ولم أختصر ما قلت إلا لأنني
أعبر عما لا يقوم به الشرح
ثم قال بعد الإنشاد: إننا يا رفيع العماد، قد خرجنا على الجزيرة من البحر، بعد ما يئسنا من النجاة وعدمنا الصبر؛ حيث هاجت علينا الرياح، من المساء إلى الصباح، وكادت السفينة تغوص إلى القاع، لولا قطع الصاري وطي الشراع، وهذه هي حالنا ولا ندري ماذا يكون ارتحالنا، فأما الإقبال من مدينة مجهولة الاسم، بعيدة عن العمران منهوكة الجسم، كانت في صدر الإسلام، منشورة الأعلام، وبتمادي الأيام، والشهور والأعوام، تغيرت مبانيها البديعة، وتهدمت معابدها وأبراجها المنيعة، وضاقت على العلماء ففارقوها، وفروا فرار الورق من أقفاصها متى أطلقوها، فقال له: ماذا كان المراد من السفر، في فصل الرياح العاصفة والمطر؟ وعلام عولت الآن، مع هؤلاء الأخدان؟ فقال: أما السفر فكان بصدد بيت الله الحرام، وزيارة رسول الله سيد الأنام، ولولا اختلاف الرياح، لفزنا في هذا العام بالنجاح، وأما الذي عولت عليه، وركنت بعد التخلص من المهالك إليه، فهو التفويض للحضرة الملوكية، التي فاض سحاب نوالها على البرية، فيما يستصوب لدى دولته العلية، وتتعلق به إرادته السنية. فقال الملك: أما أيام الحج، فقد تصرمت منها الحبال، ودخلت في حجاب الزوال، وكتب لك الثواب، ونجوت من العذاب، فإن أردت الإقامة، فلك ولأصحابك الكرامة، وإن أبيت إلا الرحيل، إلى وطنك أيها النبيل، بعثنا بك إليه مع أول سفينة، تقوم من هذه المدينة.
فقال: أيها الملك المطاع المبجل، والخاقان الشجاع المفضل، أما أنا فلا براح لي عن خدمة الركاب، وأما أصحابي فإنهم يؤثرون على الإقامة الذهاب، فلما وعى منه ما به أجاب، قربه من سدته وقيده في سجل الحساب، وأرسل من كانوا معه من الإخوان، إلى وطنهم بعدما غمرهم بالإحسان، وكان للملك عدة أولاد، كلهم من الشجعان الأمجاد، فتمثلوا فيهم عند الوداع، بقول الشاعر الحسن الابتداع:
إذا وضعوا تيجانهم فضراغم
وإن نزعوها عنهم فبدور
على أنهم يوم النزال قساور
ولكنهم يوم النوال بحور
وبعد رحيل القوم، بعشرة أيام ونصف يوم، تجهز الملك لقمع الخوارج، وجرد عليهم الجنود والبوارج، وصحبه في غزوته أبو الفخار، وكان في الحرب ثقيل العيار؛ لأنه ربي من عهد نشأته على ظهور الجياد، وعرف بين كماة الفرسان بطويل النجاد، وهذا فضلا عن سبقه في مضمار الأدب، وإحراز ما لا يتأتى لغيره إدراك شأوه فيه من الرتب.
فلما التقى الجمعان، ولمعت الأسنة في الطعان، انحط على الغريم كالسيل، وطرح الأبطال من فوق متون الخيل، وفتك هذا الباسل الغريب، بكل فارس نجيب، وشوش الصفوف، وقطع الكفوف، وجدع الأنوف، وأطاح القحوف، وفي أثناء ما كان يصول، وعلى الأعداء يجول، وقع بزعيم الخوارج الغادر، فصاح به صيحة الأسد الخادر، وصدمه صدمة هائلة، وطعنه في صدره طعنة واصلة، فلم تمنعها دروعه التي بها اعتصم، بل أودت به إلى العدم، ثم جال على مصرعه وقال: هلموا إلى الحرب يا عصبة الضلال، فانقض عليه من العصاة ألوف، وعطفوا عليه من كل مكان بالسيوف، وقبل أن تصل إليه نجدة، وتكشف عنه غمة الشدة، عقروا جواده، وملكوا قياده، وكان الملك فوق ربوة مشرفة على المعمعة، فلما شاهد بعينه في نزيله ما روعه، عيل منه الصبر، وسارع في الحال إلى النصر، وأمر الجيش بالحملة، وكان أول حامل في الجملة، وأدرك هذا الفارس الأوحد، وهو بالقيود والأغلال مصفد، فخلصه من الأخطار، وبلغه الأوطار، ولم يعهد عنه أنه فارق مخدومه في سفر، ولا فتر عن ملازمته في حضر، وقد أثرى وازداد يساره، وصفا عيشه وارتفع مناره، واستنهض إليه عائلته من بلده، وفرت عينه بأهله وولده، وفي هذا أدل دليل على شجاعته، وبسالته وبراعته، وأما سبقه في الآداب، وامتيازه على كثير من ذوي الألباب، فهو أمر شهد به كل يعروف بالفضائل في عصره موصوف، ومن ضمن ما نقل عنه من كتاب لبعض قرابته الأنجاب:
ناپیژندل شوی مخ