لقد قيل إن خيال هوميروس لم يكن له نظير في العصر القديم سوى خيال العالم الرياضي أرشميدس. ومن المؤكد أن بين هذين العبقريين تشابها غريبا. فقد أضفى هوميروس قيمة شاعرية لا نظير لها على مشاهد الحياة الإنسانية وأفعالها؛ كأعمال الناس في الحقل، وفي المنزل، ولهوهم، وقتالهم وأكلهم، ونومهم، فشعر «هوميروس» هو شعر الخبز والنبيذ .. أما أرشميدس، فقد أفهمنا الأدوات البشرية المتداولة، كالرافعة ومشتقاتها، والجاروف، والملفاف؛ نقول إنه أفهمنا هذه الأدوات على نفس النحو الذي روى لنا به هوميروس شعر الحياة المنزلية المعتادة.
ولنا أن نقول إن نصيب العلم من الخيال ليس أقل من نصيب الشعر منه. غير أن الخيال ليس واحدا في كلتا الحالتين: فخيال العالم يقتضي نوعا من التضحية، وهو يأبى أن يدين للحواس بشيء، والجمال الذي يستهويه هو جمال العلاقات المجردة والأعداد. وفضلا عن ذلك، فالخيال بالنسبة إلى العالم ليس غاية، وإنما هو وسيلة فحسب. فبينما ينحصر هدف الشاعر أو الموسيقار في تحريك خيال القارئ أو السامع وهز مشاعره بحيث تتجاوب معه، ولا يعبأ بالحقيقة، نرى العالم يولي وجهه شطر الحقيقة، وما «التحقيق» الجمالي - إذا جاز لنا أن نتحدث في هذا المجال عن «تحقيق»، بالمعنى المجازي للكلمة - إلا التأثير الذي ينطبع في نفس القارئ أو السامع، أما التحقيق العلمي فهو الخضوع النهائي للواقع. فنتائج الخيال العلمي تندمج في الواقع، وهي لحمته وسداه في نهاية الأمر، وليس من مهمة العلم أن يصنع الجمال، وإنما أن يصل إلى الحقيقة. وإذا كان للحقيقة جمالها، وإذا كانت تؤثر أن يكون من يقدسها محبا للجمال، فإنها تتطلب منه - بكل صراحة - أن يكون على استعداد للتضحية من أجلها بكل ما قد ينطوي عليه الجمال من إغراء. فقد يكون هذا البرهان أو الحل الرياضي «رشيقا» وقد تكون تلك الفكرة التجريبية «جميلة» ولكنهما يفقدان كل قيمة إذا ما ثبت بعد اكتمال التحقيق أنهما باطلان.
إذن فقوام الروح العملية صفات خارجة عن مجال العلم، وهي على الأخص صفات أخلاقية
تلك هي النتيجة التي ينتهي إليها جوبلو،
7
والتي يؤدي بنا بحثنا السابق بأسره إلى أن نؤيد بكل قوة ما تأتي به من عناصر إيجابية. فالعالم إنسان تبلغ لديه الشجاعة والأمانة العقلية أقصى حدودها، وهو قاض لا يتطرق إلى نزاهته شك، وهو إذا شئنا، شاعر بمعنى ما غير أن هذا لا يكفي في رأينا، لإيضاح خصائص الروح العلمية ، فمن الضروري أن تنطوي على شيء لم نذكره بعد.
الروح العلمية تنطوي أيضا على ثقافة واسعة
فلنبين أولا أهمية الثقافة. والمقصود بالثقافة أولا مجموع المعارف التي يمكن تسميتها بالمعارف الاحترافية أو المتخصصة، أعني تلك التي تشمل قدرا معينا من المعرفة يتخذه العالم موضوعا لبحث. وهذا أمر بديهي، ولكن قد يكون التنبيه إليه ضروريا، إذا كان هدفنا، على الأقل، هو أن نجرد الجهل من صفة الحياد التي اشتهر بها زورا وبهتانا. فليس جهل المرء لكل شيء هو الذي يمكنه من مواجهة الواقع بروح نزيهة محايدة، وما كان الجهل دعامة من دعائم روح النقد أبدا؛ بل إن الأمر على العكس من ذلك. فروح النقد صفة رقيقة هشة، تحتاج على الدوام إلى تقوية وتدعيم مستمدين من التحصيل العلمي، ولا يفهم مدى تعقد الواقع إلا من عرف كثيرا، وجرب كثيرا، وقضى على فرص الخطأ. ويصدق ذلك بوجه خاص على العلوم المعقدة التي تتخذ الأحياء والإنسان موضوعا لها؛ إذ إنه إن كان عباقرة الرياضيات يظهرون قبل الأوان في كثير من الأحيان، فإن عباقرة علم الحياة والأخلاق أناس ناضجون دائما. فالرياضي «إفارست جولوا
Evariste Galois » الذي مات في سن العشرين، قد وجد وقتا كافيا يبدي فيه عبقريته، أما «دارون» و«لامارك» فلم يقوما بأي كشف قبل سن الخمسين، كذلك كتب «كانت» (نقد العقل الخالص) وهو في السابعة والخمسين من عمره.
وقد يكون من المستحسن أن يلم العالم، الذي كرس حياته لعلم خاص، بالعلوم التي يفترضها ذلك العلم؛ فالطبيب مثلا لا ينبغي له أن يلم بالبيولوجيا وحدها بل يجب أن يكون قد مارس الكيمياء، وعلم الطبيعة نفسه.
ناپیژندل شوی مخ