فقال مستردا طبعه الساخر: بدأت الفلسفة بابن رشد وانتهت بابن كلب!
وفي مدة وجيزة أحاط عدلي المؤذن بشئون الوزارة والموظفين، وكان يشغل وظيفة رئيس المكتب الاستشاري، فاتصل بحكم عمله بجميع فروع الوزارة، وأثبت في العمل طاقة خارقة، واستحق بعمله الثقة كل الثقة دون انزلاق إلى سراديب الحزبية، مع الاحتفاظ لشخصيته بالاحترام، ومع عدم الحيد إلى ما يمس الكرامة إلا عند الضرورة القصوى، فرفع الوصولية إلى أرفع مراتبها، وكان في أعماقه ميالا للوفد وقيمه الشعبية والديمقراطية والاستقلالية، ولكنه كتبها في الأعماق، وتغلب عليها بقوة أعصابه الباردة. ولم يعرف عنه أنه صنع خيرا في حياته، ولم يتورع عن إيذاء شخص طالما وسعه ذلك، وكان بلا شك يجد سعادة خاصة في الشر والتحدي والإيقاع بالخصوم، بل وبالأصدقاء، ولم يكن يهمه أن يكون محبوبا، وخيل إلي كثيرا أنه يعمل بشغف على أن يكون موضع النقمة والبغض والحسد، وهو يختلف في ذلك عن شرارة النحال الذي آثر بعض الأذناب بالعطف، والذي حرص دائما على معسول الكلام حتى وإن دس فيه السم، والذي سعى إلى نيل الثقة ولو بالكذب والنفاق؛ لذلك كره الموظفون عدلي كإبليس، وتهامسوا بنقاط ضعفه كأصله وسيرة أخته، ومنهم من فسر عزوبيته بشذوذ جنسي يخفيه بصرامته وعنجهيته، ولذلك فإن الموظف الوحيد الذي ساعده كان شابا جميلا منحلا، وطالما ساءلت نفسي حائرا كيف أمكنه المحافظة على كرامته ووظيفته بالرغم من تتابع الوزراء والأحزاب عليه؟ وبالبحث والتحري، ولمعرفتي الوثيقة به، علمت أنه كان يبسط حمايته - وقت إقبال الدنيا عليه - على عدد محدود من موظفي الأحزاب المختلفة، حتى إذا أقبلت دنيا الأحزاب على أحدهم رد الجميل إليه فزكاه عند وزيره، بذلك احتفظ بمكانته في جميع العهود معللا فوزه بكفاءته الشخصية وحدها، وظل يترقى من درجة إلى درجة حتى عين مديرا عاما قبل ثورة يوليو. ورغم صلتنا القديمة وزمالتنا العلمية لم يتورع عن التضحية بي في أول فرصة سنحت، كان ذلك عندما رشحتني لجنة شئون الموظفين لدرجة خالية بعد مقارنات طويلة بيني وبين منافسي الذي كان كاتبا بالسجلات، ورفعت اللجنة قرارها فوقعه الوزير وغادرت الوزارة مترقبا متلقيا التهاني، ولما رجعت إلى الوزارة صباحا فوجئت بإلغاء القرار وترقية المنافس بدلا مني، كدت أفقد عقلي، وبالبحث علمت أن موظفا كبيرا بديوان جلالة الملك اتصل مساء أمس بالأستاذ عدلي المؤذن موصيا بمنافسي، فما كان منه إلا أن سارع إلى مقابلة الوزير - والعهد كان ملكيا - وأخبره بالتوصية، وفي الحال تمزق قرار ترقيتي وتحرر قرار جديد بالترقية الجديدة، وذهبت إلى عدلي المؤذن منفعلا وناقشته فيما سمعت من أنباء ولكنه ظل طيلة الوقت صامتا باردا حتى تعبت وبخت، ثم قال لي بهدوء: أعدوا بيان الميزانية الجديدة للنشر في الصحف!
وعرفت أمورا أكثر من وكيل المستخدمين الذي كان له صديقا كما كان لي عدوا، قال لي: ما حصل يعتبر مخالفة صريحة للقانون، فالقرار الوزاري لا يجوز تغييره إلا بقرار وزاري مثله، وقد اطلعت بنفسي على قرار ترقيتك، فمتى صدر قرار آخر بإلغاء الترقية؟
فسألته: ألا تستطيع أن تثير المسألة رسميا؟
فقال ضاحكا: هيهات أن يستطيع ذلك إلا السفير البريطاني نفسه!
فسألته بدهشة: ولكن ما علاقة الموظف الآخر، وهو على قد حاله مثلي تماما برجل السراي الخطير؟
فقال ضاحكا: صل وسلم على سيدنا لوط!
ومنذ ذلك الموقف فترت علاقتي به حتى كادت تقتصر على العمل الرسمي، قبل ذلك كنا نلتقي صباحا في ميدان سليمان باشا، نسير كزملاء رغم فارق الدرجة، فنتناول فطورنا في الأميركين، ثم نمضي في طريق الوزارة معلقين على الأحداث والمارة والأشياء، ويبدو في تلك الفترة لطيفا ودودا ضاحكا محبا للمزاح حتى ليقص علي آخر ما سمع من النكات السياسية عن الملك وحاشيته وأسرته، أو يدعوني إلى زيارته في مسكنه الجديد بالمعادي الذي انتقل إليه بعد صعوده السريع، ثم قد يستدعيني إلى مكتبه بعد ذلك بربع ساعة؛ فيطالعني بوجه جديد، وجه صارم بارد مجرد، يأمر ويكلف وينذر بلا رحمة ولا ذوق! وأغادره وأنا أضرب كفا على كف، ومرة فضفضت نفسي فبحت بما يكربني للأستاذ عباس فوزي فقال لي: عنده انقسام شخصية ابن القديمة، نحن موعودون في هذه الوزارة بكافة أنواع الشذوذ.
ولما قامت ثورة يوليو 1952 تهيأت له فرصة للتخلص من شرارة النحال أكبر منافس له على وكالة الوزارة. وأشهد أنه كان وراء بعض العرائض التي قدم بها شرارة إلى لجنة التطهير، ولكن الرجل نجا بأعجوبة ورقي وكيلا للوزارة، فتلقى عدلي المؤذن أكبر ضربة وجهت إليه في حياته، وسرعان ما وجد نفسه غريبا بين موظفين جدد لم يعرف لهم أصلا ولا فصلا، اختفى أغلب معاونيه في التطهير، واستقبل حياة جديدة بكل معنى الكلمة، ورجع يخطب ودي كما كان يفعل في حديقة الأورمان، ورجعنا نتلاقى في ميدان سليمان باشا وراح يقول ساخرا: لقد سقطت الوزارة في أيدي جماعة من الغلمان!
أو يقول: ما قيمة أن تعرف القوانين والأصول الإدارية؟
ناپیژندل شوی مخ