مدبرة متصرفة فيه تصرفا يحفظ بها شخصه ونوعه ، فوجب صدورها عن الواجب الفياض ، لكن وجود صورة تكون مصدرا للتدابير البشرية والأفاعيل الإنسية الحافظ لهذا النوع لا يمكن إلا بقوة روحانية ذات إدراك وعقل وتمييز ، فلا محالة يفيض من المبدأ الفياض صورة متصرفة ذات حقيقة مفارقة أو ذات مبدأ مفارق ، وكما أن الشيء الواحد يجوز أن يكون جوهرا من جهة ، عرضا من جهة اخرى ، كماهية الجوهر الموجودة في الذهن ، لما تحقق أن صورتها العقلية جوهر بحسب الماهية ، عرض بحسب الوجود العلمي بل كيف ، وكذا يجوز أن يكون شيء واحد مجعولا من جهة ، غير مجعول من جهة اخرى كالوجود والماهية ، فكذلك يجوز أن يكون شيء واحد كالنفس الإنسانية مجردا من حيث كونه ذاتا عقلية ، وماديا من حيث كونه متصرفا في البدن. فإذن كانت النفس مجردة من حيث الذات ، مادية من حيث الفعل ، مسبوقة باستعداد البدن ، حادثة بحدوثه ، زائلة بزواله. وأما من حيث حقيقتها ومبدأ حقيقتها فغير مسبوقة باستعداد البدن إلا بالعرض ، ولا فاسدة بفساده ، ولا يلحقها شيء من مثالب الماديات إلا بالعرض ، فتدبر.
هذا ما سنح لنا في سالف الزمان على طريقة أهل النظر ، وأما الذي نراه الآن في تحقيق الحال ودفع الإعضال ، فهو أن للنفس الإنسانية مقامات ونشئات ذاتية بعضها من عالم الأمر والتدبير : ( قل الروح من أمر ربي )، (1) وبعضها من عالم الخلق والتصوير : ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا )، (2) فالحدوث والتجدد ، انما يطرءان لبعض شأنها ، فنقول لما كانت للنفس ترقيات وتحولات من نشأة اولى إلى ثانية وإلى ما بعدها ، فإذا ترقت وتحولت من عالم الخلق إلى عالم الأمر ، يصير وجوده وجودا عقليا إلهيا لا يحتاج حينئذ إلى البدن وأحواله واستعداده ، فزوال استعداد البدن إياها لا يضرها دواما وبقاء إذ ليس حال النفس في أول حدوثها كحالها عند الاستكمال ومصيرها إلى العقل الفعال ، فهي بالحقيقة جسمانية الحدوث روحانية البقاء ، ومثالها كمثال الطفل وحاجته إلى الرحم أولا والاستغناء عنه أخيرا ، وكمثال الصيد والحاجة في اصطياده إلى الشبكة أولا والاستغناء في بقائه عنها أخيرا ، ففساد الرحم والشبكة لا ينافي بقاء المولود والصيد ولا يضره.
مخ ۱۴۹