍ أمرًا؟
1 / 10
جهل القوم (وأيم الله) هديه أو تجاهلوه، ومما جهلوا: هديه وأدبه في المباسطة والمزاح والإيناس، ففرط بعض وأفرط آخرون، والقصد بين ذلك. فمن فرط لم يتدبر قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، وقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ولم يقف عند شمائله ﷺ وحسن عشرته، ومن أفرط خالف وجانب ونسب غير هدي النبي ﷺ إليه، بل زاد ضغثًا على إبَّالة، والطين بلَّة لما سوَّغ لنفسه ذلك، فليته عرض ذلك على سنن الأنبياء وأخلاقهم إن كان عارفًا بها؟ فمن أين جوَّز لنفسه رديء الكلام والكذب الحرام والسخرية بالدين والمسلمين و.. و.. ثم يزعم أن ذلك من باب تأليف القلوب وإمتاع السامعين وإيناسهم.
أما نحن فنبرأ إلى الله من نسبة شيء إلى رسول الله ﷺ لم
1 / 11
يفعله ولم يأمر به، والحمد لله الذي منَّ علينا بأن ميَّزَنا بمنهج وهدي واضح جلي مُغْنٍ عما سواه، فلا هدي لأحدٍ قبل هدي محمد ﷺ ولا معصوم غيره، وكل يُؤخذ مِنْ قوله ويُترك إلَّا نبينا ﷺ.
هذا؛ ولما أوجب الله ﷿ على المسلمين النصيحة لله ولرسوله ولأئمتهم وعامتهم، رأيت أن أبين هدي النبي ﷺ في المزاح والمباسطة ليتأسى متأسٍّ، ويتبين مخطئ وتَقَرَّ عينُ مُتَّبِع، فجمعت صورًا من مزاحه وضروب دعابته وحرصت على ما صح منها- قدر المستطاع- وما كان سوى ذلك بيَّنته- ما أمكن- والله المستعان.
ذلك؛ (والمرغوب إلى من يقف على هذا الكتاب أن يعذر صاحبه فإنه علَّقَهُ في حال بعده عن وطنه وغيبته عن كتبه، فما عسى أن يبلغ خاطره المكدود وسعيه المجهود مع بضاعته المزجاة التي حقيق بحاملها أن يُقال فيه: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» وها هو قد نصب نفسه هدفًا لسهام الراشقين، وغرضًا لألسنة الطاعنين، فلقارئه غنمه وعلى مؤلفه غرمه، وهذه بضاعته تفرض عليه، وَمَوْلِيَّتُهُ تهدى إليك، فإن صادفت كفؤًا كريمًا لها لن تعدم منه إمساكًا بمعروف أو تسريحًا بإحسان، وإن صادفت غيره فالله
1 / 12
تعالى المستعان وعليه التكلان.
وقد رضي من مهرها بدعوة خالصة إن وافقت قبولًا واستحسانًا، وبرد جميل إن كان حظها احتقارًا واستهجانًا، والمنصف يهب خطأ المخطئ لإصابته وسيئاته لحسناته، فهذه سُنَّة الله في عباده جزاءً وثوابًا. ومَن ذا الذي يكون قوله كله سديدًا، وعمله كله صوابًا، وهل ذلك إلا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، ونطقه وحي يُوحى». وسميته «مَرْوِيَّاتُ الْمُزَاح والدّعَابَة عن النبي ﷺ والصحابة» وجعلت أبوابًا وفصولًا دونك تقسيمها:
١. الباب الأول: فيه ذكر معنى المزاح والدعابة لغة ومما اشتقتا وأقوال أهل اللغة في تصريفهما.
٢. الباب الثاني: أقوال السلف في ذم المزاح مطلقًا.
٣. الباب الثالث: أدلة القائلين بتحريمه والرد عليهم.
٤. الباب الرابع: الرخصة في بعض المزاح بشروطه.
٥. الباب الخامس: مزاح النبي ﷺ وحُسن خلقه.
وفيه فصول:
١) الفصل الأول: في مزاحه ﷺ مع أهله.
٢) الفصل الثاني: في مزاحه ﷺ مع أصحابه.
٣) الفصل الثالث: في مزاحه ﷺ مع الصبيان.
٦. الباب السادس: في مزاح الصحابة والسلف ودعاباتهم.
1 / 13
٧. الباب السابع: فيما لا يجوز من المزاح.
ثم «الخاتمة لهذا البحث».
فكل صواب فيه فمن الله وحده لا شريك له، وما كان سوى ذلك فمن نفسي ومن الشيطان.
وعلى الله قصد السبيل وهو المستعان، وعليه التكلان ولا قوة إلا به.
وكتب:
أبو أنس
فهد بن مقعد بن حاسن النفيعي العتيبي
1 / 14
الباب الأول
في ذكر معنى المزاح والدعابة لغة، ومما اشتقتا منه، وأقوال أهل اللغة في تصريفهما
قال أبو بكر بن دريد:
«الْمَزْحُ: ضد الجدِّ، والمِزَاحُ: مصدر مازحته ممازحة ومزاحًا. والاسم المُزاح، ورجل مازح ومُمَازح وهو مصدر مزحتُ أمزح مزحًا».
وقال في باب النوادر:
«ويُقَالُ المِزاح والمُزاح، والمِزاحة، والمُزاحة أيضًا».
وأنشد:
أما المزاحة والمراء فَدَعْهُمَا ... خُلُقانِ لا أرضاهما لصديق
وقال ابن منظور الإفريقي في «لسان العرب»:
«المُزَّح من الرجال: الخارجون من طبع الثقلاء المتميِّزُون من طبع البغضاء».
وقال أيضًا:
«الدعابة: اللعب، وقد دَعِبَ فهو دَعَّاب لعَّاب، والدُّعْبُبُ
1 / 15
الدُّعابة، والدُّعْبيب أيضًا: المزَّاح».
«وأدْعَبَ الرجل أَمْلَحَ، أي: قال كلمة مَليحَة، وهو يَدْعَبُ دَعْبًا، أي: قال قولًا يُسْتَمْلَحَ. كما يقال مزح يمزح». اهـ بتصرف.
هذا ملخص ما ذكره أهل اللغة في معنى المداعبة والمزاح.
تنبيه:
ذهب بعض أهل العلم إلى أن كلمة «مِزَاح» مشتقة مِن «زاح» أي: مال وحاد.
مستدلين على ذلك بما رُوِي عن عمر بن الخطاب ﵁ أنه قال: «هل تدرون لِمَ سُمِّيَ المزاح؟» قالوا: لا. قال: «لأنه زاح عن الحَق».
وهذا الذي ذهب إليه بعض أهل العلم غير صحيح، والجواب عليه من وجوه:
أولًا: أن هذا الأثر المنسوب إلى عمر بن الخطاب - رضي الله
1 / 16
عنه - لم تصح نسبته إليه، بل هو (ضعيف) كما حقق ذلك الشيخ نجم عبد الرحمن خلف في تخريج «كتاب الصمت» لابن أبي الدنيا.
ثانيًا: أن هذا القول لازمه أن حرف «الميم» في كلمة «مزاح» زائدٌ على أصل الكلمة، وهذا غير صحيح، بل هو أصلي في اسم الكلمة وفعلها. فنقول: «يمزح مزحًا ومزاحًا» وقد بيَّنْتُ لك ذلك فيما تقدَّم، فأغنى عن الإعادة.
ثالثًا: أن مفهوم الأثر مخالف لحكم المزاح شرعًا، إذ أن مفهومه: أن المزاح باطل، لأنه مال وحاد عن الحق، وما كان غير حق فهو باطل، ولا شك ببطلان هذا المعنى، لثبوت المزاح عن النبي ﷺ قولًا وفعلًا، وعن أصحابه ﵃، وإقراره لهم، واستمرارهم على ذلك بعد وفاته ﷺ، ولم يُعلَم عن أحد منهم أنه كره المزاح مطلقًا.
رابعًا: مخالفة هذا الأثر- مع كونه لا يثبت سندًا- لما ثبت عن عمر بن الخطاب ﵁ في غير ما حديث من أنه مازح النبي ﷺ وإخوانه من الصحابة ﵃، وتمازحوا بحضرته فلم ينكر عليهم، وَسَتَمُرُّ بك أمثلة لذلك إن شاء الله.
خامسًا: ثم على فرض ثبوت الأمر عن عمر ﵁، فإنه من الممكن أن يُحْمَل معناه على أن المزاح غير حق فيؤخذ
1 / 17
على ظاهره، ولا يلزم من ذلك أن يكون باطلًا، إذ ما كلُّ ما ليس بحق يكون باطلًا مطلقًا، وإلا لَمَا مازح النبي ﷺ أصحابه ولما عَدَّه بعض الأئمة سُنَّةً مستحبة وعلى هذا: فالمزاح ضربٌ من الكلام المستحسن الذي لا يُؤخذ على أنه حق وصدق، كما لا يلزم منه أن يكون كذبًا وباطلًا، إذ بإمكان المرء أن يمازح أخاه متجنبًا الفحش في القول والفعل، والكذب والإخبار بخلاف الواقع.
وما أحسن ما قاله القاضي عياض في شرحه لحديث أم زرع:
قال: «وأما قول من قال: (إنما سُمي المزاح مزاحًا؛ لأنه زاح عن الحق)، فلا يصح لفظًا ومعنى، أما معنى: فقد كان النبي ﷺ يمزح ولا يقول إلَّا حقًّا. وأما اللفظ فإن الميم في المزاح أصلية، ثابتة في الاسم والفعل» اهـ.
1 / 18
الباب الثاني
في ذكر ما روي عن السلف في ذم المزاح والإكثار منه
وردت نقول كثيرة جدًّا عن السلف الكرام في ذم المزاح والتزهيد فيه، والتحذير من الإكثار منه، لما يعقب ذلك من وحشة وتنافر وقطيعة وتناكر.
فمن تلك نقول:
١. ما صح عن عمر بن الخطاب ﵁ أنه قال: «لا يبلغ رجل حقيقة الإيمان حتى يدَعَ المِرَاءَ وهو مُحِقٌّ، والكذبَ في المزاح».
فكأنَّ عمر ﵁ أراد حديث أبي أمامة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه».
1 / 19
٢. رُوِيَ عن عمر ﵁ أنه قال: «مَن مَزَح استُخِفَّ به».
ويروى بلفظ: «مَن كَثُر ضحكه استُخِفَّ به وذهب بهاؤه».
٣. وقال عمر بن عبد العزيز ﵀: «اتقوا الله، وإياي والمزاحة، فإنها تورث الضَّغِينَةَ وتُثير الحَمَقَة. تحدثوا بالقرآن، وتجالسوا به، فإن ثقُل عليكم فحديث حسن من حديث الرجال».
٤. ويروى عن عمر بن الخطاب ﵁ أنه قال: «من كثر كلامه وضحكه ومزاحه، قلَّت هيبته، ومن أكثر من شيء عُرِفَ به».
ويُروى مثله عن الأحنف بن قيس.
ويُروى نحوه مرفوعًا إلى النبي ﷺ من حديث أبي هريرة ﵁.
إلا أنه لا يصح بل هو حديث منكر كما في «العلل المتناهية»
1 / 20
لابن الجوزي (٢/ ٧٠٧).
٥. وقال إبراهيم النخعي: «لا يكون المزاح إلا من سُخْفٍ وبَطَرٍ».
٦. وقال خالد بن صفوان: «المُزاح: سِبَاب النَوْكَى».
٧. وقال في التحذير من سوء عاقبة الإكثار من المزاح: «يصُكُّ أحدكم صاحبه بأشد من الجندل، ويُنْشِقُهُ أَحَرَّ من الخردل، ويُفْرِغ عليه أحرَّ من المرجل، ثم يقول إنما كنت أمازحك».
٨. وفي مثل هذا يقول محمد الورَّاق:
تلقى الفتى يلقى أخاه وَخِدْنَهُ ... في لَحْنِ منطِقِهِ بما لا يُغْفَرُ
ويقول كنت ممازحًا وملاعبًا ... هيهات نارك في الحشا تَتسعَّرُ
ألهبتها وطفقت تضحك لاهيًا ... مما به وفؤاده يتفطرُ
أو ما علمت، ومثل جهلك غالبٌ ... أن المزاح هو السِّباب الأكبرُ
٩. وروي عن الحسن بن حُيَي: «المزاح استدراج من
1 / 21
الشيطان واختداع من الهوى».
١٠. وقال عبد الرحمن بن الحسين: «كان يُقال: المزاح مسلبة البهاء، مقطعة للصداقة».
زاد ابن حبان: «... ويورث الضَغَنَ ويُنبتُ الغلَّ».
١١. وقال ميمون بن مِهْران الجَزَرِي: «إذا كان المزاح أمام الكلام، فآخره الشتم واللِّطام».
وفي هذا يقول الشاعر:
فإياك إياك المزاح فإنه ... يُجرِّي عليك الطفل والدَّنِسَ والنَّدلا
ويذهب ماء الوجه بعد بهائه ... ويورثه من بعد عزته ذُلَّا
١٢. وقال محمد بن المنكدر: «قالت لي أمي: لا تمازح الصبيان فتهون عليهم».
١٣. وما أعظم ما أوصى مسعر بن كدام ابنه كدامًا به إذ يقول:
1 / 22
إني نَحَلْتُكَ يا كدام نصيحتي ... فاسمع لقول أبٍ عليك شفيق
أما المزاحة والمراء فَدَعْهُما ... خُلُقَان لا أَرضاهُما لصديق
إني بَلوتُهما فلم أحْمَدْهُما ... لمجاور جارًا ولا لرفيق
والجهل يُزرِي بالفتى في قومه ... وعروقُهُ في الناس أيُّ عروق
١٤. وقال أبو حاتم بن حبان: «إن من المزاح ما يكون سببًا لتهييج المراء، والواجب على العاقل اجتنابه ...».
وقال أيضًا: «والمزاح إذا كان فيه إثم فهو يُسَوِّدُ الوجه ويدمي القلب ويحيي الضغينة».
١٥. وقال الإمام ابن عبد البر: «وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح لما فيه من ذميم العاقبة، ومن التوصل إلى الأعراض واستحلاب الضغائن، وإفساد الإخاء؛ وكان يقال: لكل شيء بَدْءٌ، وبَدءُ العداوة المزاح، وكان يقال: لو كان المزاح فحلًا ما أَلقَحَ إلا الشر».
إلى غير ذلك من النُّقُول وفيما ذكرناه غُنيَةً إن شاء الله.
ثم اعلم- رحمك الله وسَدَّدَك- أن هذه الآثار والنقولَ التي سقت لك بعضها وما كان في معناها محمولةٌ على الإكثار من
1 / 23