المرأة في الجاهلية
كل من عانى البحث في أحوال العرب في الجاهلية، وتصفح ما دون عنهم في أسفار التاريخ الإسلامية، يعلم ما يكتنف تلك الأعصار من الظلمات الطامسة، على آثارها المودية بكثير من صحيح أخبارها، بحيث كان هذا اليسير المنقول منها لا يسد حاجة ولا يشفي غلة، فضلا عما يتنازعه من الأقوال المتناقضة، والروايات المتضاربة التي لا يصح معها رأي، ولا يتجه بها حكم، وفضلا عن كون أكثر هذه الروايات واردا مورد الأقاصيص والخرافات، مما لا يتضح به بحث ولايبنى على مثله علم؛ ولذلك لم يكن بد للناظر في هذا الصدر من تاريخ العرب، المستزيد بيانا لأحوالهم وتفصيلا لوجوه معيشتهم، المتشوف إلى الوقوف على كنه أخلاقهم، واستطلاع طلع عوائدهم؛ من إعادة النظر فيما جاء عنهم لذلك العهد، والتنقيب عن تتمته في تضاعيف الأخبار، وغضون الأحاديث التي لا يكاد يخلو منها مصنف في اللغة، أو مؤلف في الأدب، والاستعانة على تحقيق موضع الشاهد فيها من استقراء دواوين الشعراء في الجاهلية وبدء الإسلام. وهي على عزتها وتعذر منالها، تكاد تكون فيما عدا اللغة والأمثال أوحد الآثار التي تمثل تلك الأعصار. ولا يخفى ما يقتضي مثل هذا المطلب الشاق من الجلد الرابط، وما يستغرقه من الوقت الطويل، مما لا يضطلع به الواحد، ولا يتسنى بلوغه لكل طالب.
وإنما جاء هذا النقص لاشتغال العرب في القرون الأولى من الإسلام بجهاد المشركين وفتح الفتوحات، وانصراف الرواة منهم عن رواية الأخبار الجاهلية إلى استقصاء الأحاديث الإسلامية، حتى إذا استقر فيهم الملك، ودانت لهم الأمصار، وأخلدوا إلى الحضارة؛ كان أول ما دفعتهم إليه الحاجة تدوين بعض ما يستعينون به على تفهم السنة، والحديث، وأحكام تلاوة القرآن، كما يشهد بذلك ما نقل عن أصل وضع فني الصرف والنحو؛ ولذلك كانت أكثر تآليفهم في سائر العلوم لا تتجاوز في بدء أمرها حد الكفاية، ولا تتعدى الغرض الذي دعاهم إلى وضعها؛ لأنفتهم من انتحال غير العلوم الدينية، واطراحهم كل ما عداها مما لا يرجع إليها أو لا يعين عليها؛ نظرا لقرب عهدهم بالبداوة، واشتغالهم بتولي الرئاسة وتقلد الأعمال السلطانية، حتى كان أكثر حملة العلم بينهم من العجم، كما نبه على ذلك ابن خلدون في مقدمته.
ولهذه الأسباب لم أطمع، حين أقبلت على البحث عن حالة الأنثى في الجاهلية، أن أفي هذا الموضوع حقه، ولا أن أحيط بالمسألة من جميع أطرافها؛ لغياب ما يمثل تلك الحالة بتمامها، لا سيما وأن الكلام فيها نسج على غير منوال وطبع على غير مثال؛ إذ لا أعلم فيما بلغني أن قد سبق لأحد من أهل اللسان العربي كلام في هذا الصدد أو استقصاء في البحث عنه؛ ولذلك اضطررت أن أرجع في كثير مما ذكرته إلى أبيات من الشعر، أصبتها بعد طويل الجهد متفرقة في أقوال شتى لشعراء مختلفين، أوردتها شواهد بما وصفته جريا على المشترط في أصول البحث من الاحتجاج لكل قول بما يثبت صحته وينفي عنه شبهة الوضع. ولم أقتصر منها على ما كان جاهليا بحتا، بل نقلت أحيانا من شعر المخضرمين وأهل الطبقة الأولى من المحدثين ما أصبت الشاهد فيه؛ إذ كانت الأخلاق والعوائد لذلك العهد لم تحل بعد بتمامها عما كانت عليه في الجاهلية، إلا ما نسخه الشرع أو حظره الدين.
ولست أدعي بذلك أن ما حكيته هو تمثيل الواقع وإصابة السداد؛ فرب رأي تخيل لي أنه هو الراجح، والأرجح غيره. وإنما حكمت بحسب ما ثبت لي من الظاهر ودلتني عليه القرائن، وعلى قدر ما اجتمع عندي من الشواهد التي حصلتها مما تهيأ لي مطالعته من المصنفات التي تكاد تنحصر في شرح الحماسة للتبريزي، وجزء من العقد الفريد لابن عبد ربه، وبعض صفحات من كتاب الأغاني للأصبهاني. ولا ريب أنه إذا تسنى لأحد من ذوي الخبرة والاطلاع استكمال مثل هذه المطالعات واستقراء أشباه هذه الشواهد في مظانها؛ يظفر منها بما يكون حكاية الصحيح وفصل الخطاب، وينجلي البحث بعدها بما لا يذكر معه ما اشتملت عليه هذه العجالة القاصرة.
وقد قسمت الكلام عن حالة الأنثى إلى قسمين، وصفت في الأول حياتها المادية، وفي الثاني حياتها الأدبية، مقتصرا في كل منهما على ما قل ودل، ميلا مع الفائدة، واكتفاء بالشاهد الواحد في مقام الاحتجاج.
القسم الأول
معلوم أن العرب في جاهليتهم كانوا أكثرهم أهل بادية؛ معاشهم من القيام على الإبل يغتذون بألبانها، ويقتاتون بلحومها، ويكتسون بأوبارها، ويتخذونها ركائب يقطعون عليها مجاهل القفار، فكانت لذلك مخصصة عندهم بمزيد العناية، يتخيرون لها أطيب الأرض بقعة، وأكثرها عشبا، ويتتبعون لأجلها مواقع الغيث على حسب اختلاف الفصول، فلا يزالون دهرهم في حل وترحال يطوفون الآفاق طلبا للمرعى وارتيادا للماء. غير أنهم كثيرا ما كانوا يصابون بالقحط ويحتبس عنهم المطر، فيهلكون هم ومواشيهم جوعا، أو تدفعهم الحاجة أو الطمع إلى الإغارة على من جاورهم فيقطعون السابلة، ويغزو بعضهم بعضا فينهبون ويسبون، وربما أصاب أحدهم الفتاة العذراء أو المتزوجة أم البنين فيحسبها غنيمة باردة كسبها برمحه، ويختصها لنفسه دون تحرج ولا تورع، وربما سبيت منه فيغتصبها غيره، فلا تزال تنتقل من مالك إلى آخر إلى أن يتيسر لأهلها استرجاعها، فتعود إلى منزلها الأول وقد لزمها من العار ما يبقى سبة لذويها مدى الدهر.
وقد كانت السبية لمعرفتها بمقدار الذل الذي يلحقها من امتلاكها بالسبي، وأنفتها من تعيير أهل مولاها ودعائهم إياها بالأمة؛ تتحين الفرص لمفارقته وتعمل على الفرار من يديه، لا يثبطها عن ذلك طول صحبتها إياه مع إحسانه إليها، ولا يثني من عزمها ما يصلها به من علاقة الولد، كما ذكر أبو عمرو الشيباني عن سلمى امرأة عروة بن الورد، وقد كان أصابها بكرا من بني كنانة، وأعتقها وتزوجها واتخذها لنفسه، فمكثت عنده بضع عشرة سنة، وولدت له أولادا، وهو لا يشك أنها أرغب الناس فيه، وهي تقول له: لو حججت بي فأمر على أهلي، وأراهم. فحج بها، ثم أتى المدينة، فلما هم أن يعود بها قالت سلمى لقومها: تعالوا إليه وأخبروه أنكم تستحيون أن تكون امرأة منكم معروفة النسب صحيحته سبية وافتدوني منه؛ فإنه لا يرى أني أفارقه. فأتوه وسقوه الشراب فلما ثمل قالوا له: فادنا بصاحبتنا فإنها وسيطة النسب فينا معروفة، وإن علينا سبة أن تكون سبية، فإذا صارت إلينا وأردت معاودتها فاخطبها إلينا. فامتنع ثم اشترط عليهم أن يخيروها، فاختارت أهلها ثم أقبلت عليه فقالت: يا عروة، أما إني أقول فيك - وإن فارقتك - الحق، والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك، وأغض طرفا وأقل فحشا وأجود يدا وأحمى لحقيقة، وما مر علي يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إلي من الحياة بين قومك؛ لأني لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول: قالت أمة عروة كذا وكذا إلا سمعته، ووالله لا أنظر في وجه غطفانية أبدا، فارجع إلى ولدك راشدا، وأحسن إليهم. فقال عروة في ذلك أبياتا ذكرها صاحب الأغاني.
ولهذين السببين - أي خوف العار وخوف الفقر - كان بعض العرب يئدون بناتهم، لا يفعل ذلك منهم عابد الوثن فقط، بل المتنصر أحيانا، كما نقل عن عدي بن ربيعة المعروف بالمهلهل زير النساء أنه لما ولدت له ابنته ليلى أمر بدفنها، ثم بدا له فاستحياها. وذكر عن قيس بن عاصم أنه وأد بيده بضع عشرة ابنة له قال: وما رحمت منهن إلا واحدة، ولدتها أمها وأنا في سفر، ودفعتها إلى أخوالها، فلما قدمت وسألت عن الحمل، أخبرت أنها ولدت ميتا، ومضت سنون حتى ترعرعت، فزارت أمها ذات يوم، فدخلت فرأيتها قد ضفرت لها شعرها وزينتها وألبستها الحلي، فقلت: من هذه الصبية فقد أعجبني حسنها؟ فبكت وقالت: هذه ابنتك. فأمسكت عنها حتى اشتغلت أمها فأخرجتها وحفرت حفرة وجعلتها فيها، وهي تقول: يا أبت أتغطيني بالتراب؟! حتى واريتها وانقطع صوتها.
ناپیژندل شوی مخ