وإنما قلنا إن المعلوم بالذات والمخبر عنه بالحقيقة ، هو ما في الذهن من تلك الحيثية المذكورة ، وأن الأمر الخارجي معلوم ومخبر عنه بالعرض ، حيث كان هناك أمر خارجي ، لأن النفس لا تدرك إلا ما حصل فيها أولا وبالذات ، وما ذلك إلا ما في الذهن دون الأمر الخارجي.
وأيضا لو كان المخبر عنه بالذات ، هو الأمر الخارجي لكان يجب في كل خبر أن يكون هناك أمر خارجي هو المخبر عنه ، وليس كذلك ، إذ قد لا يكون ما في الذهن مشارا به إلى خارج كما قد عرفت ، ومع هذا يكون الإدراك والإخبار بحاله على نحو الإدراك والإخبار عن الأمر الخارجي.
ومن هذه الجملة قد انكشف أن الحكم والإخبار سواء كان إيجابيا أو سلبيا يستدعي وجود المخبر عنه والمحكوم عليه في الذهن. كيف وقولنا في الحكم السلبي : «هو ليس كذا» يتضمن إشارة ، والإشارة إلى المعدوم المطلق لا معنى له بوجه من الوجوه ، إلا أن بين الحكم الإيجابي والحكم السلبي فرقا من وجه آخر ، وهو أن الحكم الإيجابي حيث كان الغرض منه الإيجاب المحض ، وإن عبر عنه بالحكم السلبي ، وكان المحمول أمرا ثبوتيا واقعيا ثابتا للموضوع في الواقع لا سلبيا وإن عبر عنها بالأمر السلبي يستدعي وجود المخبر عنه والموصوف في ظرف الثبوت والاتصاف وجودا واقعيا مع قطع النظر عن ذلك الفرض في الذهن ، وجودا يترتب عليه الآثار الواقعية المطلوبة منه. وهذا الوجود الواقعي قد يكون وجودا خارجيا حيث كان الخارج ظرفا لثبوت المحمول أو مبدأه في نفسه في الخارج ، سواء كان ذاتيا للموضوع كقولنا : زيد إنسان ، أو عرضيا له في قولنا : الجسم أبيض ، أو أمرا عدميا باعتبار وله ثبوت في الخارج باعتبار آخر ، كما في قولنا : زيد أعمى ، فان العمى أي عدم البصر وإن كان أمرا عدميا باعتبار ، لكنه حيث كان عدم ملكة من محل قابل ، ولم يكن هو محض العدم ، بل كان لذلك الشكل وتلك الهيئة الحاصلان في البدن مدخل في انتزاعه ، كان له نحو ثبوت في الخارج بوجود موضوعه فيه ، ولذلك كان ثبوته له منشأ لثبوته في الخارج ، أو كان المحمول أمرا انتزاعيا منتزعا من موجود خارجي ، أي ينتزعه العقل من الموجود الخارجي من حيث وجوده الخارجي كما في قولنا : السماء فوقنا. وقد يكون وجودا واقعيا في نفس الأمر أعم من الوجود الخارجي والذهني الواقعى
مخ ۲۵۹