دخل رجل من سكان الأطراف، ذات يوم مدينة بديعة الأوصاف، وطاف بشوارعها المنيفة، وأزقتها المرونقة اللطيفة، وأسواقها النفيسة الأمتعة، وخاناتها ذات الأقمشة الثمينة والحلل المرصعة، فرأى في أثناء طوافه بهذه الأماكن المزخرفة، الحوانيت والمساكن جما غفيرا من ذوي الثروة واليسار، والأبهة والرفاهية والاعتبار، والنعم الوافرة، والخيرات المتكاثرة، وكان عليه أطمار بالية، ولم تكن عيشته حالية، فترك المدينة وانتجع الجبل، وقلبه بنيران الاعتراض على رازقه اشتعل، فلما خلا بنفسه تمنى موته وحلوله برمسه، ولكراهته في البقاء، واعتقاده أنه خص من بين الناس بالشقاء؛ خلع جلابيبه وقذف بها إلى السماء، وضل عن طريق الهدى واستحب العمى، وتمادى على القذف بها إلى الجو وهي تسقط عليه، وتنجذب في أقل من لمح البصر إليه، وما برح عاكفا على هذا العمل، حتى وهت قواه وضعف جسمه وكل، واحتاج إلى الراحة فجلس على الأرض.
وهو على غاية من الغضب والنكد، وكان بالقرب منه أجمة فيها أسد، قد خرج من عرينه للاصطياد، والفتك بكل حيوان صعب الانقياد، فلما وقعت عينه على هذا المعترض المخالف، لم يصرفه عن الحملة عليه صارف، فزمجر زمجرة الرعد، وأيقن بنيل المنى وبلوغ القصد، فأقبل عليه بأظافر كالخناجر، وكشر عن أنياب كالسيوف البواتر، وكاد يبدد منه أمعاه، ويريحه من الاعتراض على مولاه، هنالك ضاقت به الحيل، وانقطع منه الأمل، وتحقق أن القضاء به نزل، وانطوى من حياته سجل الأجل، فاسترجع وحوقل، وتاب من ذنبه وعلى الله توكل، وأخلص النية، وأقبل على التضرع بحسن طوية.
وبينما هو متقلب في أودية الدهشة والحيرة، مترقب هلاكه وضيره، إذ ظهر له وهو في أثناء الخطر فارس على فرس محجل أغر، لا يلحق منه الغبار، ولا يجول سواه معه في مضمار، وكان هذا الفارس شديد الباس، وافر العزم قوي المراس، فعطف بلا مهل على أسامة، بشهامة تامة وصرامة، وخفف ما عليه من اللباس، وألقى ما بيده من السلاح، وهجم عليه وهو من نفسه واثق بالنجاح، ولكمه بيده على أنفه، لكمة هائلة ساقه بها إلى حتفه، وبإقدام هذا الهمام المنيع، تخلص الرجل من الموت المقتضب السريع، ثم وقف على مصرع أبي الحارث وأنشد، وهو منه في الكفاح أقوى وأشد:
عرضت نفسك للأخطار معتمدا
على وثوقك في الإقدام بالظفر
ولو علمت بما لاقى سواك لها
مشيت وحدك في البيدا بلا خفر
ولما نجا هذا اليائس على يديه، دنا منه وانكب على قدميه، فانحنى عليه، ومن الأرض أقامه وقبله بين عينيه، وهنأه بالسلامة.
وبينما هو يسأله عن سبب تجرده عن الثياب، ووجوده في هذا القفر الخراب، وهو يجيبه عما دار في خلده من الوسواس، من اعتراضه على رب الناس، ويخبره أنه إلى الله تاب، وأقلع عن ذنبه وإليه أناب؛ إذ خرجت عليهما قطاع الطريق، من كمين في درب داخله مضيق، فقال له: لا تخف ولا تحزن، وقف مكانك وإلى الفرار لا تركن، ثم وثب على صهوة جواده الأدهم، وامتشق سيفه وعليهم أقدم، وهو يقول وقد اعتراهم من حملته الذهول:
أنا الهمام الذي في كل معترك
ناپیژندل شوی مخ