المرايا
المرايا
تأليف
نجيب محفوظ
إبراهيم عقل
سمعت أول ما سمعت عن الدكتور إبراهيم عقل في مقالة للأستاذ سالم جبر. لا فكرة لي الآن عن موضوع المقالة، ولكنه ذكر في سياقها الدكتور إبراهيم عقل، باعتباره عقلا فذا، بشر في وقت ما بثورة فكرية في حياتنا الثقافية، لولا وشاية حقيرة أجهضته قبل أن يقف على قدميه، رددها شخص لا أخلاق له، زاعما بأنه - الدكتور إبراهيم - طعن في الإسلام ضمن رسالة الدكتوراه التي قدمها للسربون. وشن على الدكتور هجوم ناري في عديد من الصحف والمجلات، فاتهموه بالإلحاد، وتبني آراء المستشرقين المبشرين لنيل الدكتوراه على حساب دينه وقومه، ثم طالبوا بفصله من الجامعة. واهتز الدكتور من جذوره حيال الحملة العاتية، ولم يكن ذا طبيعة مقاتلة ولا قبل له بتحدي الرأي العام، فضلا عن حرصه عن وظيفته وشدة حاجته إليها، فأنكر التهمة، ودافع عن عقيدته، وتوسل بكثيرين - على رأسهم صديقه وزميله في هيئة التدريس الدكتور ماهر عبد الكريم - لإخماد الفتنة واسترضاء مؤججيها. ولما التحقت بالجامعة عام 1930 وجدته أستاذا مساعدا بها. والظاهر أن المحنة التي مر بها علمته كيف يركز نشاطه في دروسه الجامعية، وينسحب من الحياة الفكرية خارج جدران الكلية. ولاحظنا أن همته يطويها الفتور والملال، وأن دروسه أقرب إلى التوجيهات العامة منها إلى المحاضرات الدسمة التي يلقيها علينا زملاؤه، رغم ما تمتع به من صحة وحيوية، ونضج تربع فوق الأربعين من العمر. وما لبث أن انقلب في مجالسنا نادرة ودعابة. ومرة سألته في أثناء مناقشة بقاعة المحاضرات: لم لم تؤلف كتبا يا دكتور؟
فرماني بنظرة متعالية وقال بصوته الجهوري: أتظن أن عالم الكتب في حاجة إلى مزيد؟
وجعل يهز رأسه الكبير فوق قامته المديدة، ثم قال: لو فرشنا بالكتب سطح الأرض لغطته مرتين!
ثم بامتعاض وازدراء: ومع ذلك فلو عددنا الكتب المتضمنة جديدا من الفكر لما غطت سطح زقاق!
ولم يكن من النادر أن ألقاه في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم بقصره الكبير في المنيرة. وما أكثر من عرفت من أهل الفكر في ذلك الصالون العتيد، وما زلت حتى اليوم أتردد عليه، وإن تغير مكانه وزمانه، وثمة ذكرى لاجتماع فيه ترد على الخاطر بوضوح ويسر، كلما استدعتها الظروف والأحوال. ولعل الدكتور إبراهيم عقل كان أقرب الحاضرين تجانسا مع البهو الكلاسيكي الفخم بجسمه العملاق ومهابته الطبيعية، ونظرته الزرقاء الذكية، وعلى غير المألوف خاض الحديث في شئون السياسة. وكنا نتجنبها إكراما لأستاذنا صاحب الصالون؛ لعلمنا المسبق بنفوره من الأحاديث الانفعالية، ولكونه من المنتمين إلى الحزب الوطني بحكم أسرته ونشأته على حين أن تلاميذه جميعا كانوا من شباب الوفد. غير أن الانقلاب الذي قام به إسماعيل صدقي في ذلك التاريخ طوق المشاعر، وضغط على الأفكار؛ فلم يكن من اليسير تجاهله. وتكلم كثير من الطلبة الحاضرين حتى قال الدكتور إبراهيم عقل: إن حياتنا الدستورية مكسب، ولكنها في الوقت نفسه فخ!
ناپیژندل شوی مخ