وفي أواخر أيام الحرب باعت البيت وغادرت الحي. ولكنها لم تغب عن ناظري طويلا؛ إذ كانت ترى جالسة في مقهى اللواء أو جروبي أو الأرجنتين، تشرب كأسا، ثم تمضي، وقد اصطادت شابا، حتى اشتهرت بذلك في وسط المدينة، ورأيتها في أثنيوس بالإسكندرية تلعب نفس اللعبة، وتغيب فترة - طويلة أو قصيرة - ثم تظهر مرة أخرى في نفس الأمكنة لتلعب نفس الدور، هذا والكبر يزحف والذبول يستفحل والفخامة تقل مما قطع بأن نقودها تنفد مثل أيامها. وكلما رأيتها من جديد أدركت أنها تتدهور وتقترب من النهاية المحتومة. لم تعد إلا عجوزا معدمة أو شبه ذلك، وسارع إليها الانحلال والتفسخ، وامتنعت عن الذهاب إلى تلك الأماكن الفاخرة أو اضطرت إلى ذلك، فقنعت بالتجوال في الشوارع في ملابس رثة ممزقة، ثم لم تعد تظهر إلا في جلباب وشبشب، وانتهى بها الأمر إلى التسول أو ما هو قريب من ذلك. لم أرها تمد يدا، ولكن بعض أصحاب المطاعم الصغيرة ممن وقفوا على سيرتها المشهورة، كانوا يتصدقون عليها بالسندوتش أو ببعض النقود، وما زلت كلما لمحتها أستشعر رجعا من الأسى وأستقبل فيضا من ذكريات الشارع القديم بالصورة التي كان عليها على عهد الفوانيس المدلاة من أعالي الأبواب والحقول المترامية والهدوء الشامل، تلك المرأة التي راحت ضحية لنهم جنوني بالحياة، والتي يسعى من حولها أحفادها الناجحون وهم على جهل تام بأشجانها ووحدتها.
عيد منصور
من مجموعتنا العتيدة، صادقها وصادقته، واتصلت بيننا الأسباب على مدى العمر، ولكنه كان وما زال الصديق بلا صداقة، وكان وما زال بلا قلب، حتى خليل زكي له قلب، وحتى سيد شعير له قلب، أما عيد منصور فلا قلب له. وكان يعيش مع أبيه وخادم عجوز ولا رابع لهم، أما أمه فماتت عقب إنجابه مباشرة، وكان أبوه تاجر عمارات، عمل مع اليهود طويلا، واكتسب الكثير من أساليبهم ومهاراتهم، وكان عجوزا فقد أنجبه وهو في الخمسين ولم يتزوج مرة أخرى بعد وفاة زوجته فكان عيد وحيده، وكان بخيلا، دقيقا، فظا، جامد المشاعر فربى ابنه تربية شديدة لا رحمة فيها ولا مهادنة، مصمما على إخراجه على نمطه، فلم يعرف صديقنا المعاملة العاطفية، ولا جرب الحنان أو الرحمة، كأنما كان يتكون في معسكر لإعداد الإرهابيين، لذلك تجلت مواهبه منذ سن مبكرة، فنشأ عمليا، صارما، ذا عقل نفعي، وبلا قلب، وما زال كذلك حتى اليوم والغد، ومنذ الصغر اتخذ من القرش معبودا ومقياسا للرجولة والتفوق، ولم يتسع قلبه إلا لذلك المعبود الأوحد، وكما قلت فهو الصديق بلا صداقة، صديق بحكم الجوار والزمالة واللعب وعشرة العمر، ولكن بلا عاطفة ولا مودة ولا حب حقيقي، يضحك للكارثة كما تضحك للنكتة، فلم يعان أي تأثر لموت شعراوي الفحام ولا لموت جعفر خليل، ويوم قتل زميلنا بدر الزيادي في الإضراب لم يكن يخفي ارتياحه لخلو الميدان من منافسه في رئاسة فريق الكرة، ولما شعر يومها بعيني تحرقانه عض على أسنانه ليمنع ضحكة من ضحكاته القاسية فقلت له: أنت شيطان!
فهمس في أذني: ربنا يسمع منك!
ثم بمزيد من السخرية: لا فرق بيني وبينكم إلا أنني صادق غير منافق!
واعتاد أن يعيش بحكم تربيته ومزاجه خارج دائرة تقاليدنا وديننا وأشواقنا، بحكم تربيته ومزاجه، وبلا دخل من تفكير أو فلسفة، وبلا دافع من الفساد والشقاوة، كما كان الحال مع خليل زكي وسيد شعير، فلم تحتشد قواه إلا للعمل والربح وحدهما، حتى الجنس - وهو الترفيه الوحيد الذي مارسه - لم يشغل إلا هامش وقت فراغه. وما إن حصل على البكالوريا عام 1930 حتى أشركه أبوه في العمل، وظل يدربه حتى مات عام 1935 مخلفا عليه ثروة طائلة. ورغم مغامراته في حديقة بيت آل الحملاوي فلا أعتقد أنه تعلق بامرأة مثلما تعلق بثريا رأفت، رآها وهو يعمل مع والده فاندفع في إغرائها، وقد قال لي: مر بي وقت وقعت فيه تماما تحت سيطرتها، ولو تمنعت علي تماما حتى النهاية لربما ...
وسكت فسألته: لربما تزوجتها؟ - على الأقل كنت فكرت في ذلك ...
فسألته: ألم تحزن أو تخجل من الغدر بها؟
فقال وهو يضحك: لا أظن ...
لم يعرف الحب، ولا رغب في الزواج، ولا حن إلى الأبوة، وحتى اليوم وهو في الستين أو جاوزها بقليل ما زال يعمل بنفس الهمة، ويجمع المال بنفس النهم، ولم يعرف للحياة غاية أخرى. وكنت أضيق به إذا سخر من عواطفنا الوطنية كما ضقت به يوم سخر من بكائي لوفاة سعد زغلول، ولكنه كان يستهين بكل ذلك ويقول: لولا الإنجليز، لولا اليهود، ما كان لهذا البلد حياة!
ناپیژندل شوی مخ