وفي صيف ذلك العام قابلت الدكتور - كان بصحبته أسرته المكونة من زوجة وغلامين - في كازينو الأنفوشي بالإسكندرية. كنت أجلس هناك في الصباح - عقب الاستحمام - فأشرب القهوة وأقرأ الصحف، وأشاهد في الوقت نفسه ما يجري على مسرح الكازينو من بروفات للعروض المسائية، رغم نفوري الطبيعي من الغناء الإفرنجي.
وقدمنا الدكتور إلى حرمه، وأظنها كانت مفتشة بوزارة المعارف. ولاحظت بسرور غرامه الأبوي بابنيه، وملاطفاته لهما مما دعا زوجه لإعلان استنكارها لتدليله لهما. واستمالني لأول مرة بعواطفه الأبوية، فلم أكن أكن له احتراما يذكر لعزوفه عن التأليف، ولعدم إخلاصه في عمله. وما أعجبني فيه إلا منظره وخفة روحه، وسخريته المموهة بالتفلسف، وسألني: أتستحم عادة في الأنفوشي؟
فأجبت: إن أمواجه أهدأ بكثير من الشاطبي. - عندما يتم بناء الكورنيش سيتغير وجه الإسكندرية.
فوافقته على قوله فقال باسما: ولكنكم تكرهون إسماعيل صدقي!
فقلت وأنا أداري العواطف المريرة التي استفزها ذلك الاسم: ليس بالكورنيش وحده يحيا الإنسان.
فضحك قائلا: لا يوجد مثل السياسة مفسدة للتفكير البشري.
ثم أشار إلى زوجه وقال: والدتها - حماتي - عضوة في اللجنة الوفدية للسيدات.
فرمقت السيدة بامتنان إكراما لوالدتها.
وفي مطلع العام الدراسي، تولى الدكتور إبراهيم عقل منصبا جامعيا كبيرا، ولكنه اغتال في سبيله جميع مثله العليا. كانت الهتافات العدائية للسراي تتردد في جنبات الوادي، ونشرت جريدة "التيمز" أن مظاهرة في أسوان هتفت لمصطفى النحاس رئيسا للجمهورية، وانقسمت البلاد إلى أقلية موالية للملك، وأغلبية معادية تكاد تجهر بعدائها. وإذا بالدكتور إبراهيم عقل ينشر مقالة في الأهرام، يدعو فيها للولاء لصاحب العرش، وينوه بأيادي أسرته على نهضة البلاد، وبخاصة محمد علي وإسماعيل. كانت أزمة تهاوت فيها القيم إلى الحضيض، وتقوضت كرامات الكثيرين من الرجال، ورمى الأبرياء المهزلة بأعين حمراء، ولكن حتى صفوفهم لم تبرأ من فساد. عصر الزلازل والبراكين المتفجرة. عصر إحباط الأحلام وانبعاث شياطين الانتهازية، والجريمة. عصر الشهداء من جميع الطبقات، وظل الدكتور يخطر بيننا، متظاهرا بالثبات والشجاعة، يطالعنا بنظرات متحدية تخفي في أعماقها إحساسا بالهزيمة والذنب. وكنا نلقاه بالاحترام اللائق بمركزه، على حين نضمر له الاستهانة والسخرية؛ الاستهانة والسخرية أجل، لا البغضاء ولا الرغبة في القتل، كما شعرنا بهما نحو كثيرين من رجال السياسة. لم تكن شخصيته تثير شيئا من ذلك، وكان لخفة روحه ومناوراته البهلوانية خليقا بأن يتبدى لنا مهرجا أو دجالا لا شريرا أو سفاكا للدماء، أو عدوا حقيقيا للشعب.
وفي اليوم الأخير للدراسة، ونحن ذاهبون لعطلة قصيرة نتقدم بعدها لامتحان الليسانس، دعانا إلى الاجتماع به في مكتبه. كنا عشرة ذكور، هم طلاب الليسانس للقسم الذي يرأسه إلى جانب منصبه العام.
ناپیژندل شوی مخ