بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين
قد تقرر عند ذوي الألباب أن الفقه أشرف العلوم وأعلاها قدرا وأعظمها خطرا إذ به تعرف الأحكام ويتميز الحلال عن الحرام وهو على علو قدره وتفاقم أمره في حكم الفرع المتشعب عن علم الأصول ولا مطمع في الإحاطة بالفرع وتقريره والاطلاع على حقيقته إلا بعد تمهيد الأصل وإتقانه إذ مثار التخبط في الفروع ينتج عن التخبط في الأصول ولتعلم أن علوم الشرع ثلاثة الكلام والأصول والفقه
ولكل واحد منها مادة منها استمداده وإليها استناده ومقصود به يتعلق قصد الطالب وارتياده فلابد من التنبيه على مادته ليقتبس الخائض فيه منها مبلغ حاجته فيتوسل إلى بغيته ولا غنى عن التنبيه على مقصوده لئلا يكون الطالب على عماية من مطلبه فأما علم الكلام فمادته الميز بين البراهين والاغاليط والميز بين العلوم والاعتقادات والميز بين مجاري العقول ومواقفها وأما مقصوده فهو الإحاطة بحدوث العالم وافتقاره إلى صانع مؤثر
1 / 59
متصف بما يجب من الصفات منزه عما يستحيل تخيله صفة للذات قادر على بعثة الرسل وتأييدهم بالمعجزات وأما الأصول فمادته الكلام والفقه واللغة ووجه استمداده من الكلام أن الإحاطة بالأدلة المنصوبة على الأحكام مبناها على تقبل الشرائع وتصديق الرسل ولا مطمع فيه إلا بعد العلم بالمرسل ووجه استمداده من الفقه أنه المدلول وطلب الدليل مع الذهول عن المدلول مما تأباه مسالك العقول ووجه استمداده من اللغة كون الأصولي مدفوعا إلى الكلام في فحوى الخطاب وتأويل أخبار الرسول ﵇ ونصوص الكتاب ومقصوده معرفة الأدلة القطعية المنصوبة على الأحكام التكليفية وأخبار الآحاد ومسالك العبر والمقاييس والمستثارة قال بطرق الاجتهاد ليس من
1 / 60
الأصول فإنها مظنونات بجانب أخذها مأخذ القطعيات ولكن افتقر
الأصولي إلى ذكرها لتبين الصحيح من الفاسد والمستند من الحائد ولأن الترجيحات من مغمضات علم الأصول ولا سبيل إليها إلا ببيان المراتب والدرجات وأما الفقه فمادته الأصول ومقصوده معرفة الأحكام الشرعية وتقرير الأحكام عند ظهور العلامات المظنونة معلومة بأدلة قطعية لا ظن فيها
فصل
ما من علم من هذه العلوم إلا وله مواقع إجماع ومثارات نزاع فمطلع الإجماع في الكلام المدركات بالبداية والضروريات والمعقولات التي يتحد
1 / 61
فيها صوب النظر ولا يتعدد كإجماع العقلاء على أن القديم لا يعدم ومثار الخلاف فيه تعارض الأدلة والشبهات وأما علم الأصول فمنشأ الوفاق فيه يضاهي منشأ الوفاق في الكلام ومنبع الخلاف فيه أمران أحدهما تعارض الأدلة والشبهات والثاني امتزاج القطع فيها بالظنيات وأما الفقه فموضع الإجماع فيه ما يستند إلى نص كتاب الله أو حديث متواتر أو إجماع واجب الإتباع وما عداها فهو من مظان الظنون وعند الإرتباك فيها يختلف المجتهدون وتضطرب آراؤهم فيتحزبون
1 / 62
باب القول في الأحكام الشرعية
ليست أحكام الأفعال صفات ذاتية وإنما معناها ارتباط خطاب الشارع بها نهيا وأمرا وحثا وزجرا فالمحرم هو المقول فيه لا تفعلوه والواجب هو المقول فيه لا تتركوه وهو كالنبوة ليست صفة ذاتية للنبي ولكنها عبارة عن اختصاص شخص بتبليغ خطاب الشارع فقولنا الخمر محرمة تجوز فإنها جماد لا يتعلق بها الخطاب وإنما المحرم تناولها مسألة لا يستدرك حسن الأفعال وقبحا بمسالك العقول بل يتوقف دركها على الشرع المنقول
1 / 63
فالحسن عندنا ما حسنه الشرع بالحث عليه والقبيح ما قبحه بالزجر عنه والذم عليه وقد خالف في ذلك المعتزلة والكرامية والروافض فقالوا الحسن حسن لذاته والقبيح كذلك ثم قسموا ذلك إلى ما يستدرك بمحض العقل والى ما لا يستدرك إلا بانضمام الشرع إليه كحسن الزكوات والصلوات وأنواع العبادات لأن مصالحهما الخفية لا يطلع عليها إلا بتنبيه وما يستدرك بمحض العقل على زعمهم ينقسم إلى
1 / 64
المعلوم بضرورة العقل عندهم كحسن الشكر وانقاذ الغرقى والهلكى وكقبح الايلام ابتداء أو الكذب الذي لا غرض فيه
والى المعلوم بالنظر كالكذب الذي يرتبط به غرض ولنا في هذه المسألة مسلكان أحدهما ابطال مذهبهم والثاني اثبات مذهب أهل الحق ولنا في ابطال مذهبهم طريقتان إحداهما جدلية والأخرى معنوية أما الطريقة الجدلية فهي أنا نقول ادعيتم أن حسن بعض الأفعال وقبحها مستدرك ببداية العقول واوائلها ونحن ننازعكم في ذلك ومواضع الضرورات لا يتصور فيها الخلاف بين العقلاء فإن نسبونا إلى عناد عكسنا عليهم دعواهم ثم العناد إنما يتصور في شرذمة يسيرة ونحن الجم الغفير والجمع الكبير لا يتصور منا التواطؤ على
1 / 65
كر العصور وتوالي الدهور من غير فرض رجوع من واحد إلى الانصاف وقولكم أنكم وافقتمونا على اصل العلم وخالفتمونا من في مسندة اهو العقل أم الشرع وذلك لا يمنع دعوي الضرورة كمخالفتكم في الكعبي في علم التواتر في كونه نظريا قلنا ايلام الله سبحانه البهائم معلوم عندكم قبحه بالضرورة لو لم يقدر تعويض ونحن ننازعكم في نفس هذا العلم مع اعتقاد نفي التعويض وبطلان مذهب التناسخية
1 / 66
ثم نحن لا نسلم لكم لحسن الراجع إلى الذات وانما المعني بالحسن عندنا ما يحسنه الشارع بالحث عليه ولو قدر عدم ورود الشرع لضاهي بن الكفر الإيمان عندنا فكيف يستقيم ادعاؤكم الموافقة في أصل العلم واما الطريقة المعنوية فهي أنا نقول ما قولكم في واقف على فوهة طريق اجتاز به نبي واشياعه واتبعه غاشم يبغي قتله واستخبره هذه عن حاله ايصدق سنة أم يكذب فإن صدق فهو سعي في روح نبي وان كذب فهو مستقبح لذاته عندكم وصفات الذات لا تتبدل ونحن نعلم إن الكذب احسن من الصدق ههنا المسلك الثاني في اثبات المذهب نقول القتل الواقع اعتداء يجانس القتل المستوفى قصاصا في الصورة والصفات بدليل إن الفافل عمرو عن المستند فيهما لا يميز بينهما والمختلفان في صفة الذات يستحيل اشتباههما وتجانسهما وكذا الوطء في النكاح والزنا فآل مأخذهما إلى
1 / 67
الاغراض جلبا ودفعا ونحن لا ننكر تفاوت الافعال عند العقلاء لتفاوت الاغراض وانما الخلاف في الافعال بالنسبة إلى الله تعالى وهو منزه عن الاغراض لا يتضرر بالكفر ولا ينتفع بالايمان فلا معنى للتمييز في حقه وكذا فعله تعالى لا يطلب له غرض فيه حتى إذا خالف غرضه قبح ولا تحكم للعباد عليه وهو يفعل ما يشاء فلا يجب عليه تطبيق افعاله على غرض العباد وهو متصرف في ملكه لا اعتراض عليه اصلا ولهم أربع شبه احدها انهم قالوا استحسان مكارم الاخلاق من الشكر والإحسان وانقاذ
الغرقى والهلكى واستقباح الكذب والايلام اطبق عليه العقلاء مع تفاوت قرائحهم فدل على انه مدرك بالضرورة قلنا نعم ذلك مسلم فيما بين الناس ومنشؤ اغراضهم والكفر كالايمان بالنسبة إلى الله ﷿ وليس كالكفر والشكر بالنسبة إلينا فإنا
1 / 68
نفرح ونرتاح بالشكر ونغتم قبل بالكفران وسر العبودية التلفت إلى الحظوظ حتى لو ورد الأمر المجرد من الشارع من غير عقاب لما قضى العقل بامتثاله إذ لا غرض لنا ولا للرب سبحانه فيه فإذا اورد العقاب قضى العقل باجتنابه وسر الربوبية! التنزة يحيى عن الحظوظ ومن لم ينزه فقد ذهل عن حقيقة الالهية الثانية إن قالوا ما بال الملك العظيم الولي على الاقاليم يحسن إلى فقير وان اشرف على الموت من غير توقع غرض فيه ليس ذلك إلا لتحسين العقل قلنا المستحث عليه أما استمرار العادة وهي طبيعة خاصة يعسر خلافها أو رقة الجنسية والرب تعالى منزه عن الرقة والشفقة الثالثة انهم قالوا إن البراهمة ونفاة الشرائع ادركوا الحسن والقبح ولا مستند لهم إلا محض العقل قلنا ذلك اعتقاد فاسد كاعتقادكم الرحمن وليس ذلك بعلم كإحالتهم وكان بعثة الرسل
1 / 69
الرابعة
قولهم إن العاقل يؤثر الصدق على الكذب عند استوائهما في الافضاء إلى الغرض وسببه تحسين العقل قلنا لا بل سببه الشرع أو حذر اللوم من الناس أو تقليد مذهبهم الفاسد فإن فرضوا عدم هذه المعاني فيستوي عنده الصدق والكذب ثم غايتهم اعتبار الغائب بالشاهد ويقبح من السيد شاهدا إن يترك عبيده واماءه يموج بعضهم في بعض يزنون ويقتحمون الفواحش وهو قادر على منعهم وقد فعله الرب سبحانه والخلائق في قبضته وقهره فإن قيل تركهم لينزجروا بأنفسهم مؤثرين فيستحقون الثواب قلنا وقد علم انهم لا يفعلون فليمنعهم اجبارا وكم من مجبر ممنوع بزمانة أو عجز عن ارتكاب الفواحش
1 / 70
مسألة لا يستدرك وجوب شكر المنعم بالعقل خلافا للمعتزلة لان العقل
1 / 71
لا يوجب الشئ هزلا هملا فلا بد من تخيل غرض وذلك يستحيل رجوعه إلى المشكور فإنه تعالى منزه عن الأغراض والشاكر أيضا لا يلتذ به في الحال بل يتعب نفسه فإن قيل يعرض له انه إن شكر ربه بعد أن عرفه اثيب فيثاب وان كفر فربما يعاقب فعقله يستحثه على سلوك طريق الأمن كالمسافر إذا تصدى له طريقان على هذا الوجه قلنا توقع العقاب مختصا بجانب الكفر خيال فاسد مستنده تخيل غرض في الشكر والمعرفة وهما متساويان عند الرب فلا تمييز
1 / 72
ثم نقول وقد يخطر للعبد انه إن نظر وشكر ربما يعاقب فإنه عبد مرفه أمده الله تعالى بأسباب التنعم فلعله خلقه للترفه فإتعابه نفسه تصرف منه في مملكته من غير اذنه ولهم شبهتان إحداهما ادعاؤهم اطباق العقلاء على استحسان الشكر واستقباح الكفران وذلك مسلم فيما يرجع إلى الناس لانهم يهتزون بالشكر ويغتمون بالكفر والرب تعالى يستوي في حقه الامران ويعضد هذا الكلام شيئان أحدهما إن المتقرب إلى السلطان بتحريك انملته في زاوية حجرته يسفه في عقله وعبادات العباد بالنسبة إلى جلال الله دونه في الرتبة والثاني إن من تصدق عليه السطان بكسرة من رغيف في غير مخمصة فلو أخذ يدور في البلاد وينادي على رؤوس الاشهاد يشكره كان
1 / 73
ذلك خزيا وافتضاحا وجملة انعام الله تعالى على عباده بالنسبة إلى مقدوراته دون ذلك بالنسبة إلى السلطان الثانية قولهم حصر مدارك الوجوب في الشرع المنقول دون مسالك العقول يؤدي إلى افحام الرسول فإنه إذا اظهر المعجزة ودعا الناس إلى النظر قالوا لا يجب علينا النظر في معجزاتك إلا بشرع مستقر فثبت شرعك حتى ننظر في معجزتك والجواب من وجهين
أحدهما إن هذا يلزمكم أيضا لأن العقل بجوهريته روى لا يدل على الوجوب إذ لو دل ذلك لما انفك كل عاقل عن العلم بكل معقول وقد يرى العاقل المعجزة ويذهل عنها فلا يتدبر حتى يتبين وجوب النظر وقولهم إن الإنسان لا يخلو عن خاطرين اجتراء على الحس
1 / 74
وبالحري إن يتذكر ذلك عند ظهور المعجزة لا قبل ولا يختص وجوبه عندكم بورود الشرع ثم قد يستهين بالرسول فلا يقيم له وزنا ويستمر على غفلته كما نرى فيمن يحضرون مجالس الوعظ فينغمسون ولم في الغفلات والواعظ يعظهم على رؤوس المنابر مع الزعقات والجواب الثاني وهو التحقيق إن الوجوب يثبت بثبوت الشرع فإذا ظهرت المعجزة فقد استقر الشرع فلا يتوقف ذلك على قبول قابل والتكليف لا يستدعي إلا الإمكان وقد أمكن فإن وفق له فاز وإلا هلك وعن هذا قيل لا يتقرب إلى الله تعالى بأول نظر فإنه لا يعلمه إذ لو علمه لعلمه بنظر آخر وخرج الأول عن أن يكون أو لا
1 / 75
مسألة لا حكم قبل ورود الشرع ونقل عن بعضهم إن الافعال محظورة قبل ورود الشرع وعن بعضهم إنها مباحة ولا يظن بالحاظرين بين تخيل الحظر في مستحسنات العقول وفيما لا بد للنفس منه من أكل وشرب
1 / 76
ولا بالمبيحين أهل اباحة ما استقبح بالعقل كالايلام حديث والكذب فلعلهم قالوا ذلك فيما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح فنقول الحكم بالحظر تحكم لا يدرك بنظر العقل ولا بضرورته إذ لا يرتبط بالانزجار غرض ولا يمكن تقديره في الأقدام واما الاباحة فإن عنوا بها تساوي الاحجام والاقدام مع نفي الأحكام فهو المتمنى وان زعموا أن الاباحة حكم فحكم الله خطابه فمن المبلغ ولا رسول
1 / 77
القول في الأحكام التكليفية التكليف مأخوذ من الكلفة على وجه التفعيل ومعناه الحمل على ما في فعله مشقة ويندرج تحته الايجاب والحظر ولا وفق ما يتشوف إليه الطبع أو ينبو عنه إما الندب فهو عند القاضي من التكليف لان تخصيص الفعل بوعد الثواب يحث العاقل على الفعل وهذا من الكلفة والاختيار انه ليس من التكليف لانه ورد مع رفع الجناح والاباحة ليست من التكليف إلا عند الأستاذ أبى اسحق
1 / 78