مقدمة
1 - للرجال عليهن درجة
2 - من الأخلاق
3 - هذه الشجرة
4 - الأخلاق الاجتماعية
5 - مكانة المرأة
6 - الحجاب
7 - حقوق المرأة
8 - الزواج
9 - زواج النبي
10 - الطلاق
11 - السراري والإماء
12 - المعاملة
13 - مشكلات البيت
14 - القرآن والزمن
تعقيب
مقدمة
1 - للرجال عليهن درجة
2 - من الأخلاق
3 - هذه الشجرة
4 - الأخلاق الاجتماعية
5 - مكانة المرأة
6 - الحجاب
7 - حقوق المرأة
8 - الزواج
9 - زواج النبي
10 - الطلاق
11 - السراري والإماء
12 - المعاملة
13 - مشكلات البيت
14 - القرآن والزمن
تعقيب
المرأة في القرآن
المرأة في القرآن
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
تدور مسألة المرأة في جميع العصور على جوانب ثلاثة، تنطوي فيها جميع المسائل الفرعية التي تعرض لها في حياتها الخاصة أو حياتها الاجتماعية. وهذه الجوانب الثلاثة الكبرى هي:
أولا:
صفتها الطبيعية، وتشمل الكلام على قدرتها وكفايتها لخدمة نوعها وقومها.
وثانيا:
حقوقها وواجباتها في الأسرة والمجتمع.
وثالثا:
المعاملات التي تفرضها لها الآداب والأخلاق، ومعظمها في شئون العرف والسلوك.
وقد بحثنا هذه المسائل جميعا في رسائل مختلفة، ولكننا نتناولها في هذه الرسالة لبيان موضعها من أحكام القرآن الكريم، وخلاصة ذلك البيان في هذه المقدمة الوجيزة أن آيات الكتاب قد فصلت القول في هذه الجوانب جميعا، وكانت في كل جانب منها فصل الخطاب الذي لا معقب عليه، إلا من قبيل الشرح والاستدلال بالشواهد المتكررة التي تتجدد في كل زمن على حسب أحواله ومدارك أبنائه.
فالصفة التي وصفت بها المرأة في القرآن الكريم هي الصفة التي خلقت عليها، أو هي صفتها على طبيعتها التي تحيا بها مع نفسها، ومع ذويها. •••
والحقوق والواجبات التي قررها كتاب الإسلام للمرأة قد أصلحت أخطاء العصور الغابرة في كل أمة من أمم الحضارات القديمة، وأكسبت المرأة منزلة لم تكسبها قط من حضارة سابقة، ولم تأت بعد ظهور الإسلام حضارة تغني عنها، بل جاءت آداب الحضارات المستحدثة على نقص ملموس في أحكامها ووصاياها؛ لأنها أخرجت من حسابها حالات لا تهمل ولا يذكر لمشكلاتها حل أفضل من حلها في القرآن الكريم؛ إذ انتقل بها البحث من الإهمال إلى الدراسة والتدبير. •••
أما المعاملة التي حمدها القرآن وندب لها المؤمنين والمؤمنات، فهي المعاملة «الإنسانية» التي تقوم على العدل والإحسان؛ لأنها تقوم على تقدير غير تقدير القوة والضعف، أو تقدير الاستطاعة والإكراه.
وفي الصفحات التالية تفصيل لهذا الإيجاز، مداره على جلاء وجوه المطابقة التامة بين أحكام الكتاب الكريم، وأحكام الواقع والمنطق والمصالح الإنسانية.
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
للرجال عليهن درجة
المرأة في القرآن الكريم، أحد الجنسين الذكر والأنثى من نوع الإنسان؛ وهما جنس الرجال، وجنس النساء. والجنسان سواء، ولكن للرجال على النساء درجة: قال تعالى:
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم [البقرة: 228].
وقال عز من قائل:
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما [النساء: 32].
ويلي ذلك من السورة نفسها:
الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم [النساء: 34].
والقوامة هنا مستحقة بتفضيل الفطرة، ثم بما فرض على الرجال من واجب الإنفاق على المرأة، وهو واجب مرجعه إلى واجب الأفضل لمن هو دونه فضلا، وليس مرجعه إلى مجرد إنفاق المال، وإلا لامتنع الفضل إذا ملكت المرأة مالا يغنيها عن نفقة الرجل أو يمكنها من الإنفاق عليه.
وحكم القرآن الكريم بتفضيل الرجل على المرأة هو الحكم البين من تاريخ بني آدم، منذ كانوا قبل نشوء الحضارات والشرائع العامة وبعد نشوئها.
ففي كل أمة، وفي كل عصر، تختلف المرأة والرجل في الكفاية والقدرة على جملة الأعمال الإنسانية، ومنها أعمال قامت بها المرأة طويلا، أو انفردت بالقيام بها دون الرجال.
ومن قصور الفكر عند الداعين إلى قيام المرأة بجميع أعمال الرجل في الحياة العامة والخاصة، أن يقال: إن المرأة إنما تخلفت في الكفاية والقدرة بفعل الرجل ونتيجة لأثرته واستبداده وتسخيره المرأة في خدمة مطالبه وأهوائه.
فإن هذا القول يثبت رجحان الرجل ولا ينفيه، فما كان للرجال جملة أن يسخروا النساء جملة في جميع العصور وجميع الأمم لولا رجحانهم عليهن، وزيادتهم بالمزية التي يستطاع بها التسخير، ولو كانت مزية القوة البدنية دون غيرها. •••
ومما يلاحظ أن أكثر القائلين بدعوة المرأة إلى القيام بعمل الرجل، جماعة الماديين الذين يردون كل قوة في الإنسان إلى قوة البنية المادية، فإذا قيل: إن قوة الجسد هي مزية الرجل على المرأة، فليست هناك قوة أخرى تحسب في باب المفاضلة بين الجنسين.
على أن الواقع أن الكفاية التي تمكن الإنسان من الغلبة على سائر الناس لم تكن قط من قبيل القوة الجسدية دون سائر القوى الإنسانية، وكثيرا ما كان المتغلبون المتسلطون على من دونهم أضعف جسدا من الخاضعين لهم، العاملين في خدمتهم. وكثيرا ما كانت قوة الحكم بمعزلة عن قوة الأعضاء، وصلابة التركيب. وأيا كان القول في هذا فإن الجنس لا يمتاز في جملته بقوة الجسد دون أن يرجع ذلك إلى فضل في التكوين يوجب الامتياز والرجحان.
وإذا نظرنا إلى سوابق التسخير في تاريخ الإنسان، تبين لنا أنه كان نصيبا عاما لجميع الضعفاء الخاضعين للأقوياء المسلطين عليهم، وكان نصيبا عاما على الأقل لطوائف العبيد الذين خضعوا للأقوياء والضعفاء، ممن كانوا يسمون بالأحرار تمييزا لهم عن الأرقاء المستعبدين، وقد نبغ من هؤلاء الأرقاء المستعبدين زمرة من الأدباء وأصحاب الفنون، كما نبغ منهم «سادة» يزاحمون الأحرار على أعمال الرئاسة والقيادة، وينتزعون الحكم وهم غرباء عن البلاد التي يحكمونها. وهم في عددهم قلة ضئيلة، بالقياس إلى عدد النساء من الحرائر والإماء، وهن نصف الجنس الإنساني أو يزدن قليلا على حسب الإحصاء. •••
وفضل الرجال على النساء ظاهر في الأعمال التي انفردت بها المرأة، وكان نصيبها منها أوفى وأقدم من نصيب الرجال. وليس هو بالفضل المقصور على الأعمال التي يمكن أن يقال: إنها قد حجبت عنها، وحيل بينها وبين المرانة عليها، ومنها الطهي والتطريز والزينة وبكاء الموتى وملكة اللهو والفكاهة التي اقترنت فيها السخرية بالتسخير، عند كثير من المضطهدين أفرادا وجماعات.
فالمرأة تشتغل بإعداد الطعام منذ طبخ الناس طعاما قبل فجر التاريخ، وتتعلمه منذ طفولتها في مساكن الأسرة والقبيلة، وتحب الطعام وتشتهيه، وتتطلب مشتهياته وتوابله في أشهر الحمل خاصة، كما تتطلب المزيد منه في أيام الرضاع، ولكنها - بعد توارث هذه الصناعة آلاف السنين - لا تبلغ فيها مبلغ الرجل الذي يتفرغ لها بضع سنوات، ولا تجاريه في إجادة الأصناف المعروفة، ولا في ابتداع الأصناف والافتنان في تنويعها وتحسينها، ولا تقدر على إدارة مطبخ يتعدد العاملون فيه من بنات جنسها أو من الرجال.
وصناعة التطريز وعمل الملابس - كصناعة الطهي - من صناعات النساء القديمة في البيوت، ولكنها تعول على الرجال في أزيائها، ولا تعول فيها على نفسها، وتفضل معاهد «التفصيل» التي يتولاها الرجال على المعاهد التي يتولاها بنات جنسها، وكذلك تفضل معاهدهم على معاهد النساء في أعمال التجميل والزينة عامة ... ومنها تصفيف الشعر وتسريحه واختيار الأشكال المستحبة لتضفيره وتجميعه. وقد عنيت المرأة بألوان الطلاء منذ عرفت الزينة والتحلية الصناعية، ولكنها لم تحسن من هذه الصناعة ما أحسنه الرجل في سنوات قصار، حين اشتغل بتغيير الملامح لتمثيل الأدوار على المسرح، أو حين اشتغل بتغيير الملامح للتنكر والاستطلاع، وقد كان هذا التفوق في صناعة «التفكر» أولى بالمرأة لطول عهدها بفنون المداراة والحجاب. •••
وتنوح المرأة على موتاها، وتتخذ النواح على الموتى صناعة لها في غير مآتمها، ولم تؤثر عن النساء قط في لغة من اللغات مرثاة تضارع المراثي التي نظمها الرجال، ولا تظهر في «مراثيهن» مسحة شخصية تترجم عن النفس وراء الكلمات والمرددات المتواترة التي تقال في كل مأتم، وفي كل وفاة، وتنقل محفوظة كما تنقل مرتجلة من نظم قائلتها في فجيعتها التي تعنيها ولا تعني غيرها، كأنها الأصوات التي تترجم عن غرائز الأحياء على نحو واحد في الحزن والألم أو في الشوق والحنين.
والملاهي - ولا سيما ملاهي الرقص والغناء - من ضروب التسلية التي يتسع لها وقت المرأة في الخدور، وفي البيوت التي لا تحسب من الخدور، وقد شجعها الرجال عليها وجعلوها من فنون التربية النسوية التي تروقهم منها، ولكن الأستاذية في الرقص المفرد وفي رقص الجنسين لم تكن من حظ المرأة في العصر الحديث، ولا في العصور القديمة، ولم يزل عمل المرأة في الرقص أقرب إلى التنفيذ منه إلى الابتكار والابتداء.
ومن اللهو الذي كان خليقا بالمرأة أن تحذقه وتتفوق فيه على الرجال، لهو الفكاهة والنكتة المضحكة؛ لأنها تحب أن تمرح وتلعب، ولأنها تشعر بالضغط وبالحاجة إلى التنفيس عن الشعور المكبوح. وقد عرف من طبائع النفس البشرية أن ضحايا الضغط والاستبداد يلجئون إلى السخر لرد غوائل الظلم التي لا يقدرون على ردها بالقوة، وإن المتعرضين لضرورات الخضوع والإذعان يقضون حق «التمرد» بالمزاح؛ حيث لا يتاح لهم أن يقضوه بالجد والمقاومة، ولكن المعهود في المرأة أنها قليلة الفطنة للنكتة، إلا في الندرة التي تحسب من الفلتات العارضة، وأنها لا تحسن أن تقابل نكات الرجال بمثلها مع كثرة النكات التي تصيبها في أنوثتها، فضلا عن سبقها لهم وامتيازها في هذا الباب عليهم؛ لأنها خليقة أن تحس من ضغط الاستبداد ما لا يحسه جمهرة الرجال. •••
وليس بالمجهول أن النساء قد نبغن من قبل، وينبغن الآن في طائفة من الأعمال التي يضطلع بها الرجال، وقد اشتهر منهن الملكات وقائدات العسكر، واشتهر منهن الباحثات والخطيبات، كما اشتهر منهن الصالحات الممتازات في شئون الدين والدنيا، وشمائل الفضائل والأخلاق، وقد تكون منهن من تفوق جمهرة الرجال في بعض هذه الأعمال. ولكن فضائل الأجناس لا تقاس بالنصيب المشترك، بل تقاس بالغاية التي لا تدرك، ولا تؤخذ بالاستثناء الذي يأتي من حين إلى حين، بل بالقاعدة التي تعمم وتشيع بين جملة الآحاد. وقد يوجد بين الصبيان من هو أقدر على أعمال الرجال، بل قد توجد في أثناء الليل ساعة أضوأ من بعض ساعات النهار، وإنما تجرى الموازنة على الغايات القصوى، وعلى الأغلب الأعم في جميع الأحوال، وما عدا ذلك فهو الاستثناء الذي لا بد منه في كل تعميم.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن «الاستثناء» يحمل في أطوائه دلائل القاعدة التي يخالفها، ولا يخلو من ناحية تعزز القاعدة الغالبة ولا تنفيها.
إن اسم السيدة «ماري كوري» أول الأسماء التي يذكرها القائلون بالمساواة التامة بين الجنسين، ولو صح أن هذه السيدة تضارع علماء الطبقة الأولى من الرجال لما كان في هذا الاستثناء النادر ما ينفي أنه استثناء نادر، وأن القاعدة العامة باقية لم تنقض ولا ينقضها تكرار مثله من حين إلى حين.
إلا أن الواقع أن حالة هذه السيدة خاصة بعيدة من أن تحسب بين حالات الاستثناء في مباحث العلم أو في المباحث العقلية على الإجمال؛ لأنها لم تعمل مستقلة عن زوجها، ولم يكن عملها من قبيل الاختراع والابتداع، وإنما كان كله من قبيل الكشف والتنقيب. قالت بنتها «إيف» في ترجمتها: «إن نصيحة بيير كان لها في هذه المرحلة الدقيقة شأن لا يغضى عنه، فإنما كانت الفتاة تنظر إلى زوجها نظرة التلميذ إلى معلمه؛ إذ كان أقدم منها دراسة للعلوم الطبيعية، وأطول منها خبرة ودراية، وقد كان عدا ذلك رئيسها بل مستخدمها. غير أنها بمزاجها وطبيعتها قد كان لها ولا شك فضلها في هذا الاختيار، فإن البنت البولونية قد انطوت منذ طفولتها على ملكة التطلع والجرأة التي ينطبع عليها المستكشف، وكانت هذه الملكة هي التي حفزتها إلى الشخوص من وارسو إلى باريس والسوربون.» •••
والواضح أن ملكة المستكشف على أرقاها وأتمها لا ترتقي في القدرة العقلية إلى منزلة الاختراع والافتتاح، فإنما هي امتداد لعمل الحس والبحث بالعينين، ينتهي بطول المراقبة إلى رؤية الشيء الذي لا يرى بالعين لأول وهلة، وقصاراه أنه صبر على النظر، ثم إدمان النظر، إلى أن ينكشف الشيء الذي لا بد أن ينظر بعد طول المراقبة في وقت من الأوقات. وقد كان العالم بيكريل
Bequerel
يبحث في إشعاع عنصر «الأورانوم» قبل أن تبحث فيه السيدة كوري مع زوجها وأستاذها، وبنى كلاهما بحثه على تقرير بيكريل، فوصلا إلى الوجهة التي اتجه إليها من قبل فأحسنا الاتجاه، وإن لم يكن لهما فضل التوجيه.
والحق أنه لمما يؤسف له من آفات العصر الحديث زيغ التفكير الاجتماعي في مسائل الإنسان الجلي كهذه المسألة الخالدة: مسألة التفرقة بين الجنسين في الكفاية والوظيفة، وعلاماتها البينة أشد البيان في الحاضر وفي سوابق التاريخ. فإن هذه المسألة الخالدة لتجمع بين الشمول المستفيض وبين العمق المتأصل ؛ بحيث لا تقبل اللبس، ولا تدع للناظر أن يطيل التردد حول مقطع الرأي فيها، لولا فتنة العصر بمخالفة القديم على هدى وعلى غير هدى في كثير من جلائل الأمور. •••
فليست شواهد التاريخ وشواهد الحاضر المستفيضة بالظاهرة الوحيدة التي تقيم الفارق الحاسم بين الجنسين؛ إذا لا شك أن طبيعة تكوين الجنس أدل من الشواهد التاريخية، والشواهد الحاضرة على القوامة الطبيعية التي اختص بها الذكور من نوع الإنسان، إن لم تقل من جميع الأنواع التي تحتاج إلى هذه القوامة. فكل ما في طبيعة الجنس «الفزيولوجية» في أصل التركيب يدل على أنه علاقة بين جنس يريد وجنس يتقبل، وبين رغبة داعية ورغبة مستجيبة، تتمثلان على هذا النحو في جميع أنواع الحيوان التي تملك الإرادة وترتبط بالعلاقة الجنسية وقتا من الأوقات.
وعلى وجود الرغبة الجنسية عند الذكور والإناث، لا تبدأ الأنثى بالإرادة والدعوة، ولا بالعراك للغلبة على الجنس الآخر، وليس هذا مما يرجع في أصوله إلى الحياء الذي تفرضه المجتمعات الدينية، ويزكيه واجب الدين والأخلاق، بل يشاهد ذلك بين ذكور الحيوان وإناثها، حيث لا يعرف حياء الأدب والدين، فلا تقدم الإناث على طلب الذكور، بل تتعرض لها لتراها وتتبعها وتسيطر عليها باختيارها، ولا تزال الأنثى بموقف المنتظر لنتيجة العراك عليها بين الذكور، ليظفر بها أقدرهم على انتزاعها.
وأدل من ذلك على طبيعة السيطرة الجنسية أن الاغتصاب إذا حصل، إنما يحصل من الذكر للأنثى ولا يتأتى أن يكون هناك اغتصاب جسدي من أنثى لذكر، وإن غلبة الشهوة الجنسية تنتهي بالرجل إلى الضراوة والسطوة، وتنتهي بالمرأة إلى الاستسلام والغشية، وأعمق من ذلك في الإبانة عن طبيعة الجنس، أن عوارض الأنوثة تكاد تكون سلبية متلقية في العلامات التي يسمونها بالعلامات الثانوية، فإذا ضعفت هرمونات الذكورة وقلت إفرازاتها بقيت بعدها صفات الأنوثة غالبة على الكائن الحي كائنا ما كان جنسه، ولكن صفات الذكورة لا تأتي وحدها إذا ضعفت هرمونات الأنوثة، وإنما يظهر منها ما كان يعوقه عائق عن الظهور. •••
ومن الاختلافات الجسدية التي لها صلة باختلاف الاستعداد بين الجنسين أن بنية المرأة يعتريها الفصد كل شهر، ويشغلها الحمل تسعة أشهر، وإدرار لبن الرضاع حولين قد تتصل بما بعدها في حمل آخر، ومن الطبيعي أن تشغل هذه الوظائف جانبا من قوى البنية، فلا تساوي الرجل في أعماله التي يوجه إليها بنية غير مشغولة بهذه الوظائف الأنثوية. وينبغي أن تظهر هذه الحقيقة بغير مشقة عند الموازنة بين استعداد البنيتين، وأحرى أن تكون ظاهرة مفهومة عند الذين يدينون بالآراء المادية، ويربطون بين قوى الجسد وكل قوة باطنة أو ظاهرة في الإنسان وسائر الأحياء، وليس من اللازم أن يتعلق الاختلاف بالحالة التي تشتغل فيها بنية المرأة بتلك الوظائف والأعمال فعلا؛ لأن الاستعداد لها مركب في الطباع، معقود بتكوين الخلايا الدقيقة؛ فضلا عن الجوارح والأعضاء، بل من الطبيعي أن يكون للمرأة تكوين عاطفي خاص لا يشبه تكوين الرجل؛ لأن ملازمة الطفل الوليد لا تنتهي بمناولته الثدي وإرضاعه، ولا بد معها من تعهد دائم ومجاوبة شعورية تستدعي شيئا كثيرا من التناسب بين مزاجها ومزاجه، وبين فهمها وفهمه، وبين مدارج حسها وعطفها ومدارج حسه وعطفه، وهذه حالة من حالات الأنوثة شوهدت كثيرا في أطوار حياتها منذ صباها الباكر إلى شيخوختها العالية، فلا تخلو من مشابهة للطفل في الرضى والغضب، وفي التدليل والمجافاة، وفي حب الولاية والحدب ممن يعاملها ولو كان في مثل سنها أو سن أبنائها. وليس هذا الخلق مما تصطنعه المرأة وتتركه باختيارها؛ إذ كانت حضانة الأطفال تتمة للرضاع، تقترن فيها أدواته النفسية بأدواته الجسدية، ولا تنفصل إحداهما عن الأخرى. ولا شك أن الخلائق الضرورية للحضانة وتعهد الأطفال الصغار أصل من أصول اللين الأنثوي، الذي جعل المرأة سريعة الانقياد للحس، والاستجابة للعاطفة، يصعب عليها ما يسهل على الرجل من تحكيم العقل، وتغليب الرأي، وصلابة العزيمة. فهما ولا شك مختلفان في هذا المزاج اختلافا لا سبيل إلى المماراة فيه. •••
وبعض هذه الفروق في استعداد الجنسين كاف لشرح معنى «الدرجة» التي تميز الرجل على المرأة في حكم القرآن الكريم. فهو معنى أقرب إلى الوصف المشاهد منه إلى الرأي الذي تتعدد فيه المذاهب، فلا يعدو تقرير الواقع من يرى أن الجنسين سواء فيما لهما وما عليهما، إلا درجة يمتاز بها الجنس الذي يملك زمام الحياة الجنسية بحكم الطبيعة والتكوين.
الفصل الثاني
من الأخلاق
جاء وصف النساء بالكيد في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم، مرتين على لسان يوسف عليه السلام، ومرة على لسان العزيز «في سورة يوسف»:
قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين [يوسف: 33].
وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم [يوسف: 50].
فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم [يوسف: 28].
والكيد صفة مذكورة في مواضع كثيرة من القرآن، بعضها منسوب إلى الإنسان، وبعضها منسوب إلى الشيطان، ومن الرجال الذين نسبت إليهم صالحون مؤمنون، ومنهم كفرة مفسدون، بل وردت وصفا لله سبحانه وتعالى مع المقابلة بين الكيد الإلهي وكيد المخلوقات، وبغير مقابلة في آيات.
ويدخل في الكيد صفات كثيرة تمدح وتذم، وتطلب وتمنع، تشترك كلها في معاني التدبير والمعالجة والحيلة، وقد يجمع الحميد والذميم منها قولهم: «الحرب مكيدة»؛ لأنها تدبير ومعالجة وحيلة تتطلبها مواقف القتال، وقد تذم أحيانا في هذه المواقف، كما تذم في سواها.
وقد جاء وصف الكيد في سورة يوسف نفسها منسوبا إلى إخوة يوسف إذ جاء فيها على لسان يعقوب عليه السلام:
قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين [يوسف: 5].
وجاء منسوبا إلى الله تعالى بمعنى التدبير:
فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله [يوسف: 76].
أما الكيد الذي وصفت به امرأة العزيز وصاحباتها، فهو كيد يعهد في المرأة ولا ينسب إلى غيرها، أو هو كيدهن الذي يتسمن به ويصدر عن خلائقهن وطبائعهن، كما يفهم من الإضافة المتكررة في الآيات الثلاث، ويدل عليه عمل امرأة العزيز فيما غشت به زوجها، واحتالت له من مراودة غلامها عن نفسه، ثم من اتهامه بمراودتها وتنصلها من فعلها.
وكلها أعمال تتلخص في «الرياء» أو في إظهارها غير ما تبطنه واحتيالها للدس والإخفاء. •••
والرياء صفة عامة تشاهد في كثير من المستضعفين من الرجال والنساء، وأسبابه الاجتماعية تحدث لكل ضعيف يقهره غيره، فلا يخص المرأة دون الرجل، ولا ينحصر بين فئة من الناس دون فئة، وقد يحدث للحيوان الضعيف ويلجئه إلى المراوغة والملق، وهو لا يتكلف لذلك كما يتكلف الإنسان الذي يفكر فيما يعمل وفيما يقصد إليه.
وينسب رياء المرأة إلى الضرورات التي فرضها عليها الضعف في حياتها الاجتماعية أو حياتها البيتية، وقد يظهر فيها على نحو يناسبها حتى يتلبس بالبواعث الأنثوية المقصورة عليها. فلا تختص به في أصوله إذ كانت أصوله من الضعف الذي يشاركها فيه جميع الضعفاء، وإنما تختص به لأن بواعثها الأنثوية مقصورة على جنسها.
إلا أن «الرياء» الأنثوي الذي يصح أن يقال فيه: إنه رياء المرأة خاصة، إنما يرجع إلى طبيعة في الأنوثة تلزمها في كل مجتمع، ولا تفرضه عليها الآداب والشرائع، ولا يفارقها باختيارها أو بغير اختيارها، بل لعلها هي تأبى أن يفارقها لو وكل إليها الاختيار فيه.
فمن أصول هذا الرياء في تكوين الأنثى أنها مجبولة على التناقض بين شعورها بغريزة حب البقاء، وشعورها بغريزتها النوعية. فهي تتعرض للخطر على الحياة وتفرح بوفاء أنوثتها في وقت واحد، وهي إذ تضع حملها تتألم أشد الألم وتعاني جزع الخشية على حياتها حين تخامرها وتسري في كيانها غبطة الأم التي أتمت وجودها وتوجت حياتها الجنسية بأعز ما تصبو إليه وتتمناه، ويستوي كيانها كله على أن تفرح وهي تتألم، وتتألم وهي تفرح، فلا يستقيم شعورها خالصا من النقيضين في أعمق وظائفها التي خلقت لها، ومثل هذا التناقض يلازم عواطفها جميعا فيما هو دون ذلك من نزعاتها وأهوائها. •••
ومن أصول هذا الرياء في تكوينها، أنها مجبولة كذلك على التناقض بين شعورها بالشخصية الفردية، وشعورها بالحب والعلاقة الزوجية، فهي كجميع المخلوقات الحية ذات «وجود شخصي» مستقل تحرص عليه، وتأبى أن تلغيه أو تتخلى عن ملامحه ومعالم كيانه، وهي في حوزتها «الشخصية» مدفوعة إلى صد كل افتيات ينذرها بالفناء في شخصية أخرى، ولكنها في أشد حالات الوحدة لا تتوق إلى شيء، كما تتوق إلى الظفر بالرجل الذي يغلبها بقوته، ويستحق منها أن تأوي إليه، وتلحق وجودها بوجوده، وأسعد ما تكون في حبها أو في علاقتها الزوجية إذ يملكها الرجل الذي يفوقها بالقدرة المطاعة والعزيمة النافذة، ونتيجة المقاومة عندها أن تجمع بين الانتصار والخذلان في لحظة واحدة. فهي منتصرة حين تظفر بالرجل الذي يغلبها ويستولي عليها.
وشبيه بهذا التناقض مع اختلاف أسبابه، أن الرغبة الجنسية عندها تنفصل عن الغريزة النوعية في معظم أيامها. فليست الرغبة الجنسية - بحكم الطبيعة - عبثا في وقت من الأوقات عند الرجل، ولكنها عبث عند المرأة في أوقات حملها وفي غير أوقات الحمل من أيام دوراتها الشهرية. وقد عوفيت أنثى الحيوان من هذا العبث؛ لأنها إذا حملت صدت عن الذكر وصد الذكر عنها، ولكن المرأة التي تحس أنها عابثة في أحق الوظائف النوعية بالجد والمبالاة، يختلط عندها العبث بالجد والسرور العقيم بالوظيفة الطبيعية، وقد تقضي بعد سن اليأس زمنا يحكمها فيه هذا العبث الذي لا نظير له في حياة الرجولة. •••
وحب الزينة أصل من أصول الرياء يشاركها فيه الرجل في ظاهر الأمر، ولكنه يخصها في جانب غير مشترك بينها وبين زينة الرجولة؛ فإن الرجل يتزين ليعزز إرادته، وإنما تتزين المرأة لتعزز إرادة غيرها في طلبها. وزينة المرأة كافية إذا راقت بمنظرها الظاهر في عين الرجل، ولكن زينة الرجل تجاوز ظاهره إلى الدلالة على قوته ومكانته وكفايته لمؤنة أهله، وليست الزينة التي تراد للإغراء بالقبول كالزينة التي تراد للإغراء بالطلب، فإن الفرق بينهما هو الفرق بين الإرادة والانقياد، وبين من يريد ومن ينتظر أن يراد. •••
وجملة القول أن الرياء على عمومه هو إظهار غير ما في الباطن، وهو حالة تعرض للرجال والنساء في الحياة الجنسية وغير الحياة الجنسية، ولكن الأنوثة تخص بلون منه؛ لأنها إذا لجأت إليه، فإنما تلجأ إليه اضطرارا؛ لأن من خلقها ألا تظهر كل ما في نفسها، وإن كان من الأمور الطبيعية التي لا إثم فيها ولا مخالفة بها لوظيفتها.
الفصل الثالث
هذه الشجرة
قصة الشجرة الممنوعة التي أكل منها آدم وحواء، وهي الصورة الإنسانية لوسائل الذكر والأنثى في الصلة الجنسية بين عامة الأحياء.
الرجل يريد ويطلب، والمرأة تتصدى وتغري. وتتمثل في القصة بداهة النوع في موضعها؛ أي حيث ينبغي أن تتمثل أول علاقة بين اثنين من نوع الإنسان.
وقد ذكر القرآن الكريم قصة الأكل من الشجرة في ثلاثة مواضع من سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة طه.
ففي سورة البقرة:
وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه . [البقرة: 35، 36]
وفي سورة الأعراف:
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين . [الأعرف: 19، 20]
وفي سورة طه:
فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى * فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى . [طه: 120، 121]
وليس في هذه الآيات من السور الثلاث إشارة إلى ابتداء حواء بالإغراء، أو بالكيد على ما جاء في سورة يوسف، ولكن بعض المفسرين ذكر ذلك في شرح الآيات معتمدا على أقوال حفاظ التوراة من بني إسرائيل الذين دخلوا في الإسلام، فقال الطبري من المفسرين الأقدمين نقلا بالإسناد عن وهب بن منبه:
لما أسكن الله آدم وزوجته الجنة، ونهاهما عن الشجرة، أراد إبليس أن يستزلهما فدخل في جوف الحية، فلما دخلت الحية الجنة خرج من جوفها إبليس فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء به إلى حواء فقال: انظري إلى هذه الشجرة! ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها! فأخذت حواء فأكلت منها، ثم ذهبت بها إلى آدم فقالت: انظر إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتهما، فدخل آدم في جوف الشجرة فناداه ربه: يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب! قال: ألا تخرج؟ قال: أستحي منك يا رب، ثم قال ربه: يا حواء، أنت التي غررت عبدي، فإنك لا تحملين حملا إلا حملته كرها، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارا، وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غر عبدي. ملعونة أنت لعنته، ولا يمكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدا منهم أخذت بعقبه، وحيث لقيك شدخ رأسك.
وقال الألوسي صاحب «روح المعاني» من المفسرين المحدثين: وقيل: بينما هما يتفرجان في الجنة إذ راعهما طاووس تجلى لهما على سور الجنة، فدنت حواء منه، وتبعها آدم فوسوس لهما من وراء الجدار. وقيل: توسل بحية تسورت الجنة، والمشهور حكاية الحية. وهذان الأخيران يشير أولهما عند ساداتنا الصوفية إلى توسله من قبل الشهوة خارج الجنة، وثانيهما إلى توسله بالغضب.
ومرجع هذا الشرح كما هو ظاهر، قصة التوراة التي حفظها وهب بن منبه، ورواها لصحبه من المسلمين بعد دخوله في الإسلام، ونصها كما جاءت في الإصحاح الثالث من سفر التكوين:
وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية، فقالت للمرأة: أحقا قال الله: لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تتفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر. فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر، وأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضا معها فأكل، وانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان. فخاطا أوراق تين، وصنعا لأنفسهما مآزر، وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار. فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم، وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة، فخشيت لأني عريان واختبأت. فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة: فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية غرتني فأكلت. فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم، ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تسعين، وترابا تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه، وقال للمرأة: تكثيرا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك، وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا: لا تأكل منها - ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. وشوكا وحسكا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل بعرق وجهك، تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب، وإلى تراب تعود.
وعلى هذا المرجع من التوراة اعتمدت كتب العهد الجديد حيث جاء في الإصحاح الحادي عشر من كتاب كورنثوس الثاني:
ولكنني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح.
وجاء في تيموثاوس من الإصحاح الثاني:
إن آدم لم يغو، ولكن المرأة أغويت فحصلت في التعدي.
تلك قصة الشجرة في كتب الأديان، وهي تعبر برموزها السهلة عن بداهة النوع المتأصلة في إدراكه للمقابلة بين الجنسين، وعن دور كل منهما في موقفه من الجنس الآخر، على الوجه الوحيد الذي تتم به إرادة النوع، والمحافظة على بقائه، وإنما تتم هذه الإرادة بين جنس يملك الزمام، وجنس تقوم إرادته على أن يحرك إرادة غيره، وقد ترجمت قصة الشجرة سر الجنس الكامن في طبائع الأحياء جمعاء، بين الإرادة والإغراء، وبين المطاردة والانقياد، فانطوت في هذا السر كل خليقة يتميز بها الذكور والإناث، وتنتقل إلى العالم الإنساني، فيتميز بها الرجال والنساء تمييزا يبقى في كيان الخلقة، وفي دقائق الخلايا الجسدية التي يتركب منها ذلك الكيان، بعد كل دعاية مذهبية، وكل طور من أطوار المجتمع السياسي. وبعد كل ترويج أو تهريج يلغط به أولئك الذين ينظرون حولهم ولا يحسون، أو يحسون ما حولهم وما في أنفسهم ولا يفقهون.
ومن نقائض الطبع الأنثوي التي أشرنا إليها فيما تقدم، أن تخالف المرأة أشد المخالفة وتذعن غاية الإذعان، حين يضطرب الحس فيها بين إرادتها الفردية وإرادتها النوعية.
وحب الإغراء على هذا النحو مفهوم بشطريه أو بنقيضيه، مفهوم على الموافقة وعلى المخالفة؛ لأن المرأة محكومة لا تحكم غيرها إلا من طريق إغرائه، أو من طريق تنبيهه إلى ما هو «شهي للنظر بهجة للعيون» كما جاء في العهد القديم.
وكل خلق من أخلاق المرأة مرموز إليه في قصة الشجرة، ومنها الولع بالممنوعات كما يولع بها كل محكوم مضطر إلى الاتباع.
قال الشاعر الجاهلي طفيل الغنوي:
إن النساء كأشجار خلقن لنا
منها المرار وبعض المر مأكول
إن النساء متى ينهين عن خلق
فإنه واجب لا بد مفعول «ولا تولع المرأة بالممنوع لأنها محكومة وكفى، أو لأنها محكومة لضعفها واعتمادها على من يمنعها، بل هي تولع بالممنوع لأنها تتدلل، ولأنها تجهل وتستطلع، ولأنها موهونة الإرادة لا تطيق الصبر على حنة الغواية والامتناع، وكل أولئك عنوان خصلة أخرى من ورائها: هي خصلة الضعف الأصيل.»
1 «والولع بالإغراء والإغواء أخو الولع بالمخالفة والعصيان: كلاهما دليل على رجوع الأمر إلى الآخرين، فالمخالفة دليل على أن المخالف محكوم لغيره، والإغواء دليل على أنه يرجع إلى غيره في العمل ويعتمد عليه. فهما ثمرتان من هذه الشجرة، أو هما خصلتان من خصال الأنوثة الخالدة في الصميم». «تتعرض المرأة وتنتظر، والرجل يطلب ويسعى، والتعرض هو الخطوة الأولى في طريق الإغواء، فإن لم يكف فوراءه الإغواء بالتنبيه والحيلة والتوسل بالزينة والإيماء ، وكل أولئك معناه تحريك إرادة الآخرين والانتظار». «فإرادة المرأة تتحقق بأمرين: النجاح في أن تراد، والقدرة على الانتظار، ولهذا كانت إرادة المرأة سلبية في الشئون الجنسية على الأقل، إن لم نقل في جميع الشئون، ولعل كلمة (لا) سابقة لكل نية تمتحن بها المرأة إرادتها وصبرها، فأحوج ما تكون إلى الإرادة والصبر حين تنوي ألا تتقدم ولا تسلم ولا تجيب ولا تطيع. وهنا تتصل هذه الخليقة فيها بخليقة العناد، وقوام العناد كله أن يقاوم المعاند رغبة الآخرين، وعمل الآخرين. فالإرادة التي تتمثل في العناد مؤنثة، والإرادة التي تتمثل في العزيمة مذكرة، وهذا هو شأن الإرادتين في غالب الأحوال». «وليس للمرأة أن تريد غير هذا النوع من الإرادة، لأسباب عميقة في أصول التركيب والتكوين، وموقف الجنسين من الاستجابة لمطالب النوع يهدينا إلى حكمة هذا الفارق من طريق قريب. فالذكور من جميع الحيوانات قد أعطيت القدرة - بتركيبها الجسدي - على إكراه الإناث لاستجابة مطالب النوع، طائعات أو مقسورات، ولا يتأتى ذلك للإناث على حال من الحالات الجسدية، فغاية ما عندهن من وسيلة أن يهجن الرغبة في الذكور، وأن يجعلنهم يريدون، ولا يستطيعون الامتناع عن الإرادة». «فهذا الفارق ملحوظ في أعمق أعماق التركيب الجسدي من كلا الجنسين، منذ نشأ الفارق بين ذكر وأنثى في عالم الحيوان، وحكمته ظاهرة كل الظهور؛ لأنها هي الحكمة التي توافق بقاء النوع، وارتقاء الأفراد جيلا بعد جيل. فالإغواء كاف للأنثى، ولا حاجة بها إلى الإرادة القاسرة. بل من العبث تزويدها بالإرادة التي تغلب بها الذكر عنوة؛ لأنها متى حملت كانت هذه الإرادة مضيعة طوال مدة الحمل بغير جدوى. على حين أن الذكور قادرون إذا أدوا مطلب النوع مرة، أن يؤدوه مرات بلا عائق من التركيب والتكوين، وليس هذا في حالة الأنثى بميسور على وجه من الوجوه». «وإكراه الأنثى على تلبية إرادة الذكر يفيد النوع، ولا يؤذي النسل الذي ينشأ من ذكر قادر على الإكراه وأنثى مزودة بفتنة الإغواء. فهنا تتم للزوجين أحسن الصفات الصالحة لإنجاب النسل، من قوة الأبوة وجمال الأمومة، ويتم للنوع مقصد الطبيعة، من غلبة الأقوياء الأصحاء القادرين على ضمان نسلهم في ميدان التنافس والبقاء. وعلى نقيض ذلك لو أعطيت الأنثى القدرة على الإرادة والإكراه، لكان من جراء ذلك أن يضمحل النوع ويضار النسل؛ لأنه قد ينشأ في هذه الحالة من أضعف الذكور الذين ينهزمون للإناث، وكيفما نظرنا إلى مصلحة النوع، وجدنا من الخير له أبدا أن يتكفل الذكور بالإرادة والقوة، وأن تتكفل الإناث بالإغواء والتلبية، بل وجدنا أن فوارق البنية قد جعلت السرور في كل من الجنسين قائما على هذا الأساس العميق في الطباع. فلا سرور للرجل في إكراهه على مطلب النوع، بل هو منغص له مضعف من لذة جسمه. أما المرأة فقد يكون استسلامها لغلبة الرجل عليها باعثا من أكبر بواعث سرورها، ولعله أن يكون مطلوبا لذاته كأنه غرض مقصود، بل هو في الواقع غرض مقصود لما فيه من الدلالة على توفق الأنثى إلى إغواء أقوى الذكور. ومن البداهات الفطرية أن تتظاهر المرأة بالألم والانكسار في استجابتها للنوع؛ لأنها تفطن ببداهتها الأنثوية إلى هذا الفارق الأصيل في خصائص الجنسين». ••• «وليس بنا هنا أن ننظر في العدل الطبيعي بين خصائص الذكور وخصائص الإناث، وإنما نسجل هذه الحقائق بالملاحظة الصادقة، والدلالة الواضحة، ولا يعنينا أن ننصب لها ميزان العدل في توزيع الطبائع والملكات. ولكننا مع هذا القول نعود فنقول: إن العدل هنا بين الجنسين غير مفقود، وإن القسمة هنا ليست بالقسمة الضيزى،
2
فإذا قيل: إن الحمل قد جنى على المرأة؛ لأنه خصها بالألم، وجعل الإرادة من نصيب الرجل، فلا ينبغي أن ننسى أن الحمل قد أتاح للمرأة مزية فطرية لا تتاح لزوجها على وجه اليقين، وهي ضمان نسلها بغير دخل ولا ارتياب. فكل من ولدت المرأة فهو وليدها الذي يستحق عطفها وحنانها، وليس ذلك شأن الآباء فيما ينسب إليهم من الأبناء. وما من أم تسأل عن ألم الحمل إلا تبين من شعورها أنها تستعذبه ولا تتبرم به، وأنها قد تشعر بغبطة من الألم لا يعرفها الرجال الذين يثورون على الآلام، ومن امتزاج الألم بطبيعة المرأة أصبحت التفرقة بين ألمها ولذتها في رعاية الأبناء من أصعب الأمور، وعلى هذا يعتز الرجل بأنه يريد المرأة، ولا تعتز المرأة بأن تريده. لأن الإغواء هو محور المحاسن في النساء، والإرادة الغالبة هي محور المحاسن في الرجال، ولهذا زودت الطبيعة المرأة بعدة الإغواء وعوضتها بها عن عدة الغلبة والعزيمة، بل جعلتها حين تغلب هي الغالبة في تحقيق مشيئة الجنسين على السواء». ••• «ولكن التفرقة في عدة الغواية واجبة بين ما هو من صفات الجنس كله، وما هو من صفات هذه المرأة أو تلك من أفراد النساء. فقد تكون امرأة من النساء أذكى وأبرع من هذا الرجل أو ذاك، فتأخذه بالحيلة والدهاء، كما يغلب الأذكياء الجهلاء في كل مجال يتصاولون فيه. إلا أنها صفة فردية لا يقاس عليها عند بيان الصفات الجنسية التي خصت بها المرأة على التعميم، وهذه الصفات الجنسية هي التي تعنينا في هذا المقام؛ لأنها التراث المشترك بين جميع بنات حواء في مواجهة الجنس الآخر: وهو جنس الرجال». «فالذي يساعد المرأة من قبل الطبيعة على إغراء الرجل هو الهوى الجنسي في تركيب الرجل نفسه، فلولا هذا الهوى لكانت حيلتها معه من أضعف الحيل، وسلطانها عليه كأهون سلطان، ومما يرينا أن الطبيعة هي العاملة هنا، وليست المرأة هي التي تعمل بقدرتها واحتيالها، أن هواها في نفس الرجل شبيه بكل هوى ينمو فيه بحكم العادة والفطرة، فهو يعاني من مقاومة التدخين، أو معاقرة الخمر، عناء يجهده ويغلبه على مشيئته في كثير من الأحيان، ولو كان للتبغ أو للخمر لسان يتكلم لجاز أن يتحدث الناس عن لسانهما المعسول الذي يخلب العقول، وعن حيلتهما النافذة التي تسلب الرشاد». «والأداة البالغة من أدوات الإغواء والإغراء، هي قدرة المرأة على الرياء والتظاهر بغير ما تخفيه، فهذه الخصلة قد تسمو فيها حتى تبلغ رتبة الصبر الجميل، والقدرة على ضبط الشعور، ومغالبة الأهواء، وقد تسفل حتى تعافها النفوس كما تعاف أقبح الختل والنفاق. أعانتها عليها روافد شتى من صميم طبائع الأنوثة التي يوشك أن يشترك فيها جميع الأحياء. فمن أسباب هذه القدرة على الرياء - أو هذه القدرة على ضبط الشعور - أن المرأة قد ريضت زمنا على إخفاء حبها وبغضها؛ لأنها تخفي الحب آنفة من المفاتحة به والسبق إليه، وهي التي خلقت لتتمنع وهي راغبة، وتخفي البغض لأنها محتاجة إلى المداراة كاحتياج كل ضعيف إلى مداراة الأقوياء». «ومن أسباب القدرة على الرياء، أو القدرة على ضبط الشعور، أن الأنوثة سلبية في موقف الانتظار، فليس من شأن رغباتها أن تسرع إلى الظهور والتعبير، أو ليس من شأنها أن تفلح بالظهور والتعبير كما تفلح رغبات الذكور». «ومن أسباب القدرة على الرياء، أو القدرة على ضبط الشعور، أن مغالبة الآلام قد عودتها مغالبة الخوالج النفسية ما دامت في غنى عن مطاوعتها والكشف عنها، ومنها أن اصطناع الزينة الذي استقر في خليقتها إنما هو في لبابه اصطناع لكل ظاهر تحسه الأبصار والأسماع، أو تحسه الضمائر والأفهام». «وفي اللغة العربية توفيقات كثيرة في الجمع بين الحقيقة المادية والحقيقة المجازية بكلمة واحدة، ومنها كلمة «التجمل» التي تفيد معنى التزين لمرأى العيون كما تفيد معنى التزين لمرأى النفوس». «ولرسوخ هذه الطبيعة الأنثوية في تكوين المرأة - شغفت بالرياء لغرض تعنيه، ولغير غرض تعنيه في كثير من الأحوال، كأنها وظيفة حيوية تستمتع بها بالمعالجة والرياضة كما تستمتع الأعضاء بالحركة والنشاط». «وقد يعين المرأة على الرجل - غير الهوى وغير الخداع - خلق آخر هو في الحقيقة خلق يعين الرجل على نفسه، وليس عمل المرأة فيه إلا من قبيل الإذكاء والتنبيه. فالمرأة سكن للرجل كما جاء في القرآن الكريم، ولا يطيب للإنسان أن يحذر من سكنه، أو يتجافى عن الهدوء والطمأنينة فيه، ولا تتم سعادته به إلا أن ينفي عنه الحذر، ويقبل عليه بجمع فؤاده وطوية ضميره. فهو الذي يغمض عينيه بيديه ويستنيم إلى الرقاد هربا من السهاد، ونصف ما يقبله من الخداع إنما هو الخداع الذي نسجه بيمينه وزخرفه بتلفيقه، وكذلك المرأة إذا تعلقت بالرجل كانت أسبق منه إلى التصديق، وكان خداعه إياها أسهل من خداعها إياه». «ومن غوايات المرأة الكبرى أنها قصبة السبق في حلبة التنافس بين الرجال، فالظفر بها يرضي كل شعور يحيك بقلب الرجل، سواء منه ما يتناوله بإدراكه ووعيه، وما ليس يدركه ولا يعيه». «وقد اختلف أصحاب المذاهب الفلسفية في تعليل نوازع الحياة التي تفسر بها أعمال الناس وترد إليها. فقال بعضهم: إنها طلب القوة، وقال غيرهم: إنها طلب البقاء، وزعم هؤلاء وهؤلاء أنها طلب اللذة، وجاء آخرون في العصر الحاضر فتغلغلوا بالنوازع الجنسية وراء كل غريزة، ونفذوا بها إلى كل سرداب من سراديب النفس الخفية، وأيا كان موضوع الصدق من هذه النوازع، فالمرأة معها جميعا تطلق شعور القوة وشعور البقاء وشعور اللذة، وتتقصى وشائج الجنس إلى جذورها الكامنة في أعرق بواطن الحياة». «وما الظن بقصبة السبق التي تستطيع أن تستدني إليها من تشاء وتنأى عمن تشاء؟ إن المتسابقين ليتناحرون على القصبة الخرساء، وهي لا تحكم لهم بشيء ولا تفاضل بين يمين ويمين. والمرأة هي تلك القصبة التي تحابي وتجافي حرية ألا تبقى في عزيمة العادين بقية من نوازع السباق». «تلك هي بعض عناصر الغواية الأنثوية التي تملكها المرأة من حيث تدري ولا تدري، وكذلك تنبت الثمرة الثانية على هذه الشجرة».
الفصل الرابع
الأخلاق الاجتماعية
تتجلى حكمة القرآن الكريم في النص على قوامة الرجال من أحوال المجتمع، كما تتجلى من أحوال الأسرة أو أحوال الصلة الزوجية بين الذكر والأنثى؛ أي بين الرجل والمرأة في نوع الإنسان.
فالأخلاق في المجتمعات الإنسانية عامة مصلحة دائمة، وضرورة لا قوام لمجتمع بغيرها على صورة من صورها. وهذه الضرورة لم يكن في مجتمعات الناس ما يكفيها إن لم تكفها قوامة الرجال، فإن الرجال هم مرجع كل عرف مصطلح عليه في الأخلاق، سواء منها أخلاق الذكور وأخلاق الإناث، ولم يؤثر عن المرأة قط أنها كانت مرجعا أصيلا لخلق من الأخلاق لم تتلقه من الرجال، ولم تتجه به إليهم، ولا استثناء في ذلك للصفات التي نعدها من أخص الصفات الأنثوية، ومن أقربها إلى طبيعة المرأة ، وأبرزها في هذه الخاصة صفات الحياء والحنان والنظافة.
وكان من السائغ عقلا أن تنشئ المرأة خلائق العرف كله؛ لأنها تتسلم النوع منذ نشأته في الأرحام، إلى أيام نموه بين الحجور والمهود، وتتولى حضانته البيتية إلى أيام المراهقة، ثم تتسلمه قرينا بعد أن تسلمته ابنا متدرجا في تكوينه إلى تمام هذا التكوين، كما يتم في دور المراهقة فدور الشباب.
كان هذا هو السائغ عقلا، لو كان في المرأة استعداد مستقل لتكوين القيم الأخلاقية، وإنشاء العرف والاصطلاح، ولو في بواكيره الأولى؛ إذ هي قادرة في دور الحضانة على بث البذور الخلقية في العادات والمبادئ مهما يكن من ضغط الرجل عليها.
غير أن الواقع المتكرر في المجتمعات الإنسانية كافة، أن المرأة تتلقى عرفها من الرجال، حتى فيما يخصها من خلائق الحياء والحنان والنظافة كما تقدم.
فهي إنما تستحي لأنها تتلقى خليقة الحياء من الطبيعة، أو من إملاء الرجال عليها. •••
وحياء المرأة الذي تتلقاه من الطبيعة أنها تخجل من مفاتحة الرجل بدوافعها الجنسية، وتنتظر المفاتحة من جانبه، وإن سبقته إلى الحب والرغبة. وشأنها في ذلك كشأن جميع الإناث في جميع أنواع الحيوان، فإنها تنتظر ولا تتقدم، أو تتعرض ولا تهجم، ويمنعها أن تفعل ذلك مانع من تركيب الوظيفة لا يصدر عن وازع أخلاقي، ولا عن أدب من آداب السلوك. إذ كان مانعا يتساوى فيه الحيوان العاقل وغير العاقل، كما يتساوى فيه النوع الذي ينقاد للغريزة وحدها، والنوع الذي يراض على سنة من سنن الحياة الاجتماعية، فإنما خلق تركيب الأنثى للاستجابة ولم يخلق للابتداء والإرغام، وسر هذا الخلق أن تزويد الأنثى بوظيفة الابتداء والإرغام عبث مضيع لغاية النوع، متى شغلت بالحمل والرضاع، كما تشغل بهما حسب استعدادها في معظم الأوقات.
وهذا الحياء الطبيعي لا يحسب من القيم الخلقية التي تريدها المرأة، وتمليها على نفسها وعلى غيرها، ولكنه عمل من أعمال التكوين يصطبغ بالصبغة الخلقية، كلما وافقت آداب الاجتماع.
وإنما يحسب من القيم الخلقية ذلك الحياء الذي تمليه الآداب، ويتصل بالإرادة والاختيار، لا فرق في ذلك بين الإرادة الجامعة وإرادة الأفراد المتفرقين.
وهذا الحياء الذي تمليه الآداب تدين به المرأة على قدر اتصاله بشعور الرجل نحوها ونظرته إليها، فإذا اجتمع النساء معا بعيدا عن أعين الرجال، نسينه ولم يكترثن له، ولم يبالين شيئا مما يبالينه، وهن بأعين الرجل في المحضر والمغيب.
فالمرأة لا تتوارى عن المرأة في الحمام، ولا يعنيها أن تستر عضوا من أعضائها، إلا أن تستره مداراة لعيب وخوفا من منافسة النظائر والأتراب، ولم يعهد في الحرائر الخفرات أنهن في الأمم التي استخدمت الخصيان كن يحجمن عن مس الرجل لهن واطلاعه على أعضائهن وهن عاريات، ويسوغ للنساء أن يذهبن معا إلى ضروراتهن، ولا يسوغ ذلك في عرف الرجال، إلا من تكرههم عليه الطوارئ في غير المعيشة المعتادة. •••
وألصق من الحياء بالمرأة حنانها المشهور، ولا سيما الحنان للأطفال من أبنائها وغير أبنائها. وهذه صفة من صفات الغرائز، توجد في إناث الأحياء، ولا تمتاز فيها أنثى الإنسان إلا على قدر امتياز العاقل على غير العاقل في كل ما يشتركان فيه، فليس الحنان الطبيعي بصالح لتقدير خلق الرحمة في المرأة حين يتصل بإملاء الوجدان الأدبي وسلطان الضمير، وإنما يصلح لتقدير هذا الخلق فيها أن نقارن بين عطف الرجال وعطف النساء على الأطفال من أبناء الآخرين، فربما شوهد الرجل وهو يعطف على أبناء زوجته من غيره كما يعطف على أبنائه ويسوي بينهم في البر والمعاملة، ولو من قبيل التجمل ورعاية الشعور، وتسلك المرأة غير هذا السلوك في معاملة أبناء الزوج من غيرها، فلا ينجو هؤلاء الأبناء أحيانا من التعذيب والتشفي وتعمد الإذلال والإيذاء، ولا يطمع الكثيرون منهم في السلامة أو في التظاهر بالمساواة بينهم وبين إخوانهم في البيت، بل يحدث كثيرا أن يقع التفضيل والإيثار عمدا وجهرة للإمعان في الإساءة والانتقام من الأم المجهولة الغائبة، وقد تكون في عداد الأموات. وهذا كله كان حريا أن ينعكس بين الرجال والنساء؛ حيث يتصل على الخصوص بتكاليف الإنفاق والحماية؛ لأن الرجل هو الذي ينفق من ماله ويتكلف من وقته وجهده، ولعله حيث يرجع الأمر إلى خلة الأنانية، أولى أن يطمع في الاستئثار بالمرأة لنفسه، غير مشارك فيها ولا مستريح إلى ما يذكره بتلك المشاركة من قبل. وهو في الحق لا يبرأ من الأنانية ولا يقل في هذه الخلة عن المرأة، ولكن الفارق بينهما فيها أنها في الرجل خلة يروضها وازع الأخلاق، وهي في المرأة خلة تتحكم فيها الغريزة، ولا يقوى عليها وازع الفكر والضمير.
أما النظافة فليست هي من خصائص الأنوثة إلا لاتصالها بالزينة، وحب الحظوة في أعين الجنس الآخر. ولكن عمل الغريزة فيها أنها أصعب على المرأة وأيسر على الرجل؛ لأن المرأة تتكلف في سبيل النظافة ما ليس من الضرورات المتكلفة عند الرجال، لما يعرض لها في وظائف الحمل، وعادات الجسم المتكررة، وأخلاط الولادة، ولوازم الحضانة وما إليها، فلو لم تكن النظافة «قيمة خلقية» مفروضة عليها بإشراف الرجل على حياتها العامة وحياتها الخاصة، لكان استقلالها بنفسها وشيكا أن يضعها موضع الإهمال والاستثقال. ويرجع إلى هذه الحالة في المرأة أنها أصبر من الرجل على التمريض؛ لأنها أصبر على الحضانة، وأصبر على أخلاط الجسد، كما يرجع إليها أن إحساسها بالعطف على المصابين مخالف في طبيعته لإحساس الرجال. •••
وليس في أخلاق المرأة المحمودة خلق أخص بها وألصق بأنوثتها من هذه الخلائق الثلاث: وهي الحياء والحنان والنظافة، ومعولها فيها - كما رأينا - على وحي الطبع أو وحي الرجل. وأحرى أن يكون ذلك ديدنها في جملة الصفات التي يشترك فيها الجنسان مع اختلاف حظهما منها، ولو كانت من الصفات التي تولاها الرجال منذ القدم، ويتولونها إلى اليوم، كشجاعة القتال في ميادين الحروب، فقد يوجد من النساء من هن مثل في الشجاعة، ويوجد في الرجال من هم مثل في الجبن، ولا ينفي ذلك أصل القوامة في نشأة الأخلاق وتعميمها، فإذا نشأ الخلق وعم في العرف، لم يمتنع أن يتخلق به آحاد الجنسين على تفاوت في نصيب الرجال والنساء.
ومما له مغزاه في تقسيم الأخلاق بين الجنسين أن أساطير الخيال ووقائع التاريخ تتفقان بالبداهة والمشاهدة على هذا التقسيم . فقد جاء في أساطير اليونان الأقدمين خبر جيل من الأمم ينعزل فيه النساء، ويتدربن على القتال من طفولتهن، ولا يقبلن بينهن أزواجا يعيشون معهن، بل يأسرن الأزواج ثم ينفصلن عنهم، ويستحيين البنات من الذرية، ويقتلن البنين أو يرددنهم إلى آبائهم المعروفين، واسم هذا الجيل (الخرافي) جيل الأمزونات ومعناها «بغير أثداء»؛ لأن الأمزونات مشتقة من أصل إغريقي هو الكلمة اليونانية
Amazones
والخرافة تقول: إن هذا الجيل من النساء يحرق ثدييه أو يحرق الثدي الأيمن للتمكن من تثبيت القوس في موضعه. وفحوى ذلك - بمغزاه من بداهة الخيال - أن المرأة لا تتصف بهذه الصفة وهي باقية على طبيعتها، ولكنها تخرج من هذه الطبيعة لكي تتشبه بالرجال وتخالف أطوار النساء.
وبغير حاجة إلى متابعة النتائج التي تئول إليها الآراء في المستقبل، نجزم بالصواب فيما نعلمه من دلالة الطبع ودلالة العقل، فنفهم صواب الحكمة القرآنية التي أثبتت للرجل حق القوامة على المرأة في الأسرة، وفي الحياة الاجتماعية، فما كان للمجتمع أن يصطلح على عرف متبع فيه بغير هذه القوامة، وهي دستور الأخلاق والآداب التي لا غنى عنها ولا طاقة للمرأة بولايتها، وإن تسلمت مقاليد الحضانة منذ تكوين الجنين. •••
وقد عالجنا مسألة الأخلاق الأنثوية في فصول متعددة من كتبنا السابقة، ألحقها بهذا الفصل لما فيها من إيضاحات وشواهد متممة أو موافقة لشرح الكلام عن قضية المرأة في القرآن الكريم، ومنها فصل بعنوان أخلاق المرأة من كتاب «هذه الشجرة» نقتبس منه ما يلي:
هذا المقياس بعينه هو المقياس الذي يرجع إليه في التفرقة بين أخلاق النساء: كل ما هو فردي روحي، أو اختياري إرادي، فهو أقرب إلى خلق الرجل، وكل ما هو نوعي جسدي أو آلي إجباري، فهو أقرب إلى خلق المرأة، فمداره على وحي الغريزة أولا ثم على وحي الفهم والضمير.
والأخلاق التي يسمو بها الإنسان إلى مرتبة التبعة والحساب أو مسئولية الأدب والشريعة والدين، هي كما لا يخفى أخلاق تكليف وإرادة، وليست أخلاق إجبار وتسخير.
ومن هنا صح أن يقال: إن المرأة كائن طبيعي وليست بالكائن الأخلاقي، على ذلك المعنى الذي يمتاز به خلق الإنسان ولا يشترك فيه مع سائر الأحياء.
مساك الأخلاق الأول عند المرأة هو الاحتجاز الجنسي الذي ألمعنا إليه فيما تقدم، وهو من الغريزة التي يتساوى فيها إناث الحيوان، وليس من الإرادة التي يتميز بها نوع الإنسان بجنسيه.
فالمرأة تستعصم بالاحتجاز الجنسي؛ لأن الطبيعة قد جعلتها جائزة للسابق المفضل من الذكور، فهي تنتظر حتى يسبقهم إليها من يستحقها فتلبيه تلبية يتساوى فيها الإكراه والاختيار.
كذلك تصنع إناث الدجاج وهي تنتظر ختام المعركة بين الديكة أو تنتظر مشيئتها بغير صراع.
وكذلك تصنع الهرة وهي تتعرض للهر وتعدو أمامه ليلحق بها، وتصنع العصفورة وهي تفر من فرع إلى فرع ليدركها العصفور السريع، وتصنع الكلبة والفرس والأتان، وهي مضطرة إلى الاحتجاز؛ لأنه الحكم القاهر الذي فرضته عليها وظائف الأعضاء.
والبون بعيد جدا بين هذا الاحتجاز الجنسي، وبين فضيلة الحياء التي تعد من فضائل الأخلاق الإنسانية.
فالحياء مفاضلة بين ما يحسن وما لا يحسن، وبين ما يليق وما لا يليق، وما هو أعلى وما هو أدنى.
والاحتجاز الجنسي غريزة عامة بين الإناث ترجع إلى القهر والإجبار، كائنا ما كان التفاوت بينها في درجة القهر والإجبار.
ومتى بلغ هذا الاحتجاز الجنسي مبلغه الذي قصدت إليه الطبيعة، فقد بلغت الأخلاق الأنثوية غايتها، ولم يبق منها ما يلتبس بالحياء في صورته ولا في معناه.
ومن ضلال الفهم أن يخطر على البال أن الحياء صفة أنثوية، وأن النساء أشد استحياء من الرجال. فالواقع - كما لاحظ شوبنهور - أن المرأة لا تعرف الحياء بمعزل عن تلك الغريزة العامة، وأن الرجال يستحون حيث لا يستحي النساء، فيستترون في الحمامات العامة، ولا تستتر المرأة مع المرأة إلا لعيب جسدي تواريه.
ولم يكن عمر بن أبي ربيعة مبالغا حين قال: إن الوجوه يزهوها الحسن أن تتقنع. بل هو لو شاء لقال عن الأجسام ما قال عن الوجوه
1
فلا تستر الأنثى الفطرية شيئا يمكنها أن تبديه، إذا كان عرضه مجلبة للنظر والاستحسان، ومن شهد الحمامات العامة على شواطئ البحر رأى كيف تهمل الأكسية ذات الرفارف المسبلة، ليبدو للأنظار ما استتر من محاسن الأجسام.
فالخلق الذي تتحلى به المرأة بداهة هو خلق الغريزة الذي يوشك أن يشمل إناث الحيوان.
وكل خلق «إرادي» تتخلق به بعد ذلك فهو فريضة عليها من الرجال، تجاريهم فيه على ديدن المحاكاة والمطاوعة، سواء فهمته أو جهلت كنهه ومرماه؛ ولهذا يكثر في النساء من يتقيدن بالعرف القديم؛ لأن قوام العرف القديم عادات ومصطلحات هي أقرب إلى الغريزة الآلية من فضائل الفهم والإرادة، ويندر بينهن جدا من تتحدى العرف بفضيلة واحدة من فضائل الاختيار.
جرى حديث متنقل في مجلس يضم رهطا من الرجال والنساء على قسط شائع من التعليم والعرف والآداب الخلقية، فانساق الحديث إلى سيرة رجل يتجاوز الخمسين ذاع عنه أنه يستدرج الفتيات الغريرات إلى داره فيلهو بهن ويظهر معهن في المحافل العامة، ويدفعهن إلى سهرات العبث والمجون، فكان النساء أقل من حضر المجلس اشمئزازا من سيرة ذلك الخليع. كأنهن لا يرين نقصا في رجل من الرجال بعد أن تكمل له تلك الفحولة الحيوانية، أو كأنهن لا يصدقن أن الفتيات الغريرات يسقطن في شراكه مخدوعات مغلوبات على مشيئتهن، ولكنهن راضيات مسرورات بما أتيح لهن من فرص المتعة والابتهاج.
وكل ما بدا عليهن بعد ذلك من الاشمئزاز فقد سرى إليهن مستعارا ممن كان بالمجلس من الرجال، فقد كانوا في هذا المجتمع الخاص، كما كانوا في المجتمع العام كله «مصدر السلطات على حد قولهم» في لغة الدساتير.
ومتى سقط سلطان الرجال في الأمة سقط معه سلطان الأخلاق سواء منها أخلاق العرف وأخلاق الإرادة.
فالأمم المهزومة يشاهد فيها طوائف من النساء يجهرن بمخادنة الجنود الفاتحين، ولا يكربهن أنهم قاتلو الإخوة والأزواج والآباء؛ لأن الخضوع للغلبة ألصق بطبيعة الأنوثة الفطرية أو الحيوانية من جميع هذه الأواصر والآداب.
والعبرة التي تستفاد من هذه الحقيقة أن النساء يوكلن إلى الفطرة في أخلاق الغرائز والعادات، ولكن لا يصح أن يتركن في الأخلاق الأخرى - أخلاق الإرادة والضمير - بغير إيحاء شديد، بل إكراه يتجاوز حدود الإيحاء. •••
والغريزة القاهرة تعلل محاسن المرأة كما تعلل نقائصها، فتمهد لها العذر بين يدي الطبيعة، وإن لم تمهده لها بين يدي القانون والأخلاق.
فالتضحية هي أسمى فضائل الإنسان، وهي فضيلة لا يقدم عليها المرء كل يوم، ولا يقدم عليها بغير دافع شديد من وحي الفطرة أو من وحي الضمير.
ولكنها من وحي الفطرة أعم وأنفذ من وحي الضمير؛ لأن سلطان اللحم والدم عميق القرار في بواعث النفوس.
ومن ثم كانت المرأة أقرب من الرجل إلى التضحية في وظائفها النوعية؛ لأنها تستمد تضحيتها من غرائز الأمومة، وتموت في سبيل الذرية، كما تموت بعض إناث الحيوان. ولا تسهل التضحية على الرجل هذه السهولة إلا إذا ارتقى فيه وحي الضمير إلى مرتبة الدوافع الفطرية المودعة منذ الأزل في غرائز الأحياء، وتلك مرتبة يعز بلوغها على أبناء آدم فلا تزال معدودة فيهم من فضائل الأنبياء وأشباه الأنبياء، أو كما قال ابن الرومي:
وعزيز بلوغ هاتيك جدا
تلك عليا مراتب الأنبياء
وإنما يقدم الرجل على التضحية في جملة أحوالها العامة بغريزة أخرى مغروسة في طبيعة النوع، ولكنها أحدث وأقرب إلى الإرادة: وهي غريزة القطيع التي نشأت مع الخلائق الاجتماعية، ولم تنشأ بداءة مع الولادة، كما نشأت الغرائز الأنثوية في جميع إناث الأحياء. فإذا تصدى الرجل للقتال في الجيش أو الكتيبة، تحرك بإرادة القطيع كله وتغلب بها على الخوف وحب السلامة، ولكنه قد ينفرد بالتضحية التي يدفعه إليها وحي الضمير، فيعلو على فضائل الأنواع والجماعات، ويعرج بروحه صعدا في طراز رفيع من الفضائل: هو فضائل الأفراد الأفذاذ. •••
والغرائز المختلفة التي تعلل لنا محاسن المرأة تعلل لنا نقائصها التي تعاب عليها من بعض جهاتها. وقد لخصها المتنبي، ولخص كل ما قيل في معناها حيث قال:
فمن عهدها ألا يدوم لها عهد
فهي تتقلب وتراوغ وترائي وتكذب وتحزن وتميل مع الهوى وتنسى في لحظة واحدة عشرة السنين الطوال.
وهي مسوقة إلى ذلك بالفطرة الجنسية التي خلقت فيها قبل نشأة الآداب الاجتماعية والآداب الدينية بألوف السنين. فقد أغرتها الفطرة الجنسية بالميل إلى الأقدر والأكمل من الرجال لتنجب للعالم أحسن الأبناء من أحسن الآباء.
فلم يكن مما يوافق هذه الفطرة في العصور السحيقة أن تحفظ العهد لرجل واحد ومن حولها رجال كثيرون يتقاتلون عليها، وقد يغلب أحدهم رجلها الذي تحفظ له العهد أو يطالبها بحفظه.
وكانت الحرب في بداءة الحياة الإنسانية هي مقياس القدرة والرجحان بين الرجال، في قبيلتهم أو في جميع القبائل المحيطة بها، فكان من شان المرأة أن تسلم لظافر بعد ظافر، وشجاع بعد شجاع، كلما دارت رحى الحرب بين غالب ومغلوب، وبين الشجاع القوي ومن هو أشجع منه وأقوى.
ثم أصبح المال مقياس القدرة والرجحان بين الرجال، وكان مقياسا صحيحا في العصور الغابرة، وظل كذلك ألوفا من السنين؛ لأنهم كانوا يكسبون المال غنيمة في حومة الحرب، أو ربحا من أرباح التجارة التي تقحم أصحابها في مجاهل الأرض، وتهدفهم لأخطار القتل والاستلاب، وتلجئهم إلى الحيلة تارة وإلى الحول تارات، وتشهد لهم بمقياس القدرة والرجحان عن جدارة واضحة تغني المرأة عن التفكير، وهي لا تعمد كثيرا إلى التفكير قبل الاختيار. •••
قلنا في الفصل الذي عقدناه على رأي المعري في المرأة من كتابنا المطالعات: «والذي نقوله في جملة واحدة أن المرأة وفية صادقة: وفيه للحياة لا لهذا الرجل أو لذاك، وصادقة في الحب لا في إرضاء أهواء من تحب، ولو أنعمنا النظر لعرفنا أن المرأة تخون نفسها كما تخون الرجال في سبيل الأمانة للحياة، وتكذب على نفسها كما تكذب على محبيها في صيانة عهد الحب، فهي وفية بالفطرة رضيت أم لم ترض، وهي صادقة بالإلهام حيث أرادت وحيث لا تريد.»
إلى أن قلنا: «تحب المرأة الشباب، ومن ذا الذي لا يحب الشباب؟ إن الشباب نفحة الخلود وروح من روح الله. تصور الأقدمون الآلهة فلم يفرقوا بينهم وبين الشباب، وأسبغوا عليهم كساء سرمديا من نسجه، وبهاء متجددا من صنعه، شعورا منهم بأن الشباب سمة الحياة الخالدة وروح المعاني الإلهية، وترجيحا لخير الشباب على شره ولمحاسنه على عيوبه.» •••
ثم تحب المرأة المال، ومن ذا الذي يكره المال؟ غير أننا قد نرى للمرأة سببا غير سائر الأسباب التي تغري بحب المال وإعظام أصحابه. نرى أن كسب المال كان ولا يزال أسهل مسبار لاختيار قوة الرجل وحيلته، وأدعى الظواهر إلى اجتذاب القلوب والأنظار واجتلاب الإعجاب والإكبار، فقد كان أغنى الرجال في القرون الأولى أقدرهم على الاستلاب، وأجرأهم على الغارات، وأحماهم أنفا، وأعزهم جارا، وكان الغنى قرين الشجاعة والقوة والحمية، وعنوانا على شمائل الرجولة المحببة إلى النساء، أو التي يجب أن تكون محببة إليهن. ثم تقدم الزمان فكان أغنى الرجال أصبرهم على احتمال المشاق وتجشم الأخطار والتمرس بأهوال السفر وطول الاغتراب، وأقدرهم على ضبط النفس وحسن التدبير. فكان الغنى في هذا العصر قرين الشجاعة أيضا وقوة الإرادة وعلو الهمة وصعوبة المراس، ثم تقدم الزمان فصار أغنى الرجال أبعدهم نظرا وأوسعهم حيلة، وأكيسهم خلقا، وأصلبهم على المثابرة وأجلدهم على مباشرة الحياة ومعاملة الناس، فكان الغنى في هذا العصر قرين الثبات والنشاط ومتانة الخلق وجودة النظر في الأمور.
كان هذا كله في العصور الأولى قبل تشعب الحياة الاجتماعية، وتعدد الملكات والصفات التي تكفل الرجحان والتقدم للرجال.
ثم تعددت هذه الملكات والصفات فقام في طبيعة المرأة «برج بابل» مخيف من اختلاط الأصوات والدعوات.
كان رجحان الرجل بسيط المظهر، وكانت فطرة المرأة البسيطة قادرة على تمييزه بغير إعنات الفكر ولا إطالة للروية.
ثم تشعبت الملكات والصفات، ووجد في العالم رجال ممتازون بأكبر المزايا، وليس للمرأة من فطرتها البسيطة معين على تقدير مزاياهم وعرفان أقدارهم والترجيح بينهم وبين من دونهم من أصحاب المزايا الفطرية التي تتكشف للنظرة الأولى ولا تحتاج إلى إنعام نظر أو موازنة بين أنواع وأشكال: رجل الحرب الذي يظفر بالقوة والخدعة، ورجل المال الذي يكسب بالقوة والخدعة، وكلاهما مفهوم واضح مكشوف على ظواهر الأشباه.
ثم انفصلت الحرب عن الشجاعة في بعض المواقف، وانفصل المال عن القدرة الراجحة في كثير من المواقف. فأغنى السلاح والكثرة ما لا تغنيه الشجاعة، وكسب المال بالإسفاف والدناءة وخدمة الشهوات، فهذا هو برج بابل الذي لا تدري المرأة فيه من تسمع ومن تجيب، والذي تحار فيه قبل التمييز والتفضيل، وقد كانت قبل ذلك لا تحار في تمييز أو تفضيل.
وزاد برج بابل طبقة على طبقاته الكثيرة أن الآداب الاجتماعية وآداب الأسرة ظهرت بين الناس، وفرضت على المرأة أدبا جديدا غير الأدب القديم، أدبا يطالبها بالوفاء والأمانة ومغالبة الميول إذا تناضل من حولها الرجال، فزاد في الحيرة والتبلبل ولم يخلق بإزائه في فطرة المرأة معين على التمييز والاهتداء إلا ما تقتبسه بالتعليم والتلقين والإيحاء، وهو ضعيف محدود لا يقوم لإيحاء الفطرة القديمة إذا اشتجر النزاع واضطربت الأهواء.
فانقسم النساء أقساما شتى في الأخلاق الفطرية والأخلاق الاجتماعية: قسم مع الفطرة القديمة وقسم مع الأدب الجديد. بل أصبحت كل امرأة مجالا لتعدد هذه الأقسام تميل مع هذا أو ذاك كلما مالت بها دواعيه.
فنحن إذ نقول: إن المرأة تطيع الغرائز الجنسية في التقلب والمراوغة وخيانة القرناء، لا نقول ذلك لنعذرها كل العذر، أو لنسقط عنها واجب التغلب على هذه الميول التي تغيرت وجهاتها مع الزمن، ولا تزال عرضة لكثير من التغير، فإن الأخلاق لم تجعل لإبقاء الفطرة على عيوبها وإنما جعلت لتهذيب تلك العيوب ورياضتها وشد أزر النفس بالمثل الأدبية التي تعينها على عيوبها. ولكننا نقول ما نقول لنذكر أبدا أن فهم الغرائز الجنسية ضروري لفهم الأخلاق التي تتصل بها، فلا فائدة من البحث في رياضتها بالأدب الاجتماعي، قبل البحث فيما يقابلها من أصول الفطرة التي تعم جميع الأحياء، وليس عمومها بين جميع الأحياء بمانع من إصلاحها بالرياضة والتقويم. بل هو الذي يسوغ ذلك الإصلاح ويوجبه ويبشر بفلاحه؛ لأن الإنسان قد علا فوق سائر الأحياء، فمن الواجب إذن - ومن المستطاع أيضا - أن يعلو فوقها بالآداب والأخلاق.
ومن مفارقات العصور المتأخرة أن ينجم فيها طائفة من الدعاة وأصحاب الآراء يستخفون بالاحتجاز الجنسي الذي كان عصام المرأة من جماح الأهواء زمنا طويلا، ويستخفون معه بما عداه من الحواجز الجنسية المغروسة في طباع الأحياء؛ لأنها في رأيهم بقية لا ضرورة لها من بيئات المعيشة الحيوانية الأولى.
فعندهم مثلا أن حرية المرأة في العصر الحديث تبيح لها ما حرم عليها في العصور القديمة، فلا يعيبها أن تبدأ الغزل للرجل وتلاحقه لتستولي عليه، كأنما كان تركيب الجسم الأصيل في الأنوثة والذكورة مسألة من مسائل الحريات التي يذهب بها نظام ويأتي نظام، ويبرمها قانون وينقضها قانون.
وعندهم أن الحيوانات لم تقتصر على موسم واحد في التناسل إلا لأنها تشبع من الطعام في هذا الموسم، فتمتلئ أجسادها بفيض من الثروة الحيوية يدعوها إلى طلب الذرية.
وليس أجهل بأسرار الحياة - وسر الجنس أكبر أسرار الحياة - ممن يقنع في تفسيرها وردها إلى أصولها بمثل هذا التعليل القريب، فإن هذا التعليل القريب لا يكفي على الأقل لتفسير الظاهرة التي أشار إليها أولئك الدعاة؛ إذ إن الثمرات النباتية تتوالد في الموسم بعينه، وهي الغذاء الذي تعتمد عليه آكلات العشب من الحيوان، ومتى زادت قوة التوالد في النبات فأحرى أن تزيد قوة التوالد في الأحياء لغير ذلك السبب الذي ذكروه وعلقوه بزيادة الثمرات.
ومن الحيوان ما يعتمد على اللحوم دون العشب ويأكل منها طوال العام، ومنها الأسماك التي لا مواسم عندها للنبات وهي مع هذا تعرف لها مواسم للتناسل، وتخرج إلى الأنهار القصية قبل الأوان الملائم للقاح بين جراثيم الذكورة والأنوثة.
وقد تختلف الأوابد والدواجن في موسم التناسل، ولكنها على التعميم لا تقارب الأنثى بعد حملها، ولا تعبث بغريزة النوع للذة الأفراد، فالسر أعمق مما يظنون بكثير.
وحواجز الجنس ودوافعه لا تفسر كلها بأمثال ذلك التعليل الهزيل.
ومما لا شك فيه أن الأخلاق الجنسية كسائر الأخلاق، قوامها ضبط النفس وهو لا يوافق الذهاب مع الهوى حيثما تعرض المرء للاستهواء، ولا بد من ضبط النفس، والقدرة على الامتناع لتحقيق كل خلق كريم يصلح للأفراد أو للأقوام أو للأنواع.
والإنسان أحوج إلى الحواجز الجنسية من الحيوان، وليس بأغنى منه عن تلك الحواجز تقدما مع الحرية كما يخيل إلى أولئك الثراثرة السطحيين.
فالحيوان يتشابه ويتماثل ويصعب التفريق بين أفراده في الصفات المشتركة في سلالة النوع كله. فلا ضير على النوع أن يتلاقى أي ذكر بأي أنثى أو ينتجا أمثالهما من الذكور والإناث.
لكن الأنواع كلما ارتقت تعددت الصفات التي يكمل بها الفرد ذكرا كان أو أنثى. ويبلغ تعدد الصفات أقصاه في النوع الإنساني، سواء بين الذكور أو بين الإناث، حتى ليكاد الفرق بين رجل ورجل، والفرق بين امرأة وامرأة يلحق بالفرق بين نقيضين أو مخلوقين من نوعين مختلفين.
فليس كل رجل بديلا من كل رجل، وليست كل امرأة بديلا من كل امرأة، ويجب على الرجل إذن أن يمتنع حتى تتاح له المرأة التي تلائمه، وعلى المرأة أن تمتنع حتى يتاح لها الرجل الذي يلائمها.
ويجب أن يتعلق الأمر ب «الشخصية» المميزة لا بمجرد امرأة كائنة ما كانت أو بمجرد رجل كائنا ما كان، كما يغني كل فرد عن مثيله في الأنواع الوضيعة بين الأحياء.
وفي هذه الحالة لا ينتفع النوع بكل اتصال تتحقق به المتعة الجنسية، بل ينفعه الاتصال الذي تتم به الشخصيات وتتوافر فيه أتم صفات الرجال وأتم صفات النساء.
ثم تنشأ الآداب الاجتماعية وحقوق الأسرة وأمانة النسل، فإذا هي قد ألزمت الرجال والنساء آدابا من حقها أن تطاع، وأن يحسب لها أوفى حساب.
نعم إن هذه الآداب صناعية أو مبتدعة من أحكام البيئة التي خلقها الناس، ولكنها - كجميع الآداب والفروض - تستند إلى أساس فطري عريق في الطبيعة، وهو ضبط النفس، وقوة البنية على مقاومة النوازع والأهواء.
ونضرب لذلك مثلا صغيرا من المحرمات التي جاءت بها الآداب الدينية أو العرفية بعد ظهورها في المجتمعات الإنسانية، فإن تحريم القمار أو الخمر أو السرقة لم يعرف في آداب الناس إلا بعد ظهور هذه الآفات، ولكن ضبط النفس الذي يناط به الامتناع عنها، هو خلقة طبيعية لم تنشأ مع العرف أو الاصطلاح. فلا يزال الفرق بين إنسان يستطيع أن يمتنع عنها، وإنسان لا يستطيع الامتناع، فرقا في صميم التكوين الذي لا ينشئه العرف، ولا ينسب إلى الأوضاع الصناعية.
وكذلك الحواجز الجنسية التي يفرضها المجتمع، أو توجبها مصلحة الأسرة، هي حواجز لازمة، لا يقدح في أصالتها أنها حدثت بعد حدوث الحاجة إليها؛ لأن القدرة عليها فضيلة من فضائل التكوين الأصيل.
والرجل الذي يقدر عليها هو رجل ممتاز في خلقته الطبيعية كالمرأة التي تقدر عليها. وكلاهما زوج أصلح من غيره للبقاء وإنجاب الأبناء.
فأسخف السخف أن يظن بالحضارة المدنية أنها رخصة تبيح التهافت على المتعة ونسيان الحواجز الجنسية؛ لأن التهافت نقص في الخلقة قبل أن يكون نقصا في الآداب الاجتماعية، وهذا النقص معيب وخيم العقبى، وإن لم تحرمه الآداب.
وسيطول التبديل والتعديل في العرف والتشريع والشمائل المحبوبة بين الناس كلما تطاولت الأجيال، وسيقول كل ذي رأي قوله الذي يجوز فيه الجدال، ويبقى حكم واحد لا تبديل له، وقول واحد لا يجوز الجدال فيه، وهو أن الاحتجاز قوام أخلاق الأنوثة، وأن المرأة التي تنساه هي حيوان ناقص في تكوينه، وليس قصارى القول فيها إنها فرد مقصر في حقوق المجتمع والأسرة. وإن مساك الأخلاق جميعا - ما أوجبته الفطرة وما أوجبه المجتمع - هو ضبط النفس، والترفع عن مطاوعة كل عارضة من عوارض الأهواء.
وقد سبقت في هذا الكتاب «المرأة في القرآن الكريم» نبذة عن التناقض بين المرأة الطبيعية والمرأة الاجتماعية، وهو بحث له استطراد يناسبه في الكلام على تناقض المرأة من كتاب «هذه الشجرة» ختمناه بما يلي:
هي أبدا بين نقيضين في أمومتها وفي حبها، وذلك هو التناقض الذي لا حيلة لها فيه، ولا يفجأ الرجال منها إلا كما يفجؤها هي على غير ما تنتظر، وعلى غير ما يقع لها في تدبير.
فمن الخطأ أن يرد على الخاطر أن التناقض من دهاء المرأة وتدبيرها، أو من ختلها وخداعها، فهي مخدوعة به قبل أن تخدع سواها، وهي في قبضته فريسة لا تملك ما تريد.
ولا بد من التناقض في طبع الأنثى؛ لأنها شخصية حية خاضعة للمؤثرات التي تتناوبها من عدة جهات، وهي كما أسلفنا في الفصل السابق مستجيبة للأثر الحاضر، وقد تبدهها الآثار الحاضرة من كل صوب ، لا من صوب واحد.
والمرأة من جهة ثانية عضو في بيئة اجتماعية هي الأمة أو المدينة أو القبيلة، فهي هنا زوجة أو بنت أو أخت أو صاحبة عمل تجمعها بتلك البيئة الاجتماعية صلة العرف أو الشريعة.
والمرأة من جهة غير هذه وتلك أنثى، لها تركيب حيوي يربطها بمخلوق آخر لا يتم وجودها بغيره.
والمرأة من جهة أخرى أم تحب أبناءها بالغريزة والألفة، وتصبر في سبيلهم على مشقات وآلام يؤدها الصبر عليها في غير هذه السبيل.
وهي بعد هذا كله كائن حي من حيث هي وليدة الحياة في جملتها، أيا كان النوع الذي تنتمي إليه، والأمة التي تعيش بينها، والعلاقة التي تجمعها بالزوج أو العاشق أو الأهل أو البنين.
وقد تختلف عليها هذه الوجهات جميعا فلا مفر لها من التناقض معها؛ لأن مقاصد الفرد المستقل، والأنثى المفتونة، والأم التي تنسى نفسها في حنانها، والكائن الاجتماعي الذي يرعى مطالب العرف والشريعة، أو الكائن الحي الذي تهزه الحياة بهذه النوازع كما تهزه بما عداها - كل أولئك يختلف ويتناقض لا محالة، ولا يتأتى التوفيق بينه إلا في الندرة العارضة.
فهاهنا مثلا فرد يريد بفطرته الفردية أن يستقل عن جميع الأفراد الآخرين، سواء كانوا من الآباء أو الأمهات أو الأزواج فلا يلبث أن يستقر فيه هذا الشعور الطبيعي حتى ينازعه فيه شعور الأنثى التي تريد أن تنضوي إلى رجل تهواه، وقد ينازعها شعوران بل أكثر من شعورين، إذا تعددت الصفات التي تستهويها من الرجال وتفرقت بينهم على نحو يضلل الإرادة ويشتت الأهواء.
ولا تلبث أن تنسى استقلالها الفردي، وتطاوع نزعتها الأنثوية، حتى يبرز لها المجتمع بحكم يخالف حكمها في الاختيار والترجيح، فيقودها إلى الجاه والمال وهي تنقاد إلى الفتوة والجمال، أو يلزمها الوفاء للزوج وهي تنظر إلى رجل آخر، نظرة الأنثى التي سبقت بفطرتها قوانين الأمم وقواعد الآداب، ولا تلبث أن تحتال على هذه البواعث أو هذه الوساوس حتى يغلبها حنو الأمومة ليربطها بمكان لا تود البقاء فيه، أو ينهض الكائن الحي في نفسها نهضة لا تطيع باعثا غير بواعث الحياة، بمعزل من نزوة الأنثى وقانون المجتمع وغرائز الأمهات.
فلا عجب في هذا التناقض ولا مباينة فيه للمعقول، ثم يضاف إليه تناقض آخر يرجع إلى تعدد الدواعي في كل صفة من الصفات التي أشرنا إليها.
ونكتفي بصفة واحدة على سبيل التمثيل؛ لأن شرح الصفات جميعها في تعددها وتباينها من وراء الحصر والإحصاء.
فالمرأة في صفة الأنوثة - وهي تنضوي إلى الذكورة - تحب الرجل الكريم؛ لأنه يغمرها بالنعمة، ويريحها من شدائد العيش، ويخصها بالزينة التي تزهيها وترضي كبرياءها بين نظيراتها، فضلا عما في الكرم من معنى العظمة والاقتدار.
ولكنك قد ترى هذه المرأة بعينها تتعلق ببخيل لا ينفق ماله على زينة أو متاع. فهل هي مناقضة لطبيعتها في هذا الانحراف العجيب؟ كلا بل هي لا تناقض طبيعة الكبرياء نفسها التي ترضيها عن كرم الكريم.
لأن المرأة يجرح كبرياءها أن ترى رجلا يستكثر المال في سبيل مرضاتها، ومتى جرحت المرأة في كبريائها أقبلت باهتمامها وحيلتها وغوايتها من حيث أصابها ذلك الجرح المثير، وليس أقرب من تحول الاهتمام إلى التعلق في طبائع النساء.
فالنزعة الواحدة قد تكون سبيلا إلى النقيضين في ظاهر الأعمال، ولكنهما نقيضان لا يلبثان أن يتفقا ويتوحدا عند المنبع الأصيل متى عرفنا كيف تنتهي الردة إليه.
وكلما ذكرت نقائض المرأة وجب ألا ننسى مصدرا آخر للتناقض في أخلاق النساء يفسر لنا كثيرا من نقائضهن، حيثما توقعنا شيئا من المرأة وأسفرت التجربة عن سواه.
ذلك المصدر هو درجات الأنوثة وأطوارها بين الظهور والضمور.
فالأنوثة صفات كثيرة لا تجتمع في كل امرأة، ولا تتوزع على نحو واحد في جميع النساء.
فليست كل امرأة أنثى من فرع رأسها إلى أخمص قدمها، أو أنثى مائة في المائة كما يقول الأوروبيون، بل ربما كانت فيها نوازع الأنوثة ونوازع غيرها إلى الذكورة، وربما كانت أنوثتها رهنا بقوة الرجل الذي يظهرها فلا تتشابه مع جميع الرجال. وربما كانت في بعض عوارضها الشهرية وما شابهها من عوارض الحمل والولادة أقرب إلى الأنوثة الغالبة، أو أقرب إلى الذكورة الغالبة، وقد كانوا فيما مضى يحسبون هذا التراوح بين الذكورة والأنوثة ضربا من كلام المجاز، فأصبح اليوم حقيقة علمية من حقائق الخلايا، وفصلا مدروسا من فصول علم الأجنة ووظائف الأعضاء.
وليس التناقض لهذا السبب مقصورا على النساء دون الرجال، فإن الرجل أيضا يصدق عليه ما يصدق على المرأة من تفاوت درجات الرجولة؛ إذ ليس كل رجل ذكرا من فرع رأسه إلى أخمص قدمه، أو ذكرا مائة في المائة كما يقال في اصطلاح الأوربيين، ولكن التناقض لهذا السبب يبدو في المرأة أغرب وأكثر، لامتزاجه بأسباب التناقض الأخرى ومحاولة الرجل أن يفهمها على استقامة المنطق كدأبه في تفهم جميع الأمور.
ولا ريب أن «الشخصية الإنسانية» في حال الذكورة والأنوثة عرضة لكثير من النقائض المحيرة للعقول: عقول الرجال وعقول النساء.
وكم يقول النساء عن تناقض الرجال ولا يخطئن المقال؟ كم يقلن: إن الرجل «كالبحر المالح» لا يعرف له صفاء من هياج؟ وكم يقلن: إن فلانا كشهر أمشير لا تدري متى تهب فيه الأعاصير؟ وكم تقول إحداهن للأخرى: حبيبك في ليلك عقرب في ذيلك؟ وكم لهن من أمثال هذه الأمثال مما لا يحفل به الرجال؟!
إنهن لا يعنين بمقاربة الرجل من طريق الفهم كما يعنين بمقاربته من طريق التأثير، ولو حاولن فهمه كما يحاولن التأثير فيه، لخرجن به لغزا من الألغاز وأعجوبة من أعاجيب البحار في قديم الأسفار، «فالشخصية» كلمة واحدة في اللغة، ولكننا نخطئ أبعد الخطأ إذا تصورناها شيئا واحدا؛ لأنها تنطوي تحت عنوان واحد؛ إذ هي أشياء لا تحصى من الغرائز والمدارك والأحاسيس وعلاقات المجاوبة بينها وبين العالم الذي تعيش فيه، وهي بهذا الخليط الواسع في حركة دائمة لا تستقر على وجهة واحدة برهة من الزمن، ولا تعهدها في الصحة ولا في الشباب كما تعهدها في المرض أو في الهرم، ولا تصدر فيها النزعة الواحدة من مصدر واحد في جميع الأوقات والأحوال.
فهي تختلف بين حالة وحالة، وتختلف بين سن وسن، وتختلف على حسب العلاقة بينها وبين هذا الإنسان وذاك الإنسان، وتختلف على حسب العلل والبواعث التي تحركها إلى الأعمال.
والمرأة كالرجل «شخصية إنسانية» تتعرض للتناقض من جراء هذا التعدد وهذا التقلب في عناصر كل «شخصية» تحمل عنوانا واحدا، وتشتمل على شتى العناصر التي لا يقر لها قرار.
ولكنها انفردت بأسبابها المقصورة عليها، وانفردت بمراقبة الرجل إياها، ومحاولة التوفيق بين غرائبها وبدواتها.
وعندها في صميم هذه الأسباب المقصورة عليها حالتان تضاعفان ظهور التناقض فلا يخفى كما يخفى تناقض الرجل على النظرة الأولى.
إحدى هاتين الحالتين طبيعة المراوغة التي وصفن بها إذ «يتمنعن وهن الراغبات».
والأخرى طبيعة الاستغراق في الساعة التي هي فيها، ونسيان ما قبلها وما بعدها، فيبلغ العجب أشده بمن يراقبها أن يراها تنتقل بين أطوارها، كما ينتقل الممثل بين أدواره ولا يخلط بينها أو لا يستبقي من سوابقها بقية في تواليها.
فمن المشاهد أن الرجل إذا قضى يوما أو أسبوعا في مناداة اسم من الأسماء - ولا سيما نداء المناجاة - أخطأ فسبق به لسانه في جلسة أخرى لا يود أن يذكره فيها، بل لعله يود أن يكتمه ولا يومئ إليه.
وقلما يشاهد هذا في محادثات المرأة، ولو تلاحقت بين ساعة وساعة؛ لأن الساعة التي هي فيها تستولي عليها فلا يزل لسانها بالإشارة إلى غيرها، ولأنها تستعين هنا بطبيعتين أصيلتين فيها، وهما طبيعة النفاق وطبيعة الاستغراق.
ولم يزل التناقض بابا من أبواب الحيرة واختلال الحساب، ولكن التناقض الذي يفهم سببه يريح من الحيرة على الأقل عند البحث عنه والتفكير فيه، وإن لم تكن به راحة من معاناة النقائض وابتلاء متاعبها، ولا عتب في معظمها على المرأة؛ لأنها لا تقصدها كلما لجأت إليها، وقد تكون هي ضحية من ضحاياها.
الفصل الخامس
مكانة المرأة
ربما كانت الحضارة المصرية القديمة هي الحضارة الوحيدة التي خولت المرأة «مركزا شرعيا» تعترف به الدولة والأمة، وتنال به حقوقا في الأسرة والمجتمع، تشبه حقوق الرجل فيها، ولا تتوقف على حسن النية من جانب الآباء والأبناء والأقربين.
أما الحضارات الأخرى فكل ما نالته المرأة فيها من مكانة مرضية، فإنما كانت تناله بباعث من بواعث العاطفة على حاليها من حميد وذميم.
كانت تنال المحبة من بنيها بعاطفة الأمومة التي يحسها الأبناء نحو أمهاتهم، ويعم الإحساس بها طوائف من الأحياء لم تبلغ مبلغ الإنسان من الفهم والخلق، ولم يكن لها عرف أدبي في حياتها الاجتماعية، وقد يبدو هذا الإحساس في الحيوان الأعجم على صورة تلفت النظر إليه ويجعلها ذوو البصيرة الفنية رمزا للأمومة في أجمل مظاهرها الفطرية، كما صنع المصور النابغ «ه.و. دافيز» في صورة «الفرس والمهرة» التي سماها «الأمومة» واختارها من بين مظاهر العواطف الحيوانية التي لا تحصى لتمثيل هذا المعنى والرمز إليه بالأشكال المنظورة.
وربما نالت المرأة حقا من الاهتمام بها في عصور الترف والبذخ التي تنتهي إليها الحضارات الكبرى، وهي لا تنال هذا الحظ من الاهتمام لتقدم الحضارة وارتقاء الشعور بين أصحاب تلك الحضارات، ولكنها تناله لأنها - في عصور الترف والبذخ - مطلب من مطالب المتعة والوجاهة الاجتماعية، وقد نالت هذا الحظ من الاهتمام في أوج الحضارة الرومانية مع بقائها قانونا وعرفا في منزلة تقارب منزلة الرقيق من وجهة الحقوق الشرعية والنظرة الأدبية، وكانت القيان والجواري الطليقات ينلن من ذلك الاهتمام أضعاف ما تناله حرائر النساء من الأزواج والأقرباء، ووضح هذا الفارق في المعاملة بين الحرائر والجواري الطليقات وأشباههن، من نسوة الأندية ودور الملاهي في كل حاضرة آهلة بهن من حواضر اليونان والرومان والبلدان الشرقية.
وليس هذا الاهتمام الذي تناله المرأة بفضل عواطف الأمومة، أو بإغراء المتعة والترف، مكانة «شرعية أو عرفية» تنسب إلى آداب المجتمع وقوانينه، فغاية ما فيها أنها شعور يتقارب فيه الأحياء من الناطقين وغير الناطقين.
أما المكانة التي تحسب من عمل الآداب والشرائع أو الحضارات، فقد كانت معدومة في عصور الحضارة الأولى جميعا، ما خلا حضارة واحدة، هي الحضارة المصرية.
فشريعة «مانو» في الهند لم تكن تعرف للمرأة حقا مستقلا عن حق أبيها أو زوجها أو ولدها في حالة وفاة الأب والزوج، فإذا انقطع هؤلاء جميعا وجب أن تنتمي إلى رجل من أقارب زوجها في النسب، ولم تستقل بأمر نفسها في حالة من الأحوال. وأشد من نكران حقها في معاملات المعيشة نكران حقها في الحياة المستقلة عن حياة الزوج، فإنها مقضي عليها بأن تموت يوم موت زوجها، وأن تحرق معه على موقد واحد، وقد دامت هذه العادة العتيقة من أبعد عصور الحضارة البرهمية إلى القرن السابع عشر، وبطلت بعد ذلك على كره من أصحاب الشعائر الدينية. وشريعة حمورابي التي اشتهرت بها بابل كانت تحسبها في عداد الماشية المملوكة، ويدل على غاية مداها في تقدير مكانة الأنثى، أنها كانت تفرض على من قتل بنتا لرجل آخر أن يسلمه بنته ليقتلها أو يملكها إذا شاء أن يعفو عنها، وقد يضطر إلى قتلها لينفذ حكم الشريعة المنصوص عليها.
وكانت المرأة عند اليونان الأقدمين مسلوبة الحرية والمكانة في كل ما يرجع إلى الحقوق الشرعية، وكانت تحل في المنازل الكبيرة محلا منفصلا عن الطريق، قليل النوافذ محروس الأبواب، واشتهرت أندية الغواني في الحواضر اليونانية لإهمال الزوجات وأمهات البيوت وندرة السماح لهن بمصاحبة الرجال في الأندية والمحافل المهذبة، وخلت مجالس الفلاسفة من جنس المرأة، ولم تشتهر منهن امرأة نابهة، إلى جانب الشهيرات من الغواني أو من الجواري الطليقات. وقد كان أرسطو يعيب على أهل «إسبرطة» أنهم يتساهلون مع النساء عشريتهم، ويمنحونهن من حقوق الوراثة والبائنة وحقوق الحرية والظهور ما يفوق أقدارهن، ويعزو سقوط «إسبرطة» واضمحلالها إلى هذه الحرية، وهذا الإسراف في الحقوق.
وربما ظن الذين يسمعون عن هذه الحرية «الإسبرطية» أنها ثمرة من ثمرات الارتقاء في تقدير حق الإنسان من الذكور والإناث. فخليق بهؤلاء أن يذكروا أن إنكار حق الإنسان قد بلغ غايته من القسوة في نظام الرق العريق بين الإسبرطيين، وأن ما شاع بينهم من الاسترقاق ومن التساهل مع النساء معا، هما ظاهرتان متماثلتان لعلة واحدة في معيشة الإسبرطيين، وهي اشتغال الرجال الدائم بالقتال، وتركهم ما عداه اضطرارا لتصرف المرأة في غيبة الأزواج والآباء. فهذه «الحرية النسوية» وذلك الاستعباد للأسرى هما ظاهرتان لعلة واحدة، لا نصيب لها من مبادئ الحرية والاعتراف بالحقوق، وقد نالت المرأة شيئا من المجاملة والطلاقة في عهود الفروسية جمعاء لمثل هذه العلة، وكانت مجاملة المرأة في تلك العهود ضربا من الأنفة أن تعامل معاملة الأعداء، وأن تحاسب محاسبة الأنداد. ولم يكن أسوأ من النساء حالا في عهود الفروسية المتقدمة، فيما عدا هذه المجاملات أو هذه التحيات اللسانية، وقد كانت «الخاتون» تعيش إلى جانب الجواري المسرفات حيثما تفرغ الرجال لصناعة القتال، وكذلك كان شأنها بين قبائل المغول، وبين قبائل الفرنك والغاليين من الأوروبيين، وكانت مع هذا تحرم الميراث في الإقطاعات يوم شاع نظام الإقطاع والفروسية معا بين أولئك الأقوام.
ومذهب الرومان الأقدمين كمذهب الهنود الأقدمين في الحكم على المرأة بالقصور حيث كانت لها علاقة بالآباء أو الأزواج أو الأبناء، وشعارهم الذي تداولوه إبان حضارتهم أن قيد المرأة لا ينزع، ونيرها لا يخلع، ومن ذلك قول «كاتو» المشهور:
Nunguam exvitur Servitus muliebris .
ولم تتحرر المرأة الرومانية من هذه القيود إلا يوم أن تحرر منها الأرقاء، على أثر التمرد ثورة بعد ثورة، وعصيانا بعد عصيان، فتعذر استرقاق المرأة كما تعذر استرقاق الجارية والغلام. •••
وانفردت الحضارة المصرية القديمة بإكرام المرأة، وتخويلها حقوقا «شرعية» قريبة من حقوق الرجل، فكان لها أن تملك، وأن ترث، وأن تتولى أمر أسرتها في غياب من يعولها، ودامت للمرأة المصرية هذه الحقوق على أيام الدول المستقرة بشرائعها وتقاليدها، تضطرب مع اضطراب الدولة، وتعود مع عودة الطمأنينة إليها، بيد أن الحضارة المصرية زالت وزالت شرائعها معها قبل عصر الإسلام، وسرت في الشرق الأوسط يومئذ غاشية من كراهة الحياة الدنيا بعد سقوط الدولة الرومانية بما انغمست فيه من ترف وفساد، ومن ولع بالملذات والشهوات، فانتهى بهم رد الفعل إلى كراهة البقاء وكراهة الذرية، وشاعت في هذه الفترة عقيدة الزهد والإيمان بنجاسة الجسد ونجاسة المرأة، وباءت المرأة بلعنة الخطيئة، فكان الابتعاد منها حسنة مأثورة لمن لا تغلبه الضرورة. ومن بقايا هذه الغاشية في القرون الوسطى أنها شغلت بعض اللاهوتيين إلى القرن الخامس للميلاد، فبحثوا بحثا جديا في جبلة المرأة، وتساءلوا في مجمع «ماكون» هل هي جثمان بحت؟ أو هي جسد ذو روح يناط بها الخلاص والهلاك؟ وغلب على آرائهم أنها خلو من الروح التاجية، ولا استثناء لإحدى بنات حواء من هذه الوصمة غير السيدة العذراء أم المسيح عليه الرضوان.
وقد غطت هذه الغاشية في العهد الروماني على كل ما تخلف من حضارة مصر الأولى في شأن المرأة، وكان اشتداد الظلم الروماني على المصريين سببا لاشتداد الإقبال على الرهبانية والإعراض عن الحياة، وما زال كثير من النساك يحسبون الرهبانية اقترابا من الله وابتعادا من حبائل الشيطان، وأولها النساء.
ومن المتواتر في أقوال أناس من المؤرخين الغربيين، أن الإسلام ينقل شريعته من الشرائع التي تقدمته، ولا سيما الشريعة الموسوية. ولا يتضح بطلان هذه الدعوى من شيء كما يتضح من المقابلة بين مركز المرأة في حقوقها الشرعية كما نصت عليها كتب التوراة، ومركز المرأة في حقوقها الشرعية التي قررها الإسلام بأحكام القرآن.
فالمأثور عن الكتب المنسوبة إلى موسى عليه السلام أن البنت تخرج من ميراث أبيها إذا كان له عقب من الذكور، وما عدا هذا الحكم الصريح فهو من قبيل الهبة التي يختارها الأب في حياته، حيث لا يجب الميراث وجوب الحقوق الشرعية بعد الوفاة. ومثل هذه الهبة ما أعطاه إبراهيم ابنه إسماعيل عليهما السلام، كما جاء في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين: «إذ قالت سارة لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق، فقبح الكلام جدا في عيني إبراهيم لسبب ابنه، فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك، وفي كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها؛ لأنه بإسحاق يدعى لك نسل.»
ثم جاء في الإصحاح الخامس والعشرين أن: «إبراهيم أعطى إسحاق كل ما كان له. وأما بنو السراري اللواتي كانت لإبراهيم فأعطاهم إبراهيم عطايا وصرفهم عن إسحاق ابنه شرقا إلى أرض المشرق وهو - بعد - حي».
وكذلك صنع أيوب في حياته كما جاء في الإصحاح الثاني والأربعين من سفره: «ولم توجد نساء جميلات كنساء أيوب في كل الأرض، وأعطاهن أبوهن ميراثا بين إخوتهن، وعاش أيوب بعد هذا مائة وأربعين سنة.»
والحكم المنصوص عليه في حق الميراث أن تحرم البنات ما لم ينقطع نسل الذكور، وأن البنت التي يئول إليها الميراث لا يجوز لها أن تتزوج من سبط آخر، ولا يحق لها أن تنقل ميراثها إلى غير سبطها، وجاء هذا الحكم بالنص الصريح في غير موضع من كتب التوراة، فجاء في الإصحاح السابع والعشرين من سفر العدد أن بنات صلفحاد بن حافر: «وقفن أمام موسى واليعازار الكاهن، وأمام الرؤساء، وكل الجماعة لدى باب خيمة الاجتماع قائلات: أبونا مات في البرية، ولم يكن في القوم الذين اجتمعوا على الرب في جماعة قورح، بل بخطيئته مات ولم يكن له بنون، لماذا يحذف اسم أبينا من بين عشيرته لأنه ليس له ابن؟ أعطنا ملكا بين إخوة أبينا! فقدم موسى دعواهن أمام الرب، فكلم الرب موسى قائلا: بحق تكلمت بنات صلفحاد، فتعطيهن ملك نصيب بين إخوة أبيهن، وتنقل نصيب أبيهن إليهن، وتكلم بني إسرائيل قائلا: أيما رجل مات وليس له ابن تنقلون ملكه إلى ابنته، وإن لم تكن له ابنة تعطوا ملكه لإخوته، وإن لم يكن له إخوة تعطوا ملكه لإخوة أبيه، وإن لم يكن لأبيه إخوة تعطوا ملكه لنسيبه الأقرب إليه من عشيرته فيرثه. فصارت لبني إسرائيل فريضة قضاء كما أمر الرب موسى».
ويلي ذلك من الإصحاح السادس والثلاثين أنه «يتحول نصيب إسرائيل من سبط إلى سبط، بل يلازم بنو إسرائيل كل واحد نصيب سبط آبائه، وكل بنت ورثت نصيبا من أسباط بني إسرائيل تكون امرأة لواحد من عشيرته سبط أبيها لكي يرث بنو إسرائيل كل واحد نصيب آبائه، فلا يتحول نصيب من سبط إلى سبط آخر بل يلازم أسباط بني إسرائيل كل واحد نصيبه كما أمر الرب موسى ...». •••
وننتقل إلى البلاد التي بدأت فيها دعوة القرآن الكريم، وهي بلاد الجزيرة العربية، فلا تتوقع أن تكون للمرأة فيها قسمة من الإنصاف والكرامة غير هذه القسمة العامة في بلاد العالم، على تباعد أرجائه وتنوع عاداته وشرائعه، ولعلها كانت تسوء في بعض أنحاء الجزيرة فتهبط في المساءة إلى حضيض ثم تهبط إليه في سائر الأنحاء من الأمم كافة، وترتقي فلا يكون قصاراها من الارتقاء إلا أنها تكرم عند زوجها لأنها بنت ذلك الرئيس المهاب أو أم هذا الابن المحبوب، فأما أنها تكرم وتصان لأنها من جنس النساء، يعمها ما يعم بنات جنسها من الحق والمعاملة، فذلك ما لم تدركه قط من منازل الإنصاف والكرامة. وقد يحميها الأب والزوج، كما يحميها الأخ والابن حماية الواجب المفروض عليه لكل ما في جواره أو كل ما في حوزته وحماه. فيعاب على الرجل منهم أن يهان حرمه كما يعيبه أن يعتدى عليه في كل محمى أو ممنوع، ومنه فرسه ودابته وبئره ومرعاه.
فإذا هانت المرأة فهي عار يأنف منه أهلوه أو حطام يورث مع المال والماشية؛ ومن خوف العار يدفن الرجل بنته في طفولتها، ويستكثر عليها النفقة التي لا يستكثرها على الجارية المملوكة والحيوان النافع، وكل قيمتها بين الذين يستحيونها ولا يقتلونها في طفولتها أنها حصة من الميراث تنقل من الآباء إلى الأبناء، وتباع وترهن في قضاء المنافع وسداد الديون، ولا يحميها من هذا المصير إلا أن تكون عزيزة قوم تعز بما يعز عندهم من ذمار وجوار. •••
جاء القرآن الكريم إلى هذه البلاد كما جاء إلى بلاد العالم كله بحقوق مشروعة للمرأة لم يسبق إليها في دستور شريعة أو دستور دين، وأكرم من ذلك لها أنه رفعها من المهانة إلى مكانة الإنسان المعدود من ذرية آدم وحواء، بريئة من رجس الشيطان ومن حطة الحيوان.
وأعظم من جميع الحقوق الشرعية التي كسبتها المرأة من القرآن الكريم لأول مرة أنه رفع عنها لعنة الخطيئة الأبدية ووصمة الجسد المرذول، فكل من الزوجين قد وسوس له الشيطان واستحق الغفران بالتوبة والندم:
فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه [البقرة: 36].
فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما [الأعراف: 20].
وكلاهما ظلم نفسه بذنبه :
قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [الأعراف: 23].
وليس على ذرية آدم وحواء من بنين وبنات جريرة تلحقهم بعد أبويهم أو تلحق أحدا من الأبناء بجريرة الآباء:
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون [البقرة: 134 و141].
وصح مكان المرأة في الحياة الجسدية كما صح مكانها في الحياة الروحية، بما فرضه القرآن الكريم على الإنسان من رعاية جسده، والمتعة الطيبة بخيرات أرضه ورغبات نفسه، فبرئت المرأة من لعنة الجسد، وارتفعت عن الوصمة التي علقت بها فجعلتها في خلقتها قرينة لشهوات الحيوان وحبائل الشيطان، ينجو من الشيطان من نجا منها، ويتنزه عن الحيوانية من تنزه عن النظر إليها.
لا جرم كان تصحيح النظر إلى مكان المرأة ناحية واحدة من نواح شتى في ذلك النظام الأدبي الشامل الذي يصحح النظر إلى حياة الروح وحياة الجسد، وإلى بواعث الخير والشر وإلى موازين التبعة والجزاء، وقوامه كله حق الوجود وحق المعيشة للكائن الحي من ذكر وأنثى ومن كبير وصغير، فلا يكتفي القرآن من المسلم باجتناب وأد البنات خشية الإملاق أو خشية العار؛ لأنها درجة لا تعدو أن تكون نجاة من ضراوة الوحشية لا ترتقي به إلى درجة الإنسان الأمين على حق الحياة، المؤمن بنصيب كل موجود من نعمة العيش والرعاية، بل يأبى القرآن للمسلم أن يتبرم بذرية البنات وأن يتلقى ولادتهن بالعبوس والانقباض:
وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون [النحل: 58، 59].
وتتساوى رعاية الإنسان لأبيه وأمه، كما تتساوى رعايته لبنيه وبناته، وقد تخص الأمهات بالتنويه في هذا المقام، فإذا وجب الإحسان للوالدين معا، فالوالدة هي التي تعاني من آلام الحمل والوضع ما لا يعانيه الآباء:
ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها [الأحقاف: 15].
وإنما يصدر الإنسان عن شريعة الواجب - لا عن شريعة المنفعة - في رعاية الذرية من الإناث كرعاية الذرية من الذكور فلا يفوت القرآن الكريم أن شريعة المنفعة قد تلجئ إلى قتل الرجال واستحياء النساء، كما ألجأت هذه الشريعة قوما إلى وأد البنات واستحياء البنين. وكلا المصابين بلاء يتقى، ووزر يحسب على جناته من الأمم ومن الحاكمين.
وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [البقرة: 49].
وفرعون هو الذي يقول مأخوذا بما قال:
سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون [الأعراف: 127].
فتلك إذن شريعة الواجب تفرض للمرأة من حق المعيشة وحق الرعاية، ما فرضته للرجل وللإنسان على الإجمال. وإنه لجدير بالالتفات أن «الإنسان» هو الموصى في القرآن الكريم بالإحسان إلى الوالدين؛ لأن الرجل هنا ينطوي في نوع الإنسان، وينبغي أن ينسى أنه أحد الجنسين المختلفين. •••
على أن الآية الكبرى في وصاية القرآن بالأنثى أنها وصاية وجبت دون أن يوجبها عمل من النساء، ولا عمل من المجتمع، وأنها فرضت على المجتمع برجاله ونسائه فرضا لم يطلبه هؤلاء أو هؤلاء، وتلك وصاية لم يحدث لها نظير قط فيما تقدم من الشرائع قبل دعوة الإسلام.
إن تخويل البنت حقها من الميراث عند انقطاع الذرية من الأبناء - كما وجب في شريعة التوراة - إنما هو حكم من أحكام الضرورة لا منصرف عنه لو شاء ولاة الأمر أن يصرفوه إلى غير هذا الوجه المحتوم، وقد سمح به للمرأة - مع هذا - على شرط يقيد الحق ويخضعه للحجر عليه. فلا تتزوج المرأة صاحبة الميراث من غير رجال الأسرة، ولا تلبث أن تأخذ حصتها من هنا حتى تردها في بيتها إلى رجل من الرجال. فالميراث هنا حق لم تنله المرأة، ولم ينلها المجتمع إياه، ولا محل فيه من عمل الشريعة، إلا أنه عمل الضرورة الذي لا حيلة فيه.
وقد يكون للمجتمع عمل قضت به أحوال المعيشة في الحضارة الوحيدة التي بوأت المرأة من الرعاية، وهي الحضارة المصرية القديمة. ولكنه كذلك مما يئول إلى حكم الضرورة التي تسلسلت في أدوار التاريخ دورا بعد دور.
ومن ضرورات هذه الأدوار التاريخية أن تحتفظ الأسرة الحاكمة بالعرش أيا كان الوريث من الذكور أو الإناث، ومن ضروراتها أن الأرض المزروعة تملك وتوزع على الدوام بعد فيضان النيل، ولا تخرج من نطاق الأسرة التي تملكها عاما بعد عام.
ومن ضروراتها أن تقسيم العمل بين الجنسين في غير مسائل الحرب تدبير لا محيص عنه في بلاد الزراعة العريقة، فلا يتأتى للرجال منفردين أن يضطلعوا بجميع تلك الأعمال. وكل داع من هذه الدواعي الاجتماعية قد تفردت مصر به على حالة لم تعهد في غيرها من بلاد الحضارات القديمة، فكان لها جميعا أثرها في رعاية المرأة وتخويلها ما تميزت به ربة الأسرة المصرية من الحقوق.
وفي كلتا الشريعتين وجب للمرأة حقها الكثير أو القليل بحكم الضرورة التي لا منصرف عنها، ولكن الوصايا القرآنية لم تكن لها قط ضرورة ملزمة من عمل النساء ولا من عمل المجتمع ولم تطالب بها المرأة، ولا اختارها الرجل لسائر النساء ولا لأقربهن إليه.
فمن أين صدرت تلك الوصايا التي كان للشرع منصرف عنها، وأي منصرف؟ وكان الاختيار فيها أن تترك وتنسى ولو آل بها الأمر إلى آراء الولاة في الأسرة وفي الحكومة؟
مصدرها الهداية الإلهية قبل أن يهتدي إليها الذين فرضت عليهم، فتقبلوها وهم يعلمون أو لا يعلمون.
الفصل السادس
الحجاب
من الأوهام الشائعة بين الغربيين أن حجاب النساء نظام وضعه الإسلام، فلم يكن له وجود في الجزيرة العربية ولا في غيرها قبل الدعوة المحمدية، وكادت كلمة المرأة المحجبة عندهم أن تكون مرادفة للمرأة المسلمة، أو المرأة التركية التي حسبوها زمنا مثالا لنساء الإسلام؛ لأنهم رأوها في دار الخلافة.
وهذا وهم من الأوهام الكثيرة التي تشاع عن الإسلام خاصة بين الأجانب عنه، وتدل على السهولة التي يتقبلون بها الإشاعات عنه، مع أن العلم ببطلانها لا يكلفهم طول البحث والمراجعة، ولا يتطلب منهم شيئا أكثر من قراءة الكتب الدينية التي يتداولونها وأولها كتب العهد القديم وكتب الأناجيل.
فمن يقرأ هذه الكتب يعلم - بغير عناء كبير في البحث - أن حجاب المرأة كان معروفا بين العبرانيين من عهد إبراهيم عليه السلام، وظل معروفا بينهم في أيام أنبيائهم جميعا إلى ما بعد ظهور المسيحية، وتكررت الإشارة إلى البرقع في غير كتاب من كتب العهد القديم وكتب العهد الجديد.
ففي الإصحاح الرابع والعشرين من سفر التكوين عن «رفقة» أنها رفعت عينيها فرأت إسحاق «فنزلت عن الجمل وقالت للعبد: من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائي؟ فقال العبد: هو سيدي! فأخذت البرقع وتغطت».
وفي الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر التكوين أيضا أن تامار: «مضت وقعدت في بيت أبيها. ولما طال الزمان خلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلففت ...».
وفي النشيد الخامس من أناشيد سليمان تقول المرأة: «أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى عند الظهيرة؟ ولماذا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك؟»
وفي الإصحاح الثالث من سفر أشعيا أن الله سيعاقب بنات صهيون على تبرجهن والمباهاة برنين خلاخيلهن بأن «ينزع عنهن زينة الخلاخيل والضفائر والأهلة والحلق والأساور والبراقع والعصائب».
ويقول بولس الرسول في رسالة كورنثوس الأولى: إن النقاب شرف للمرأة «فإن كانت ترخي شعرها فهو مجد لها لأن الشعر بديل من البرقع ...».
وكانت المرأة عندهم تضع البرقع على وجهها حين تلقى الغرباء وتخلعه حين تنزوي في الدار بلباس الحداد.
فلا حاجة إلى التوسع في قراءة التاريخ للعلم بأن نظام الحجاب سابق لظهور الإسلام؛ لأن الكتب الدينية التي يقرؤها غير المسلمين، قد ذكرت عن البراقع والعصائب ما لم يذكره القرآن الكريم، ولم يكن البرقع مما ذكره القرآن الكريم فيما أمر به من الحجاب. •••
فإذا بحث القوم عن تاريخ الحجاب في غير الكتب الدينية، فالكتب المخصصة لهذا البحث مملوءة بأخبار الحجاب الذي كان يتخذ لستر المرأة أو يتخذ للوقاية من الحسد، ويشترك فيه الرجال والنساء بعض الأحيان. وأخبار البرقع جزء من الأخبار المستفيضة عن حجاب العزلة في المنازل، وخارج المنازل، في الطرقات والأسواق، وقد كان اليونان ممن فرض هذه العزلة على نسائهم، وكان الرومان - على ترخصهم في هذا الأمر - يسنون القوانين التي تحرم على المرأة الظهور بالزينة في الطرقات قبل الميلاد بمائتي سنة ، ومنها قانون عرف باسم «قانون أوبيا
Lex Oppia » يحرم عليها المغالاة بالزينة حتى في البيوت.
ولقد غلا المترفون من الأقدمين في حالي الحجاب والتسريح فحجبوا المرأة ضنا بها، وسرحوها هوانا عليهم لأمرها، وأوشك إعزازها أن يكون شرا عليها من هوانها. فإذا عزت عندهم فهي طير حبيس في قفص مصنوع من معدن نفيس أو خسيس، وإذا هانت عليهم سرحوها ليبتذلوها في خدمة كخدمة الدابة المسخرة، حريتها الموهومة ضرورة من ضرورات التسخير والاستعباد! •••
جاء الإسلام والحجاب في كل مكان وجد فيه تقليد سخيف وبقية من بقايا العادات الموروثة. لا يدرى أهو أثرة فردية أو وقاية اجتماعية، بل لا يدرى أهو مانع للتبرج وحاجب للفتنة، أم هو ضرب من ضروب الفتنة والغواية. فصنع الإسلام بالحجاب ما صنعه بكل تقليد زال معناه، وتخلفت بقاياه بغير معنى. فأصلح منه ما يفيد ويعقل، ولم يجعله كما كان عنوانا لاتهام المرأة، أو عنوانا لاستحواذ الرجل على ودائعه المخفية، بل جعله أدبا خلقيا يستحب من الرجل ومن المرأة، ولا يفرق فيه بين الواجب على كل منهما، إلا لما بين الجنسين من فارق في الزينة واللباس والتصرف بتكاليف المعيشة وشواغلها.
فالمؤمنون مطالبون بأن:
يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم [النور: 30].
والمؤمنات مطالبات بذلك:
وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون [النور: 31].
وقد نهى الرجال عن الزينة المخلة بالرجولة، ونهى النساء عن مثلها:
وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى [الأحزاب: 33].
والمفهوم من هذا النهي لم يختلف عليه أحد من المخاطبين به، ولا من المفسرين لآيات الكتاب . يقول الكشاف وهو من التفاسير المتقدمة: «فإن قلت: لم سومح مطلقا في الزينة الظاهرة؟ قلت: لأن سترها فيه حرج، فإن المرأة لا تجد بدا من مزاولة الأشياء بيدها ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها، وخاصة الفقيرات منهن. وهذا معنى قوله:
إلا ما ظهر منها
يعني: إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره، والأصل فيه الظهور. وإنما سومح في الزينة الخفية أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم، ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم، ولما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك.»
والمتأخرون من المفسرين على مثل ذلك الفهم للزينة التي يجوز إظهارها، ومن أحدثهم الأستاذ طنطاوي جوهري صاحب تفسير الجواهر؛ حيث يقول: «إلا ما ظهر منها عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم والكحل والخضاب في الكف وكالوجه والقدمين، ففي ستر هذه الأشياء حرج عظيم، فإن المرأة لا تجد بدا من مزاولة الأشياء بيديها ومن الحاجة إلى كشف وجهها، لا سيما في مثل تحمل الشهادة والمعالجة والمتاجرة وما أشبه ذلك، وهذا كله إذا لم يخف الرجل فتنة، فإن خافها غض بصره.»
والمفهوم من الحجاب على هذا واضح بغير تفسير، فليس المراد به إخفاء المرأة وحبسها في البيوت؛ لأن الأمر بغض الأبصار لا يكون مع إخفاء النساء وحبسهن وراء جدران البيوت وتحريم الخروج عليهن لمزاولة الشئون التي تباح لهن، ولم يكن الحجاب كما ورد في جميع الآيات مانعا في حياة النبي عليه السلام أن تخرج المرأة مع الرجال إلى ميادين القتال، ولا أن تشهد الصلاة العامة في المسجد، ولا أن تزاول التجارة ومرافق العيش المحللة للرجال والنساء على السواء، ومهما يكن من عمل تزاوله المرأة في مصالحها اللازمة، فلا عائق له من الحجاب الذي أوجبه القرآن الكريم، ولا غضاضة عليها فيه؛ لأنه يطلب من الرجل فيما يناسبه كما يطلب منها فيما يناسبها.
ومن الحسن أن نذكر أن الأمر بالقرار في البيوت إنما خوطب به نساء النبي عليه السلام، لمناسبة خاصة بهن لا تعرض لغيرهن من نساء المسلمين، ولهذا بدئت الآية بقوله تعالى:
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء [الأحزاب: 32]. ثم اقترن هذا الأمر بأمر آخر يعم الرجال الذين يفدون على النبي، فيدخلون مسكنه بغير استئذان وفيه زوجاته رضوان الله عليهن، غير قارات في بيوتهن من المسكن الشريف، فيدخل الزائرون ويخاطبون آله على غير إذن منهن؛ ولذلك نهى الزائرون أن يدخلوه حتى يؤذن لهم:
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما [الأحزاب: 53].
وهذا أدب من آداب الزيارة ينبغي أن يتأدب به الزوار كيفما كانت تقاليد الحجاب في غير البيوت.
فلا حجاب إذن في الإسلام بمعنى الحبس والحجر والمهانة، ولا عائق فيه لحرية المرأة؛ حيث تجب الحرية وتقضى المصلحة، وإنما هو الحجاب مانع الغواية والتبرج والفضول، وحافظ الحرمات وآداب العفة والحياء.
وما من ديانة ولا شريعة يحمد منها أن تأذن بالتبرج ولا تنهى عنه، أو يحمد منها أن تغضي عنه، ولا تفرض له أدبا يهذبه ويكف أذاه.
فمثل هذا التبرج في الجاهلية الأولى هو الذي منعه الرومان بقانون، وتغاضوا عنه يوم تغاضوا عن الفتن والملذات التي أطاحت بالدولة وأعقبت العالم سآمة من نزوات الجسد جاوزت حدودها، وأوشكت أن تنقلب من نقيض الإباحة لكل شيء إلى نقيض الحرمان من كل شيء.
ومثل هذا التبرج هو الذي توعده النبي أشعيا بالدمار الذي يعصف بالزينة فلا يبقى لها باقية، فقال: «من أجل أن بنات صهيون يتشامخن ويمشين ممدودات الأعناق غامزات بعيونهن، خاطرات في مشيهن، يخشخشن أرجلهن - يصلع السيد هامة بنات صهيون ويعري الرب عورتهن، وينزع السيد في اليوم زينة الخلاخيل والضفائر والأهلة والحلق والأساور والبراقع والعصائب والسلاسل والمناطق وخناجر الشمامات والأحراز وخزائم الأنوف.»
ومثل هذا التبرج هو الذي تمنعه جميع الشرائع على الورق؛ حيث تسميه «التهتك» أو تسميه الإخلال بناموس الحياء، ثم لا تفلح في منعه؛ لأنها تمنعه بعصا القانون ولا تمنعه بوازع الوجدان والإيمان.
الفصل السابع
حقوق المرأة
بنيت حقوق المرأة في القرآن الكريم على أعدل أساس يتقرر به إنصاف صاحب الحق، وإنصاف سائر الناس معه، وهو أساس المساواة بين الحقوق والواجبات.
فالمساواة ليست بعدل إذا قضت بمساواة الناس في الحقوق على تفاوت واجباتهم وكفاياتهم وأعمالهم، وإنما هي الظلم كل الظلم للراجح والمرجوح. فإن المرجوح يضيره ويضير الناس معه أن يأخذ فوق حقه، وأن ينال فوق ما يقدر عليه، وكل من ينقص من حق الراجح يضيره؛ لأنه يغل من قدرته، ويضير الناس معه؛ لأنه يحرمهم ثمرة تلك القدرة، ويقعدهم عن الاجتهاد في طلب المزيد من الواجبات، مع ما يشعرون به من بخس الحقوق.
والمشترعون المحدثون يصلحون عيب المساواة المطلقة بما يدعونه مساواة في الفرصة، وهو إصلاح مطلوب في تقدير العدالة الاجتماعية، عند معرفة الفرصة واحتمال الاختلاف فيها على حسب اختلاف الأفراد والأحوال. ولكن الاحتياط بمساواة الفرصة عبث عند اختلاف الجنسين واختلاف وظيفة كل منهما بحكم الفطرة ونتائجها في العلاقات الاجتماعية. فلا محل هنا لتعليق المساواة بالفرصة السانحة؛ إذ كانت الفرصة هنا مقرونة بأوضاع الطبيعة التي لا تبديل فيها. فليست هنالك فرصة تنتظرها المرأة تبدل من وظائفها، ومن نتائج هذه الوظيفة في واجباتها الفطرية والاجتماعية، وليست هنالك فرصة تسوي بين الرجل والمرأة؛ حيث لا مساواة بينهما في تركيب البنية ولا في خصائص التركيب.
وليس من العدل أو من المصلحة أن يتساوى الرجال والنساء في جميع الاعتبارات، مع التفاوت بينهم في أهم الخصائص التي تناط بها الحقوق والواجبات.
وبين الرجال والنساء ذلك التفاوت الثابت في الأخلاق الاجتماعية، وفي الأخلاق الفطرية، وفي مطالب الأسرة، ولا سيما مطالب الأمومة وتدبير الحياة المنزلية .
فمن الثابت أن المرأة لم تستقل في حياة النوع كله بالقوامة على الأخلاق الاجتماعية، ولم يكن لها العمل الأول قط في إنشاء قيم العرف والآداب العامة، ولم يكن خلقها مستمدا من الغريزة، فهو في الجانب الاجتماعي منه خاضع لقوامة الرجل وإشرافه فيما هو أقرب الأمور بها، وألصقها بتكوينها، وأبرزها بالنسبة إليها خلق الحياء، وخلق الحنان، وخلق النظافة التي تشمل الزينة بأنواعها. •••
ومن الثابت كذلك أن الأخلاق الفطرية في المرأة عرضة للتناقض الذي لا مناص منه بين مطالب الأنوثة، ومطالب الكائن الحي في البيئة الاجتماعية، فلا مناص من التناقض بين شعور الأنثى التي تحس أكبر السعادة في الاستكانة إلى الرجل الذي تنضوي إليه لما تأنسه فيه من القوة والغلبة، وبين شعور الفرد الذي يبلغ تمامه بالاستقلال عن كل فرد يفتئت على حدوده الشخصية. ولا مناص من التناقض بين فرح الأم بتمام أنوثتها ساعة الولادة وبين فزع الكائن الحي من الخطر على حياته، ويقرب منه التناقض بين اكتفاء وظيفة النوع عند حصول الحمل، وبين عبث الشهوة الجسدية لغير ضرورة نوعية. ولن يذهب هذا التناقض المتغلغل في أعماق البنية بغير أثره المحتوم في استقلال الخلق، وشعور الجد والصدق والصراحة.
وإذا صرفنا النظر عن التفاوت المستكن في الطباع، وتخيلنا لغير حجة معقولة أنه لا يمنع التسوية بين الجنسين في الكفايات والواجبات، فالتفاوت بعد ذلك مسألة من مسائل الوقت وتوزيع العمل بين كل منهما بما يقتضيه وقته المملوك له لأداء عمله. فليس لدى المرأة وقت يتسع لما يتسع له وقت الرجل من المطالب العامة، مع اشتغالها بمطالب الحمل والرضاع والحضانة وتدبير الحياة المنزلية.
ونظام الأسرة يستلزم تقرير الرئاسة عليها لواحد من الاثنين: الزوج أو الزوجة، ولا يغني عن هذه الرئاسة ولا عن تكاليفها، أن نسمي الزواج شركة بين شريكين متساويين، وتوفيقا بين حصتين متعادلتين. فإن الشركة لا تستغني عمن يتخصص لولايتها، ويسأل عن قيامها، وينوب عنها في علاقتها بغيرها. وليس من المعقول أن تتصدى الزوجة لهذه الولاية في جميع الأوقات؛ إذ هي عاجزة عنها على الأقل في بعض الأوقات، غير قادرة على استئنافها حين تشاء. •••
هذه الفوارق بين الجنسين تدخل في حساب الشريعة لا محالة عند تقرير الحقوق والواجبات بينهما، وتأبى كل مساواة لا تقوم على أساس المساواة بين الحق والواجب، وبين العمل والكفاية.
وهذه هي المساواة التي شرعها القرآن الكريم بين الرجل والمرأة، أو بين الزوج والزوجة، أو بين الذكر والأنثى، ولا صلاح لمجتمع يفوته العدل في هذه المساواة، ولا سيما المجتمع الذي يدين بتكافؤ الفرص ويجعل المساواة في الفرصة مناطا للإنصاف.
للمرأة مثل ما للرجل وعليها مثل ما عليه:
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف [البقرة: 228].
وكل منهما قوة عاملة في دنياه، يطلب منه عمله ويحق له جزاؤه:
أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى [آل عمران: 195].
ولكل منهما سعيه وكسبه:
للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن [النساء: 32].
ولا يختلفون في نصيب مقدور بغير التكاليف التي تفرض على الرجل وحده، فللذكر من الأبناء مثل حظ الأنثيين في الميراث:
يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [النساء: 11].
وكذلك نصيب الإخوة من رجال ونساء.
ومسوغ هذا التفاوت أن الأخ مسئول عن نفقة أخته، وأن الابن يعول من لا عائل لها من أهله، وأن رب البيت عامة هو الزوج أو الأب أو الرشيد من الأبناء والإخوة ومن إليهم، وتقرير وجوب السعي على الرجل أولى وأصلح من تقريره على المرأة التي يظلمها من يساويها به في واجبات السعي على المعاش، مع نهوضها بواجب الأمومة والحضانة وتدبير المعيشة المنزلية.
ويتفاوت الرجل والمرأة في غير الميراث في بعض مسائل الحقوق التي تتصل بالسعي والمعاش، ومنها مسألة الشهادة على الديون والمواثيق:
واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [البقرة: 282].
والشهادة في جميع الأحوال - كما نص عليها القرآن الكريم - عمل يعالج فيه الشاهد أن يتغلب على دخائل الحب والبغض ويتجنب الميل مع هواه:
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [النساء: 135].
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى [المائدة: 8].
والقضية في الشهادة هي قضية العدل وحماية الحق والمصلحة، ولها شروطها التي يلاحظ فيها المبدأ وضمان الحيطة على أساسه السليم. والمبدأ هنا - كما ينبغي أن تتحراه الشريعة - هو دفع الشبهة من جانب الهوى وما يوسوس به للنفس في أحوال المحبة والكراهة وعلاقات الأقربين والغرباء، وليس بالقاضي العادل من يعرض له هذا المبدأ، فيقضي بالمساواة بين الجنسين في الاستجابة لنوازع الحس، والانقياد لنوازع العاطفة، والاسترسال مع مغريات الشعور من رغبة ورهبة. فالمبدأ الذي ينبغي للقاضي العادل أن يرعاه هنا حرصا على حقوق الناس أن يعلم أن النساء لا يملكن من عواطفهن ما يملكه الرجال، وأنه يجلس للحكم ليحمي الحق، ويدفع الظلم، ويحتاط لذلك غاية ما في وسعه من حيطة؛ لأنه أمر لا يعنيه لشخصه، ولا يحل له أن يجعله سبيلا إلى تحية من تحايا الكياسة، أو مجاملة من مجاملات الأندية. وقديما كانت هذه التحايا والمجاملات تجري في ناحية من المجتمع، وتجري معها في سائر نواحيه ضروب من الظلم للمستضعفين والمستضعفات تقشعر لها الأبدان.
وعلى هذه السنة من تقرير المبادئ السليمة في شئون العدالة والمصلحة تجري شريعة القرآن الكريم؛ حيث تقتضي الحيطة لحماية البريء، وإنصاف المظلوم، وأن يزداد عدد الشهود من الرجال فلا يكتفي منهم بالشاهد والشاهدين، إمعانا في دفع الشك وتأويله - حيث وجد - لمصلحة المتهم، حتى تلزمه الإدانة بنجوة من الشكوك والشبهات.
ولقد يوجد من النساء من تقوم شهادة إحداهن بشهادة ألف رجل، ولقد يوجد من الرجال ألوف لا تقبل منهم شهادة، ولكن المشترع الذي يقول - لأجل ذلك: إن مزاج الرجل ومزاج المرأة سواء في الحس والعاطفة، يتقبل من مغالطة الواقع والضمير ما يبطل تشريعه وينحيه عن هذا المقام. •••
وليس من غرضنا في هذا الكلام على حقوق المرأة، أن نفصل الأعمال التي تجوز لها في المجتمع، فإنها - فيما نرى - لا تقبل الإحصاء، ولا تتشابه في المجتمعات، مع اختلاف الزمن وتباين الأحوال، وإنما نجتزئ في كلامنا هنا ببيان حكمة الاختلاف حيث وجد اختلاف الحقوق. فأما الأعمال المباحة للمرأة فهي الأعمال المباحة للرجل بغير تمييز، وكل ما تحاط به من حدود، أن تمضي على سواء الفطرة، فلا تخل بالقوامة الضرورية للمجتمع وللأسرة؛ إذ هي قوامة لا بد من تقريرها لأحد الجنسين، وليس من الطبيعي، ولا من المعقول أن يتساوى فيها الجنسان.
وبعد: فإن حقوق الإنسان المثالية أمل من آمال الطوبيات التي نترقبها في المستقبل، ولا نتبينها على جليتها في مجتمع من مجتمعات الأمم الحاضرة ولا الأمم الماضية، كائنا ما كان قسطها من الحضارة والمعرفة؛ لأن المجتمع الأمثل صورة متخيلة، لم يزل رواد الإصلاح أنفسهم يتلمسون إليه السبل ولا يتفقون عليها ولا على الغاية المنشودة التي تؤدي إليها.
بيد أننا نستطيع بغير تردد أن نفهم أن المجتمع الأمثل ليس هو المجتمع الذي تضطر فيه المرأة إلى الكدح لقوتها وقوت أطفالها.
وليس هو المجتمع الذي تعطل فيه أمومتها، وتنقطع لذاتها، وتنصرف إلى مطالبها وأهوائها.
وليس هو المجتمع الذي ينشأ فيه النسل بغير أمومة، وبغير أبوة، وبغير أسرة، كأنه محصول من محاصيل الزراعة التي تتولاها الدولة عن الجماعة البشرية. •••
وإذا اتخذنا حالة المرأة النافعة لنفسها ولنوعها مقياسا للمجتمع الأمثل، فخير ما يكون عليه هذا المجتمع - إذن - أن تكون المرأة فيه مكفولة المؤنة في أمومتها، وأن تكون لها كفاية الأم التي تؤهلها لتزويد الأمة بجيلها المقبل، على أصلح ما يرجى من سلامة البدن وسلامة الفكر والطوية.
وفي مثل هذا المجتمع تجري العلاقة بين الجنسين على سنة توزيع العمل وتقسيم الحقوق بالقسطاس؛ كل جنس يتكفل بما هو أوفق له وأقدر عليه، ويملك من الحقوق ما يحتاج إليه، ويتخلى عن العمل الذي لا يناسبه ولا يلجأ إليه إلا على اضطرار.
ومركز المرأة حيث أقامها القرآن الكريم، كفيل لها بكل ما يعوزها لتحقيق رسالتها الفطرية في هذا المجتمع المثالي على الوجه الأمثل.
ويحدث في المجتمعات الحاضرة أن تحول العوارض الكثيرة دون انتظام المجتمع على هذه السنة القويمة من توزيع الأعمال وتقسيم الحقوق، لاختلال أوضاعه السياسية والاقتصادية والنفسية، فيما يعم الرجال من جميع الطبقات ولا يخص المرأة وحدها بين حياة الأسرة والحياة العامة، فتضطر المرأة إلى الكدح لقوتها وقوت صغارها، وتعجز عن تكاليف الأمومة، وتدبير البيت، والمشاركة بحصتها من الحياة الزوجية. وهذه حالة خلل تتضافر الجهود لإصلاحها وتبديلها، ولا يصح أن تتضافر لإبقائها واستدامتها وإقامة الشرائع والقوانين لتثبيتها. وعلى هذا النحو تضافرت الجهود من قبل على إصلاح الخلل الذي كان يدفع بالأطفال إلى العمل لمعاونة الآباء والأمهات في تحصيل أقواتهم وضرورات معيشتهم، فعولج هذا الخلل بتحريم تشغيلهم، وعولج الخلل من قبيله بالحظر العاجل تارة وبالحظر المتراخي مع الزمن تارة أخرى، ولم تكن علة من علل هذا الخلل وأشباهه حجة على صلاحه وإقامته مقام الحق الذي يصان ولا يتبدل. •••
وقد تمضي السنون، بل تمضي القرون، قبل أن يستقر المجتمع الإنساني على الوجه الأمثل في حقوق المرأة خاصة، وفي حقوق أبنائه وبناته من الرجال والنساء على التعميم، وقد تلجأ المرأة غدا كما تلجأ اليوم إلى كسب الرزق ودفع الحاجة، والاعتصام بالعمل من الضنك والتبذل، فإذا سيقت المرأة إلى هذه المآزق، فليس في أحكام الإسلام حائل بينها وبين عمل شريف تزاوله المرأة الغربية. وليست كثرة العاملات في الغرب اليوم وقلتهن في الشرق لمانع من موانع الأحكام الإسلامية، وإنما هو الفارق بين مجتمع ومجتمع، وبين أطوار وأطوار، ومثل هذا الفارق كان على أقواه وأشده بين مجتمعات الغرب اليوم ومجتمعاته بالأمس. فندر عدد المشتغلات بالأعمال العامة بين الغربيات من قبل لأسباب اجتماعية واقتصادية، ويندر عدد المسلمات المشتغلات بها اليوم لأسباب كتلك الأسباب، وقد يطرأ عليها التبديل عجلا أو متمهلا على حسب الأحوال.
وفي وسع المرأة المسلمة التي تحرم قوامة البيت أن تزاول من العمل الشريف كل ما تزاوله المرأة في أمم الحضارة، فلها نصيبها مما اكتسبت ، ولها مثل الذي عليها بالمعروف، وذلك حقها الذي تملكه، كلما سيقت إليه أو كلما اختارته لمصلحتها، وذلك حقها في القرآن الكريم.
الفصل الثامن
الزواج
الزواج صلة شرعية بين الرجل والمرأة، تسن لحفظ النوع وما يتبعه من النظم الاجتماعية.
وشريعة الإسلام في نظام الزواج بهذه المثابة، شريعة تامة تحيط بجميع حالاته، وهي على أتمها في الجانب الذي يتناوله أشد النقد من قبل المخالفين للإسلام عامة، أو المخالفين فيه لنظام الزواج على التخصيص، ونريد به الجانب الذي ينص على إباحة تعدد الزوجات.
فالإسلام لم ينشئ تعدد الزوجات، ولم يوجبه، ولم يستحسنه، ولكنه أباحه في حالات يشترط فيها العدل والكفاية، ولا تحسب الشريعة الاجتماعية تامة وافية ببيان المباح والمحرم في جميع الحالات، إن لم تعرض لهذا الجانب من جانب الزواج، ولم تعتبره احتمالا من الاحتمالات، التي تحتاج إلى النص عليها بالإباحة أو التحريم.
فليس البحث هنا عن تعدد الزوجات هل هو واجب أو غير واجب، وهل هو من العلاقات المثالية أو من العلاقات التي تتخلف عن مقام المثل الأعلى في الأخلاق. فإن الشرائع لا تفرض للمثل الأعلى الذي يتحقق به الكمال، ولكنها تفرض لأحوال الضرورة كما تفرض لأحوال الاختيار، ويحسب فيها حساب ما يقبل على الرضى، وما يقبل على الكره. ولا بد فيه من حكم للشريعة تقتضيه عند الحاجة إليه.
فليس النص على إباحة تعدد الزوجات؛ لأنه واجب على الرجل أو مستحسن مطلوب، وإنما النص فيه لاحتمال ضرورته في حالة من الحالات. ويكفي أن تدعو إليه الضرورة في حالة بين ألف حالة، لتقتضي الشريعة بما يتبع في هذه الحالة ولا تتركها غفلا من النص الصريح.
ومن مخالفة الواقع أن يقال: إن هذه الحالة لا تعرض للناس في وقت من الأوقات، فإن مثلا واحدا من أمثلة كثيرة قد يجعل السماح بتعدد الزوجات أفضل الحلول، ويجعل كل حل سواه قسوة بالغة أو تعطيلا لأشرف الأغراض التي يشرع من أجلها الزواج.
فقد يحدث أن تصاب الزوجة بمرض عضال، يقعدها عن واجباتها الزوجية، ويفقدها وظيفة الأمومة، فإذا امتنع تعدد الزوجات في جميع هذه الحالات فلا محيص للزوج الذي عقمت زوجته، وعجزت عن تدبير بيتها، من تطليق تلك الزوجة، أو من الإبقاء على زواج فقد معناه، وبطل الغرض الأكبر منه للأسرة وللنوع، ولم يبق منه للرجل إلا تكاليف الخدمة البيتية التي تعوله وتعول زوجته بلا عقب ولا سكن يطمئن إليه. •••
فالسماح بتعدد الزوجات في هذه المشكلة البيتية حل مقبول أسلم وأكرم من نبذ المرأة المريضة، ومن إكراه الرجل على العقم والمشقة. وليس من موانع التشريع في أمثال هذه المشكلات، أن تكون فيه غضاضة على المرأة التي يبني الرجل بزوجة أخرى، مع بقائها في عصمته. فإن الغضاضة لاحقة بها في الطلاق، وليست الغضاضة التي تصيب الرجل المقسور على العقم واحتمال تكاليف الخدمة البيتية بالأمر الذي يسهو عنه التشريع، بل هي أولى بنظر الشريعة التي تقدس الزواج وتحفظ قوامه، إذ كان إهمالها إهمالا لحكمة الزواج، وإلغاء لمقصد الشارع من إبرام الصلة بين الزوجين، وتحريم الزنى والفسوق.
وقد يكون للرجل المتزوج قريبة لا يئويها غيره، ويكون لها نسل لا يرعاه الزوج الغريب عنها، فمن الحذلقة المرذولة أن يقال: إن الإحسان إليها بالصدقة أكرم لها من كفالتها في عصمته، ورضاها في هذه الحالة أولى بالتقديم من رضى زوجته التي تعميها الأثرة عن كل شعور غير شعورها، فكلتاهما امرأة، وكلتاهما إنسان يحق له العطف والحماية من الكدر والشقاء.
وليس بالنادر أن تمر بالأمم أزمات، يزيد فيها عدد النساء على عدد الرجال، كما يحدث في أعقاب الحروب والثورات، وقد يحدث في أعقاب الأوبئة التي تنتقل عدواها في المجامع العامة، فلا تتعرض لها المرأة كما يتعرض الرجل، وقد يحدث أن تكون زيادة عدد الإناث ظاهرة مطردة في كثير من الأنواع كما يقول بعض المشتغلين بعلم الأحياء، فإذا حدث هذا الاختلال في نسبة التساوي بين الجنسين، فليس لهذه المشكلة حل أسلم وأكرم من السماح بتعدد الزوجات؛ لأن المرأة التي لا تتزوج تعيش عيشة البطالة والفتنة، أو تكدح في طلب الرزق بعمل من الأعمال لا يتيسر لجميع النساء ، وتبتلى بالعقم في الحالتين.
وما من اعتراض على هذا الحل يبنيه المعترض على المبدأ الجد في علاج أدواء المجتمع، والإخلاص في تقدير مصائبه وآفاته. فإنهم يحسبون أن الحرص على كرامة بالمبدأ - الخيالي - كفيل لها بالصيانة، وكفيل للمجتمع بحل مشكلة الزواج، وما من أحد يعجز عن المغالاة بكرامة المرأة، وما ينبغي لها في عالم الخيال، ولكن كرامة المرأة في الحق وفي الواقع لا تساوي شيئا عند من يرتضي لها العقم، والابتذال، والإغضاء عن خلائل الزوج، وسراريه، ولا يأذن لها أن تؤثر الرضى بتعدد الزوجات على الرضى بكل هذه المساوئ والمحظورات، وهي صاحبة الحق في الاختيار بين الأمرين، فإنها لا تساق كرها إلى الزواج، إذا سمح الشارع بتعدد الزوجات، ولكنها تساق كرها إلى العقم والغواية إذا حرمه عليها الشارع، ولم يغلق دونها طريق الإسفاف والابتذال. فمن تعلل بحق المرأة، فليترك لها على الأقل أن تكون هي صاحبة الاختيار بين العلاقة المشروعة على علاتها، وبين العلاقة التي تحرم عليها في كل شريعة وكل دين. والواقع أن التشريع الذي يحرم تعدد الزوجات لا يحد من حرية الرجل بمقدار ما يحد من حرية المرأة؛ لأن الرجل لا يعدد زوجاته بغير مشيئة المرأة؛ فهذه المشيئة هي التي يقع عليها الحجر، ويفرض عليها القصور، أو تضرب عليها الوصاية من قبل الشارع، فلا ترجع إليها الحرية فيما ترتضيه.
وقد سكتت الشرائع الاجتماعية، قبل الإسلام، عن كل حكم من أحكام الزواج غير الحكم المفهوم من إباحته على إطلاقه بغير عدد محدود من الزوجات، أيا كانت نسبة العدد بين الجنسين، وقدرة الزوج على مؤنة البيت، وحالة المجتمع من توفير أسباب المعيشة البيتية. فلم تفرض شريعة منها أي فارق بين زواج وزواج، ولا بين حالة ممكنة وحالة متعذرة، أو بين حالة يحسن فيها الاكتفاء بالزوجة الواحدة، وحالة يبطل فيها مقصد الزواج بهذا الاكتفاء. وذلك هو النقص الذي تداركه الإسلام حين لمح الفوارق الكثيرة بين ظروف الزواج من وجهته الاجتماعية أو وجهته البيتية، فعرف الحالة المثلى للعلاقة الشرعية بين الرجل والمرأة ، كما عرف الحالة القاسرة التي يضطر إليها الزوج، وتضطر إليها الزوجة، ويضطر إليها المجتمع والشارع؛ لأنها أصلح من تعطيل الزواج، وأوفق من العزوبة والابتذال. •••
فالشرائع المدنية عامة قبل الإسلام كانت تبيح تعدد الزوجات واقتناء السراري بغير تحديد للعدد، ولا التزام بشرط من الشروط، غير ما يلتزمه الزوج من المؤنة والمأوى.
والشريعتان الدينيتان السابقتان للإسلام - وهما الإسرائيلية والمسيحية - مختلفتان في أحكام الزواج، وفي النظر إلى معناه وغايته من الوجهة الروحية.
فالشريعة الإسرائيلية أباحت تعدد الزوجات بمشيئة الزوج حسب رغبته واقتداره، ويفهم من أخبار العهد القديم أن داود وسليمان عليهما السلام - وهما ملكان نبيان - جمعا بين مئات الزوجات الشرعيات والإماء، ولم يلحق بهما اللوم إلا لما نسب إلى داود من الزواج بامرأة قائده «أوريا» بعد تعريضه للقتل في الحرب، وما نسب إلى سليمان من مطاوعته لإحدى زوجاته في إقامة الشعائر المخالفة للدين.
ففي الإصحاح الثاني عشر من سفر صمويل الثاني يقول النبي ناثان لداود: «أنا مسحتك ملكا على إسرائيل، وأنقذتك من يد شاول، وأعطيتك بيت سيدك ونساء سيدك، لماذا أخذت امرأة «أوريا» لك امرأة؟»
وفي الإصحاح الحادي عشر من سفر الملوك الأول أن الملك سليمان «أحب نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون: موآبيات وعمونيات وأورميات وصيدونيات وحيثيات ... فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة، وكانت له سبعمائة من النساء السيدات وثلاثمائة من السراري. فأمالت نساؤه قلبه.»
ويقول نيوفلد صاحب كتاب «قوانين الزواج عند العبرانيين الأقدمين»:
1 «إن التلمود والتوراة معا قد أباحا تعدد الزوجات على إطلاقه، وإن كان بعض الربانيين ينصحون بالقصد في عدد الزوجات، وإن قوانين البابليين وجيرانهم من الأمم التي اختلط بها بنو إسرائيل كانوا جميعا على مثل هذه الشريعة في اتخاذ الزوجات والإماء.» •••
ومما لاحظه معظم المؤرخين للنظم الاجتماعية بين العبرانيين وجيرانهم الشرقيين - كما لاحظه نيوفلد - أن إباحة تعدد الزوجات على إطلاقه، مصحوبة بإباحة التسري على أنواعه، وهي كثيرة كما يؤخذ من الأسماء التي كانت تطلق على النساء المملوكات في مصطلحات العهد القديم، فكان للرجل أن يملك ما يشاء بين أمة وسرية وجارية وعبدة وسبية من النساء المملوكات بالسبي أو الشراء. وقد يؤخذ من أعمالهن المنسوبة إليهن في كتب العبرانيين أنهن درجات مختلفات في المنزلة الاجتماعية والصفات الشرعية، ولكن الواحدة منهن قد تذكر باسم جارية في موضع، واسم أمة في موضع آخر، ويعود هذا - على الأرجح - إلى حالة المالك الذي يستطيع أحيانا أن يخصص للخدمة المنزلية خادمة غير السرية، ويحتاج أحيانا إلى استخدام السرية في أعمال البيت كلها مما تقوم به الزوجة عادة حيث لا توجد الجارية أو السرية. وأيا كان عمل النساء المملوكات فهن - بطبيعة الحال - لا يتساوين في المكانة الأدبية ولا في قيمة الثمن، ولا في صفات الجمال والذكاء، ومنهن من كانت تحل محل الزوجة العقيم برضى الزوجة، لتلد للرجل ذرية تتبناها تلك الزوجة، وتنتقل إليها حقوقها في الميراث، وتظل الجارية أم البنين في مقام وسط بين مقام ربة البيت والأمة المملوكة التي تباع وتشترى.
وكل هذه العلاقات بين الرجل ونساء بيته كانت تباح على إطلاقها، ولا يشرع لها قيد غير قيد الوثيقة الشرعية، سواء كانت وثيقة زواج أو وثيقة شراء.
وبقيت حقوق الزوجات، وأشباه الزوجات، على هذه الحال في الشرائع القديمة قبل الإسلام إلى زمن غير بعيد. •••
ثم جاءت المسيحية - وهي أكبر الديانات الكتابية بعد ديانات أنبياء بني إسرائيل - فلم تتوسع في التشريع الاجتماعي؛ لأنها نشأت في بيئة مكتظة بالشرائع، تستولي عليها الأمتان اللتان أسرفتا إسراف الغلو المفرط في سن القوانين، والارتباط بحروف «النواميس» فذكرت هذه الديانة الجديدة شيئا عن الزواج في ناحيته العبادية، أو في ناحيته التي تتصل بالعالم الآخر دون عالم الحياة الدنيا، ولم يرد في كتبها نص صريح بتحريم تعدد الزوجات، وإنما ورد في كلام بولس رسولها الكبير استحسان الاكتفاء بزوجة واحدة، لرجل الدين المنقطع عن مآرب دنياه، ذهابا إلى الرضى بأهون الشرين، وقياسا على أن ترك الزواج لمن استطاعه خير من الزواج.
وبقي تعدد الزوجات مباحا في العالم المسيحي إلى القرن السادس عشر، كما جاء في تواريخ الزواج بين الأوروبيين، ويقول وسترمارك
Westermarek
في تاريخه: «إن ديارمات
Diarmat
ملك أيرلندا كان له زوجتان وسريتان، وتعددت زوجات الملوك الميروفنجيين غير مرة في القرون الوسطى، وكان لشرلمان زوجتان وكثير من السراري، كا يظهر من بعض قوانينه أن تعدد الزوجات لم يكن مجهولا بين رجال الدين أنفسهم، وبعد ذلك بزمن كان فيلب أوف هيس، وفردريك وليام الثاني البروسي، يبرمان عقد الزواج مع اثنتين بموافقة القساوسة اللوثريين، وأقر مارتن لوثر نفسه تصرف الأول منهما، كما أقره ملانكتون
Melankton
وكان لوثر يتكلم في شتى المناسبات عن تعدد الزوجات بغير اعتراض، فإنه لم يحرم بأمر من الله، ولم يكن إبراهيم - وهو مثل المسيحي الصادق - يحجم عنه إذ كان له زوجتان. نعم إن الله أذن بذلك لأناس من رجال العهد القديم في ظروف خاصة، ولكن المسيحي الذي يريد أن يقتدي بهم يحق له أن يفعل ذلك متى تيقن أن ظروفه تشبه تلك الظروف، فإن تعدد الزوجات على كل حال أفضل من الطلاق. وفي سنة 1650 الميلادية - بعد صلح وستفاليا، وبعد أن تبين النقص في عدد السكان من جراء حروب الثلاثين - أصدر مجلس الفرنكيين بنورمبرج قرارا يجيز للرجل أن يجمع بين زوجتين. بل ذهبت بعض الطوائف المسيحية إلى إيجاب تعدد الزوجات، ففي سنة 1531 نادى اللامعمدانيون في مونستر صراحة، بأن المسيحي - حق المسيحي - ينبغي أن تكون له عدة زوجات، ويعتبر المورمون - كما هو معلوم - أن تعدد الزوجات نظام إلهي مقدس». •••
ومن المعلوم أن اقتناء السراري كان مباحا على إطلاقه كتعدد الزوجات، مع إباحة الرق جملة في البلاد الغربية، لا يحده إلا ما كان يحد تعدد الزوجات، من ظروف المعيشة البيتية، ومن صعوبة جلب الرقيقات المقبولات للتسري من بلاد أجنبية، وربما نصح بعض الأئمة بالتسري لاجتناب الطلاق في حالة عقم الزوجة الشرعية. ومن ذلك ما جاء في الفصل الخامس عشر من كتاب الزواج الأمثل للقديس أوغسطين، فإنه يفضل التجاء الزوج إلى التسري بدلا من تطليق زوجته العقيم.
وتشير موسوعة العقليين
Rationalist Eneyelopedia
إلى ذلك، ثم تعود إلى كلامها عن تعدد الزوجات فتقول: إن الفقيد الكبير جروتيوس دافع عن الآباء الأقدمين، فيما أخذه بعض الناقدين المتأخرين عليهم من التزوج بأكثر من واحدة؛ لأنهم كانوا يتحرون الواجب ولا يطلبون المتعة من الجمع بين الزوجات.
ويرى وسترمارك أن مسألة تعدد الزواج لم يفرغ منها بعد تحريمه في القوانين الغربية، وقد يتجدد النظر في هذه المسألة كرة بعد أخرى، كلما تحرجت أحوال المجتمع الحديث، فيما يتعلق بمشكلات الأسرة، فتساءل في كتابه المتقدم ذكره: «هل يكون الاكتفاء بالزوجة الواحدة ختام النظم ونظام المستقبل الوحيد في الأزمنة المقبلة؟» ثم أجاب قائلا: إنه سؤال أجيب على آراء مختلفة. إذ يرى سبنسر أن نظام الزوجة الواحدة هو ختام الأنظمة الزوجية، وإن كل تغيير في هذه الأنظمة لا بد أن يتأدى إلى هذه النهاية، وعلى نقيض ذلك يرى الدكتور ليبون
Lebon
أن القوانين الأوروبية سوف تجيز التعدد، ويذهب الأستاذ إهرنفيل
Ehrenfel
إلى حد القول بأن التعدد ضروري للمحافظة على بقاء «السلالة الآرية» ثم يعقب وسترمارك بترجيح الاتجاه إلى توحيد الزوجة إذا سارت الأمور على النحو الذي أدى إلى تقريره. •••
كذلك كانت أنظمة الزواج في العالم قبل الإسلام، وكانت بها - كما يرى - حاجة شديدة إلى الإصلاح والتقويم، وينحصر كلاهما في شريعة واجبة، تحد من الإباحة المطلقة، وتهدي إلى الزواج السوي، ولا تهمل مع هذه الهداية أن تقدر الضرورة التي تلجئ الزوج والزوجة، وقد تلجئ المجتمع كله، إلى حالة ليست بالسوية ولا بالمأثورة مع المشيئة والاختيار، ولكنها تقع في الحياة على كثرة أو على قلة، فلا يجوز أن تهملها الشريعة التي تقدر مصالح الناس في حياتهم الدنيا، وتحسب حسابها لحياتهم الدنيوية كما تحسبه لحياتهم الروحية.
وهذا الإصلاح المنتظر هو الإصلاح الذي جاء به الإسلام على أوفاه من جانب التشريع.
جاء الإسلام فلم ينشئ تعدد الزوجات، ولم يوجبه، ولم يستحسنه، ولكنه أباحه وفضل عليه الاكتفاء بالزوجة الواحدة، وفضله على تعطيل الزواج في مقصده الطبيعي والشرعي، بقبول العقم، والتعرض للغواية، وفرض العزوبة - وهي تجمع بين العقم والعزوبة معا - على كثير من النساء عند اختلال النسبة العددية بين الجنسين.
ونزيد على ذلك أنه حفظ للمرأة حريتها التي يتشدق بها نقاد الشريعة الإسلامية في أمر الزواج؛ لأن إباحة تعدد الزوجات لا يحرم المرأة حريتها، ولا يكرهها على قبول من لا ترتضيه زوجا لها، ولكن تحريم التعدد يكرهها على حالة واحدة، لا تملك غيرها، حين تلجئها الضرورة إلى الاختيار بين الزواج بصاحب زوجة، وبين عزوبة لا يعولها فيها أحد، وقد يعجزها أن تعول نفسها.
واشترط القرآن الكريم العدل بين الزوجات في حالة التعدد على أن لا يزيد عددهن عن أربع:
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة [النساء: 3].
ثم ذكر الرجال بصعوبة العدل عسى أن يتريثوا قبل الإقدام على الحرج:
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم [النساء: 129].
ولا نحسب أن الأمر في تحديد عدد الزوجات بأربع يدعو إلى سؤال من أحد يمارس حدود التنصيص في الشريعة. فإن التحديد يقتضي الوقوف عند حد متعارف عليه. وما من سبب يقتضي أن يكون عدد الكتيبة في الجيش مائة، ولا يكون تسعة وتسعين، أو مائة وواحدا، إلا جاز لهذا السبب نفسه أن يكون العدد أكثر من ذلك، أو أقل من ذلك، بغير فارق في التنفيذ، وما من سبب يقتضي أن تكون درجة النجاح في الامتحان خمسين، ولا يقتضي كذلك أن يجعلها ستين أو أربعين. وإنما يجب الوقوف عند حد معلوم، ويقتضي ذلك الحد أن يكون العدد أقرب إلى الغرض المطلوب.
وعند حسبان الزيادة الراجحة في عدد النساء بالنسبة للرجال، لا يجدي أن يكون الحد اثنتين وحسب؛ إذ إن الرجال لا يتساوون في القدرة على أعباء الزواج كيفما كان عدد الزوجات؛ فمنهم من يعييه أن يعول زوجة واحدة، ومنهم من لا يعييه أن يعول كثيرات، وليست أقسام الرجال على حسب هذه القدرة معلومة لولاة الأمر المشرفين على صيانة الحدود، فلا مناص من حسبان من يستطيع تكاليف الزوجات الثلاث والأربع إلى جانب الذي يعييه تكاليف الزوجة والزوجتين، وهذه موازنة ينتهي عندها الحد المعقول، متى كان من الواجب أن تنتهي إلى حد معقول. •••
وحسب الشريعة أن تقيم الحدود وتوضح الخطة المثلى بين الاختيار والاضطرار، وأما ما عدا ذلك من التصرف بين الناس، فشأنه شأن جميع المباحات التي يحسن الناس وضعها في مواضعها، أو يسيئون العمل والفهم فيها على حسب أحوال الأمم والمجتمعات من الارتقاء والهبوط، ومن المعرفة والجهل، ومن الصلاح والفساد، ومن الرخاء والشدة، ومن وسائل المعيشة على التعميم.
فالمباحات الاجتماعية والفردية كثيرة تأذن بها الشريعة، ولكنها لا تأخذ بأيدي الناس ليحسنوا تناولها والتصرف فيها، فليس أكثر من الطعام المباح، وليس أكثر من أضرار الطعام بمن يستبيحونه على غير وجهه، وبالزيادة أو النقص في مقداره، وبالخلط بين ما يصلح منه للسليم وما يصلح للمريض، وما يطيب منه في موعد ولا يطيب في موعد سواه، وإنه لمن الشطط على الشرائع - وعلى الناس - أن ننتظر من الشارع حكما قاطعا في كل حالة من هذه الحالات؛ لأن الضرر من فرضها على من يتولاها بغير بصيرة أوخم وأعظم من تركها للتجربة والاختبار.
إن الممنوع من تعدد الزوجات لا حيلة فيه للمجتمع إلا بنقض بناء الزواج، وإهدار حرماته، جهرة أو في الخفاء.
أما المباح من تعدد الزوجات فالمجتمعات موفورة الحيلة في إصلاح عيوبه على حسب أحوالها الكثيرة من أدبية ومادية، ومن اعتدال أو اختلال في تكوين أسرها وعائلاتها وسائر طبقاتها.
فالتربية المهذبة كفيلة بالعلاقة الصالحة بين الزوج والزوجة، فلا يحمد الزوج نفسه علاقة بينه وبين امرأته لا تقوم على العطف المتبادل، والمودة الصريحة، والمعاونة الثابتة في تدبير الأسرة، ولا يتهيأ له جو البيت على المثال الذي يرتضيه مع زوجتين تدعوه إلى الجمع بينهما داعية من دواعي الأثرة والانقياد للنزوات.
وقد ينشأ المانع لتعدد الزوجات في حالتي الغنى والفقر على السواء؛ فالغني يستطيع أن ينفق على بيوت كثيرة، ولكنه لا يستطيع أن يجد غنيا مثله يعطيه بنته، ليجمع بينها وبين ضرة تنازعها، ولو اعتزلتها في معيشة أخرى، وقد يشق عليه أن ينفق على الزوجات الغنيات بما تتطلبه هذه النفقة من السعة والإسراف، وإذا وجد النساء الفقيرات فلعلها حالة لا تحسب إذ ذاك من أحوال الاضطرار بالنسبة لمن يقبلن عليها من الزوجات.
والفقير قد يحتاج إلى كثرة النساء والأبناء لمعاونته على العمل - ولا سيما العمل الزراعي - ولكنه يهاب العالة ويحجم عما يجهده من تحصيل النفقة والمأوى.
والمجتمع يحق له أن يشترط الكفاية في الزوج لتربية أبنائه، ويتوخى لذلك دستورا يحافظ على حرية الرجال والنساء، ولا يخل بحقوقهم في التراضي على الزواج متى اتفقت رغبتهم عليه، وليس من العسير تسويغ ذلك الدستور من جانب المجتمع، لأن الأزواج المقصرين يجنون عليه، ويحملونه تبعات كل كفالة للأبناء، يعجز عنها الآباء والأمهات. •••
ومن حسنات السماح بتعدد الزوجات عند الضرورة، أن يكون ذريعة من ذرائع المجتمع لدفع غوائل العيلة والفاقة عند اختلال النسبة العددية بين الجنسين، فإذا كان هذا العارض من العوارض التي يخطر لرجل في علم «ليبون» أنه يستلزم سن القوانين لتداركه، فليس افتراضه في الشريعة باطلا يقضى عليه بالعبث في جميع الظروف، ويحق للمجتمع أن يرجع إليه في تقدير تلك الظروف، فلا تصطدم عقائد الدين ودواعي المصلحة بين جيل وجيل.
إن قضية الزواج إحدى القضايا الإنسانية الكبرى التي يتم اعتدالها بين الدين والدنيا، فلا غنى عن وازع الدين في أمر يتعلق بالفضائل الجنسية، ولا غنى عن شروط المجتمع في أمر يتعلق بالمعائش والمعاملات، وقد كان لأحكام القرآن شرعتها الحميدة - على ما تقدم - في التوفيق بين مهمة المجتمع ومهمة الدين.
وقبل الانتهاء من هذا البحث نقول: إننا قد أوردنا فيه حقوق الشرع التي يدان بها الرجل والمرأة في زواج الاختيار وزواج الاضطرار، وبقي أن نختمه ببيان حق واحد للمرأة وجيز متفق عليه، نأتي به بعد تلخيص تلك الحقوق؛ لأنه يوازنها جميعا ويرجع بالأمر كله إلى حرية المرأة في إبرام عقد الزواج، فكل عقد من عقود الزواج باطل إذا أنكرته المرأة، وشكت إلى ولي الأمر إكراهها عليه. وفي الحديث الشريف: «إن الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وإذنها سكوتها.» وفيه أيضا: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن.»
وقد أبطل عليه السلام عقدا أبرم على كره من فتاة بأمر أبيها، إيثارا لتزويجها من ابن أخيه على تزويجها من غريب عنها، فاستدعى الرسول أباها فجعل الأمر إليها، فقالت الفتاة: «إنني أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء.»
ونقض النبي غير هذا - كما نقض الخلفاء - عقودا كثيرة، شكا فيها النساء إبرام عقد الزواج بغير مرضاتهن، بل نقضوا عقودا أبرمتها المرأة، ونفرت منها بعد العشرة الزوجية كما سيأتي في الكلام على الطلاق.
وإذا آل القول الأخير في إبرام عقد الزواج إلى المرأة، فالقوانين الاجتماعية تتحكم في حريتها ومصالحها التي ترتضيها لعائلتها وأبنائها، إذا ضربت عليها الوصاية كما تضرب على القاصر والقاصرة، وهي تزعم أنها تصون كرامتها وتحفظ عليها حريتها.
الفصل التاسع
زواج النبي
كان للنبي
صلى الله عليه وسلم
خصوصية في أمر تعدد الزوجات، جازت له قبل سريان حكم التقييد بعدد لا يزيد على أربع لسائر المسلمين.
وأمثال هذه «الخصوصية» ليست بالشيء النادر عند تأسيس النظم الاجتماعية قبل تمام الانتقال من نظام إلى نظام؛ لأنها استثناء توجبه مصلحة النظام الجديد ولا يتأتى شموله بالتعميم في جميع الأحكام.
ومن شروطه ألا يتكرر بعد أن يختص به للمرة الأولى، وللمرة الأخيرة؛ لأن تكراره يجعله نظاما قائما إلى جانب النظام الجديد.
وقد كانت خصوصية النبي عليه السلام مفردة مقصورة عليه غير قابلة للتكرار؛ لأنها ارتبطت بمصلحة الدعوة في إبانها. ولم يكن للدعوة رسول سواه، ولم يكن له غنى عن تلك الخصوصية في البلاد التي تأسست فيها الدعوة الأولى، وهي بلاد الأنساب وروابط المصاهرة والولاء بين الأسر والبيوت.
وقد تحتاج الحكمة في امتياز الرسول بتلك الخصوصية إلى شرح وإيضاح.
أما الحقيقة الواضحة التي لا حاجة بها إلى شرح ولا إيضاح فهي نزاهة تلك الخصوصية مما يعاب على الرجل أو على المرأة، وخلوصها من شوائب الهوى النفسي، ولو كان من السائغ المباح.
لم تكن تلك الخصوصية لتمكين صاحبها من المتعة والاستغراق في مناعم الحياة الجنسية؛ فإن البيت الذي يشكو نساؤه قلة المؤنة والزينة، لا يقال عنه: إنه بيت رجل تملكه أهواء نفسه وتغلبه على رشده. والرجل الذي يملك الجزيرة العربية، ولا يمد يده لاغتراف الثروة التي تكفي زوجاته، وتملي لهن في الترف والزينة، لن يكون رجلا مغلوب الحس منساقا مع غواية المتعة ووساوس الشهوات، وليس بالرجل المخلوق لطلب اللذة من ينهض بما نهض به نبي الإسلام من عظائم الأمور في مدى سنوات معدودات.
أما النساء اللائي اجتمعن في بيت النبي فلم تكن عليهن مهانة يشعرن بها، أو يشعر بها أحد من أترابهن، أو من عامة المسلمين، أغنيائهم وفقرائهم على السواء، بل كان دخول المرأة في عداد أمهات المؤمنين شرفا لا يعلوه شرف، ولا تطمع امرأة من أعرق البيوتات في كرامة حاضرة باقية أرفع من هذه الكرامة، التي تناظر بها سيدات العرب والعجم من أقدم العصور إلى آخر الزمان.
وقد تقدم أن سليمان الحكيم جمع بين ألف امرأة من الحرائر والإماء، كما جاء في كتب العهد القديم، ولعلهن اجتمعن في ذلك الحرم مأسورات مملوكات، ولعلهن رضين به رضى عن الترف والجاه، في قصر يعلو على القصور. أما نساء محمد عليه السلام فما أرضاهن عن المقام في بيته على الشظف والكفاف مال ولا جاه من جاه الأبهة والسلطان، وإنما هو جاه الروح ترتفع إليه المرأة بهدى الرسالة، ولا يرفعها إليه هدى سوى هداها. •••
وإذا تنزهت الخصوصية التي انفرد بها محمد عليه السلام عن مهانة تشين الرجل أو المرأة فقد ظهرت الحكمة فيها أيما ظهور، وامتنع كل وجه من وجوه تعليلها وتفسيرها، إلا أن تكون في سبيل الدعوة، لا في سبيل محمد ولا آل محمد، وإلا أن تكون تعليما بارزا لحكمة التشريع في تعدد الزوجات وهي تدعيم النظام الاجتماعي بالمصاهرة، وصيانة المرأة من الفتنة والمهانة.
فقد جمعت المصاهرة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا في رسالة واحدة هي رسالة الدين.
وقد كانت كل سيدة من أمهات المؤمنين تأوي إلى البيت الطاهر، فإنما تأوي إليه اعتصاما من الارتداد والوقوع في أيدي الحاقدين عليها من ذويها، أو تأوي إليه لإكرامها عن منزلة دون منزلتها ، أو عن عرضها على من يضارع أهلها ممن لا يرغبون فيها، وكان فيهن النصف، والعاقر، ومن لا مال لها، غير التأيم، أو العرض المستكره على أشراف القوم من أندادها ولا يخلو ذلك العرض من غضاضة عليها، لما يساورها من الظن بقبوله حياء من النبي وطاعة لأمره، وليس لإيثار النبي البناء بالسيدة على عرضها للزواج بين أصحابه غير سبب واحد يعقله المنصف والمكابر؛ لأنه لا يقبل الفهم المعقول على وجه آخر: وذلك هو جبر الخاطر، والبر بالمرأة المؤمنة أن ينتهي بها إيمانها إلى الحطة والهوان، ويكفي أن تسرد أسماؤهن وتذكر أحوالهن عند بناء النبي بهن، لتنقطع الظنة في أسباب كل زواج سهلته الخصوصية النبوية. «ولم يحدث قط أن اختار زوجة واحدة لأنها مليحة أو وسيمة، ولم يبن بعذراء قط إلا العذراء التي علم قومه جميعا أنه اختارها لأنها بنت صديقه وصفيه وخليفته من بعده أبي بكر الصديق رضي الله عنه». «هذا الرجل الذي يفتري عليه الأئمة الكاذبون أنه الشهوان الغارق في لذات حسه - وقد كانت زوجته الأولى تقارب الخمسين، وكان هو في عنفوان الشباب لا يجاوز الخامسة والعشرين وقد اختارته زوجا لها؛ لأنه الصادق الأمين فيما اشتهر به بين قومه من صفة وسيرة، وفيما لقبه به عارفوه وعارفو الصدق والأمانة فيه، وعاش معها إلى يوم وفاتها على أحسن حال من السيرة الطاهرة والسمعة النقية، ثم وفى لها بعد موتها فلم يفكر في الزواج حتى عرضته عليه سيدة مسلمة رقت له في عزلته فخطبت له السيدة عائشة بإذنه، ولم تكن هذه الفتاة العزيزة عليه تسمع منه كلمة لا ترضيها غير ثنائه على زوجته الراحلة ووفائه لذكراها». «وما بنى - عليه السلام - بواحدة من أمهات المسلمين لما وصفت به عنده من جمال ونضارة، وإنما كانت صلة الرحم والضن بهن على المهانة هي الباعث الأكبر في نفسه الشريفة على التفكير في الزواج بهن. ومعظمهن كن أرامل مؤيمات فقدن الأزواج أو الأولياء، وليس من يتقدم لخطبتهن من الأكفاء لهن إن لم يفكر فيهن رسول الله ». «فالسيدة سودة بنت زمعة مات ابن عمها المتزوج بها بعد عودتها من الهجرة إلى الحبشة، ولا مأوى لها بعد موته إلا أن تعود إلى أهلها، فيكرهوها على الردة أو تتزوج بغير كفء لها لا يريدها». «والسيدة هند بنت أمية - أم سلمة - مات زوجها عبد الله المخزومي، وكان أيضا ابن عمها، أصابه جرح في غزوة أحد فقضى عليه، وكانت كهلة مسنة فاعتذرت إلى الرسول عليه السلام بسنها، لتعفيه من خطبتها، فواساها قائلا: «سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك، وأن يخلفك خيرا» فقالت: «ومن يكون خيرا لي من أبي سلمة؟» وكان الرسول عليه السلام يعلم أن أبا بكر وعمر قد خطباها فاعتذرت بمثل ما اعتذرت به إليه، فطيب خاطرها، وأعاد عليها الخطبة حتى قبلتها». «والسيدة رملة بنت أبي سفيان تركت أباها وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة، فتنصر زوجها وفارقها في غربتها بغير عائل يكفلها، فأرسل النبي عليه السلام إلى النجاشي يطلبها من هذه الغربة المهلكة، وينفذها من أهلها إذا عادت إليهم راغمة من هجرتها في سبيل دينها، ولعل في الزواج بها سببا يصل بينه وبين أبي سفيان بوشيجة النسب، فتميل به من جفاء العداوة إلى مودة تخرجه من ظلمات الشرك إلى هداية الإسلام». «والسيدة جويرية بنت الحارث سيد قومه، كانت بين السبايا في غزوة بني المصطلق، فأكرمها النبي عليه السلام أن تذل ذلة السباء، فتزوجها وأعتقها وحض المسلمين على إعتاق سباياهم، فأسلموا جميعا وحسن إسلامهم، وخيرها أبوها بين العودة إليه والبقاء عند رسول الله، فاختارت البقاء في حرم رسول الله». «والسيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب مات زوجها، فعرضها أبوها على أبي بكر فسكت، وعرضها على عثمان فسكت، وبث عمر أسفه للنبي فلم يشأ أن يضن على صديقه ووليه بالمصاهرة التي شرف بها أبا بكر قبله، وقال له: يتزوج حفصة من هو خير لها من أبي بكر وعثمان». «والسيدة صفية الإسرائيلية بنت سيد بني قريظة خيرها النبي بين أن يردها إلى أهلها، أو يعتقها ويتزوجها، فاختارت البقاء عنده على العودة إلى ذويها ، ولولا الخلق الرفيع الذي جبلت عليه نفسه الشريفة، لما علمنا أن السيدة صفية قصيرة يعيبها صواحبها بالقصر، ولكنه سمع إحدى صواحبها تعيبها بقصرها، فقال لها ما معناه من روايات لا تخرج عن هذا المعنى: إنك قد نطقت بكلمة لو ألقيت في البحر لكدرته، وجبر خاطر الأسيرة الغريبة أن تسمع في بيته ما يكدرها ويغض منها». «والسيدة زينب بنت جحش - ابنة عمته - زوجها من مولاه ومتبناه زيد بن حارثة، فنفرت منه وعز على زيد أن يروضها على طاعته، فأذن له النبي في طلاقها. فتزوجها عليه السلام؛ لأنه هو المسئول عن زواجها، وما كان جمالها خفيا عليه قبل تزويجها بمولاه؛ لأنها كانت بنت عمته، يراها من طفولتها ولم تفاجئه بروعة لم يعهدها». «والسيدة زينب بنت خزيمة مات زوجها عبد الله بن جحش قتيلا في غزوة أحد، ولم يكن بين المسلمين القلائل في صحبته من تقدم لخطبتها، فتكفل بها عليه السلام؛ إذ لا كفيل لها من قومها». «وهذا هو الحريم المشهور في أباطيل المبشرين وأشباه المبشرين، وهذه هي بواعث النفس التي استعصى على المبطلين أن يفهموها على جليتها، فلم يفهموا منها إلا أنها بواعث إنسان غارق في لذات الحس، شهوان». «ولقد أقام هؤلاء الزوجات في بيت لا يجدن فيه من الرغد ما يجده الزوجات في بيوت الكثيرين من الرجال، مسلمين كانوا أو مشركين. وعلى هذا الشرف الذي لا يدانيه عند المرأة المسلمة شرف الملكات أو الأميرات، شقت عليهن شدة العيش في بيت لا يصبن من الطعام والزينة فوق الكفاف، والقناعة بأيسر اليسير، فاتفقن على مفاتحته في الأمر، واجتمعن يسألنه المزيد من النفقة، وهي موفورة لديه لو شاء أن يزيد في حصته من الفيء، فلا يعترضه أحد ولا يحاسبه عليه. إلا أن الرجل المحكم في الأنفس والأموال - سيد الجزيرة العربية - لم يستطع أن يزيدهن على نصيبه ونصيبهن من الطعام والزينة، فأمهلهن شهرا وخيرهن بعده أن يفارقنه، ولهن منه حق المرأة المفارقة من المتاع والحسنى، أو يقبلن ما قبله لنفسه معهن من ذلك العيش الكفاف ».
ولو أن هذا الخبر من أخبار بيت النبي كان من حوادث السيرة المحمدية التي تخفى على غير المطلعين المتوسعين في الاطلاع، لقد كان للمبطلين بعض العذر فيما يفترونه على نبي الإسلام من كذب وبهتان، إلا أنه خبر يعلمه كل من اطلع على القرآن ووقف على أسباب التنزيل، وليس بينها ما هو أشهر في كتب التفسير من أسباب نزول هذه الآيات في سورة الأحزاب:
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما [الأحزاب: 28، 29]. ••• «وأقل المبشرين المحترفين ولعا بالتفتيش عن خفايا السيرة النبوية، خليق أن يطلع على تفاصيل هذا الحادث بحذافيره؛ لأنه ورد في القرآن الكريم خاصا بالمسألة التي يتكالب المبشرون المحترفون على استقصاء أخبارها، وإحصاء شواردها، وهي مسألة الزواج وتعدد الزوجات. وقد كان لهذا الحادث الفريد في سيرة النبي صدى لم يبلغه حادث من الحوادث التي عنيت بها العشيرة الإسلامية حين كانت في بيئتها المحدودة، تحيط بإيمانها إحاطة الأسرة بأبيها». «حدث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كنا تحدثنا أن غسان تنتعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته، فرجع عشاء، فضرب بابي ضربا شديدا وقال: أثم هو؟ ففزعت فخرجت إليه، وقال: حدث أمر عظيم! قلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم منه وأطول، طلق النبي
صلى الله عليه وسلم
نساءه.» «ولما تألب ربات البيت يشكون ويلحفن في طلب المزيد من النفقة، لبث النبي في داره مهموما بأمره، وأقبل أبو بكر فوجد الناس جلوسا لا يؤذن لأحد منهم، فدخل الدار ولحق به عمر بن الخطاب، فوجد النبي واجما وحوله نساؤه، فأحب أبو بكر أن يسري عنه بكلمه يقولها، وكأنه فطن لسر هذا الوجوم من النبي بين نسائه المجتمعات حوله فقال: «يا رسول الله! لو رأيت بنت خارجة، سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها! فضحك النبي وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة. فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، ويقولان: تسألن رسول الله ما ليس عنده؟ فقلن: والله لا نسأل رسول الله شيئا أبدا ليس عنده».» «وهجر النبي نساءه شهرا، يمهلهن أن يخترن بعد الروية بين البقاء على ما تيسر له ولهن من الرزق، وبين الانصراف بمتعة الطلاق. وبدأ بالسيدة عائشة فقال: «إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب ألا تتعجلي فيه حتى تستشيري أبويك، فسألته: وما هو يا رسول الله؟ فعرض عليها الخيرة مع سائر نسائه في أمرهن. فقالت: أفيك يا رسول الله أستشير قومي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة.» وأجاب أمهات المسلمين بما أجابت به السيدة عائشة، وانتهت هذه الأزمة المكربة بسلام، وما استطاع صاحب الدار - وهو يومئذ أقدر رجل في العالم المعمور - أن يحل أزمة داره بغير إحدى اثنتين: أن يجمع النية على فراق نسائه، أو يقنعن معه بما لديهن من رزق كفاف». «أعن مثل هذا الرجل يقال: إنه حلس شهوات وأسير لذات؟» «أعن مثله يقال: إنه ابتغى من رسالته مأربا يبغيه الدعاة غير الهداية والإصلاح؟» «فيم كان هذا الشقاء بأهوال الرسالة وأوجالها من ميعة الشباب إلى سن لا متعة فيها، لمن صاحبه التوفيق والظفر أو لمن صاحبته الخيبة والهزيمة؟» «أتراه يريدها مخاطرا بأمته وحياته، مستخفا بالهجرة من وطنه والعزلة بين أهله، ليسوم نفسه بعد ذلك عيشة لا يقنع بها أقرب الناس منه وأعلاهم شرفا بالانتماء إليه؟» «أمن أجل الحس ولذاته يتزوج الرجل بمن تزوج بهن، وهو سيد الجزيرة العربية وأقدر رجالها على اصطفاء النساء الحسان من الحرائر والإماء؟» «وهل يتزوج بهن الشهوان الغارق في لذات الحس ليقتدين به في اجتراء الترف والزينة وخلوص الضمير للإيمان بالله وابتغاء الدار الآخرة؟» «وما مأربه من كل ذلك إن كان له مأرب في طويته غير مأربه في العلانية؟! وعلام يجاهد نفسه ذلك الجهاد في بيته وبين قومه إن لم يكن له رسالة يؤمن بها ولم تكن هذه الرسالة أحب إليه من النعمة والأمان؟!» «إن المبشرين المحترفين لم يكشفوا من مسألة الزواج في السيرة النبوية مقتلا يصيب محمدا، أو يصيب دعوته من ورائه، ولكنهم قد كشفوا منها حجة لا حجة مثلها في الدلالة على صدق دعوته، وإيمانه برسالته، وإخلاصه لها في سره، كإخلاصه لها في علانيته، ولولا أنهم يعولون على جهل المستمعين لهم لاجتهدوا في السكوت عن مسألة الزواج خاصة أشد من اجتهادهم في التشهير بها واللغط فيها».
وقصارى القول في الخصوصية النبوية أنها لم تكن «امتيازا» من امتياز القوة المسيطرة لتسخير المرأة في مرضاة خيلاء الرجل، وحبه للمتعة الجسدية، ولكنها كانت آية أخرى من معدن الأحكام القرآنية فيما تسفر عنه من عطف على المرأة وحياطة لها من مواقع الجور والإذلال.
الفصل العاشر
الطلاق
بني الطلاق، كما بني الزواج، في المجتمعات الأولى على عادات الفطرة؛ الذكر يطلب الأنثى ولا تطلبه، والرجل يخطب المرأة ولا تخطبه، والرأي في الترك لمن له الرأي في الطلب والخطبة، وعلى هذه العادة الفطرية درج نظام الطلاق مع الزواج باختيار الرجل وحده، وجرى القانون على ما جرى به العرف بعد قيام القوانين بعد المرحلة البدائية من مراحل الاجتماع.
ولم يتدخل المجتمع في مراسم الطلاق إلا بعد فترة طويلة، ظهرت في خلالها الحاجة إلى إثبات الطلاق في سجل محفوظ، لعلاقته بإثبات البنوة والميراث، وتقرير عقوبة الخيانة، وإجازة العودة إلى الزواج للمرأة التي انفصلت عن قرينها.
وفي هذه المرحلة تقررت مراسم الطلاق في شريعة العبرانيين، وكل ما اشترط فيها على الرجل أن يعطي امرأته المطلقة وثيقة بالتسريح، ولها أن تتزوج بغيره بعد ذلك، ولكنها لا تعود إلى زوجها الأول إذا طلقت من زوجها الثاني أو توفي عنها ذلك الزوج: وفصل ذلك في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر التثنية حيث يقول: «إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه؛ لأنه وجد فيها عيب شني وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها، وأطلقها من بيته، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر، فإن أبغضها الرجل الأخير وكتب لها كتاب طلاق، ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته ، أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها زوجة، لا يقدر رجلها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست؛ لأن ذلك رجس لدى الرب.»
وورد ذكر الطلاق على أسلوب مجازي في الإصحاح الثالث من كتاب أرميا حيث يقول، وهو يندد بإسرائيل: «إذا طلق رجل امرأته فانطلقت من عنده وصارت لرجل آخر فهل يرجع إليها بعد؟ ألا تتنجس تلك الأرض نجاسة؟»
وجرت مراسم الطلاق على حسب هذه الشريعة إلى ما بعد ظهور المسيحية؛ إذ روى إنجيل متى أن السيد المسيح سئل عن الطلاق فاستنكره لقسوته وقال: إن من طلق امرأته لغير الزنى جعلها تزني، ودفعه بالزوجة إلى اقتراف الرذيلة: «وقيل: من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق. وأما أنا فأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني.»
ويعود متى إلى حديث الطلاق في الإصحاح التاسع عشر فقال: «وجاء إليه الفرنسيون ليجربوه قائلين: هل يحل للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب؟ فأجاب وقال لهم: أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثى؟ وقال: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدا واحدا.»
وتعتمد طائفة كبيرة من أتباع الكنائس البروتستانتية على نص في رسالة كورنثوس الأولى لإجازة التفرقة بين الزوجين إذا طال هجر الرجل لامرأته. قال في الإصحاح السابع: «أقول لغير المتزوجين وللأرامل: إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا. ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا لأن التزوج أصلح من التحرق. وأما المتزوجون فأوصيهم - لا أنا بل الرب - ألا تفارق المرأة رجلها، وإن فارقته فلتلبث غير متزوجة أو لتصالح رجلها، أو لا يترك الرجل امرأته. وأما الباقون فأقول لهم - أنا لا الرب: إن كان أخ له امرأة غير مؤمنة وهي ترتضى أن تسكن معه فلا يتركها، والمرأة التي لها رجل غير مؤمن وهو يرضى أن يسكن معها فلا تتركه؛ لأن الرجل غير المؤمن مقدس في المرأة، والمرأة غير المؤمنة مقدسة في الرجل، وإلا فأولادكم نجسون، وأما الآن فهم مقدسون. ولكن إن فارق غير المؤمن فليفارق. ليس الأخ والأخت مستعبدا في مثل هذه الأحوال.»
ولقد تحول كثير من المسحيين في القارتين الأوروبية والأمريكية إلى نظام قانوني يجيز ثلاثة أحوال في حكم الطلاق، وهي إلغاء عقد الزواج، والتفرقة بين الزوجين، والفصل بينهما مع بقاء الصفة الشرعية للزواج، ويجوز للرجل والمرأة أن يتفقا على الانفصال، وتسوية المسائل المتعلقة بتربية الأبناء، والنفقة عليهم، وتمكين كل زوج من حرية التصرف في حياته، مع إسقاط حق الزوج الآخر في محاسبته فيما عدا الخيانة الزوجية، وتبرم المحكمة عادة أمثال هذا الاتفاق كما اختاره الطرفان، وقد تبتدئ المحكمة بتقرير الانفصال وشروطه، إذا لم يتيسر الاتفاق عليه بينهما، ويتعين في حالة الاتفاق إثبات القسوة البدنية، أو العقلية، أو استحكام الخلاف وصعوبة التوفيق فيه. ولا يعتبر هذا الاتفاق حلا حاسما للخلاف، ولكنه يترك القضية معلقة حتى يقيم أحد الطرفين من الأدلة الكافية ما يثبت الخيانة. •••
ويستطيع كل من الزوجين أن يحصل على الحكم بإلغاء عقد الزواج، إذا ثبت أن التفاهم بينهما على القبول داخله شيء من الخداع أو التزوير، أو ثبت أن أحد الزوجين كان في حالة من حالات القصور عند موافقته على عقد القران.
وبعض الولايات في أمريكا الشمالية يكتفي بإثبات حصول الزنى مرة واحدة من الزوجة لإصدار حكم الطلاق، ولا يكفي ذلك في حالة وقوع الزنى من الزوج، بل ينبغي إثبات معيشته غير الشرعية مع امرأة أخرى، لتطليق امرأته منه، ولا يلزم تقديم الشهود على وقوع الزنى على مرأى من أولئك الشهود، بل يكفي إثبات السلوك الذي يفضي إلى العلاقة الجنسية لتقرير وقوع الجريمة، ومن أمثلة هذا السلوك نزول الرجل والمرأة في الفنادق كأنهما زوج وزوجة، واجتماعهما في عزلة مريبة كما يجتمع الزوجان الشرعيان.
ومن أسباب الطلاق وقوع الغيبة المنقطعة من الزوج أو الزوجة، ولا يبطل الطلاق إذا ثبت بعد ذلك أن الزوج الغائب لا يزال بقيد الحياة.
ولا حاجة إلى الإثبات بالشهادة أو البينة مع اعتراف الزوج المتهم بتهمة الزنى الموجهة إليه، وتسمى القضايا التي يلجأ فيها الزوجات إلى الحصول على حكم الطلاق بالاعتراف، قضايا التواطؤ أو التراضي
Collusion and Cooperation
وربما حدث التراضي على طلب الطلاق بعلة غير علة الزنى في الولايات التي تكتفي بوقوع القسوة البدنية أو العقلية لتطليق المرأة من زوجها، فيعترف الرجل بتعذيب المرأة ويصدر الحكم بناء على هذا الاعتراف.
1
والمفهوم أن معظم الحكومات الأمريكية والأوربية حافظت على أصول حكم الطلاق في الكتب الدينية، ولم تقطع الصلة الأولى بينه وبين القوانين المدنية، وكل ما صنعته في هذا الحكم أنها توسعت في تفسيره وقياس بعض الحالات على ما يشبهها من الحالات التي جاز فيها الطلاق بنصوص الكتب الدينية. بيد أن الحكومات الأخرى التي قطعت صلة التشريع الحديث بالتشريع الديني، قد غيرت أساس التشريع كله في مسائل الطلاق والزواج، وجعلته على التعاقد العام الذي يخضع لقضاء العقود في جملته، فلا يمتنع إلغاؤه والعدول عنه لسبب من الأسباب التي يختارها المتقاعدان أو يختارها ولاة الأمور. •••
شريعة القرآن الكريم في مسألة الطلاق شريعة دين ودنيا، وكل ما اشتملت عليه من حرمة الدين تابع لما شرع له الزواج من المصلحة النوعية والمصلحة الاجتماعية، فليس مما يبيحه الإسلام أن يتجرد الزواج من مصلحته النوعية والاجتماعية، تغليبا للصبغة العبادية عليه على مشيئة الأزواج.
وفي هذه الشريعة القرآنية تتوافر جميع الرخص المفيدة التي لجأت إليها أمم الحضارة، لتيسير العلاقة بين الزوجين مع المحافظة على الآداب الاجتماعية.
ولكنها شريعة إسلامية تنظر إلى طبائع الرجال والنساء، وتتجنب التشديد الذي لا يجدي شيئا في المحافظة على قداسة الزواج، ولكنه يلجئ الزوجين إلى الحيلة للتخلص منه أمام القانون، وإن كانت أظهر من أن تنفعهم في التخلص منه أمام الناس.
الطلاق في الإسلام قسوة مكروهة؛ لأنه أبغض الحلال إلى الله كما قال النبي عليه السلام.
وتدفع هذه القسوة بما يستطاع من عمل الزوج والزوجة، وعمل الأسرة والقادرين في هذا الأمر على الهداية والإصلاح، فإذا أحل بعد استنفاد الوسائل المستطاعة فما من حل آخر يغني عنه، وما من تحريم له إلا وهو أشد قسوة وأقل نفعا من التحليل.
فعلى الرجل «أولا» أن يراجع نفسه إذا أحس النفرة من زوجته، عسى أن يكون في الصبر على هذه النفرة العارضة خير لا يعلمه:
فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا [النساء: 19].
فإذا عجز عن مغالبة هذه النفرة العارضة، فلا يتعجل بالطلاق البائن، وليبدأ بطلقة راجعة، يعتزمها بالنية البينة، ولا يؤخذ فيها باللغو الذي تجري به الألسنة على غير قصد من قائله:
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم [البقرة: 225].
وفي وصف الله بالحلم في هذه الآية، إشارة إلى الحلم الذي يطلب من الزوج أن يتحلى به في هذا المقام، وهو يراجع نفسه قبل البت بالنية على الطلقة الراجعة.
وقد كانت الزوجة التي يقسم زوجها أن يهجرها، تنزوي في بيته أو في بيت أهلها، وتظل على هذه الحالة معلقة لا تأوي إليه، ولا تخرج من عصمته إلى غير أمد محدود. فأوجب القرآن الكريم على الزوج أن يثوب إليها في أمد محدود، وهو أربعة أشهر، تهدأ فيها سورة الغضب، ويعاود فيها الرجل طوية نفسه، عسى أن يستجد لعشرته الأولى حنينا طغت عليه النفرة في ساعة الغضب أو الفتنة، وعسى أن تظهر الأمومة المستكنة، فتربط بين الأب والأم برباط يعز عليهما أن يبتر وينفصم إلى غير رجعة، وعسى أن تلين المرأة بعد شماس، وأن تستحضر المحبة والوئام بعد استحضار الأنفة والخصام، فإن طالت المهلة شهرا بعد شهر ولم يتغير ما في النفوس، فالبت في الطلاق إذن إنما يشرعه القرآن الكريم رحمة بالمرأة المعلقة، لكيلا يسومها الرجل أن يرتهنها بقيد الزواج، ويطيل ارتهانها نكاية لها، وإهمالا لأمرها، واستبدادا منه بحاضرها ومصيرها.
للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم * والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا [البقرة : 226-228].
الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها [البقرة: 229].
وهذه الآية تحفظ للمرأة حقها في المال وفي الحرية، فلا يحل للرجل أن يمسك عنها شيئا من صداقها، ويحق لها هي أن تأبى العودة إليه إذا راجعها قبل الطلقة البائنة، وعليها إذن أن تنزل عن الصداق المتأخر؛ لأنها خليقة أن تعفيه من واجب الزوج وهي تعفي نفسها من واجبها.
وينبغي قبل البت بالطلاق البائن أن تتقدمه الوساطة بالصلح، والمشاورة بين الأهل والأقربين، وتملك المرأة التي تخاف نشوز زوجها أن تضمن إمكان الوفاق وحسن المعاملة قبل أن تعود إلى معاشرة زوجها:
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [النساء: 128]،
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما [النساء: 35].
وقضية الخلع التي طلبت فيها المرأة تسريحها من رجلها لبغضها إياه، مشهورة في كتب الأحاديث والتفاسير، وخلاصتها: أن جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول كانت تبغض زوجها ثابت بن قيس، فأتت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقالت: «لا أنا ولا ثابت، لا يجمع رأسي ورأسه شيء. والله ما أعتبه في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام، وما أطيقه بغضا. إني رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدة من الرجال، فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها.»
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لها: «أتردين عليه حديقته؟ قالت: أردها، وأزيده عليها، فقال
صلى الله عليه وسلم : أما الزائد فلا. وقضى بالطلاق.»
والخلع حق للمرأة يكرهه الإسلام كما كره الطلاق، ولكنه حق من حقوق الحرج لا يسكت عنه، وفي الحديث الشريف: «أيما امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة.»
المبارأة مثل الخلع، حل من حلول الحرج، ترتضي فيه المرأة أن تنزل عن صداقها ونفقتها، ليعفيها الرجل من واجباتها الزوجية، ويقع الطلاق مع الاتفاق على المبارأة كلما استحال التوفيق بين الزوجين، لقسوة الرجل وعنفه في معاملة زوجته، واتخاذه الزواج مضارة لا يستقيم العيش فيها على سنة المودة والسكينة والإمساك بالمعروف. •••
ومن ثم نرى أنه ما من وسيلة تنجع في اجتناب الفرقة بين الزوجين لم ينصح بها القرآن الكريم لكل منهما، فيما يطلب من الرجل أو يطلب من المرأة، وترجى منه الفائدة في الواقع. فإذا نفدت حيلة المراجعة وانتظار المهلة، وبطلت مساعي الصلح بين الأهل والأقارب، وأسفرت تجربة الطلقة الراجعة مرة بعد مرة عن قلة اكتراث للجفاء، وإصرار على الفراق، فليس في الزواج إذن بقية تحمي من الطلاق، ولعل الطلاق يومئذ أرحم بالمرأة من علاقة منغصة، تربطها برجل يجفوها ويبخل عليها بقوتها، ويتمنى لها الموت ليبتعد عنها؛ إذ كانت عشرتها غلا في عنقه لا يفصمه غير الموت، ولا إيذاء في هذا الطلاق للزوج ولا للزوجة ولا للمجتمع؛ إذ لا بقاء إذن لشيء يصح أن يسمى بالزواج.
ومتى تم الفراق الذي لا حيلة فيه، تكلفت الشريعة للزوجة المطلقة بكل ما يلزم الرجل من حقوقها ومصالحها، ومن حقوق أبنائها وأبنائه، وتأبى الشريعة العادلة أن تعتمد على حنان الأب وحده لرعاية أبنائه؛ لأنها مسئولة عن حق الأم حياله، حتى تستوفيه لها غاية ما يسع الشرائع من استيفاء.
وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين [البقرة: 241].
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف [البقرة: 231].
ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف [البقرة: 236].
وعلى الزوج أن يوفي الزوجة المطلقة صداقها كاملا لا يستحل منه شيئا لنفسه:
وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا [النساء: 20].
ولا يحق للرجل أن يخرج المرأة من بيتها قبل وفاء عدتها فيه:
لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة [الطلاق: 1].
أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى * لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا [الطلاق: 6، 7].
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف [البقرة: 233].
ولم تخل آية عرضت للطلاق من توكيد الأمر بالمعروف، والنهي عن الإساءة والإيذاء، والحث على مغالبة الشح والتقتير، وهي الحيطة التي لا مقترح وراءها على الشريعة وأحكامها، وإنما يكون الاقتراح على أخلاق الناس وعواطفهم وآدابهم، وليست هي مما تتولاه الشريعة بقوة الأحكام.
ومن الحسن أن يفرض على الناس طلب الكمال، ولكنه الأمل المنظور غير الواقع، وغير ما في الإمكان، بين مختلف الأمم والعصور. وما من شريعة إلهية أو إنسانية تصد الناس عن المثل الأعلى من الكمال المقدور لبني آدم وحواء، ولكنهم - إلى أن يدركوا شأوهم من كمالهم - لا ينبغي أن يجني أحدهم على غيره بجريرة تقصيره، بل جريرة التقصير الملازم لبني الإنسان أجمعين.
الفصل الحادي عشر
السراري والإماء
شرع الإسلام العتق ولم يشرع الرق.
فلم يكن للعتق أثر في شرائع الحضارات التي سبقت ظهور الإسلام، أما الرق فقد كان معروفا معترفا به في كل حضارة قديمة، وكان حكماء الأمم يقرونه ويرتبون نظام المجتمع على بقائه، ومنهم حكماء في طبقة أفلاطون وأرسطو من فلاسفة اليونان. وكان رؤساء الأديان يعتبرونه قضاء عادلا من الله، ويأمرون العبد بطاعة السيد، والإخلاص له، كما يطيع ربه، ولو لم يكن على دينه، وكان ساسة الأمم يحمون حق السيد على عبده ولا يعرفون للعبد حقا تحميه الدولة، حتى حق الحياة.
ولا يخطرن على البال أن الرق نظام مهجور في العصور الحديثة، بطل وامتنع بعد تحريم بيع الرقيق وشرائه منذ أواسط القرن التاسع عشر. فإن الواقع أن الرق على أصوله التي أنشأته في عصور الهمجية باق إلى القرن العشرين، وسيبقى بعدها ما بقيت الحروب، وبقيت عادات الأسر، وإجلاء سكان البلاد المغزوة من ديارهم، إلى أمد أو إلى غير أمد.
فالأسير اليوم هو الرقيق الأول بعينه وبالصفة القانونية التي يخولها آسروه أثناء أسره: يسخره الآسرون في أعمالهم، ويجردونه من الحقوق المدنية بينهم، ويعطونه من القوت ما يمسك الرمق أو يعينه على خدمتهم. ولا تفك عنه هذه القيود إلا إذا تبودل الأسرى بين المعسكرين المتقاتلين.
فكل ما استحدث من نظام الرق بعد تحريم البيع والشراء، فإنما هو أثر من آثار التطور في قيام الدولة الحديثة، وبعد أن كان العالم القديم يخضع لدولة واحدة، أو تتصارع فيه دولتان متناظرتان، متناحرتان، لا تهدأ الحرب بينهما فترة تسمح بالتفاهم على تبادل الأسرى، ولا تقع بينهما هدنة تتيح للأسير أن يرجع إلى قومه حتى تلحق بها حرب جديدة، يحل فيها فريق من الأسرى محل فريق.
فالذي تغير من نظام الأسر في العصر الحديث إنما هو عدد الدول في العالم، واضطرارها إلى التهادن والتعاقد بينهما فترات أطول من الفترات الأولى بين الدول القليلة الغابرة، وما كان نظام الرق ليتغير كثيرا أو قليلا، لو بقيت الدولة الواحدة غالبة على العالم، أو بقيت فيه الدولتان على عداء لا هوادة فيه.
فلما ظهر الإسلام جاء بالعتق ولم يجئ بالرق، وسبق التطور الدولي إلى تقرير فك الأسرى عند الأعداء، وتقرير المن بتسريح الأسرى عنده، وصنع خير ما يصنعه الشارع في ذلك الزمن، فإنه الصنيع الذي لم تلحقه حضارة القرن العشرين بما هو أكرم منه وأجدى.
فمن الحسن في شريعة القرآن إطلاق الأسير أو قبوله فدائه:
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها [محمد: 4].
وإذا أراد الأسير أن يفتدي نفسه بأجره من عمل يعمله، حسن بمالكه أن يقبل منه ذلك وأن يعينه بماله، وما آتاه الله من كسبه:
والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم [النور: 33].
وفرض الإسلام العتق كفارة لذنوب كثيرة، فمن ظاهر من زوجته - أي قال لها: إنها حرام عليه كظهر أمه - فلا يتحلل من ظهاره إلا بتحرير رقبة يملكها:
والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا [المجادلة: 3].
ومن حنث في يمينه فكفارة اليمين صدقة بالمال أو صدقة بالتحرير:
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة [المائدة: 89].
ومن قتل خطأ وجب عليه مع الدية تحرير رقبة:
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله [النساء: 92].
ويحسن تحرير الرقاب في غير ما ورد النص عليه حيثما وجب الشكر على النعمة، والتوبة من الذنب، وحسن الجزاء على الولاء. •••
والنساء المملوكات أقدم في التاريخ من الرجال المملوكين، فقد أوشك الزواج في كثير من القبائل البدائية أن يكون كله سبيا واغتصابا من نساء القبائل أخرى، ولم تدع الحاجة قديما إلى استرقاق الرجال، إلا بعد وجود الأعمال التي توكل إلى الأسرى، ويترفع عنها المقاتلون الأحرار، فكان استرقاق الأسرى ثقلا على مالك الرقيق، يتحاماه أو يتخلص منه بقتله، وكانت المرأة تقتنى للمعاشرة أو لخدمة البيت والمرعى، وهي خدمة سبقت ما يستخدم فيه الرجال من الصناعات ومطالب المعاش.
وتعتبر قضية الإماء والسراري جزءا من قضية الرق على عمومه، لولا أن المرأة المستعبدة تنفرد بمشكلاتها التي سبقت مشكلات الرق في المجتمعات البدائية؛ لأن سبي النساء أقدم من تسخير الرجال في العبودية، ولأن مشكلات الإماء على اتصال وثيق بمشكلة المرأة في بيتها وفي بيئتها الاجتماعية، ولم تكن حقوق الزوجات الحرائر في القدم تفضل كثيرا نصيب الإماء المستعبدات.
ومن وجوه الخلاف بين رق المرأة ورق الرجل أن العتق بر كبير بالإنسان الذي سلبت حريته، وهانت على الناس كرامته، ولكن العتق لا يئول بالجارية إلى حرية تغبط عليها، وهي بلا عائل ولا زوج. وربما نقلها العتق من العبودية لسيد واحد إلى العبودية لكل سيد تأوي إليه، ولم يكفل لها رزقا ولا عملا أكرم من أعمال العبيد المسخرين، بغير حرية لها ولا اختيار.
وقد نظرت شريعة القرآن الكريم إلى الفارق بين الرجل والمرأة في أمر العتق، فعملت على نقل النساء المملوكات من رابطة العبودية إلى رابطة الزوجية، وأمرت المسلمين بتزويجهن والبر بهن:
وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم [النور: 32].
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم [النساء: 3].
وفضلت الزواج بالجارية المملوكة على الزواج بسليلة البيوت من المشركات ولو حسن مرآها في العين:
ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم [البقرة: 221].
وفرضت لهن حقوقهن كما فرضت الحقوق للأزواج:
قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم [الأحزاب: 50].
وجعلت أصحاب المال ومن يملكونهم سواء فيما عندهم من رزق الله:
فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت فهم فيه سواء [النحل: 71].
وحرص الإسلام على البر بهن في عواطفهن وإحساسهن، كما حرص على البر بهن في أرزاقهن ومعيشتهن، فكان
صلى الله عليه وسلم
ينهى المسلم أن يقول: «عبدي وأمتي» وإنما يقول: «فتاي وفتاتي» كما يتحدث عن أبنائه، وكانت وصيته بالصلاة والرقيق من آخر وصاياه
صلى الله عليه وسلم
قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى. •••
ولم يحصل أولئك المستضعفون من النساء والرجال على تلك المعاملة طوعا لأوامر دين من الأديان قبل الإسلام، ولا تلبية لسعيهم، أو خوفا من تمردهم وعصيانهم، ولم يكن أحد من أقوامهم يناصرهم أو يتقبل منهم شكايتهم. بل لم يكن من الأرقاء أنفسهم من يعتقد له حقا في شكواه، ويحسب أن الرق مظلمة أصابته بغير حقه. وقد أسلم بعض الأرقاء من العبيد والإماء فلم يزيدوا عددا في صدر الدعوة الإسلامية على أصابع اليدين، ولم يكن لهم صوت مسموع في شريعة الجاهلية، ولا في شريعة الإسلام؛ إذ كانت شريعة الإسلام مما يتعلمه المسلمون من النبي، ولم تكن مما يعلمونه إياه. فمهما يأت به من آية مطاعة من آيات البر بالنساء المستضعفات اللاتي لا سند لهن ولا عائل يرحمهن، فإنما هي آيته من الوحي السماوي تجري على نسق واحد من آياته كافة، في تشريع الحقوق وتعليم الفرائض والواجبات. •••
وارتفع الإسلام بأتباعه إلى منزلة من الإنصاف للرقيق والرفق به، لم تبلغها الإنسانية بآدابها وقوانينها ودساتيرها وأنظمتها بعد أكثر من ألف سنة، ولكن المسلمين مع هذا قصروا في عهود شتى عن الشأو الرفيع الذي دعاهم دينهم إليه، وأبيحت بينهم النخاسة التي حرمها الدين، ونسيت بينهم الوصايا التي ذكرهم بها الكتاب والسنة، واستبيحت فيهم حقوق الأحرار والعبيد على السواء. إلا أن الشريعة القرآنية المطهرة عملت بينهم عملها، ولم تذهب آثارها سدى في حملتها. ومن آثارها ما يثبت بالإحصاء والمقارنة، كما يؤخذ من المقابلة بين عدد الأرقاء وبين حالتهم في بلاد الحضارة الإسلامية، وبلاد الحضارة الأوروبية والأمريكية، بغير حاجة إلى شرح طويل.
فكل من بقي من الأرقاء في البلاد الإسلامية بعد ثلاثة عشر قرنا لا يزيدون على مليونين منهم أزواج وزوجات دخلوا في الأسر الحرة على سنة المساواة والمؤاخاة. ومما له دلالته في هذا الصدد أن ارتفاع المهانة عن المماليك في العالم الإسلامي مكنهم غير مرة من إقامة الدول، وارتقاء المناصب، وولاية الوزارة والقيادة، ومصاهرة البيوتات من أصحاب الملك والإمارة، ولو لم تفارقهم مسبة الرق التي لصقت بهم في كل بيئة غير البيئة الإسلامية، لما تمكنوا من الصعود في منازل الاجتماع إلى هذه القمة، ولا فارقوا قط منازل الموالي والعبيد.
وتنعقد المقابلة السريعة بين قسمة الرقيق في ظل الشريعة الإسلامية وقسمته في ظل الحضارة الغربية، فتسفر عن الفارق البعيد بينهما بالأرقام والحقائق والأوضاع.
فتجارة الرقيق خلال خمسين سنة جمعت في القارتين الأمريكيتين أمة كبيرة، تبلغ سلالتها اليوم ستة عشر مليونا في الشمال والجنوب، وأهدرت بينهم جميع الحقوق حتى حق الحياة إلى زمن قريب. فكان من المناظر المألوفة شنق الزنجي بغير سؤال ولا محاكمة على قارعة الطريق، وكان إنصافهم - بعرف القانون - خطوة متأخرة في القرن العشرين لم تنفسح لهم في الزمن الأخير إلا بعد المطالبة والمواثبة، وبعد الاقتدار على الطلب مشمولا بالتهديد، ومنه التهديد بالإضراب. •••
ونحن نكتب هذا الفصل وبين أيدينا المجلات الغربية نفسها، تروي لنا قصة سيد في إفريقيا الجنوبية، ذهب إلى المحكمة لأنه قتل زنجيا وعذبه بالنفخ المتواصل حتى انفجر جنباه، فكان عقابه من المحكمة غرامة مائتين وعشرة دولارات مقسطة على ستة شهور، ولاحظ القضاء - الإنساني - في هذه الرأفة أن السيد الأبيض يحتمي بحق العزلة بين الأجناس
Apaartheid
وحق الإشراف والوصاية
Baskap
فلم تر الصحيفة في رواية الخبر من حرج في كتابته بعنوان «حق التعذيب».
1
هذه شريعة وتلك شريعة، بينهما من الزمن قرابة أربعة عشر قرنا، ومن الجهود الإنسانية ثورات وأهوال وضحايا لا يحيط بها الإحصاء.
الفصل الثاني عشر
المعاملة
عند الكلام على معاملة المرأة، يتجه الذهن إلى أنواع متعددة من المعاملة لا تبنى على أساس واحد، ولا تأتي من مصدر واحد، ولا يلزم من تحقيقها في بيئة أن يتحقق سائرها في تلك البيئة، ولا يستغرب في مختلف البيئات أن يظهر نوع منها، ويختفي النوع الآخر، وأن يكون ظهور هذا بمقدار اختفاء ذاك؛ لأن يعضها من صنع السلطة الدنيوية أو الدينية، وبعضها من صنع الغرائز والعادات الفطرية، وبعضها من صنع المراسم والشعائر التي تتبدل مع الأمم والطبقات، وبعضها من الأخلاق والشمائل التي تعلو أو تنحدر على حسب العوارض المتجددة من أطوار التهذيب والثقافة، وأطوار الجهالة والضعة، فلا يستغرب أن تتعارض في كثير من الأزمنة، كما تتعارض الطوارئ من النقائض والأضداد.
ومن العسير أن نحصر هذه المعاملات كما تتفق أو تتناقض في كل بيئة نشأت فيها، ولكنها تتيسر لنا بتقسيمها إلى أنواعها التي تشملها في مجموعها، وهي على التعميم والتغليب ثلاثة أنواع: معاملة القانون، ومعاملة النسب، ومعاملة الأدب وما هو من قبيل الشمائل العرفية.
فمعاملة القانون تخول المرأة حقوقها العامة وحقوقها الخاصة، كما تنص عليها العقائد والدساتير، وأقدمها في دساتير الأمم الغابرة حقوق الميراث، وأحدثها حق الانتخاب النيابي في القرن العشرين.
ومعاملة النسب تكسبها المرأة من صلة القرابة، أيا كان حكم القانون في مركز المرأة وحقوقها، فهي بهذه المثابة أم أو أخت أو بنت أو زوجة أو محرم تجب له الرعاية والحماية، وقد تكون المرأة العزيزة عند ابنها، أهون الخلائق عند عامة الناس ممن لا تربطهم بها آصرة القرابة، ولا يحفلون بكرامة أهلها وحماتها.
ومعاملة الأدب، وما هو من قبيل الشمائل العرفية، قد يرعاها الناس، حيث لا يرعاها القانون، ولا يفرضها واجب النسب، وقد يؤديها الإنسان كما تؤدى المراسم الصورية؛ لأنها محسوبة في حكم العادة من شعائر الكياسة والوجاهة الاجتماعية، ومما يماثلها في معاملة الرجال بعضهم لبعض أن يأمر الحاكم باعتقال أحد، ويختم أمره بتوقيع الخادم المطيع، ومن تقاليدها في عصر الفروسية أن ينحني الفارس للعقيلة الموقرة، ثم يصدم شعورها ولا يحسب أنه أساء إليها. وربما سما هذا الأدب مع التهذيب فكان خلقا نبيلا من أشرف الخلائق الإنسانية، وربما جرى مجرى الحلية الاجتماعية التي تروج فيها الزيوف، ويقنع منها أصحاب التحيات والمجاملات بالعناوين والحروف. •••
للقرآن الكريم شريعته المحكمة في كل نوع من أنواع هذه المعاملات، وله في كل معاملة دستورها الجامع الذي تتبعه تفصيلاته كما تتبع الفروع الأصول.
معاملة الحقوق دستورها الجامع أن الرجل والمرأة سواء في كل شيء، وأن النساء لهن ما للرجال، وعليهن ما عليهم بالمعروف، ثم يمتاز الرجال بدرجة هي درجة القوامة التي ثبتت لهم بتكوين الفطرة وتجارب التاريخ، وليس في هذا الامتياز خروج على شرعة المساواة حين تقضي المساواة بين الحقوق والواجبات. وكل زيادة في الحق تقابلها زيادة مثلها في الواجب، فهي المساواة العادلة في اللباب.
ومعاملة النسب دستورها في القرآن الكريم إجلال الأمهات وصيانة البنات عن الجناية على حياتهن، والكراهية لمولدهن وتربيتهن، وإحلال الزوجات محل الأزواج في السكن والمأوى، فلا يعزلن بمكان دون مكانهم، ولا يسومهن الرجل أن يقمن حيث يأبى أن يقيم مع ذويه من الرجال.
ومعاملة الأدب تلخصها في القرآن الكريم كلمتان المعروف والحسنى، فليس في هذا الكتاب المبين كلمة تنص على معاملة للمرأة في حالي الرضى والغضب، وفي حالي الحب والجفاء، وفي حالي الزواج والطلاق، لم يصحبها التوكيد بعد التوكيد بوجوب المعروف والحسنى، وإنكار الإساءة والإيذاء.
والأساس الذي تبنى عليه هذه المعاملات أهم في الدلالة على روح التشريع من الأحكام والنصوص؛ فهو أساس قوامه الاعتراف بالحق لأنه حق وتقديره ميزان الواجب لمصلحة المرأة، ومصلحة الأمة، ومصلحة النوع، غير منظور فيه إلى قوة الطلب أو قوة الإكراه على قبوله، وغير ملحوظ فيه أنه ترويج لدعوة من دعوات السياسة، أو ضرورة من ضرورات «الإدارة» الحكومية، في ظرف من ظروف الحرج والمداراة.
وشعور المعاملة القرآنية للمرأة هو دستور «المرأة الخالدة» في وظيفتها النوعية، ووظيفتها التي يصلح عليها البيت والمجتمع، ما استقام نظام البيت ونظام الاجتماع. •••
ويتضح معنى الأسس التي تبنى عليها المعاملات والحقوق عند المقابلة بين الأسس القرآنية، وأسس المعاملة التي تلقتها المرأة من الحضارة الأوروبية، منذ حكمتها المبادئ الفكرية: وهي الثقافة اليونانية في العصور القديمة، وآداب الفروسية في العصور الوسطى، ودساتير الديمقراطية في القرن التاسع عشر وما بعده.
فالثقافة اليونانية في إبان ازدهارها لم تعط المرأة شيئا تعلو به عن مقام الأنثى في المجتمعات البدائية، وتركتها في عزلتها بالمنزل تنزوي فيه بعيدة عن مكان الزوج الذي يستقبل فيه أصحابه ويولم فيه ولائمه، وعزلتها في المجتمع من باب أولى، كما عزلتها في بيتها كلما استغنى عنها زوجها، وربما عزلتها عن تدبير المنزل كلما رفعتها عن ضرورات الخدمة فيه كأنها حسبت أن الانقطاع عن تدبير المعيشة البيتية علامة من علامات اليسر والمقدرة.
هذا كان مكانها في الواقع.
فأما مكانها الذي اختارته لها الفلسفة المثالية فهو معادل لهذا المكان في الكفة الأخرى من الميزان.
فالمثل الأعلى الذي رشحها له خيال أفلاطون في مدينته الفاضلة، أن تعتبرها الأمة ملكا مشاعا تنجب النسل لمن يختارها من الرجال، وتتسلمه منها الأمة لتتوفر على تربيته. فالمثل الأعلى للنساء في المدينة الفاضلة أنهن حظيرة مباحة من الإناث تؤدي وظيفة الولادة، كما تؤديها إناث الحيوان، وتستكثر عليها المزايا الشخصية التي تجعلها أما أفضل من أمهات، أو زوجة أفضل من زوجات، وتكل إليها أمانة التربية والإعداد للحياة العامة بعد سن الرضاع والحضانة!
فلا امرأة هناك في هذه المدينة الفاضلة، بل هناك قطيع من إناث الإنسان تجري المفاضلة بين أفراده، كما تجري بين إناث الأنعام فيما يلفت إليها أعين الذكور. وهذه هي المعيشة المثالية التي تنزوي فيها «المرأة» كما انزوت في حجاب الحريم، فهي كفة ميزان في عالم الواقع، تعادل كفته الأخرى في عالم الخيال.
وقد تقدم أن أرسطو كان ينعي على إسبرطة - في كتاب السياسة - أنها أباحت للمرأة ما لا ينبغي لها من حق الميراث ورخصة الحرية، فانتهت بها سياستها النسائية إلى السقوط. •••
والمشهور بين قراء القصص عن عصر الفروسية أنه عصر المرأة الذهبي، أو أنه عصر الفارس صاحب النخوة وهواه من عقائل القصور والحصون. ولكنها صورة من صور الأحلام تنتهي - مع المغالاة فيها - إلى سخرية مضحكة، كتلك السخرية التي أبدع فيها الكاتب الإسباني سرفانتيز، بما مثله لنا من خيلاء بطله دون كيشوت.
وحقيقة ذلك العصر كما وصفه صاحب كتاب «التاريخ الموجز للنساء»
1
أنه كان عصر الحصان لا عصر المرأة، ومنه ما اقتبسناه في كتابنا «عبقرية محمد» عن حالة المرأة فيه وفي العصور التي تلته حيث يقول: «إن عصر الفروسية كان معروفا بما لوحظ فيه من فقدان الشباب - على الجملة - الاهتمام بالجنس الآخر. ولعلنا نقل من الدهشة لذلك، لو أننا وعينا كلمة الفروسية، وذكرنا أنها لم تكن ذات الشأن بالسيدات كما كانت ذات شأن بالخيل، على خلاف ما يروق للكثيرين أن يذكروه. فقلما بلغ الاهتمام بالمرأة مبلغ الاهتمام بالحصان في عصر الفروسية إلا على اعتبار أنها عنوان ضيعة، وإلى القارئ حادثة من كتاب «أغاني الآداب والتحيات»
Chansons de Geste
يروى فيها أن ابنة أوسيز
Auseis
جلست في نافذتها ذات يوم فعبر بها فتيان - هما جاران وجربرت - وقال أحدهما: انظر. انظر . يا جربرت! وحق العذراء ما أجملها من فتاة! فلم يزد صاحبه على أن قال: يا لهذا الجواد من مخلوق جميل! دون أن يلتفت بوجهه. وعاد صاحبه يقول مرة أخرى: ما أحسبني رأيت قط فتاة بهذه الملاحة. ما أجمل هاتين العينين السوداوين! وانطلقا وجربرت يقول: إن جوادا قط لا يماثل هذا الجواد، وهي حادثة صغيرة ولكنها واضحة الدلالة؛ إذ قلة الاهتمام تورث الازدراء، والحق أن عصر الفروسية يرينا بعض الشواهد الواضحة على هذا الازدراء، وإليك مثلا حادثة في الكتاب المتقدم، يروى فيها: أن الملكة بلانشفلور ذهبت إلى قرينها الملك بيبن
تسأله معونة أهل اللورين. فأصغى إليها الملك، ثم استشاط غضبا، ولطمها على أنفها بجمع يده، فسقطت منه أربع قطرات من الدم، وصاحت تقول: شكرا لك. إن أرضاك هذا فأعطني من يدك لطمة أخرى حين تشاء. ولم تكن هذه الحادثة مفردة لأن الكلمات على هذا النحو كثيرا ما تتكرر، كأنها صيغة محفوظة وكأنما كانت اللطمة بقبضة اليد جزاء كل امرأة جسرت في عهد الفروسية على أن تواجه زوجها بمشورة، ومتى كانت المرأة تزف إلى زوجها عفو الساعة، وكثيرا ما تزف إلى رجل لم تره قبل ذاك، إما لتسهيل المحالفات الحربية والمدد العسكري، أو لتسهيل صفقة من صفقات الضياع، ومتى كانت بعد زفافها إلى فارس مجنون بالحرب، معطل الذكاء، قد يكون في معظم الأحوال من الأميين، عرضة للضرب كلما واجهته بمخالفة - أترى سيدة القصر إذن واجدة لها رحمة أو ملاذا من حياة الشقاء، أو من صحبة قرين ليس لها بأهل؟»
ولقد تقدم الزمن في الغرب من العصور المظلمة، إلى عصور الفروسية، إلى ما بعدها من طلائع العهد الحديث، ولما تبرح المرأة في منزلة مسفة، لا تفضل ما كانت عليه في الجاهلية العربية، وقد تفضلها منزلة المرأة في تلك الجاهلية. «ففي سنة 1790 بيعت امرأة في أسواق إنجلترا بشلنين؛ لأنها ثقلت بتكاليف معيشتها على الكنيسة التي كانت تئويها. وبقيت المرأة إلى سنة 1882 محرومة من حقها الكامل في ملك العقار وحرية المقاضاة، وكان تعلم المرأة سبة تشمئز منها النساء قبل الرجال، فلما كانت اليصابات بلا كويل تتعلم في جامعة جنيف سنة 1849 - وهي أول طبيبة في العالم - كانت النسوة المقيمات معها يقاطعنها، ويأبين أن يكلمنها، ويزوين ذيولهن من طريقها احتقارا لها، كأنهن متحرزات من نجاسة يتقين مساسها. ولما اجتهد بعضهم في إقامة معهد يعلم النساء الطب بمدينة فلادلفيا الأمريكية، أعلنت الجماعة الطبية بالمدينة أنها تصادر كل طبيب يقبل التعليم بذلك المعهد وتصادر كل من يستشير أولئك الأطباء». •••
وظلت آداب الفروسية سارية بعد عصر الفارس النبيل إلى عصر الجنتلمان في أوروبا الحديثة، تقضي في معاملة المرأة بين علية القوم بالمراسم والمجاملات التي لا تتجاوز أشكال التحية إلى الثقة والتقدير. فيلام «الجنتلمان» على التقصير في عدد الانحناءات وحركات الحفاوة وكلمات التقريظ، ولا يفهم أحد من ذلك أنه يعظمها ويوليها ثقته وتقديره، ويخولها أصغر الحقوق التي لا يضن بها على الخدم والأتباع وهو يتحرج من إشارة مسيئة يواجه بها السيدة في محفل السادة، ولا يتحرج من القول المسيء إلى خدمه وأتباعه، ولكنه لا يجعل ذلك مقياسا للفارق بين المرأة وبينهم في الحقوق والواجبات ولا عنوانا للقيم الإنسانية في تقديره.
فآداب الفروسية، وخليفتها الجنتلمانية، لم تكن على أحسنها أيام ازدهارها، إلا مظهرا من مظاهر السمت، خالية من كل دلالة على القيم الإنسانية، مثلها - كما أسلفنا - مثل التوقيع بصيغة «الخادم المطيع» في ذيل الخطاب يعتقل به الحاكم سيده المطاع.
ولو كانت تلك التحيات مقصودة بمعناها، معبرة عن القيم الإنسانية في نظر أصحابها لما استكثر القوم أن تنال المرأة كل حقوق الانتخاب، وكل حقوق النيابة دفعة واحدة، ولا احتاج الاعتراف لها بحق منها بعد حق إلى انتظار عشرات السنين، وموالاة الطلب من أواخر القرن التاسع عشر إلى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، في أسبق البلدان إلى إجابة المطالب النسوية وإعداد المرأة لها بالتعليم ومباشرة الأعمال. •••
وتعتبر الدساتير الديمقراطية آخر المراحل التي شرعت للمرأة معاملة حديثة قائمة على المبادئ الفكرية، ولكنها قامت في الواقع على إجراءات الضرورة، ولم تقم على تقدير عادل للكائن الحي في قيمته الإنسانية، ووظيفته النوعية التي بنيت عليها معاملة القرآن الكريم، قبل عصر الديمقراطية وقبل مطالبة النساء والرجال معا بحقوق الانتخاب أو حقوق النيابة.
فالإقناع القوي الذي تمكنت به المرأة من استجابة مطالبها في الدساتير الحديثة إنما هو احتياج الساسة إليها في المصانع والمعامل عند نشوب الحرب العالمية، وانصراف العاملين من الرجال إلى ميادين القتال، وبمثل هذا الإقناع تمكن العمال الرجال، وتمكن أبناء الأجناس المحرومة، من تحقيق مطالبهم بعد إنكارها تارة والمراوغة فيها تارة أخرى.
وهذا وأشباهه بعض ما عنيناه باختلاف القواعد والمبادئ التي تصدر عنها الشريعة القرآنية، وتصدر عنها سائر الشرائع في معاملة المرأة.
تلك شريعة الحق للحق، وشريعة الحق بمقدار مصلحة المرأة، ومصلحة الأمة، ومصلحة الإنسانية، وهذه شرائع الضرورات والإجراءات التي تزن الأمور بميزانها المتقلب الجزاف. •••
وقد مضت حقوق الإجراءات هذه شوطا آخر بعد شوط الدساتير الديمقراطية، وهو الشوط الذي ذهب إليه أتباع المادية الاقتصادية، ودعاة الهدم المسلطة على كل نظام اجتماعي وأوله نظام الأسرة والبيت.
فهؤلاء الماديون الاقتصاديون يجرون على ديدنهم في توزيع الحقوق، بمقدار ما فيها من الاستثارة والإغراء بالفوضى والعصيان، وحقوقهم التي يغدقونها على المرأة لا تشرفها ولا تستحق منه الغبطة والرضوان إن نظرت إلى معناها، فإنهم لم يهبوا لها المساواة إلا بعد إنكارهم لجميع المزايا وهبوطهم بالقيم الإنسانية إلى حضيض لا ترتفع فيه قمة، ولا يعلو فيه رأس على رأس، ولا يأذن بشيء غير المساواة بين أعظم إنسان وأتفه مخلوق من ضعفاء العقول والأخلاق. فالمرأة في دعوتهم سواء؛ لأن كل شيء سواء، ولأنه لا يوجد في الخلق غير هذا السواء.
فمساواتهم قائمة على التجريد من المزايا، لا على الاعتراف والتسليم بالمزايا المحرومة، وقوامها السلب والهدم، ولا قوام لها على الإعطاء والبناء.
ودستور هذه الفلسفة المادية الاقتصادية، أن الأحياء جميعا سواء في الصفات، وأن الفوارق إنما تعرض لهم من البيئة والظروف، وعندهم أن البيئة والظروف في العالم الإنساني هما كلمتان مرادفتان لعوامل الإنتاج.
وكل هذا من اللجاجة الخاوية التي لا تقول شيئا نافعا لأنها لا تقول، ولا تعرف ما هي جميع العوامل الظاهرة والخفية التي تؤدي إلى تعدد الفوارق بين الأحياء.
فهذه الفوارق محسوسة مدركة في كل مكان وفي كل شيء، وفي الأرض؛ حيث يعيش الإنسان ويعيش معه سائر الأحياء، أو في السماء حيث تجول الأجرام السماوية في كل مجال.
وننظر إلى السماوات الفساح، فلا نرى فيها نجمين اثنين يتشابهان في الحجم، والسرعة، وقوة الإضاءة، وشحنة الجو، وفعل الجاذبية، وقدم النشأة والدوران.
وعلى الشجرة الواحدة التي تسقى بماء واحد، وتتلقى النور من جو واحد، تنظر إلى فرع من فروع الغصن الكثيرة فلا ترى عليه ورقتين اثنتين تتشابهان في صبغة اللون، أو في رسم الشكل، أو في خطوط النقش، أو في عدد الزوايا حول حوافيها، أو في صفة واحدة من الصفات التي تدرك بالحواس، فضلا عن الصفات التي لا تدرك بغير المجاهر ومواد التحليل. •••
فمهما يكن من معنى البيئة والظروف عند الماديين الاقتصاديين فهو شيء لا يحصر، ولا يمنع الفوارق بين الأشياء، وكل ما يمنع هذه الفوارق فهو شلل في صميم التكوين، يتغلغل إلى أعمق الأعماق في ورقة الشجرة، وقطعة الخشب، ودع عنك ضمير الإنسان وعقل الإنسان.
ولكن القول بمنع هذه الفوارق لازم للدعوة التي تهدم كل قمة، وتسوي القمم بالحضيض، وعندئذ تنعم المرأة عندهم بالمساواة؛ لأنه ما من شيء في الدنيا أقل من هذه المساواة لا لأن المساواة تحلها في مكان ترتفع إليه.
وكلها دعوات عند أصحابها لا حقيقة لها إلا أنها ذريعة من ذرائع التحريض والتهييج، تعطي المخدوعين بها من الرضى بمقدار ما تحفزهم إلى السخط والنقمة، وفي سبيلها ينهدم - فيما انهدم من القيم الإنسانية - أشرف مكان تلوذ به المرأة النافعة، وهو مكانها في الأسرة. وذنب الأسرة عند أعداء المزايا الإنسانية أنها نظام ينقل ميراث المزايا وآداب العرف والعقيدة، كما ينقل ميراث الأرزاق. ولا بد أن تكون نفاية ضائعة حقا تلك المرأة التي تقصر بها آمالها الأنثوية دون التطلع إلى منزلة ربة الدار وأم البنين، فلا يرفعها في نظر نفسها إلا أن تكون واحدة من قطيع الإناث! •••
وتتلاقى مبادئ المعاملة التي تنالها المرأة من الحضارة الغربية، منذ عهد الثقافة اليونانية إلى عهد الدساتير الديمقراطية. فليس هناك كبير تفاضل بين الإهمال المشاع في حريم أثينا وجمهورية أفلاطون، وبين مساواة المادية الاقتصادية، التي ليس دونها شيء؛ لأنها تنزل بالمساواة من القمة إلى الحضيض!
والعيب المشترك بين هذه المعاملات أنها ترجع إلى اعتبارات منفصلة عن تقدير المرأة على حسب حقيقتها الفطرية بمعزل عن مظالم المجتمع وإجراءات الحكم، ومناورات السياسة.
وستنقضي جميعا بانقضاء هذه الاعتبارات الموقوتة، فلا بقاء بعدها لمعاملة دائمة غير المعاملة المستقرة على أساس الفطرة ومصلحة النوع كله: وهي المعاملة بالحسنى والمعروف على سنة المساواة بين الحقوق والواجبات.
الفصل الثالث عشر
مشكلات البيت
الأسرة وحدة اجتماعية تحتاج كغيرها من الوحدات إلى نظامها الخاص الذي تعول عليه في جمع شملها، وإصلاح شأنها، وحل المشكلات والخلافات التي تعرض لأعضائها.
ولكنها أحوج من سائر الوحدات إلى الدقة والحكمة في نظامها الخاص بها؛ لأنه نظام يناسبها دون غيرها، ولا يتكرر على مثالها في وحدة من وحدات المجتمع، أو فئة من فئاته.
فالشركة التجارية - مثلا - وحدة اجتماعية، لها نظامها الخاص بها، وقد تكون لها أنظمتها المختلفة على حسب تأليفها، ولا بد لها ولنظائرها جميعا من روح المودة، وصدق المعونة، لحسن الانتظام وتحقيق المصلحة المتبادلة.
إلا أنها قد تعول في أهم أعمالها على أرقام الحساب، وشروط الاتفاق لتسيير تلك الأعمال وتيسيرها.
أما الأسرة فلا ينفعها أن تعول في علاقاتها على الشروط التي يفصل فيها وازع القضاء، أو وازع الشرطة، ولا مساك لها إن لم تتماسك بينها بنظام يغنيها عن تحكيم القانون، أو تحكيم الشرطة، في كل خلاف يطرأ على علاقاتها.
فإن الخلاف والوفاق في الأسرة يدوران على دخائل النفوس، ولفتات الشعور، ولمحات البشاشة والعبوس، وقد يبدأ الخلاف وينتهي في لحظة، وقد ينشأ في كل ساعة تتبدل فيها أذواق الطعام والكساء، ودواعي الزيارة والاستقبال بين الأهل والصحاب. ولا يوجد بين الناس نظام عام يلجأ إليه المختلفون على أمثال هذه الأمور، كلما طرأت في لحظة من لحظاتها، وهي مما يطرأ في جميع الأوقات.
كذلك لا تترك هذه الخلافات بغير ضابط يتداركها، وينفع أبناء الأسرة عند احتياجهم إلى الانتفاع به في حينه.
فلا غنى لهذه الوحدة عن نظامها، وأول المقتضيات العامة في نظام كل وحدة أن يكون لها رئيسها المسئول عنها.
ورئيس الأسرة المسئول عنها هو الزوج: عائل البيت وأبو الأبناء، ومالك زمام الأمر والنهي فيه.
إذا جاء الخلل من هذا الرئيس، فنتيجة هذا الخلل كنتيجة كل خلل يصيب الوحدة من رئيسها، ويزول الرئيس، وتزول الوحدة، ولكن لا يزول النظام، ولا تزول الحاجة إليه. فإن نظام الدولة لا يزول لخلل رؤسائها، ونظام المحاكم لا يزول لخلل قضاتها، ونظام الشركات لا يزول لعجز مدير لها، أو لخيانته واختلاسه.
نظام الأسرة باق، وحاجته إلى الولي الذي يتولاه باقية، وللذين هم في ولاية هذا الرئيس أن يحاسبوه إذن بحساب الشريعة العامة، حيثما يجدي هذا الحساب. •••
ولا جدال حول نظام الأسرة في حق الأب على أبنائه الصغار إذا خالفوه، واستوجبوا عقابه، فليس يقدح في هذا الحق من وجهته العامة أن الآباء الصالحين قليلون، وأنه ليس كل جزاء يوقعه الأب بأبنائه عدلا وصلاحا. وإنما مناط حقه على علاته أن إلغاءه أخطر من الخلل في تنفيذه، وأنه لا يوجد في العالم آباء مثاليون ولا أبناء مثاليون.
وهذا هو بعينه مناط الحق في أمر الزوج والزوجة حول نظام الأسرة. فليس في العالم زوج مثالي ولا زوجة مثالية، وليس تصرف الزوج بصواب في كل حال، ولا اعتراض الزوجة عليه بصواب في كل حال. ولكن الصواب في كل حال أن يكون للوحدة الاجتماعية نظام، وأن يكون للنظام رئيس يتولاه.
وإنها لخطة واحدة من ثلاث: أن يكون كل خلاف بين الزوجين سببا لانطلاق المرأة من بيتها، أو أن يحضر القاضي أو الشرطة كل خلاف ويفصلوا فيه بالجزاء، أو أن يعهد إلى عائل البيت بتدارك الخلاف بوسائله بين أحضان البيت، وهو المسئول عما يجنيه وعما يؤدى إليه، إذا بلغ الكتاب أجله وتعذر الوفاق.
وأسلم الخطط الثلاث ، وأقربها إلى المعقول والواقع، هي خطة القرآن الكريم.
وتجمعها كلها هاتان الآيتان من سورة النساء:
واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا * وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا [الآية: 34، 35]. •••
فالنصيحة الحسنة أول ما يعالج به الرجل خلافه مع زوجته، فإن لم تنجح، فالقطيعة في المنزل دون الانقطاع عنه، فإن لم تنجح فالعقوبة البدنية بغير إيذاء، فإن خيف الشقاق فالتحكيم بين الأقربين من الطرفين.
ومن الضمان للزوجة في جميع هذه الخلافات أنها تملك أن تدفع عنها النشوز من زوجها إذا خشيت إعراضه:
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير [النساء: 128].
وسبيل الصلح كسبيل الصلح الذي يلجأ إليه الزوج، وهو التحكيم.
ويخطئ بعض المفسرين فيحسب أن العقوبة بالقطيعة والهجر في المضاجع، تروع المرأة بما ينالها من الإيلام الحسي، وفوات المتعة الجسدية؛ إذ كانت حكمة القرآن الكريم أبلغ من ذلك، وأنفع في هذه الخصومة الزوجية، وإنما تردع هذه العقوبة المرأة لأنها تذكرها بالمقدرة التي توجب للرجل الطاعة في أعماق وجدانها، وهي مقدرة العزم والإرادة والغلبة على الدوافع الحسية. وبهذه المقدرة يستحق الرجل من المرأة أن يطاع، فلا تشعر بالغضاضة من تسليمها له بهذه الطاعة.
قال الأستاذ رشيد رضا رحمه الله في كتابه «نداء للجنس اللطيف»:
أما الهجر فهو ضرب من ضروب التأديب لمن تحب زوجها، ويشق عليها هجره إياها، ولا يتحقق هذا بهجر المضجع نفسه، وهو الفراش، ولا بهجر الحجرة التي يكون فيها الاضطجاع، وإنما يتحقق بهجر في الفراش نفسه، وتعمد هجر الفراش أو الحجرة زيادة في العقوبة لم يأذن بها الله تعالى. وربما يكون سببا لزيادة الجفوة، وفي الهجر في المضجع نفسه معنى لا يتحقق بهجر المضجع والبيت الذي هو فيه؛ لأن الاجتماع في المضجع هو الذي يهيج شعور الزوجية، فتسكن نفس كل من الزوجين إلى الآخر، ويزول اضطرابها الذي أثارته الحوادث قبل ذلك. فإذا هجر المرأة وأعرض عنها في هذه الحالة رجا أن يدعوها ذلك الشعور والسكون النفسي إلى سؤاله عن السبب، ويهبط بها من نشز المخالفة إلى صف الموافقة.
والذي نراه - وذكرناه في كتابنا عن عبقرية محمد - أن الأستاذ رحمه الله قد أخطأه المراد الدقيق في هذه العقوبة النفسية، وأن الحكمة في إيثارها أعمق جدا من ظاهر الأمر كما رآه الأستاذ. فأبلغ العقوبات ولا ريب هي العقوبة التي تمس الإنسان في غروره، وتشككه في صميم كيانه في المزية التي يعتز بها ويحسبها مناط وجوده وتكوينه. والمرأة تعلم أنها ضعيفة إلى جانب الرجل، ولكنها لا تأسى لذلك ما علمت أنها فاتنة له، وأنها غالبته بفتنتها، وقادرة على تعويض ضعفها، بما تبعثه فيه من شوق إليها ورغبة فيها. فليكن له ما شاء من قوة فلها ما تشاء من سحر وفتنة، وعزاؤها الأكبر عن ضعفها أن فتنتها لا تقاوم، وحسبها أنها لا تقاوم بديلا من القوة والضلاعة في الأجساد والعقول. فإذا قاربت الرجل مضاجعة له، وهي في أشد حالاتها إغراء بالفتنة ثم لم يبالها، ولم يؤخذ بسحرها، فما الذي يقع في وقرها، وهي تهجس بما تهجس به في صدرها؟ أفوات سرور؟ أحنين إلى السؤال والمعابثة؟ كلا، بل يقع في وقرها أن تشك في صميم أنوثتها، وأن ترى الرجل في أقدر حالاته جديرا بهيبتها وإذعانها، وأن تشعر بالضعف ثم لا تتعزى بالفتنة ولا بغلبة الرغبة. فهو مالك أمره إلى جانبها، وهي إلى جانبه لا تملك شيئا إلا أن تتقرب إلى التسليم، وتفر من هوان سحرها في نظرها قبل فرارها من هوان سحرها في نظر مضاجعها. فهذا تأديب نفس وليس بتأديب جسد. بل هذا هو الصراع الذي تتجرد فيه الأنثى من كل سلاح؛ لأنها جربت أمضى سلاح في يديها، فارتدت بعده إلى الهزيمة التي لا تكابر نفسها فيها، فإنما تكابر ضعفها حين تلوذ بفتنتها، فإذا لاذت بها فخذلتها، فلن يبقى لها ما تلوذ به بعد ذاك . وهنا حكمة العقوبة البالغة التي لا تقاس بفوات متعة، ولا باغتنام فرصة، للحديث والمعابثة، إنما العقوبة إبطال العصيان، ولن يبطل العصيان بشيء كما يبطل بإحساس العاصي غاية ضعفه، وغاية قوة من يعصيه، والهجر في المضاجع هو بمثابة الرجوع إلى هذا الإحساس. •••
ولا اعتراض لأحد من المتقدمين أو المتأخرين على عقوبة من هذه العقوبات جميعا فيما خلا العقوبة البدنية، وهو - فيما يبدو لأيسر نظرة - اعتراض متعجل في غير فهم وعلى غير جدوى، وليس هذا الاعتراض بالجائز إلا على وجه واحد، وهو أن العالم لا تخلق فيه امرأة تستحق التأديب البدني، أو يصلحها هذا التأديب. وإنه لسخف يجوز أن يتحذلق به من شاء على حساب نفسه، إظهارا لدعوى النخوة والفروسية في غير موضعها. وليس بالجائز أن يتحذلق به على حساب الشريعة أو الطبيعة، ولا على حساب كيان الأسرة وكيان الحياة الاجتماعية. •••
إن المقام مقام عقوبة بل مقام العقوبة بعد بطلان النصيحة وبطلان القطيعة. ولم يخل العالم الإنساني رجالا ونساء ممن يعاقبون بما يعاقب به المذنبون، فما دام في هذا العالم امرأة من ألف امرأة تصلحها العقوبة البدنية، فالشريعة التي يفوتها أن تذكرها ناقصة، والشريعة التي تؤثر عليها هدم الأسرة مقتصرة ضارة، واللغط بهذه الحذلقة نفاق رخيص، والتماس للسمعة الباطلة بأخبث أثمانها. وقد أجازت الشرائع عقوبة الأبدان للجنود، ولها مندوحة عنها بقطع الوظيفة، وتأخير الترقية والحرمان من الإجازات والحريات، فإذا امتنع العقاب بغيرها لبعض النساء، فلا غضاضة على النساء جميعا في إباحتها. وما يقول عاقل: إن عقوبة الجناة تغض من الأبرياء، وإلا لوجب إسقاط جميع العقوبات من جميع القوانين.
وسنرى فيما يلي من بيان القيود التي أحيطت بها هذه العقوبة أنها في حكم الإسلام جد كريهة، وما أبيحت إلا لاتقاء ما هو أكره منها، وهو الطلاق.
الفصل الرابع عشر
القرآن والزمن
بقي القرآن الكريم في العالم الإسلامي نحو ألف وأربعمائة سنة قوة عاملة يعتصم بها في إقباله وإدباره، وفي عزته وانكساره، بل كان هو القوة العاملة التي نفعته حين فارقته جميع القوى التي تنتفع بها الأمم، فكان له قوة تعينه على التقدم والنماء كما كان له قوة تعينه على الثبات والمقاومة. وابتلي المسلمون في أيام ضعفهم بسطوة الطامعين فيهم، وعداوة القادرين عليهم، فلا تعرف دولة من الدول الطاغية المتغلبة لم تفتح بلدا من بلدان المسلمين، أو تدخله بالحيلة والمكيدة، ولا تعرف لهذه البلاد المغلوبة قوة تعوذ بها، وتأبى عليها أن تسلم بالهزيمة، وتنهضم في جوف الدول المحيطة بها، غير إيمانها بهذا الكتاب: إن الإيمان بالقرآن وقبول الخضوع لغير رب العالمين، نقيضان لا يجتمعان في قلب إنسان.
ونحن اليوم ننظر إلى الدول الغالبة، فلا نرى لأبنائها حيرة أشد من حيرتهم في البحث عن الإيمان الموجه والعقيدة الراجية: كلهم يريدون أن يستقروا على أمل في الحياة، وعلى فكرة واثقة بالعمل الصالح، والرجاء الموفق، والسعي المطمئن إلى هداه، وإلى المصير وإن كان لا يراه.
وعندنا نحن هذا الإيمان وهذه العقيدة الراجية: عندنا الإيمان متأصلا، والعقيدة ناجية من تجارب الزمن، مختبرة بالمحن والشدائد، صالحة لكل أمس، كان في يوم من الأيام غدا مجهولا، قبل أن يماط عنه حجاب الغيب، صالحة لكل غد نستقبله ونجهله اليوم، ولكننا لا نجهل أن الإيمان فيه قوة، وأن ديننا يمنحنا تلك القوة، وأننا على سنة القصد - على الأقل - حين نفيد مما في أيدينا ولا ننبذه جزافا لنبحث عن سواه، وقد جرب غيرنا سواه حيث اضطرته فاقة العقيدة إلى التجربة المجهولة، فإذا هو في طريق العقيدة على غير اعتقاد، وإذا هو يشد الرحال ليبحث عن الزاد، ولا رحلة بغير زاد.
لقد كان هذا الدين حافظا لنا في أمسنا، فما لنا لا نحفظه في يومنا وغدنا ولا شطط ولا مشقة؟ وماذا ينكر اليوم أو الغد منه، وهو يسير معه حيث سار، ويمده من قوة ويسدده من عثار؟
إنه دين رب العالمين.
إنه دين إنسان العالمين! دين الإنسان الذي يستقبل ربه حيث يكون، وحينما يكون، فأين ولى فثم وجه الله، ومتى ولى فثم وجه الله، وثم رب العالمين، رب كل أرض وكل سماء وكل منزل وكل حين.
إن «إنسان العالمين» يعيش اليوم كما عاش بالأمس، بل يعيش في يومه الحاضر أكثر مما عاش في أمسه الدابر؛ لأن الأمس قد كان أمس هذا العالم، وذلك العالم حيث لا يلتقي عالم وعالم، وأما «العالمون» فإنها لمن صنع التاريخ الذي لم تنقض عليه سنون. •••
وقد آمن دين القرآن بالإنسان الحي في كل زمن، وأعطاه حقه مقترنا بحق الحياة، غير موقوف على دساتير السلطان والمال، ولا على أصوات الانتخاب وندوات النواب: إنسان مسئول يملك حقه وواجبه بشفاعة واحدة هي شفاعة الحياة، لم يسبق دينه فيودعه ويعرض عنه، بل سبقه دينه عهودا طوالا ويسبقه بعد اليوم أطول مما سبقه من عهود.
ولا ضير على الدين أن يثبت ويستقر.
بل على الدين الصالح أن يثبت ويستقر.
وإنما الضير أن يفهمه زمن ولا يفهمه زمن، وأن يكون فيه حائل بينه وبين ضمير الإنسان في زمن من الأزمان. وتنزه دين القرآن عن هذا الجمود. فإنه لعلى الغاية مما يطلب لدين ينتظم الملايين من العارفين والجاهلين مئات السنين، ويخلص بينهم إلى ضمير المؤمن بالله في كل عصر، وليس عليه من حسيب غير هداية الضمير.
وفي الصفحات التالية مثل لفهم آيات الكتاب على مدى ألف وثلثمائة سنة توالى فيها المفسرون ليفهموا آيات الحساب والعقاب بين الزوجين، وبدا من أساليبهم - لفظا ومعنى - أنهم تغيروا مع الزمن شعورا وفهما، ولم يمنعهم كتابهم أن يتغيروا، ولا هو بمانع أحدا يتلوهم أن يتغير جهده من التغير، كيفما كان تغير الفهم والشعور في هذه الأمور.
وعلى هذا المثال نحتفظ بالقرآن، ونحتفظ بالزمن، ونعبر مئات السنين في بضع صفحات ولا يزال في الأمد متسع لأخرى من مئات السنين.
ونختار للمقابلة بين التفاسير آخر الآيات التي استشهدنا بها لشريعة القرآن في معاملة المرأة، وهي آيات النشوز في سورة النساء، نبدؤها بابن عباس ونختمها بالأئمة من أبناء القرن الثالث عشر، ولم يخالفهم من ظهر بعدهم من المفسرين إلى هذه الأيام. •••
فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا * وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا [النساء: 34، 35].
قال ابن عباس:
1 «
فعظوهن
بالعلم والقرآن
واهجروهن في المضاجع
حولوا عنهن وجوهكم في الفراش
واضربوهن
ضربا غير مبرح ولا شائن
فإن أطعنكم
في المضاجع
فلا تبغوا
فلا تطلبوا
عليهن سبيلا
في الحسب
الله كان عليا
أعلى من كل شيء
كبيرا
أكبر من كل شيء، لم يكلفكم ذلك فلا تكلفوا من النساء ما لا طاقة لهن به من المحبة.»
وجاء في تفسير الطبري
2
المتوفى سنة 310ه: «
واهجروهن في المضاجع
حدثنا المثنى بعد إسناد ... قال: لا يهجرها إلا في المبيت في المضجع، ليس له أن يهجر في كلام ولا شيء إلا في الفراش، فلا يكلفها أن تحبه، فإن قلبها ليس في يديها، ولا معنى للهجر في كلام العرب، إلا على أحد ثلاثة أوجه؛ أحدها: هجر الرجل كلام الرجل وحديثه، وذلك رفضه وتركه، يقال منه: هجر فلان أهله يهجرها هجرا وهجرانا. والآخر: الإكثار من الكلام بترديد، كهيئة كلام الهازئ، يقال منه: هجر فلان في كلامه يهجر هجرا، إذا هذى، ومدد الكلمة، وما زالت تلك هجيراه وأهجيراه. والثالث: هجر البعير، إذا ربطه صاحبه بالهجار، وهو حبل يربط في حقويها ورسغها.»
قال حيان: حدثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا يحيي بن بشر، سمع عكرمة يقول في قوله:
واضربوهن
ضربا غير مبرح، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «واضربوهن إذا عصينكم في المعروف، ضربا غير مبرح».
فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا
يقول: «فإن أطاعتك فلا تبغ عليها العلل.»
وجاء في تفسير الزمخشري
3
المتوفى سنة 538ه: «نشوزها أو نشوصها أن تعصي زوجها ولا تطمئن إليه، وأصله الانزعاج
في المضاجع
في المراقد؛ أي: لا تداخلوهن تحت اللحف، وهو كناية عن الجماع، وقيل: هو أن يوليها ظهره في المضجع، وقيل: في المضاجع في بيوتهن التي يبتن فيها؛ أي: لا تبايتوهن. وقرئ في المضجع والمضطجع وذلك لتعرف أحوالهن وتحقق أمرهن في النشوز أمر بوعظهن أولا ثم هجرانهن ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران، وقيل: معناه أكرهوهن على الجماع واربطوهن، من هجر البعير إذا شده بالهجار، وهذا من تفسير الثقلاء، وقالوا: يجب أن يكون ضربا غير مبرح لا يجرحها ولا يكسر لها عظما ويتجنب الوجه. وعن النبي
صلى الله عليه وسلم : «علق سوطك حيث يراه أهلك»، وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه: كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب يكسره عليها.
ويروى عن الزبير أبيات منها:
ولولا بنوها حولها لخبطتها
فلا تبغوا عليهن سبيلا
فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى والتوبيخ والتجني وتوبوا عليهن، واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن بعد رجوعهن إلى الطاعة والانقياد وترك النشوز.» •••
وجاء في تفسير القرطبي
4
المتوفى سنة 671ه: «السابعة: قوله تعالى:
واهجروهن في المضاجع
وقرأ ابن مسعود والنخعي وغيرهما: «في المضجع» على الإفراد، كأنه جنس يؤدي عن الجمع. والهجر في المضاجع هو أن يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها، عن ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: جنبوا مضاجعهن، فيتقدر على هذا الكلام حذف، ويعضده
اهجروهن
من الهجران وهو البعد، يقال: هجره؛ أي: تباعد ونأى عنه. ولا يمكن بعدها إلا بترك مضاجعتها. وقال معناه إبراهيم النخعي والشعبي وقتادة والحسن البصري، رواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك، واختاره ابن العربي وقال: حملوا الأمر على الأكثر الموفي، ويكون هذا القول كما تقول: هجره في الله. وهذا أصل مالك.
قلت: هذا قول حسن، فإن الزوج إذا أعرض عن فراشها، فإن كانت محبة للزوج، فذلك يشق عليها فترجع للصلاح، وإن كانت مبغضة فيظهر النشوز منها، فيتبين أن النشوز من قبلها. وقيل: «اهجروهن» من الهجر وهو القبيح من الكلام؛ أي: غلظوا عليهن في القول وضاجعوهن للجماع وغيره، قال معناه سفيان، وروي عن ابن عباس. وقيل: أي شدوهن وثاقا في بيوتهن، من قولهم: هجر البعير؛ أي: ربطه بالهجار، وهو حبل يشد به البعير ، وهو اختيار الطبري وقدح في سائر الأقوال. وفي كلامه في هذا الموضع نظر.
وقد رد عليه القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه فقال: يا لها من هفوة من عالم بالقرآن والسنة، والذي حمله على هذا التأويل حديث غريب رواه ابن وهب عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصديق أتت الزبير بن العوام وكانت تخرج حتى عوتب في ذلك. قال: وعتب عليها وعلى ضرتها، فعقد شعر واحدة بالأخرى ثم ضربهما ضربا شديدا، وكانت الضرة أحسن اتقاء، وكانت أسماء لا تتقي، وكان الضرب لها أكثر، فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال لها: أي بنية اصبري، فإن الزبير رجل صالح، ولعله أن يكون زوجك في الجنة، ولقد بلغني أن الرجل إذا ابتكر بامرأة تزوجها في الجنة. فرأى الربط والعقد، مع احتمال اللفظ، مع فعل الزبير فأقدم على هذا التفسير.
وهذا الهجر غايته عند العلماء شهر، كما فعل النبي
صلى الله عليه وسلم
حين أسر أمرا إلى حفصة فأفشته إلى عائشة، وتظاهرتا عليه، ولا يبلغ به الأربعة أشهر التي ضرب الله أجلا عذرا للمولى.» «الثامنة:
واضربوهن
أمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولا ثم بالهجران، فإن لم ينجعا فالضرب، فإنه هو الذي يصلحها له ويحملها على توفية حقه. والضرب في هذه الآية هو ضرب بالأدب غير المبرح، وهو الذي لا يكسر لها عظما ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها، فإن المقصود منه الصلاح لا غير. فلا جرم إذا أدى إلى الهلاك وجب الضمان، وكذلك القول في ضرب المؤدب غلامه لتعليم القرآن والأدب. وفي صحيح مسلم: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح» الحديث. أخرجه من حديث جابر الطويل في الحج. أي: لا يدخلن منازلكم أحدا ممن تكرهونه من الأقارب والنساء والأجانب. وعلى هذا يحمل ما رواه الترمذي وصححه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فقال: «ألا واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عوان عندكم، لا تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا. ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم أحدا تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن» قال: حديث حسن صحيح، فقوله: «بفاحشة مبينة» يريد: لا يدخلن من يكرهه أزواجهن، وليس المراد بذلك الزنا، فإن ذلك محرم ويلزم عليه الحد. فقال عليه السلام: «اضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضربا غير مبرح» قال عطاء: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال: بالسواك ونحوه.»
وروي أن عمر رضي الله عنه ضرب امرأته فعذل في ذلك، فقال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «لا يسأل الرجل فيم ضرب أهله؟» «التاسعة: قوله تعالى:
فإن أطعنكم
أي: تركن النشوز
فلا تبغوا عليهن سبيلا
أي: لا تبغوا عليهن بقول أو فعل. وهذا نهي عن ظلمهن بعد تقرير الفضل عليهن، والتمكن من ذلهن، وقيل: المعنى: لا تكلفوهن الحب لكم فإنه ليس بالهين.»
وجاء في تفسير النسفي
5
المتوفى سنة 710ه: «
واهجروهن في المضاجع
في المراقد؛ أي: لا تدخلوهن تحت اللحف، وهو كناية عن الجماع، أو هو أن يوليها ظهره في المضجع لأنه لم يقل عن المضاجع.
واضربوهن
ضربا غير مبرح، أو بوعظهن أولا ثم بهجرانهن في المضاجع ثم بالضرب إذا لم ينجع فيهن الوعظ والهجران ...
فإن أطعنكم
بترك النشوز
فلا تبغوا عليهن سبيلا
فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى، وهو من بغيت الأمر؛ أي: طلبته، أي: إن علت أيديكم عليهن فاعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم عليهن فاجتنبوا ظلمهن. و
إن الله كان عليا كبيرا
وإنكم تعصونه على علو شأنه وكبرياء سلطانه ثم تتوبون فيتوب عليكم. فأنتم أحق بالعفو عمن يجني عليكم إذا رجع.» •••
وجاء في تفسير ابن كثير
6
المتوفى سنة 744ه: «
واهجروهن في المضاجع
وقال علي بن أبي طلحة أيضا عن ابن عباس: يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع ولا يكلمها من غير أن يرد نكاحها وذلك عليها شديد. وقال مجاهد والشعبي وإبراهيم ومحمد بن كعب ومقسم وقتادة: الهجر هو ألا يضاجعها، وقال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن أبي مرة الرقاشي، عن عمه، عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «فإن خفتم نشوزهن فاهجروهن في المضاجع»، قال حماد: يعني النكاح. وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: يا رسول الله، ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تهجر إلا في البيت»، وقوله:
واضربوهن
إذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران فلكم أن تضربوهن ضربا غير مبرح كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال في حجة الوداع: «واتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوان، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف»، وكذا قال ابن عباس وغير واحد: ضربا غير مبرح، قال الحسن البصري: يعني غير مؤثر. قال الفقهاء: هو ألا يكسر فيها عضوا ولا يؤثر شيئا.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يهجرها في المضجع، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله أن تضربها ضربا غير مبرح ولا تكسر لها عظما، فإن أقبلت وإلا فقد أحل الله عنها الفدية، وقال سفيان بن عيينة عن الزهري، عن عبد الله بن عمر، عن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «ولا تضربوا إماء الله»، فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال: زأرت النساء على أزواجهن فرخص رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نساء كثير يشتكين أزواجهن، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشتكين أزواجهن ليس أولئك بخياركم» رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود - يعني: أبا داود الطيالسي - حدثنا أبو عوانة، عن داود الأودي، عن عبد الرحمن السلمي، عن الأشعث بن قيس قال: «ضفت عمر رضي الله عنه فتناول امرأته فضربها فقال: يا أشعث، احفظ عني ثلاثا حفظتهن عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم : لا تسأل الرجل فيم ضرب امرأته، ولا تنم إلا على وتر، ونسي الثالثة» وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن مهدي عن أبي عوانة عن داود الأودي. وقوله تعالى:
فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا
أي: إذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده منها مما أباحه الله له منها فلا سبيل له عليها بعد ذلك، وليس له ضربها وهجرانها.
وقوله:
إن الله كان عليا كبيرا
تهديد للرجال إذا بغوا على النساء بغير سبب، فإن الله العلي الكبير وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن.»
جاء في تفسير الألوسي
7
المتوفى سنة 1270ه: «
واهجروهن في المضاجع
أي: مواضع الاضطجاع، والمراد: اتركوهن منفردات في مضاجعهن فلا تدخلوهن تحت اللحف ولا تباشروهن، فيكون الكلام كناية عن ترك جماعهن، وإلى ذلك ذهب ابن جبير، وقيل: المراد اهجروهن في الفراش بأن تولوهن ظهوركم فيه ولا تلتفتوا إليهن، وروي ذلك عن ابن جعفر رضي الله تعالى عنه ولعله كناية أيضا عن ترك الجماع، وقيل: المضاجع: المبايت؛ أي: اهجروا حجرهن ومحل مبيتهن، وقيل: (في) للسببية، أي: اهجروهن بسبب المضاجع؛ أي: بسبب تخلفهن عن المضاجعة، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة من طريق ابن الضمي، فالهجران على هذا بالمنطق، قال عكرمة: بأن يغلظ لها القول، وزعم بعضهم أن المعنى: أكرهوهن على الجماع واربطوهن، من هجر البعير إذا شده بالهجار، وتعقبه الزمخشري بأنه تفسير الثقلاء، وقال ابن المنير: لعل هذا المفسر يتأيد بقوله تعالى:
فإن أطعنكم
فإنه يدل على تقدم إكراه في أمر ما، وقرينة المضاجع ترشد إلى أنه الجماع، فإطلاق الزمخشري لما أطلقه في حق هذا المفسر من الإفراد انتهى، وأظن أن هذا لو عرض على الزمخشري لنظم قائله في سلك ذلك المفسر، ولعد تركه من التفريط، وقرئ: في المضجع،
واضربوهن
يعني: ضربا غير مبرح، كما أخرجه ابن جرير عن حجاج عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وفسر غير المبرح بألا يقطع لحما ولا يكسر عظما، وعن ابن عباس أنه الضرب بالسواك ونحوه، والذي يدل عليه السياق والقرينة العقلية أن هذه الأمور الثلاثة مترتبة، فإذا خيف نشوز المرأة تنصح، ثم تهجر، ثم تضرب؛ إذ لو عكس استغنى بالأشد عن الأضعف، وإلا فالواو لا تدل على الترتيب وكذا الفاء
فعظوهن
لا دلالة لها على أكثر من ترتيب المجموع، فالقول بأنها أظهر الأدلة على الترتيب ليس بظاهر، وفي الكشف الترتيب مستفاد من دخول الواو على أجزئة مختلفة في الشدة والضعف مترتبة على أمر مدرج، فإنما النقص هو الدال على الترتيب.
هذا وقد نص بعض أصحابنا أن للزوج أن يضرب المرأة على أربع خصال وما هو في معنى الأربع ترك الزينة والزوج يريدها، وترك الإجابة إذا دعاها لفراشه، وترك الصلاة - وفي رواية الغسل - والخروج من البيت إلا لعذر شرعي، وقيل: له أن يضربها متى أغضبته، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه فإذا غضب على واحدة منا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها. ولا يخفى أن تحمل أذى النساء والصبر عليهن أفضل من ضربهن إلا لداع قوي، فقد أخرج ابن سعد والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصديق رضي الله تعالى عنه قالت: «كان الرجال نهوا عن ضرب النساء، ثم شكوهن إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فخلى بينهم وبين ضربهن ثم قال: ولن يضرب خياركم».»
جاء في تفسير الشيخ الجاوي
8
المتوفى في القرن الثالث عشر: «
واهجروهن في المضاجع
أي: حولوا عنهن وجوهكم في المراقد، فلا تدخلوهن تحت اللحف إن علمتم النشوز ولم تنفعهن النصيحة.
واضربوهن
إن لم ينجع الهجران ضربا غير مبرح ولا شائن، والأولى ترك الضرب، فإن ضرب فالواجب أن يكون الضرب بحيث لا يكون مفضيا إلى الهلاك، بأن يكون مفرقا على البدن، وبألا يكون في موضع واحد، وألا يوالي به، وأن يتقي الوجه، وأن يكون بمنديل ملفوف.» •••
وجاء في تفسير الأستاذ الإمام المتوفى سنة 1323ه
9
أن مشروعية ضرب النساء ليست بالأمر المستنكر في العقل أو الفطرة فيحتاج إلى التأويل، فهو أمر يحتاج إليه في حال فساد البيئة وغلبة الأخلاق الفاسدة. وإنما يباح إذا رأى الرجل أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه، وإذا صلحت البيئة وصرن يعقلن النصيحة ويستجبن للوعي، أو يزدجرن بالهجر، فيجب الاستغناء عن الضرب، فلكل حال حكم يناسبها في الشرع، ونحن مأمورون على كل حال بالرفق بالنساء واجتناب ظلمهن، وإمساكهن بمعروف، أو تسريحهن بإحسان، والأحاديث في الوصية بالنساء كثيرة جدا.
أقول: ومن هذه الأحاديث ما هو في تقبيح الضرب والتنفير عنه، ومنها حديث عبد الله بن زمعة في الصحيحين قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر الليل»، وفي رواية عائشة عن عبد الرزاق: «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد، يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره»، يذكر الرجل بأنه إذا كان يعلم من نفسه أن لا بد له من ذلك الاجتماع والاتصال الخاص بامرأته وهو أقوى وأحكم اجتماع يكون بين اثنين من البشر، يتحد أحدهما بالآخر اتحادا تاما فيشعرك منهما بأن صلته بالآخر أقوى من صلة بعض أعضائه ببعض. إذا كان لا بد له من هذه الصلة والوحدة التي تقتضيها الفطرة، فكيف يليق به أن يجعل امرأته، وهي كنفسه، مهينة كمهانة عبده، بحيث يضربها بسوطه أو يده، حقا إن الرجل الحي الكريم ليتجافى به طبعه عن مثل هذا الجفاء، ويأبى عليه أن يطلب منهن الاتحاد بمن أنزلها منزلة الإماء، فالحديث أبلغ ما يمكن أن يقال في تشنيع ضرب النساء، وأذكر أنني هديت إلى معناه العالي قبل أن أطلع على لفظه الشريف، فكنت كلما سمعت أن رجلا ضرب امرأته أقول: يا لله العجب، كيف يستطيع الإنسان أن يعيش عيشة الأزواج مع امرأة تضرب، تارة يسطو عليها بالضرب، فتكون منه كالشاة من الذئب، وتارة يذل لها كالعبد، طالبا منتهى القرب؟ لكن لا ننكر أن الناس متفاوتون، فمنهم من لا تطيب له هذه الحياة، فإذا لم تقدر امرأته بسوء تربيتها تكريمه إياها حق قدره ولم ترجع عن نشوزها بالوعظ والهجران، فارقها بمعروف وسرحها بإحسان إلا أن يرجو صلاحها بالتحكيم الذي أرشدت إليه الآية، ولا يضرب فإن الأخيار لا يضربون النساء وإن أبيح لهم ذلك للضرورة. فقد روى البيهقي من حديث أم كلثوم بنت الصديق رضي الله عنها قالت: كان الرجال نهوا عن ضرب النساء، ثم شكوهن لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
فخلى بينهم وبين ضربهن، ثم قال: «ولم يضرب خياركم»، فما أشبه هذه الرخصة بالحظر، وجملة القول أن الضرب سلاح مر، قد يستغني عنه الخير الحر، ولكنه لا يزول من البيوت بكل حال، أو يعم التهذيب النساء والرجال.
هذا وإن أكثر الفقهاء قد خصوا النشوز الشرعي الذي يبيح الضرب إن احتيج إليه لإزالته، بخصال قليلة كعصيان الرجل في الفراش، والخروج من الدار بغير عذر، وجعل بعضهم تركها الزينة وهو يطلبها نشوزا، وقالوا: «له أن يضربها أيضا على ترك الفرائض الدينية كالغسل والصلاة، والظاهر أن النشوز أعم فيشمل كل عصيان سببه الترفع والإباء، ويقيد هذا قوله:
فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا
قال الأستاذ الإمام: أي إن أطعنكم بواحدة من هذه الخصال التأديبية فلا تبغوا بتجاوزها إلى غيرها فابدءوا بما بدأ به الله من الوعظ، فإن لم يفد فليهجر، فإن لم يفد فليضرب، فإن لم يفد هذا أيضا يلجأ إلى التحكيم، ويفهم من هذا أن القانتات لا سبيل عليهن حتى في الوعظ والنصح فضلا عن الهجر والضرب، وأقول: صرح كثير من المفسرين بوجوب هذا الترتيب في التأديب. •••
جاء في تفسير القاسمي
10
المتوفى سنة 1332ه:
واللاتي تخافون نشوزهن
أو عصيانهن وسوء عشرتهن وترفعهن عن مطاوعتكم، من «النشز» وهو ما ارتفع من الأرض. يقال: نشزت المرأة بزوجها وعلى زوجها، استعصت عليه، وارتفعت عليه وأبغضته، وخرجت عن طاعته،
فعظوهن
أي: خوفوهن بالقول، كاتقي الله، واعلمي أن طاعتك لي فرض عليك، واحذري عقاب الله في عصيانك؛ وذلك لأن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته، وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والأفضال.
واهجروهن
بعد ذلك إن لم ينفع الوعظ والنصيحة
في المضاجع
أي: المراقد، فلا تدخلوهن تحت اللحف ولا تباشروهن، وقيل: المضاجع: المبايت؛ أي لا تبايتوهن، وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت»، و
واضربوهن
إن لم ينجع ما فعلتم من القطيعة والهجران ضربا غير مبرح؛ أي: لا شديد ولا شاق. قال الفقهاء: «هو ألا يجرحها ولا يكسر لها عظما ولا يؤثر شيئا، ويتجنب الوجه لأنه مجمع المحاسن، ويكون مفرقا على بدنها، ولا يوالي به في موضع واحد لئلا يعظم ضرره»، ومنهم من قال: ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف أو بيده، وقال عطاء: ضرب بالسواك.
فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا
أي: إذا رجعن عن النشوز عند هذا التأديب إلى الطاعة في جميع ما يراد منهن مما أباحه الله فلا سبيل للرجال عليهن بعد ذلك بالتوبيخ والأذية بالضرب والهجران،
إن الله كان عليا كبيرا
فاحذروه، تهديد للأزواج على ظلم النساء، فإنهن وإن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم، فالله سبحانه كبير، قاهر، قادر، ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن. •••
وجاء في تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري
11
المتوفى سنة 1358ه: «والنساء على قسمين: صالحات مطيعات لله قائمات بحقوق الأزواج، وعاصيات ناشزات لا يطعن أزواجهن. فالقسم الأول أمره معلوم. أما الفريق الثاني فابتدئوا بوعظه، فإن لم ينجع الوعظ فاهجروهن في المضاجع ولا تبيتوا معهن ليلتين، فإن لم يتبن فاضربوهن ضربا غير مبرح، وإياكم ومخالفة هذا الترتيب، فالوعظ يتلوه الهجر، والهجر يتلوه الضرب، فمن أطاعت واعتدلت فانسوا ذنبها ولا تذكروه البتة؛ لأن الله فوقكم كما أنكم فوق النساء مقاما وقدرة، فإن تبن من الذنب فلا تعتدوا بما لكم من القدرة عليهن والله أقدر عليكم من قدرتكم عليهن، وإن خفتم خلافا بينهما فابعثوا رجلين يصلحان للحكومة، أحدهما من أهله والآخر من أهلها، وهما أدرى بأحوالهما ليوفقا بينهما، فهذا قوله تعالى:
الرجال قوامون على النساء
فهم كالولاة، والنساء كالرعية
بما فضل الله بعضهم على بعض
بسبب تفضيله الرجال على النساء بما هو معلوم مما تقدم
وبما أنفقوا من أموالهم
كالمهر والنفقة.
وهن قسمان: مطيعات، وعاصيات
فالصالحات قانتات
مطيعات لله
حافظات للغيب
يحفظن في غيبة أزواجهن ما يجب أن يحفظ في النفس والمال،
بما حفظ الله
أي: بسبب حفظ الله لهن حيث حثهن ورغبهن بالوعد وانذرهن وخوفهن بالتهديد، ووفقهن لحفظ أسرار الزوج وللعفة ومراعاة ما يجب عليهن مراعاته في غيبته من أعراضهن وأموال الأزواج، فعنه عليه الصلاة والسلام: «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإن غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها» وتلا الآية. فأما القسم الثاني وهن العاصيات، فقال فيهن:
واللاتي تخافون نشوزهن
أي: عصيانهن وترفعهن عن مطاوعة الأزواج
فعظوهن واهجروهن في المضاجع ...
واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا
بالتوبيخ والإيذاء، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له،
إن الله كان عليا كبيرا ، وهذه المعاني قد قدمناها هنا، وقوله:
وإن خفتم شقاق بينهما
أي: خلافا بين المرأة وزوجها، وإضافة الشقاق إلى البين على حد قولهم: نهاره صائم، وليله قائم، والحكم الوسط الذي يصلح للحكومة والإصلاح، وكون الحكمين من أهله وأهلها أفضل، ولا يمنع أن يكونا من الأجانب، وإرسال الحكمين من قبل الحكام أو من قبل الزوجين أو من قبل صالحي الأمة، وللحكمين أن يجريا الخلع بلا إذن من الزوجين إن رأيا الإصلاح فيه عند مالك، وعند غيره لا يليان جمعا ولا تفريقا إلا بإذن الزوجين.
واعلم أن لإرادة الحكمين دخلا في تحقيق الصلح كما قال:
إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما
إن يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين، أو بين الحكمين في إتمام الصلح. وليس للحاكم أن يبعث عدلين ويجعلهما حكمين عند الشافعي. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه جاءه رجل وامرأة ومع كل واحد منهما فئة من الناس، فقال: فعلام شأن هذين؟ قالوا: وقع بينهما شقاق، قال علي: «أتدريان ما عليكما: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ...» إلخ.»
فأعجب للمسلمين في مصر والشام، وكثير من بلاد الإسلام كيف غفلوا عن بعث الحكمين.
تعقيب
تسلمنا - في الشرق - قضية المرأة حيث انتهت في الغرب بعد تاريخ طويل يخالف تاريخنا في مطالعه ونهايته، كما يخالفه في مجراه.
تاريخ هذه القضية في الغرب مثقل بما حمل من جهالة الوثنية، وخرافة القرون الوسطى، ومعارك الدين والدولة في القرون المتأخرة، وليس بأهونها ولا أسلمها معركة النضال على حرية الفكر وحرية الانتخاب.
وظفرت المرأة الغربية بعض الرعاية منذ القرن التاسع عشر، فكانت من قبيل تلك الرعاية التي سميناها بضرورة الإجراءات أو بحلول الإرادة الحكومية: شأن المرأة في ذلك شأن المطالبين بالحرية الديمقراطية أجمعين. إنما ظفروا بها بعد عصر الصناعة على الخصوص، لأنهم توسلوا إليها باستغلال حاجة المجتمع إليهم في المصانع ومرافق المدن الاقتصادية، ولم يظفروا بها حقا «إنسانيا» ملازما للإنسان حيث كان، لأنه المخلوق العاقل المسئول بين يدي الله.
والمرأة الغربية لم تظفر بتلك الرعاية لأنها حق تملكه المرأة في كل بيئة، بل كان ظفرها بها ثمرة لنزاع طويل على الحقوق المهضومة، شاركت فيه المتنازعين طرفا آخر كما يقول المتنازعون في قضايا القانون.
حق الرعية مع الراعي، حق الزارع مع صاحب الأرض، حق العامل مع صاحب المال، حق المفكر مع رجل الدين، حق الأحرار المجددين مع المحافظين الجامدين، بل حق الأبناء مع الآباء، وحق الجيل الناشئ مع الجيل القادم.
هذه المرأة ليست بالمرأة المسلمة ولا بالمرأة الشرقية، في ماضيها وفي حاضرها، ولا في مستقبلها.
تلك امرأة أخرى تجري بها المقادير إلى نهايتها.
أما نحن في الشرق فالمرأة لها قضيتها التامة غير تلك القضية: قضية ثابتة لأنها لا تنسى المرأة في ذاتها بعواطفها وأخلاقها، ولا تنسى المرأة وهي جنس يقابل الجنس الآخر بتكوينه واستعداده، ولا تنسى المرأة بوظيفتها في الأسرة، ولا بوظيفتها في الحياة العامة كلما دعتها المصلحة إليها.
وهذه المرأة بحقوقها وواجباتها منذ أدركتها شريعة الإسلام لا تتقاضى حقا ولا تتلقى واجبا من مخالب الفتنة الجامحة ولا من براثن المصنع الشحيح، وإنما هي صاحبة هذه الحقوق وهذه الواجبات لأنها من خلق الله، على قسطاس المساواة العادلة بين الحقوق والواجبات.
ولقد يسوغ في شرعة العقل وشرعة القانون أن يتنازع أصحاب الحقوق جميعا إلا الحق الذي يتنازعه النساء والرجال فإنهما جنسان لا ينفصلان ولا يخلق أحدهما إلا وهو شطر وله بقية، ولا سبيل إلى انفراد بينهما في تركيب الطبيعة ولا في وظيفة النوع. فإذا انفردا في تكاليف المجتمع فتلك علامة الخلل والانحراف، لا حاجة بعدها إلى علامة من أقاويل الدعاة أو الأدعياء. •••
ملاك العدل والمصلحة بين الجنسين أن تجري الحياة بينهما في الأمة على سنة التعاون والتقسيم لا على سنة الشقاق والتناضل بالمطالب والحقوق.
وليس الخلاف بينهما بالخلاف الذي ينفض بالصراع على كفاية واحدة يدعيها كلاهما في مقام الخصومة، ولكنه خلاف على كفايتين أيهما أصلح لهذه وأيهما أصلح لتلك، وإن صلح كلاهما لكفاية الآخر في كثير من الأحيان.
فلا جدال في استطاعة الرجل أن يعمل ما تعمله المرأة من تكاليف البيت والأسرة، ولكنه لا يقضى عليه من أجل ذلك أن يدع الحياة العامة، ليحل في البيت حيث حلت المرأة من قديم الزمن. ولا جدال في استطاعة المرأة أن تشارك الرجل في الحياة العامة، ولكنها لا تتخلى عن البيت من أجل ذلك التزاحم على جميع أعماله، مما يستطيعانه على السواء.
وإذا قضى اختلاف الجنسين أن يكون لكل منهما عمله الذي هو أصلح له وأقدر عليه ، فالجدال في ذلك محال ذاهب في الهواء.
نعم لا جدال في الوظيفة المثلى التي تستقل بها المرأة، وهي حماية البيت في ظل السكينة الزوجية من جهاد الحياة، وحضانة الجيل المقبل لإعداده بالتربية الصالحة لذلك الجهاد.
وليست هذه الحصة بأصغر الحصتين: ليس تدبير السكينة في الحياة بأهون من تدبير الجهاد، وليس العمل الصالح لسياسة الغد بأهون من العمل الصالح لسياسة اليوم.
وإن الحياة العامة لتنحرف عن سوائها فينحرف البيت عن سوائه، وتعجز المرأة والرجل معا عما يستطيعان في الأسرة وفي المجتمع، فلا يقاس على ذلك ولا يبنى عليه، ولا يجوز - مع ذلك - أن تبوء المرأة وحدها بجريرة الخلل والانحراف، فيحال بينها وبين العمل النافع الذي تلجئها الضرورة إليه. •••
إن الشريعة المنصفة هي الشريعة التي تحسب حساب الحالتين، وتشرع للحالة المثلى ولا يفوتها أن تشرع لحالة القسر والاضطرار، فلا تمنع شيئا يوجبه نقص المجتمع، حتى يتهيأ له حظه من الكمال.
وفي شريعة القرآن الكريم حساب لكل أولئك في قضية المرأة، فيها حساب المعيشة التي ترتضيها المرأة باختيارها، وفيها حساب المعيشة التي تساق إليها على كره منها، فلها في هذه الحالة كل ما للرجل وعليها كل ما عليه.
والمجتمع الإسلامي لم يبلغ بعد غايته من الحياة المثلى باختيار الجنسين، وقد يطول الأمد قبل أن يبلغ إلى تلك الغاية، ولكنه يبتعد عنها ولا يقترب منها إذا أقام البناء على النقص، وعمل لدوامه وتمكينه، والزيادة عليه من خلله وانحرافه، ولا يتاح له أن يقترب منه خطوة واحدة على سنة الصراع بين رجاله ونسائه، فإنها غاية الجنسين معا يتعاونان عليها ويتقاسمان المؤنة والجهد في السعي إليها، ويدركانها لا محالة بعد حين.
ولربما ضللنا الطريق فركب كل من الجنسين رأسه في اللجاجة والشحناء: حقي وحقك، وكفايتي وكفايتك، وسلاحي وسلاحك، وانتصاري وهزيمتك، على النحو الذي سبقنا إليه الغرب القديم والحديث غير محسود على سبقه.
ولكن الأمر الذي نحن منه على أتم اليقين أن ضلالنا عن الطريق سيردنا طائعين أو كارهين إلى سوائه، وأن عواقب الأخطاء سوف تصدنا عنها وتخيفنا من وبالها، ثم تستنفد شرورها وأخطارها، فلا نجهلها ولا تبقى منها بقية تسترها وتملي لمن يلج في ضلالته أن يوغل فيها.
وإن يكن لهذا العالم خير أريد به فسيأتي الأوان المقدور الذي تسمع فيه المطالبات بحقوق المرأة مطالبات بحق جديد تستحقه بكل جهد جهيد، ولكنه في هذه المرة حقها الخالد الذي لا ينازعها فيه منازع: حق الأمومة والأنوثة، لا حق الرجولة المدعاة، ولا حق السباق إلى ميادين الصراع، وسلام يومئذ في العالم الصغير - عالم البيت والأسرة - وسلام في العالم الكبير.
ناپیژندل شوی مخ