فقلت بفزع: كلا.
وإذا بها تنزع ثوبها فتبدو أمامي عارية، رأيت امرأة عارية لأول مرة، ملأتني الحركة المقتحمة المستهترة فزعا، وملأني المنظر الذي رأيته خطفا فزعا أشد، تراجعت نحو الباب وأنا أنتفض.
فتحت الباب وهرولت إلى الخارج، وضحكتها المائعة المتموجة تتعقبني كثعبان، وتلقتني المرأة الأخرى بقهقهة، وأشارت إلى الكرسي كي أجلس، ولكني وقفت في وسط الدهليز لا أريد أن ألمس شيئا، ولا أريد لشيء أن يلمسني، وجعل المتسكعون خارج البيت ينظرون إلي في دهشة، ويطلقون في وجهي أبشع النكات، ولبثت أعاني محنة وأي محنة حتى رجع أحمد فسألني بفتور: مالك واقف كالديدبان؟
فقبضت على ذراعه كالمستغيث، فمضى بي إلى الخارج، ولم تكن العودة يسيرة كالذهاب؛ إذ صادفتنا مظاهرة ضخمة فشق طريقه خلال أزقة جانبية، وأصوات الرصاص تدوي في الجو، ولما جلسنا في الترام سألني بنبرة الممتحن: أين كنا يا بطل؟
فأجبت من فم جاف: في سينما أوليمبيا. - ماذا شاهدنا؟ - شارلي شابلن. - عظيم، ولكن ما لك مخطوف الوجه؟ - لا شيء. - ضايقتك المرأتان؟ - كلا.
وجعل يراقبني بقلق ثم عاد يسألني: ما لك؟
ففاض بي الحزن حتى كدت أبكي فسألني بقلق: ما لك؟
فقلت بمرارة: لا شيء، إنه شيء خاص جدا، دورا، ليست دورا جميلة كما توهمت. - دورا! من هي دورا؟ - حبيبة دان. - ومن هو دان؟ - بطل المغامرات، ألم تقرأ مجلة الأولاد؟! - أولاد؟! بم تهذي؟ ابسط وجهك، لن نرجع إلى البيت حتى ترجع إلى حالتك الطبيعية!
لم يعلم بمدى شغفي بدورا، ولم يدر بأني تخيلت جسدها من الماس النقي!
ولكن بصفة عامة كانت أيامه بالقاهرة من أسعد أيامي، علمني كرة القدم والملاكمة ورفع الأثقال، وأمتعني بنوادره الفكاهية، وكان يقلد شابلن في مشيته، ويغني المنولوجات المشهورة، ويحاكي عمدة القرية وشيخ الخفراء، وانتقل والداه إلى القاهرة فأقاما في عابدين، فلم يعد يزورنا إلا كل حين ومين. وتعثر في دراسته الثانوية فاختار الالتحاق بمدرسة البوليس، وعقب تخرجه عين في القاهرة لتقدمه، وشغل بحياته الجديدة فانقطع عن زيارتنا وبتنا كالغرباء. لم أره طيلة عمله الأول بالقاهرة إلا خطفا ومصادفة وهو يتسلل خارجا من سراي عصام بك عقب مغامرة غرامية. وتوفي والداه وكدت أنساه تماما، بل نسيته حتى ذكرتني به الحوادث في أثناء الحرب العظمى الثانية وما تلاها بعد أن اختير عضوا في البوليس السياسي. لم يعد أحمد قدري بأحمد قدري الذي عرفته، انقلب شخصية مخيفة تنسج حولها أساطير الرعب، سل سوط عذاب في أيدي الطغاة يلهبون به الوطن والوطنيين. وكنت أسمع عنه وأتعجب، كيف استحال الظريف الماجن شيطانا من شياطين العذاب، كيف يمثل بالشبان من ذوي العقائد الحرة فيجلدهم، ويطفئ السجائر المشتعلة في جفونهم، ويخلع بآلات العذاب أظافرهم! وحدث أكثر من مرة أن نوقش مسلكه على مسمع مني في بعض مجالس الأصدقاء من أهل الفكر والوطنية، مثل رضا حمادة، وسالم جبر وغيرهما، وقيل إنه ما دام لا توجد ثورة شاملة فلا أقل من أن توجد جمعيات سرية لممارسة الاغتيال السياسي دفاعا عن الشعب الأعزل، وقد حدثت بالفعل محاولة لاغتياله أمام نادي محمد علي، ولكنه نجا بأعجوبة، وأفلت مما سموهم وقتها بالجناة الهاربين.
ناپیژندل شوی مخ