فقال بحدة: أنا واضح كالشمس ولكنكم اعتدتم الشروح المطولة والهوامش وهوامش الهوامش!
وقد علمت بوفاة صديقته الفرنسية عرضا في بار الأنجلو، بعد مرور أيام على وفاتها، فبادرت إلى زيارة مسكنه بشارع قصر النيل، ولكني وجدته مغلقا لا يرد، ولم أجده بمكتبه بالجريدة كذلك، ثم تبين أنه سافر عقب دفنها إلى أسوان، فخلا إلى نفسه شهرا كاملا. ولما قابلته بعد ذلك وجدته يمارس حياته بنشاطه المعهود، ولكن مسحة من الكآبة طبعت وجهه بطابعها، فلم تفارقه دهرا طويلا، ولم يكن يحب الخوض في شئونه الخاصة، فلم يحدثني بكلمة واحدة عن حبه أو أسرته أو طفولته، وكأنه إنسان عام فحسب، عام في الظاهر والباطن، في الحضور والغياب، وسألته مرة: ألم تأسف مرة على أنك لم تتزوج ولم تنجب؟
فأجاب بسخرية: الندم عادة دينية سخيفة.
ولكني شعرت - إن صدقا وإن وهما - بأنه يعاني مرارة الوحدة في الشيخوخة، وحفلت تلك الفترة من حياته بالمناقشات الحادة التي بلغت في أحايين كثيرة حد المصارحة الجارحة في مخاطبة أصدقائه. قال مرة لرضا حمادة: عليك أن تعترف بأنك رجعي ترسب في مجرى الزمن.
وقال مرة أخرى للدكتور زهير كامل: أنت لا تنقد ولكنك تقتل القيم.
وسأله جاد أبو العلا عن رأيه في أدبه فأجابه على مسمع منا: من الخير لك أن توفر وقتك لتجارة التحف!
وكان من بين الذين سروا في أعماقهم بالكارثة التي حلت بالوطن في 5 يونيو 1967! وهو موقف غريب، ولكن تبناه جميع أعداء الثورة، وشاركهم فيه ذلك الرجل الشاذ الذي خلق ليعارض الدولة، وليقف منها موقف النقيض دائما وأبدا. قال منفسا عن حقده: ما جدوى أن نتحرر من طبقة لنقع في قبضة الدولة الفولاذية؟ السلطة الحاكمة أثقل من الطبقة، أثقل من الشيطان نفسه!
ولكن الثورة لم تتلاش، بل مضت تضمد جراحها، وتجدد حيويتها وتتأهب لمعركة جديدة. ومضى هو يحنق من جديد ويتمزق بين المتناقضات، وإن حافظ في الظاهر على شخصيته التي عرف بها منذ عام 1924 وإن ظل قلما أمينا من أقلام الثورة. ورغم بلوغه السبعين من عمره، ورغم وحدته وخلوه من روح الدعابة، فهو يتمتع بصحة جيدة ونشاط موفور، ولعله المصري الوحيد من معارفي الذي لم أسمعه يمزح أو ينكت أبدا، ولا عرفت له هواية فنية، حتى الغناء لا يتذوقه، والأدب النادر الذي يطلع عليه يقرؤه قراءة سياسية خاصة كأنه خلق شاذ مقطوع الصلة بالإمتاع والجمال. وركز في الأيام الأخيرة على الإيمان بالعلم، إيمانا نسخ إيمانه القديم بالأيديولوجية، ويتساءل مرارا: متى يحكم العلم؟ .. متى يحكم العلماء؟!
هذه هي آخر هتافاته، وهي خليقة بإشباع معارضته الأزلية لجميع أنواع الدول، حتى قال رضا حمادة: إنه رجل مجنون، هذه هي الحقيقة!
فقلت: وثمة حقيقة أخرى وهي أن أقواله التي تنكر لها خلقت في أجيال أثرا لا يمحى!
ناپیژندل شوی مخ