والفرض، في علم الطبيعة الرياضية وفي العلوم «التجريبية» بوجه عام، هو القانون الذي يخترع، والذي سوف يتحقق المرء من صدقه. وعلاقة هذا المعنى بالمعنيين السابقين واضحة؛ إذ يظل الفرض نقطة بدء لتقدم تال، وهو نقطة بداية تعد مبدأ، أعني أنها أكثر وضوحا من نتائجها، وكل ما في الأمر أن الفرض هنا لا يعود مبدأ يوضع بطريقة حملية مطلقة وتنتقل حقيقته إلى نتائجه؛ بل هو مبدأ مؤقت لا زال مشكوكا فيه، يسعى إلى البحث عن الحقيقة باستخلاص ما ينطوي عليه من نتائج. فما يأتي به الفرض هو المعقولية، ومن الواجب أن يذهب إلى الحقيقة باحثا عنها، ومن هنا أتى التخمين الذي أصبح في نهاية الأمر مرتبطا بالفرض. (د)
سوف نعرض فيما بعد
21
لمعنى رابع لكلمة الفرض، وفيه يكون الفرض هو النظرية، أعني أنه تفسير للظواهر يتصف بأنه أكثر عمقا وتخمينا في الوقت نفسه، وفي هذا المعنى الرابع ، يكون التخمين أشد وضوحا، غير أن المعقولية بدورها تصبح فيه أعظم. فالعنصر المشترك بين العلوم الرياضية والتجريبية هو أنها تستخدم «الفروض» مع فارق واحد، هو أن الفرض يكفي للتحقق من صدق النتائج في الرياضة وحدها، ولكنه هو الذي يقوم بالتفسير في كل هذه العلوم.
ومن المحتمل أن تكون العلوم الرياضية قد بدأت بمرحلة تجريبية. ومن ناحية أخرى فقد أشرنا إلى الأصول التجريبية التي يرجح أنها كانت أساس الهندسة والميكانيكا. وفي مقابل ذلك بينا أن البحوث الأولى في الطبيعة الرياضية تتمثل في صورة إقليدية، تبدأ بمصادرات ونظريات. والخلاصة أن العلوم الرياضية هي علوم تجريبية تأكد طابعها العقلي وأصبح ثابتا.
ولكن؛ لم كانت كذلك؟ وما أصل هذه الميزة التي تنفرد بها؟ أو لنتساءل على عكس ذلك فنقول: ولماذا لا تصل العلوم الأخرى إلى هذه المرتبة؟
في نهاية الفصل السابق أجبنا عن هذا السؤال إجابة جزئية. فقد قلنا إن نشاطا عقليا معينا، أعني ذلك النشاط الذي يحصي، ويضع العلاقات ويرسم الأشكال، قد وصل في الرياضيات إلى مرحلة الاستقلال الذاتي، أعني إلى الشعور التام بذاته، والاكتفاء الكامل بنفسه؛ ذلك لأن الوقائع التي بدأ منها بسيطة، أعني أنه أمكن استخلاصها للوصول بسهولة إلى الأفكار التي استطاع الذهن إنشاءها، والتي تؤدي إلى فهم هذه الوقائع. ففي الرسم مثلا أمكن الانتقال بسهولة من الخط المرسوم إلى المستقيم، وفي نظرية الآلات (الميكانيكا) أمكن الانتقال من الآلة المادية إلى عناصرها العقلية (ذراع الرافعة، انحدار السطح المائل، نقطة التطبيق، الاتجاه، قوة الشد). وعندئذ تبين أن الأفكار التي أنشئت على هذا النحو تفسر الوقائع التجريبية التي بدأنا بها في أول الأمر تفسيرا كاملا. فالخصائص الهندسية للدائرة تفسر كون الخط الذي يقيس محيط حلقة، أيا كان حجمها، هو في جميع الأحوال أكبر قليلا من ثلاثة أمثال الخط الذي يقيس قطرها. والخصائص الهندسية للشكل البيضاوي تفسر كون الحلقة التي ينظر إليها من زاوية تبدو دائما في شكل بيضاوي.
ولكن الموضوعات التي تدرسها العلوم التجريبية معقدة، وربما كانت كما قال ليبنتز، معقدة إلى حد لا نهاية له، بحيث يستحيل استيعابها، فالضوء والحرارة مثلا يتكشفان في كل لحظة عن خصائص غير متوقعة (وأعقد منهما بكثير الحياة، وهي موضوع العلم الذي سوف نتحدث عنه في الفصل التالي).
إن الضوء ينشر في خط مستقيم، وينعكس تبعا لقوانين هي في ذاتها بسيطة إلى حد ما، وطالما اقتصر البحث على هذه المسائل، كان من الممكن تصور علم «هندسي» للضوء يكون ملحقا بعلم الهندسة، وذلك لو أضفنا عددا من المصادرات المكملة، ولكن كشفت بعد ذلك الوقائع المعقدة الغامضة التي يشتمل عليها علم الضوء «الطبيعي» وهي التي بدأت بالخصائص الضوئية العظيمة التعقيد للبلورات، مثل بلور «سبات
Spath » في أيسلنده،
ناپیژندل شوی مخ