ولا تهاب العدى إلا مواضينا هذا الإمام كأنه بكل فضل مخصوص ، أعاد الأمة للنصوص ، وأراحنا من ضلال صاحب الفصوص . مرة يهيل التراب على القدرية ، وأخرى يلقي الموت على النصيرية، سجن الاعتزال ، في زنزانة الإهمال ، خرج على التتار بالنار ، وحضر ذاك العراك ، فأذاق هولاكو الهلاك ، الرجل منصور ، وخصمه مقهور .
ترك المطاعم الشهية ، والمراكب الوطية ، والمناظر البهية ، له مع القرآن سمر ، ومع الذكر سهر ، وله جلسة في السحر :
قلت يا ليل هل بجوفك سر
قال لم ألق في حياتي حديثا
عامر بالحديث والأسرار
كحديث الأحباب في الأسحار
صرامة في الحق ، وإصرار على الصدق ، وعلم في رفق .
زهد : فكأن الذهب تراب ، والجواهر أخشاب ، والدنيا خراب .
شجاعة : فكأن الموت عطية ، والهلاك مطية ، والمنية هدية.
علم : فكأن البحر زخر ، والمحيط انفجر ، والغيث انهمر.
تواضع : فهو أرق من النسيم ، رحيم بالمسكين واليتيم ، هذا الإمام جاد وليس بهازل ، وعن مبدئه لا يتنازل، ولهذا سكن أعلى المنازل .
أخلاق طاهرة ، وسنة عليه ظاهرة ، وهمة بين جنبيه باهرة :
له همة لو أن للشمس عشرها
فيوما مع الذكر الحكيم بمسجد
لما غربت حتى يجيء لها الغرب
ويوما نديم للقنا والوغى حرب
ما هذا العمق والتأصيل ، واتباع الدليل ، وغزارة التحصيل ، لو أن ابن تيمية مبتدع ما فهمناه ، ولو انصرف للدنيا لاتهمناه ، لكن الرجل صاحب سنة ، يريد الجنة ، له
عقل صحيح ، ولسان فصيح ، يفلج الخصوم بالحجة ، ويدل الناس على المحجة ، نعم الله عليه تامة ، وهو في العلوم هامة، ثم هو رجل عامة، علامة الصدق في العالم ، العزوف عن الدنايا ، وعدم الخوف من المنايا ، وجمع السجايا ، وكذلك كان ابن تيمية .
ودليل فلاح العالم ، لزوم أحسن طريقة ، والغوص على الحقيقة ، وحب الخليقة ، وكذلك كان ابن تيمية .
مخ ۵۴