وصاح بهم: كفوا عن النصائح عليكم اللعنة!
كان يمقت النصح ويعده تعاليا مرذولا، ولكنه بدا ثملا بالفرح والسعادة، وبات ليلتها في فندق سميراميس، وأقام به حتى يدبر أموره، ونشط نشاطا غير معهود فاستأجر شقة على النيل بخمسين جنيها شهريا. ومضى يؤثثها بأفخر الأثاث، وقد ذهلنا - نحن البسطاء - عندما علمنا بأن تأثيثها تكلف عشرين ألفا من الجنيهات، وأعجب ما أذهلنا فيها كان حجرة شرقية، أقام بها بارا أمريكيا وغرزة موهت أدواتها بالذهب والفضة، كما ابتاع سيارة كاديلاك، وكان مجموع ما أنفقه على ذلك - بالإضافة إلى الملابس - ثلاثين ألفا. كان مبلغا خياليا، ولكن اعتذر عن ضخامته أصدقاؤه بما عاناه من حرمان طويل، وقالوا أيضا إن التأسيس عادة يتكلف أضعاف أضعاف ما تتكلفه الحياة اليومية، ولكن الحجرة الشرقية شهدت سهرات ليلية جمعت الأصدقاء والطفيليين، وغانيات الملاهي الليلية، وبعض الفنانين والفنانات، وجرت الخمر وانتشر الدخان الأزرق، وجيء بموائد الطعام من نادي السيارات، وراح يخطر بين الضيوف رافلا في الحرير محاطا بالإجلال والإكبار. وما لبث أن تطايرت العشر الآلاف جنيه فلم يبق إلا دخل العمارتين، وقال المتفائلون أن آن أوان الانضباط وستسير الحياة سيرتها المتزنة المعقولة، ولكنه كان اعتاد عادة الإسراف وتقمص روح ليالي ألف ليلة وليلة، وعلى حين كان ينفق بسخاء على غانيات الملاهي، كان يمارس العشق الحقيقي مع بنات الهوى المتواضعات، ومع بياعة فول سوداني فلاحة من المترددات على مقهى الفيشاوي، ولذلك لم يوفق إلى التوازن أبدا، واضطر إلى بيع إحدى العمارتين رغم توسلات الأصدقاء، ثم ألحق بها الأخرى، وتجلى في أثناء ذلك سعيدا مجنونا فوق الحذر والماضي والمستقبل، وما جاء عام 1950 حتى كان قد باع شقته ورجع للإقامة في فندق سميراميس، ثم باع السيارة، وبدا المستقبل واضح المعالم. وأذكر أنني تدارست حاله مع الصديق رضا حمادة فقلت له: أهو مجنون؟
فأجاب: لا يخلو من جنون. - إنه لا يشعر بالغد. - أو إنه مستغرق في لحظته الراهنة. - أكاد - وسط همومنا التي تثقلنا - أحسده!
فضحك عاليا، وقال: على الحياة أن تكون جدا أو فلتذهب إلى الشيطان!
وعندما نفد حسابه غادر سميراميس، واجه الحياة مرة أخرى، وهو لا يملك مليما، ولا أمل له من وراء وفاة أحد. ولم يكن بلا خطة، شرب زجاجتي ويسكي وبلع ربع أوقية حشيش، وهام على وجهه ، وعثر عليه صباح اليوم التالي جثة هامدة على شاطئ النيل.
عزمي شاكر
تعرفت به في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم عام 1960، وقد قلت له من فوري: أذكر أني رأيتك في زيارة للأستاذ عباس فوزي في أثناء الحرب العظمى الثانية.
فقال: لم أقابله من مدة طويلة، وبالمناسبة كيف تفسر تحوله إلى تأليف الكتب الدينية، أكان عن عقيدة حقا؟
فأجبت بحذر: أنت تعلم أنه كان دائما من المهتمين بالتراث!
وكان عزمي شاكر يوم تعرفت به في الأربعين، وقد جذبني بذكائه وثقافته وصراحته، وأشعرني تماما بأنه من الناس الذين يأخذون الأمور مأخذ الجد، ويلتمسون السبل إلى الأمل، وكان دكتور في التاريخ من فرنسا، ومتزوجا من مدرسة دكتورة في العلوم. وكان الأستاذ سالم جبر يعرفه، وقال لي عنه: إنه كان تلميذا وفديا ولكنه اهتم من بادئ الأمر بالمشكلات الاجتماعية، ويعترف بأن قلمي كان له الأثر الأول في توجيهه.
ناپیژندل شوی مخ