والعلم وسام لا يخلع ، وهو من الملك أرفع ، وهو إكليل على الهامة ، ونجاة يوم القيامة ، ينقذ صاحبه من ظلمات الشك والريبة ، ويخلصه من كل مصيبة، وهو علاج من الوسواس ، وفي الغربة رضا وإيناس ، وهو نعم الجليس والأنيس ، وهو المطلب النفيس .
يغنيك عن المسومة من الخيل ، والباسقات من النخيل ، ويكفيك عن القناطير المقنطرة ، والدواوين المعطرة .
وحسبك كفاية عن كل بناء ، وعن الحدائق الغناء ، والبساتين الفيحاء ، وهو الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا ، والملك الذي من أعطيه فقد أعطي ملكا كبيرا ، وصاحب العلم غني بلا تجارة ، أمير بلا إمارة ، قوي بلا جنود ، والناس بالخير له شهود .
مات القادات والسادات ، وذكرهم معهم مات ، إلا العلماء فذكرهم دائم ، ومجدهم قائم ، فألسنة الخلق ، أقلام الحق ، تكتب وتخط لهم الثناء ، وأفئدة الناس صحف تحفظ لهم الحب والوفاء ، كان أبو حنيفة مولى يبيع بزا ، ولكنه بعلمه هز الدنيا هزا ، وكان عطاء بن أبي رباح ، خادم لامرأة في البطاح، فنال بعلمه الإمامة ، وأصبح في الأمة علامة ، وابن المبارك عبد الله، المولى الإمام الأواه ، والأعمش ومكحول ، كانوا من الموالي ولكنهم أئمة فحول ، فالعلم يرفع صاحبه بلا نسب ، ويشرفه بلا حسب .
وإنما يحصل العلم بخدمته كل حين ، وطلبه ليعبد به رب العالمين ، وطي الليل والنهار في تحصيله ، والسهر على تفصيله ، ومذاكرته كل يوم ، والاستغناء به عن حديث القوم ، ومطالعة مصنفاته ، ومدارسة مؤلفاته ، وتقييد أوابده ، وحفظ شوارده ، وتكرار متونه ، ومعرفة عيونه .
مخ ۳۳