بعد ذلك تطوع أحد الآلهة - ولا نستطيع ذكر اسمه لأننا لا نعرفه - فقدم خدمات جليلة في سبيل تنظيم الأرض وترتيبها، فحدد للأنهار والخلجان أماكنها، وشيد الجبال، وحفر الوديان، ووزع الأحراش والغابات والينابيع، والحقول الخصبة، والبطاح الصخرية الصلبة، فأصبح الهواء نقيا، وبدأت الكواكب تظهر، واحتلت الأسماك المياه، والطيور الفضاء، أما الأرض الصلبة فقد احتكرتها كل دابة من ذوات الأربع.
غير أن الحاجة كانت ماسة إلى حيوان أكثر رقيا، خلق الإنسان، وليس من المعروف إن كان الخالق قد خلقه من مواد مقدسة، أو أنه عندما انفصلت الأرض عن السماء ظلت هناك بعض البذور السماوية عالقة بالأرض، فأخذ «بروميثيوس» بعضا منها ومزجها بقليل من الماء، وخلق منها الإنسان في صورة الآلهة، وجعله منتصب القامة على خلاف باقي الحيوانات الأخرى، كما جعله قادرا على رفع وجهه إلى السماء، يحملق في النجوم، بعكس الحيوانات الأخرى التي كانت تنظر دائما إلى أسفل، ولا ترى غير وجه الأرض.
كان بروميثيوس هذا أحد التيتان، وهم عمالقة سكنوا الأرض قبل أن يخلق الإنسان، وتعزى إليه وإلى أخيه «إبيميثيوس» فكرة خلق الإنسان وإمداده هو وجميع الحيوانات الأخرى، بالملكات اللازمة للبقاء.
أخذ إبيميثيوس على عاتقه إنجاز هذا الأمر، أما بروميثيوس فكان عليه أن يفحص عمل أخيه بعد أن يتم إنجازه، وبناء على ذلك أخذ إبيميثيوس يمن على الحيوانات بشتى أنواع الهبات من شجاعة وقوة، وسرعة وجسارة، فيعطي هذا جناحا، وذاك مخلبا، والآخر ورقة صدفية، وهكذا.
وما إن جاء دور الإنسان، وكان مفهوما أنه أرفع سائر الحيوانات مكانة، حتى وجد إبيميثيوس أنه لا يستطيع أن يعطيه شيئا، فقد أسرف كثيرا في منح ما كان عنده من الهبات، فلما ضاق به الأمر، وعظمت حيرته، طلب معونة أخيه بروميثيوس، فصعد هذا، بمساعدة «مينيرفا» ربة الحكمة، إلى السماء، وأوقد مشعله من قرص الشمس، وجاء بالنار إلى البشر، فتفوق الإنسان بها على جميع الحيوانات الأخرى لأنها منحته القدرة على صنع الأسلحة التي تمكن باستخدامها من إخضاع الحيوانات إلى مشيئته، كما صنع الآلات التي تمكن بواسطتها من زراعة الأرض، وتدفئة مسكنه، وبذا أصبح مستقلا تمام الاستقلال عن تقلبات الجو، كما مهدت له الطريق إلى الفنون وصك النقود التي يسرت وسائل التجارة والصناعة وشتى الأعمال الأخرى.
ولكن زوس، كبير الآلهة وجامع الغيوم، خاطب بروميثيوس عقب سرقته النار، في حمية شديدة من الغضب فقال: «أي بروميثيوس: يا من تفوقت على الجميع في الدهاء وسعة الحيلة، أراك مسرورا من نجاحك في خداعي، وفي اختلاس النار مني، فليحل بك بلاء عظيم، وبمن يخلفك في القوم، أتظن أنك وفرت سبل الراحة للبشر؟ سوف أهب الناس في مقابل النار شرا مستطيرا، به يعم الفرح قلوبهم أجمعين، وهم لا يدركون أنهم لا يحتضنون غير هلاكهم.»
هكذا تكلم أبو البشر والآلهة، وقهقه ملء شدقيه، ثم أمر هيفايستوس الشهير، رب النار العظيم، أن يمزج التراب بالماء بأقصى سرعة، ثم يضع في المزيج صوت وقوة الجنس البشري، ليصير هيكل فتاة جميلة فاتنة، تشبه الربات الخالدات وجها، ثم أمر أثينا أن تعلمها أشغال الإبرة، لتخيط مختلف أنواع الأنسجة، وكذا أمر أفروديت ربة الحسن والجمال، أن تضع العقد على رأسها، وكذا الشوق المتيم، والهموم التي تنهك الأعضاء وتبلبل الأفكار، وأمر القائد هرميس، رسول الآلهة، أن يضع في رأسها عقلا يخلو من كل معاني الحياء، وطبيعة تحوي جميع أنواع الخداع .
هكذا أمر السيد زوس، فأطاع الجميع أمره، وفي لمح البصر صنع الإله الأعرج الذائع الصيت، هيكل فتاة محتشمة من الطين، كما أراد زوس ثم زينتها الآلهة، أثينا ذات العيون النجلاء كستها بفاخر الثياب التي جعلتها فتنة للناظرين، أما صاحبة الجلالة المقدسة ربة الجمال والطاعة أفروديت الحسناء فقد ألبستها قلائد من العقيان، وتوجت حارسات أبواب السماء ذوات الشعور المرسلة الجميلة رأس الفتاة بأزهار الربيع الباسمة، ثم جاءت بعد ذلك أثينا، فزينت قوامها بكل أنواع الترف والعظمة والفخفخة، وحشا رسول الآلهة جوفها بالأكاذيب والنفاق، والألفاظ المعسولة الخداعة، والطبيعة الماكرة، محققا بذلك رغبة زوس صاحب الصواعق الصارخة والبروق المتلألئة، وبث الصوت فيها، ثم أطلق عليها اسم «باندورا» لأن كل من يقيم فوق بابل أوليمبوس قد حباها بهدية من عنده، فأصبحت بذلك نكبة وبلاء على بني الإنسان الذين يأكلون طعامهم بعرق جبينهم.
ما كاد زوس ينتهي من أحبولته المتينة التي يتعذر مقاومة فتنتها وإغرائها، حتى بعث رسول الآلهة السريع، يحمل الفتاة هدية إلى إبيميثيوس، فلم يتذكر هذا وقتئذ ما كان قد حذره منه بروميثيوس، إذ عرفه ألا يتقبل أي هدية من زوس الأوليمبي، وأمره أن يعيد الهدية من حيث أتت، مخافة أن تثبت الأيام ضررها وأذاها لبني البشر، ولكنه لم يعلم أن هذه الفتاة الفاتنة وراءها بلاء ما بعده بلاء إلا بعد أن قبل الهدية، وأصبحت في حوزته.
كان بمنزل إبيميثيوس صندوق به بعض المواد الضارة، فدفع الفضول باندورا ذات يوم إلى معرفة ما بداخل الصندوق، ففتحته، وعندئذ انطلقت من داخله بلايا جمة سببت شقاء الإنسان، فقد تسرب من الصندوق النقرس والروماتيزم والقضاع، وهذه تسبب مرض الجسم، كما تسرب الحسد والحقد والبغضاء والانتقام، وهذه تسبب سقم العقل.
ناپیژندل شوی مخ