فقال بتوسل: اسمعي كلمة بكل أدب. - دعني وإلا ناديت الشرطي.
وابتعدت تسير بخطوات غاضبة سريعة. وقف ينظر إليها بذهول، وبحركة سريعة غير متوقعة دس يده في جيبه فاستخرج مسدسا فسدده نحوها وأطلق النار! صرخت الفتاة صرخة فظيعة وارتفع وجهها إلى السماء في حركة متشنجة ثم تهاوت على ظهرها. وجعل سابا ينظر إليها، ذراعه مدلاة، ويده ما تزال قابضة على المسدس، وظل كذلك حتى قبض عليه. وفاضت روح الفتاة قبل مجيء الإسعاف. وعرفنا فيما بعد أن سابا سرق مسدس أخيه الضابط في الجيش ليرتكب جريمته عند اليأس. ولم ندر عنه شيئا بعد ذلك، ولم نره مرة أخرى. لقد طبع في خيالنا صورة لا تنسى ثم ذهب.
سالم جبر
عرفت اسم سالم جبر ككاتب مقال بجريدة كوكب الشرق عام 1926، كان بدر الزيادي أول من نوه به أمامي فوصف كتابته بالبلاغة والفائدة، ووجدته داعيا متحمسا للحضارة، والاستقلال الاقتصادي وتحرير المرأة، كما دعا إلى اتخاذ القبعة غطاء للرأس بدلا من الطربوش. وكان حقوقيا ولكنه لم يشتغل بالقانون، وكان يقوم بجولة ثقافية في إنجلترا وفرنسا كل عام تقريبا، ولما قامت ثورة 1919 اشترك فيها ضمن طلبة مدرسة الحقوق، وأصيب برصاصة في كتفه يوم الهجوم على الأزهر، ثم عمل في الصحافة الوفدية، وظل يعمل في الصحافة حتى اليوم. وتغير موقفه السياسي بعض الشيء منذ تولي سعد زغلول الوزارة عام 1924، وقد قال لي يوما بعد أن جمعتنا صداقة متينة ملقيا ضوءا على تلك الفترة من حياته: كان من رأيي ألا يتولى سعد زغلول الوزارة، وأن يظل الوفد وراءه في الميدان الشعبي حتى تتحقق رسالة الوفد الوطنية.
فسألته: خرجت وقتذاك على الوفد؟ - كلا، ولكن تحول اهتمامي الحقيقي إلى ناحية أخرى.
أجل، تحول إلى اعتناق الشيوعية، وعرف بذلك منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، ولم ينس أنه صحفي في جريدة الوفد، فتجنب مناقشة الموضوعات الجديرة بإحراج الزعيم، واختط لنفسه منهجا خاصا في الكتابة ينفس به عن عقيدته الجديدة بطريق غير مباشر، ولا يتنافى في مظهره مع سياسة الوفد، فراح يدعو إلى حرية المرأة والعلم والصناعة. وتقدم خطوة أخرى فألف رسالة في المذاهب الاقتصادية مؤرخا ضمنا للاشتراكية! وحوالي عام 1930 أصدر رسالته الثانية عن «كارل ماركس ورسالته» وسرعان ما صادرتها السلطة، وتعرض بسببها لحملة عاتية من الجهات المحافظة التي اتهمته بالإلحاد والفوضوية. تعرفت به وأنا طالب بالجامعة في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم بالمنيرة، وكنا نلتقي كثيرا بالصالون أو في مكتبه بالجريدة.
وقدمت إليه من زملائي رضا حمادة، وجعفر خليل، وكنا نتحادث في السياسة والاشتراكية، ولم نفتح صدورنا لما قال عن صراع الطبقات ودكتاتورية الطبقة العاملة، وقلت له: اشتراكية تجيء عن طريق البرلمان، هذا ما أحلم به!
فقال متحديا أفكاري: أنا عدو للوفد! - أنت تقول ذلك؟ - ونصير للملك وأحزاب الأقلية.
فضحكت غير مصدق فقال: الوفد أفيون الشعب!
ثم وهو يضرب مكتبه بقبضة يده: الوفد هو المسئول عن استسلام الشعب لأحلام لن تتحقق أبدا، وسيعجز دائما عن تقديم أي خدمة حقيقية للشعب، أما إذا سيطر الملك وأحزابه، واستشرى الفساد واستوطن، يئس الشعب وتوثب لثورة حقيقية!
ناپیژندل شوی مخ