عظم الهمة
محمد الخضر حسين (ت:1377 ه)
نشر عام 1364ه
شؤون الأمم شتى، وأعز شؤونها مكارم الأخلاق. وحقوق الأمم على علمائها وزعمائها كثيرة، وأهم حقوقها القيام على هذه المكارم؛ فالجماعة التي تعمل على تقويم الأخلاق، وترقية الآداب، هي التي تحمل من أعباء حقوق الأمة ما كان أرجح وزنا، وأكبر نفعا.
. أتقدم إلى هذا المجمع الكريم، وألقي فيه كلمة صغيرة، أصف بها خلقا من أجل الأخلاق، وهو
عظم الهمة
.
ما هو
عظم الهمة
؟
أحكم علماء الأخلاق بيان هذا الخلق، فقالوا: (هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور).
فعظيم الهمة يستخف بالمرتبة السفلى، أو المرتبة المتوسطة من معالي الأمور، ولا تهدأ نفسه إلا حين يضع نفسه في أسمى منزلة، وأقصى غاية، ويعبر عن هذا المعنى النابغة الجعدي بقوله:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
وإذا كان هذا الخلق لا يقع إلا على معالي الأمور، فلا عظمة لهمم قوم يبتغون النهاية في زينة هذه الحياة، ويغرقون في التمتع بلذاتها المادية؛ كهؤلاء الذين يسرفون في الملابس المنمقة، والمطعومات الفاخرة، والمباني الشاهقة؛ فإن الزينة واللذائذ المادية لا تعد فيما تتسابق فيه الهمم من معالي الأمور:
إذا كان في لبس الفتى شرف له
فما السيف إلا غمده والحمائل
والشاعر الذي يقول:
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها
من بعدهم فبألسن البنيان
لم يقل صوابا، ولم ينطق بحكمة، إلا أن يريد من البنيان: ما أقاموه لمصالح عامة؛ كأن يكون مدارس، أو مستشفيات، أو دورا للكتب، أو مساجد يذكر فيها اسم الله، أو ملاجئ تأوي إليها اليتامى أو المساكين وابن السبيل.
يستصغر عظيم الهمة ما دون النهاية من معالي الأمور، وإذا رأى الوسائل في الخارج تخونه، وتأبى أن تساعده على إدراك النهاية، فإنه يمضي في عزمه، ويرضى بمبلغ جهده، وإن كان دون المرتبة العليا.
ومن الخطل في الرأي أن ينزع الرجل إلى خصلة شريفة، حتى إذا شعر بالعجز عن بلوغ غايتها البعيدة، انصرف عنها جملة، والتحق بالطائفة التي ليس لها في هذه الخصلة من نصيب. والذي يوافق الحكمة، ويقتضيه حق التعاون في سعادة الجماعة، أن يذهب الرجل في همه إلى الغايات البعيدة، ثم يسعى لها سعيا، ولا يقف دون النهاية إلا حين ينفد جهده، ولا يهتدي للمزيد على ما فعل سبيلا.
والناس في الحقيقة أصناف:
رجل يشعر بأن فيه الكفاية لعظائم الأمور، ويجعل هذه العظائم همته، وهذا من يسمى: (عظيم الهمة)، أو (عظيم النفس).
ورجل فيه الكفاية لعظائم الأمور، ولكنه يبخس نفسه، فيضع همه في سفساف الأمور وصغائرها، وهذا من يسمى: (صغير الهمة)، أو (صغير النفس).
ورجل لا يكفي لعظائم الأمور، ويحس بأنه لا يستطيعها، وأنه لم يخلق لأمثالها، فيجعل همته وسعيه على قدر استعداده، وهذا الرجل بصير بنفسه، متواضع في سيرته.
هؤلاء ثلاثة، ورابعهم لا يكفي للعظائم، ولكنه يتظاهر بأنه قوي عليها، مخلوق لأن يحمل أثقالها، وهذا من يسمونه: (فخورا)، وإن شئت فسمه: (متعظما).
من أين ينشأ
عظم الهمة
:
يتربى
عظم الهمة
عن طريق الاقتداء؛ كأن ينشأ الفتى تحت رعاية ولي، أو أستاذ يطمح إلى النهايات من معالي الأمور، أو من طريق تلقين الحكمة، وبيان فضل
عظم الهمة
، وما يكسب صاحبه من سؤدد وكمال، أو من طريق درس التاريخ، والنظر في سير أعاظم الرجال، فإنا لو أخذنا نبحث عن مفاخر أولئك الذين يلهج التاريخ بأسمائهم، لوجدنا معظم مفاخرهم قائمة على هذا الخلق الذي نسميه:
(عظم الهمة)
.
والقرآن يملأ النفوس ب
عظم الهمة
، وهذا العظم هو الذي قذف بأوليائه ذات اليمين وذات الشمال، فأتوا على عروش كانت ظالمة، ونسفوها من وجه البسيطة نسفا، ثم رفعوا لواء العدل والحرية والمساواة، وفجروا أنهار العلوم تفجيرا. وإذا رأينا من بعض قرائه همما ضئيلة، ونفوسا خاملة، فلأنهم لم يتدبروا آياته، ولم يتفقهوا في حكمه.
فضل
عظم الهمة
:
يسمو هذا الخلق بصاحبه، فيتوجه به إلى النهايات من معالي الأمور، فهو الذي ينهض بالضعيف يضطهد أو يزدري، فإذ هو عزيز كريم. وهو الذي يرفع القوم من سقوط، ويبدلهم بالخمول نباهة، وبالاضطهاد حرية، وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية.
هذا الخلق هو الذي يحمي الجماعة من أن تتملق خصمها، وتسل يدها من أسباب نجاتها ومنعتها.
أما صغير الهمة، فإنه يبصر بخصومه في قوة وسطوة، فيذوب أمامهم رهبة، ويطرق إليهم رأسه حطة، ثم لا يلبث أن يسير في ريحهم، ويسابق إلى حيث تنحط أهواؤهم.
نعم، يورد هذا الخلق صاحبه موارد التعب والعناء، ولكن التعب في سبيل الوصول إلى النهاية من معالي الأمور يشبه الدواء المر، فيسيغه المريض كما يسيغ الشراب عذبا باردا، وعظيم الهمة قد يشتد حرصه على الشرف، حتى لا يكاد يشعر بما يلاقيه في سبيله من أنكاد وأكدار.
وربما كان الشرف الذي يركب له الأخطار والشدائد أعز وقعا، وأدل على عظم همته من الشرف الذي يناله في يسر وسهولة.
أراد أبو الوليد الباجي - حين كان يناظر أبا محمد بن حزم - أن يثبت لهمته فضلا عن همة ابن حزم، فقال له:
أنا أعظم منك همة في طلب العلم؛ لأنك طلبته وأنت تعان عليه، تسهر بمشكاة الذهب، وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائر السوق.
وأجابه ابن حزم قائلا: أنت طلبت العلم في حال فاقة، رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته، لا أرجو إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة.
فضل أبو الوليد الباجي همته على همة ابن حزم بما كان يلاقيه في سبيل طلب العلم من شدة وعناء، وفضل ابن حزم همته على همة أبي الوليد الباجي بأنه كان يطلب العلم لفضيلته. ولو صح قول ابن حزم، وثبت ما اتهم به أبا الوليد من أنه كان يطلب العلم لليسار والرفاهية، لكان أعظم همة ممن يريد اتخاذ العلم وسيلة إلى منصب، أو وجاهة، أو مال.
يتعلق
عظم الهمة
بكل شأن رفيع، ومقام محمود، ولا تسع هذه الكلمة إلا أن نعرج فيها على
عظم الهمة
في العلم، و
عظم الهمة
في النصح والإرشاد.
عظم الهمة
في العلم:
تتفاضل العلوم بغاياتها، وبقدر ما يكون لها من الاتصال بسعادة الإنسان. وتتفاضل همم الطلاب بالنظر إلى هذه العلوم المتفاضلة في نفسها. فلكل من علم الأخلاق وعلم العروض- مثلا- أثر في الحياة الأدبية، ولكن علم الأخلاق أقرب إلى السعادة منزلة، وأوسع فيما ينفع الناس جولة. فمن يعنى بالأخلاق؛ ليتحلى بمكارمها، يكون أرفع همة ممن يعنى بالعروض؛ ليعرف أوزان الشعر، وما يلحقها من زخارف أو علة. وأعظم من هاتين الهمتين همة من جمع بين درس الأخلاق والعروض.
أخذ بعض أهل العلم يدرس العروض بعد أن بلغ من الكبر عتيا، ولما لامه بعض أصحابه على اشتغاله بهذا العلم الصغير، وهو شيخ كبير، قال له: شهدت مجلس قوم كانوا يتحاورون في هذا العلم، ولم أكن على معرفة به، وكان نصيبي بينهم السكوت، فأخذتني ذلة.
فمن درس علما فأتقنه، ثم بسط نظره في علوم أخرى، كان أعظم همة ممن درس علما، ثم قعد لا يلقي لغيره من العلوم بالا، ولا يعرف لثمرها اللذيذ طعما.
كان لطلاب العلم في الشرق حرص على أن يستكثروا من العلم، ويضعوا أيديهم في فنون شتى، وما كانت رغبة الواحد منهم في الاطلاع على العلوم والفنون بعائقة له عن أن يرسل نظره في بعضها حتى يرسخ فيها فهما، ويأخذ بأطرافه علما، ويرقى إلى المنزلة التي تسمى: (تخصصا).
فشيخ الإسلام ابن تيمية كان طودا راسخا في علوم الشريعة، وأضاف إلى رسوخه في هذه العلوم أن بلغ في علوم اللغة مرتبة تخوله أن يخطئ سيبويه في نحو أربع عشرة مسألة في علم النحو.
وهذا حجة الإسلام الغزالي كان متضلعا من علوم الشريعة ووسائلها، وجمع إلى تضلعه في هذه العلوم أن كان يهاجم الفلاسفة في كثير من آرائهم، ويناقشها بمنطق وروية.
وهذا القاضي عبد الوهاب بن نصر كان فقيها نحريرا، وأديبا فائقا، وهو الذي يقول فيه أبو العلاء المعري:
والمالكي ابن نصر زار في سفر
بلادنا فحمدنا النأي والسفرا
إذا تفقه أحيا مالكا جدلا
وينشر الملك الضليل إن شعرا
ف
عظم الهمة
يدعو طلاب علوم الشريعة الإسلامية أن يمدوا أنظارهم إلى هذه العلوم الحديثة؛ ليكونوا منها على بصيرة، وليزدادوا بها بينة على بيناتهم المفحمة لهذه الفئة، التي تزعم أن بين الدين والعلم خلافا، وأن من العلم ما لا يستقر مع حقائق الدين في نفس واحدة.
ومن عظم همة القائم على بعض هذه العلوم الحديثة: أن يأخذ نفسه بالاطلاع على حقائق الإسلام وآدابه؛ ليحرز بها الكمال والسعادة، وليتعالى عن أن يمشي وراء نفر يجتمعون على أن يحاربوا ما في هذا الدين القيم من حكمة وفضيلة.
تتفاوت الهمم في العلم الواحد من ناحية الاطلاع على مسائله، ثم من ناحية التصرف في هذه المسائل بتحقيق النظر، وإجادة البحث.
فطالب العلم الذي لا يدع بابا من أبوابه إلا ولجه، ولا يغادر بحثا من مباحثه المهمة إلا ألم به، يكون أعظم همة ممن لا يطرق منه كل باب، أو لم يعرج فيه على كل مسألة قيمة.
وطالب العلم الذي يخوضه بنظر حر، ويتناول مباحثه بنقد وبصيرة، يكون أعظم همة ممن يجمع مسائله حفظا، ويتلقاها كما يتلقاها (حاكي الصدى)، لا يكلفك غير إملائها عليه.
وطالب العلم الذي يتحرى لبابه، ويجول في أصوله، يكون أعظم همة ممن يقضي الزمن في قشوره، ويحبس النظر في دائرة ضيقة من فروعه.
وكذلك ترى الأستاذ النحرير يبخل بأوقاته النفيسة عن أن ينفقها في مناقشات واهية، وإنما يندفع إلى الخوض في حقائق العلم، والغوص على أسراره، وإذا توجهت إلى نقد عبارة مؤلف، فإنما يمس الخلل الذي يشوه صورة المسألة التي هي موضع البحث.
هذا والأمل معقود على أن هذه المعاهد والمدارس، تنبت لنا رجالا تعظم هممهم، فيجمعون من العلوم ما يجعل الشرق بحرا زاخرا، ويسيرون في كل علم سيرة الباحث الذي يفتح فيه طرقا قيمة، ويجعل نتائجه في تجدد ونماء.
عظم الهمة
في النصح والإرشاد:
في سبيل الدفاع عن الحق، أو الدعوة إلى الإصلاح عقبة لا يقتحمها إلا ذوو الهمم الكبيرة؛ فإن في طوائف المبطلين أو المفسدين نفوسا طاغية، وأحلاما طائشة، وألسنة مقذعة، وربما كانت فيهم أيد باطشة، وأرجل في غير الخير ساعية.
فأنصار الحقيقة ينصبون أنفسهم أمام هذه الشرور كلها، وإنما تعظم هممهم على قدر ما يتوقعونه من فقد محبوب، أو لقاء مكروه، فالذي ينكر على الحاكم خرقا في السياسة، أو حيفا في القضاء، يكون أعظم همة ممن لا يحمي الحقيقة إلا إذا عبثت بها أيدي الضعفاء، والذين لا يجدون ما ينفقون.
يتمثل لكم
عظم الهمة
في منذر بن سعيد قاضي قرطبة، حين قام في خطبة الجمعة ينكر على الخليفة عبد الرحمن الناصر إسرافه في الإنفاق على تشييد المباني وزخرفتها، وأخذ يلقي الخطبة في كلام جزل افتتحه بقوله تعالى: {أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} [الشعراء: 128، 129]، وسلك ذلك الكلام الجزل، وهو على علم بأن الخليفة حاضر مستمع إليه، ولكن الخليفة انصرف بعد أن قضيت الصلاة، ولم يزد على أن صار يصلي في جامع لا يخطب فيه منذر بن سعيد.
يشهد العالمان الرجل من ذوي الشأن يعمل عملا غير صالح، وأعظمهما همة هو الذي يسبق إلى إنكار عمله، وتذكيره بسوء عاقبته.
دخل عثمان بن إدريس، ومنذر بن سعيد البلوطي على الخليفة الناصر وهو في الزهراء، فأنشد أبو عثمان أبياتا أطرى بها الخليفة على هذا البناء، فابتهج الناصر، واهتز لهذا الإطراء، أما منذر بن سعيد، فإنه أطرق رأسه ساعة، ثم رفع رأسه وقال:
يا باني الزهراء مستغرقا
أوقاته فيها أما تمهل
لله ما أحسنها رونقا
لو لم تكن زهرتها تذبل
فقال الناصر: إذا هب عليهم نسيم التذكار، وسقتها مدامع الخشوع، لا تذبل إن شاء الله. فقال منذر: اللهم اشهد، فإني قد بثثت ما عندي، ولم آل نصحا.
وأصاب منذر فيما قال، فقد ذبلت زهرة الزهراء، وتهدمت قصورها يوم قام محمد بن هشام على بني عامر، وانتزع الملك من أيديهم، واستولى على قرطبة سنة تسع وتسعين وثلاث مئة.
وإذا كانت الدعوة من معالي الأمور، فنهايتها التي يبلغها الداعي المصلح أن يرشد إلى ما يراه حقا، وبحذر مما يراه منكرا، غير حافل بما يحفل به ضعيف الإيمان، أو قليل الإخلاص من رضا الملأ الذين استكبروا.
رفع القرآن مكان الدعوة، ثم جعل الدعاة إلى حق أو إصلاح خير أمة أخرجت للناس. وقد خرج بفضل القرآن رجال عظمت هممهم، فكانوا يؤثرون الحق والنظام على منافعهم الخاصة، ويحتملون في سبيل النصح والإرشاد ما تدعوهم الحكمة إلى احتماله من فقد السراء، أو لقاء الضراء.
وسنرى - بتوفيق الله تعالى - من هذه المعاهد والمدارس رجالا كثيرا يقدرون
عظم الهمة
في النصح للأمة، وينهضون بهذا الواجب ضاربين بمنافعهم الخاصة إلى وراء. وإذا فاتهم أن يروا ثمرة جهادهم بأعينهم، ففي شرف الجهاد وإنارة السبيل للأجيال القابلة كفاية.
مخ ۱۵