ومن الجميل أن نلاحظ تدرجنا المنتظم في التغلب على قوة تحاملنا المحلي بينما نوسع تعارفنا بالعالم. فأي رجل يولد في بلدة في إنجلترا المقسمة إلى أبرشيات سوف يكون أكثر ارتباطا بإخوانه من رعايا الأبرشية (لأن مصالحهم ستكون مشتركة في معظم الأحيان) وسوف يميز صاحبه باسم «الجار»؛ وإذا قابله على بعد بضعة أميال من البلدة، فإنه سيتخلى عن فكرة الشارع الضيقة ويحييه باسم «ابن البلدة»؛ وإذا سافر خارج البلاد وقابله في أي بلد آخر فإنه ينسى الانقسامات التافهة للشارع والبلدة ويدعوه «ابن الوطن»؛ ولكن إذا تقابلا في رحلاتهما خارج البلاد في فرنسا مثلا أو في أي بلد آخر في أوروبا؛ فإن ذاكرتهما المحلية ستتسع لتصبح ذاكرة أفراد «إنجليز». وبتفكير مكافئ لهذا التفكير يمكن القول إن جميع الأوروبيين الذين يلتقون في أمريكا - أو في أي جهة أخرى من العالم - يمكن تسميتهم «أبناء الوطن»؛ لأن إنجلترا أو هولندا أو ألمانيا أو السويد، عند مقارنتها بالكل المتكامل، تعني نفس الأماكن التي تعنيها تقسيمات أصغر مثل الشارع والبلدة والمقاطعة ولكن على نطاق أوسع؛ إنها تقسيمات محدودة للغاية بالنسبة لأصحاب العقول القارية. إن السكان المنحدرين من أصول إنجليزية لا يبلغون الثلث حتى في هذه المقاطعة. لذا فإنني أرفض تطبيق عبارة البلد الأم على إنجلترا وحدها، وأعتبرها عبارة كاذبة أنانية ضيقة ومقتصدة.
ولكن ما الذي يعنيه حتى الاعتراف بأننا ننحدر جميعا من أصل إنجليزي؟ لا شيء. فبريطانيا - وقد أصبحت الآن عدوا صريحا - تدمر كل اسم أو لقب آخر لها سوى العدو: والقول بأن المصالحة واجبنا هو ادعاء سخيف حقا. لقد كان أول ملوك إنجلترا، من السلسلة الحالية (وهو ويليام الفاتح) فرنسيا، ونصف نبلاء إنجلترا ينحدرون من نفس البلد؛ ومن ثم - ووفقا لنفس أسلوب التفكير - ينبغي أن تخضع إنجلترا لحكم فرنسا.
لقد قيل الكثير عن القوة الموحدة لبريطانيا ومستعمراتها، التي يمكن لها أن تواجه العالم كله. لكن هذا ليس سوى افتراض؛ فمصير الحرب ما زال غامضا، والمصطلحات أيضا لا تعني شيئا؛ لأن تلك القارة لن تجهد نفسها أبدا إلى حد استنزاف سكانها لدعم الجيوش البريطانية في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا.
وبالإضافة إلى ذلك ما شأننا نحن بتحدي العالم؟ إن خطتنا هي التجارة، وإذا اعتنينا بهذه الخطة جيدا، فإنها ستضمن لنا الأمن والصداقة مع أوروبا؛ لأن من مصلحة أوروبا كلها أن تكون أمريكا «ميناء حرا». ستكون التجارة الأمريكية بمنزلة حماية دائمة لأمريكا، وسيكون انعدام الذهب والفضة فيها بمنزلة صمام أمان لها من الغزاة.
إنني أتحدى أشد المؤيدين للمصالحة أن يبين لنا ميزة واحدة يمكن أن تحققها هذه القارة من خلال ارتباطها ببريطانيا العظمى. وأكرر التحدي، لن نحظى بميزة واحدة. إن الذرة الأمريكية سوف تجد من يشتريها في أي سوق في أوروبا، كما لا بد لنا من دفع ثمن بضائعنا المستوردة، وسوف نشتريها من حيث شئنا.
غير أن الأضرار والخسائر التي نتكبدها مقابل هذا الارتباط لا حصر لها؛ وواجبنا تجاه البشرية عموما، وتجاه أنفسنا، يدفعنا إلى رفض هذا التحالف؛ لأن أي خضوع أو اتكال على بريطانيا العظمى يؤدي مباشرة إلى توريط هذه القارة في الحروب والصراعات الأوروبية، ويجعلنا على خلاف مع أمم كانت لولا ذلك ستسعى إلى صداقتنا، ولا نحمل ضدها أي غضب أو حقد أو سخط. ولما كانت أوروبا هي سوق تجارتنا فلا يجب علينا أن نشكل أي ارتباطات متحيزة مع أي جزء منها. إن مصلحة أمريكا الحقيقية هي تجنب الارتباطات الأوروبية، وهو الأمر الذي لا تستطيع أبدا تحقيقه في الوقت الذي تمثل فيه - باتكالها على بريطانيا - وزنا زائدا لموازنة السياسات البريطانية.
إن أوروبا مكتظة بالممالك على نحو لا يسمح باستمرار السلام فيها وقتا طويلا، ومتى اندلعت حرب بين إنجلترا وأي قوة أجنبية، فستنهار التجارة الأمريكية؛ «بسبب ارتباطها بإنجلترا». وقد لا تنتهي الحرب القادمة كما انتهت سابقتها، وإذا حدث هذا فإن دعاة المصالحة اليوم سوف يتمنون الانفصال وقتها، لأن الحياد في هذه الحالة سيكون رفيقا أكثر أمانا من سفينة حربية. إن كل ما هو طبيعي أو صائب يتضرع من أجل الانفصال، فدماء القتلى وصوت الطبيعة المنتحب يصيحان: «حان وقت الفراق». حتى المسافة التي باعد الله بها بين إنجلترا وأمريكا دليل طبيعي وقوي على أن تسلط الأولى على الأخيرة ليس أمرا مقدرا أبدا من السماء. وبالمثل فإن الوقت الذي اكتشفت فيه القارة الأمريكية يضيف ثقلا إلى هذه الحجة، والطريقة التي سكنها بها الناس تزيد الحجة قوة. لقد سبق اكتشاف أمريكا عصر الإصلاح، وكأن رب العالمين شاء بكرمه أن يوجد ملاذا لمن سيضطهدون في السنوات المستقبلية، حيث لن توفر لهم أوطانهم صداقة ولا أمانا.
إن سلطة بريطانيا العظمى على هذه القارة هي شكل من أشكال الحكومة لا بد أن ينتهي إن عاجلا أو آجلا: ولا يمكن لعقل جاد أن يستمد أي متعة حقيقية من خلال التطلع للأمام في ظل يقين مؤلم ومؤكد بأن ما يسميه هذا العقل «الدستور الحالي» إن هو إلا دستور مؤقت. وكآباء، لا يسعنا الابتهاج ونحن نعرف أن «هذه الحكومة» لن تستمر بما يكفي لأن تضمن أي شيء يمكننا توريثه للأجيال القادمة: وبطريقة بسيطة في المجادلة يمكننا القول إننا إذا كنا سنورط الأجيال القادمة في الديون فعلينا نحن أن ندفع الثمن من جهدنا، وإلا فإننا نستغلهم بحقارة ودناءة. ولكي نعرف واجبنا على نحو صحيح، يجب أن نأخذ أبناءنا في أيدينا، ونحدد موضعنا بعد بضع سنوات في الحياة؛ هذا السمو سيظهر لنا آفاقا مستقبلية تحجبها عن أنظارنا بعض المخاوف والتحيزات القليلة الحالية.
ومع أنني أحرص بشدة على تجنب توجيه أي إهانة لا لزوم لها، فإنني أميل إلى الاعتقاد أن كل هؤلاء الذين يعتنقون مبدأ المصالحة يمكن إدراجهم تحت الأوصاف التالية: رجال مهتمون بالقضية ولكن لا يمكن الثقة بهم، رجال ضعفاء «لا يستطيعون» الرؤية، ورجال متحيزون «يرفضون» الرؤية، ومجموعة معينة من الرجال المعتدلين الذين يحسنون الظن بالعالم الأوروبي أكثر مما يستحق. وتلك الفئة الأخيرة - بسوء تفكر وتدبر - سوف تكون السبب في الكوارث التي ستحل بهذه القارة أكثر من أي فئة من الفئات الثلاث الأخرى.
من حسن حظ الكثيرين أنهم يعيشون بعيدا عن مشهد الحزن ؛ فالشر لم يصل إلى أبوابهم بما يكفي لجعلهم يشعرون بالخطر الذي يهدد جميع الممتلكات الأمريكية. ولكن دعوا مخيلاتنا تنقلنا بضع لحظات إلى بوسطن، فبؤرة البؤس تلك ستعلمنا الحكمة، وستعلمنا ألا نتخلى أبدا عن السلطة لمن لا يمكننا الثقة به. لم يعد أمام سكان تلك المدينة البائسة الآن - الذين كانوا منذ بضعة أشهر مضت فحسب يعيشون في دعة وثراء - أي بديل سوى أن يبقوا فيها ويتضوروا جوعا، أو يخرجوا منها ويمدوا أيديهم متسولين. سوف يكونون عرضة لنيران أصدقائهم إذا ظلوا داخل المدينة، أو ينهب الجنود ممتلكاتهم إذا رحلوا عنها. ففي حالتهم الراهنة هم سجناء دون أمل في الخلاص، وفي حالة شن هجوم عام لإغاثتهم، سوف يتعرضون لعنف وضراوة كلا الجيشين.
ناپیژندل شوی مخ