ومنهم: عبادة بن الصامت، واختلف في سنده، فأخرجه أبو داود، ومن طريقه: البيهقي، في سننيهما، من طريق عبادة بن نُسَيِّ، قال مرة: عن الأسود بن ثعلبة ومرة: عن جنادة بن أبي أمية، كلاهما عن عبادة، قال: علّمت أُناسًا من أهل الصُّفَّة: الكتاب والقرآن، فأهدى إليّ رجل منهم قوسًا، فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله، لآتين رسول الله ﷺ فلأسألنه، فأتيته فقلت: يا رسول الله، أهدى رجل إليّ قوسًا ممن كنت أعلّمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله؟ قال: " إن كنت تحب أن تُطوّق بطوق من نار فاقبلها "، لفظ الأسود. ولفظ جنادة: فقلت: ما ترى فيها يا رسول الله؟ فقال: " جمرة بين كتفيك، تقلدنها أو تعلقنها ".
ومنهم: أبو الدرداء، فأخرجه البيهقي من طريق إسماعيل بن عبيد الله، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء ﵁ مرفوعًا: " من أخذ قوسًا على تعليم القرآن قلّده الله قوسًا من نار "، ونُقل عن بعض الأئمة أنه ليس لها أصل، انتهى.
وكنت جالسًا بين يديه قبل وفاته بنحو شهرين، فدخل عليه فقير، وقال: الشيخ فلان من بلاد صرخد يسلم عليك، ولقد أرسل لك معي هذا الإبريق، قال: فقبله الشيخ وأمرني بوضعه في بيت حوائجه، فتعجبت من قبوله له، واستشعر بذلك فقال: أرسل إليّ بعض الفقراء نعلًا، وهذا إبريق، وكلاهما آلة السفر.
قلت: وفيها أدرجه الذهبي في كلام ابن العطار مما لم أقف عليه في النسخة التي وقفت عليها قال: وعزم عليه الشيخ برهان الدين الاسكندراي، أن يفطر عنده في رمضان، فقال: أحضر الطعام إلى هنا ونفطر جملة، قال ابن العطار: فأفطرنا ثلاثين أو أكثر، على لونين من الطعام، وكان الشيخ في بعض الأوقات يجمع بين إدامين، انتهى.
ورأيت رجلًا من أصحابه قشر خيارة ليطعمه إياها، فامتنع من أكلها وقال: أخشى أن ترطب جسمي وتجلب النوم.
قلت: ونحوه عدم تعاطيه البلح على عادة الدمشقيين، وكذا الماء المبرد " كما حكاه غير واحد " بل قال الشمس ابن الفخر: إنه قد ترك جميع ملاذ الدنيا من المأكول، إلا ما يأتيه من أبوه من كعك يابس وتين حوراني، والملبس إلا الثياب الرثة المرقعة، ولم يدخل الحمام، وترك الفواكه جميعها.
وقال اللخمي: كان أبوه وأمه يرسلان إليه بعض القوت فيأكله، وترسل أمه له القميص ونحوه ليلبسه، ولا يقبل من أحدٍ شيئًا غير أقاربه وبعض أهل الصلاح.
ولم يتزوج قط " فيما علمت " لاشتغاله بالعلم والعمل، وكذا جزم بكونه لم يتزوج غير واحد، منهم قاضي صفد.
وقال ابن دقماق: إنه كان يأكل من خبز يبعثه له أبوه من نوى، يخبزونه له، ويُسيّرون له ما يكفيه جمعة، فيأكله، ولا يأكل معه سوى لون واحد، إما دبس وإما خل وإما زيت. وأما اللحم ففي كل شهر مرة، ولا يكاد يجمع بين لونين من إدام بدًا.
وقال الكمال الإدفوي في " البدر السافر ": إنه كان لا يجمع بين إدامين، ولا يأكل اللحم إلا عندما يتوجه لنوى، انتهى.
وقلع ثوبه ففلاه بعض الطلبة، وكان فيه قمل، فنهاه، وقال: دعه. وذكر لي العلاّمة رشيد الدين إسماعيل بن المعلم الحنفي قال: عذلته في عدم دخول الحمام، وتضييق عيشه في أكله ولباسه وجميع أحواله، وقلت له: أخشى عليك مرضًا يعطلك عن أشياء أفضل مما تقصده، قال: فقال لي: إن فلانًا صام وعبد الله تعالى حتى اختصر عظمه. قال: فعرفت إنه ليس له غرض في المقام في دارنا، ولا الالتفات لما نحن فيه.
قلت: وقال الذهبي في " سير النبلاء ": كان عديم الميرة والرفاهية والتنعم، مع التقوى والقناعة والورع الثخين، والمراقبة لله في السر والعلانية، وترك رعونات النفس، من ثياب حسنة وأكل طيب وتجمّل في هيئة، بل طعامه جلْف الخبز بأيسر إدام، ولباسه ثوب خام وشيخنانية لطيفة ووصفه بأنه كان أسمر، كثّ اللحية، ربعةً مهيبًا، قليل الضحك، عديم اللعب، بل هو جِدٌّ صرف، يقول الحق وإن كان مُرًّا، لا يخاف في الله لومة لائم.
وقال في " تاريخ الإسلام ": وكان في ملبسه مثل آحاد الفقهاء من الحورانية لا يؤلبه له، عليه شيخنانية صغيرة. ووصفه بأن لحيته كانت سوداء فيها شعرات بيض، وعليه هيبة وسكينة.
1 / 29