(مسألة)
قال رضي الله عنه:
(الحمد لله الذي أيقظنا من سنة الغفلة وجعلنا من أشرف ملة وهدى إلى أشرف قبلة وأعظم نحلة وصلى الله على سيدنا محمد الذي نسخ بشريعته كل شريعة قبله وسلم تسليما كثيرا لا يبلغ الواصفون فضله.
أما بعد فقد سئلت عن ترميم الكنائس أو إعادة الكنيسة المضمحلة فأردت أن أنظر ما فيها من الأدلة وأزيل ما حصل فيها من العلة وسألت الله أن يهديني لما اختلف فيه من الحق ويرشدني سبله وتوسلت بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم لا أعدمني الله فضله وظله وقفوت أثر عمر بن الخطاب وعدله وشروطه التي أخذها لما فتح البلاد وشيد الإسلام وأهله، وهذا الترميم يقع السؤال عنه كثيرا ولا سيما في الديار المصرية ويفتي كثير من الفقهاء بجوازه وتخرج به مراسيم من الملوك والقضاة بلا إذن فيه وذلك خطأ بإجماع المسلمين فإن بناء الكنيسة حرام بالإجماع، وكذا ترميمها وكذلك قال الفقهاء: لو وصى ببناء كنيسة فالوصية باطلة؛ لأن بناء الكنيسة معصية وكذا ترميمها ولا فرق بين أن يكون الموصي مسلما أو كافرا، وكذا لو وقف على كنيسة كان الوقف باطلا مسلما كان الواقف أو كافرا فبناؤها وإعادتها وترميمها معصية مسلما كان الفاعل لذلك أو كافرا هذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم.
مخ ۲
وهو لازم لكل مكلف من المسلمين والكفار، وأما أصوله فبالإجماع، وأما فروعه فمن قال إن الكفار مكلفون بفروع الشريعة فكذلك وكل ما هو حرام علينا حرام عليهم، ومن قال ليسوا مكلفين بالفروع وإنما مكلفون بالإسلام فقد يقول إن تحريم هذا كتحريم الكفر فهو متعلق بهم وقد يقول: إنه كسائر الفروع فلا يقال فيه في حقهم لا حلال ولا حرام، أما إنه جائز أو حلال أو مأذون فيه لهم فلم يقل به أحد ولا يأتي على مذهب من المذاهب.
مخ ۳
وجميع الشرائع نسخت بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يشرع اليوم إلا شرعه، بل: أقول إنه لم يكن قط شرع يسوغ فيه لأحد أن يبني مكانا يكفر فيه بالله فالشرائع كلها متفقة على تحريم الكفر ويلزم من تحريم الكفر تحريم إنشاء المكان المتخذ له والكنيسة اليوم لا تتخذ إلا لذلك وكانت محرمة معدودة من المحرمات في كل ملة، وإعادة الكنيسة القديمة كذلك؛ لأنها إنشاء بناء لها وترميمها أيضا كذلك؛ لأنه جزء من الحرام ولأنه إعانة على الحرام فمن أذن في حرام ومن أحله فقد أحل حراما، من توهم أن ذلك من الشرع رد عليه بقوله تعالى {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وبقوله صلى الله عليه وسلم {إني لا أحل ما حرم الله ولا أحرم ما أحل الله} وإنما اختلف الفقهاء في كونهم يمنعون من الترميم والإعادة أو لا يمنعون فالذي يقول لا يمنعون لا يقول بأنهم مأذون لهم ولا أنه حلال لهم جائز، وإن وقع ذلك في كلام بعض المصنفين فهو محمول على إطلاق العبارة والإحالة على فهم الفقيه لما عرف قواعد الفقه فلا يغتر جاهل بذلك، والفقيه المصنف قد يستعمل من الألفاظ ما فيه مجاز لمعرفته أن الفقهاء يعرفون مراده ومخاطبته للفقهاء.
وأما المفتي فغالب مخاطبته للعوام فلا يعذر في ذلك وعليه أن لا يتكلم بالمجاز ولا بما يفهم منه غير ظاهره، ثم القائلون بأنهم لا يمنعون لم يقل أحد منهم أن ذلك بأصل الشرع بل إذا اشترط لهم ذلك في موضع يجوز اشتراطه فهذا هو الذي نقول الفقهاء إنهم يقرون عليها ويختلفون في ترميمها وإعادتها وأما بغير شرط فلم يقل أحد إنهم يقرون على إبقاء، ولا يمكنون من ترميم أو إعادة فليتنبه لهذين الأمرين أحدهما أن عدم المنع أعم من الإذن، والإذن لم يقل به أحد.
والثاني أن عدم المنع إنما هو إذا شرط أما إذا لم يشرط فيمنع ولا يبقى وهذا أمر مقطوع به مأخوذ من قواعد مجمع عليها لا نحتاج فيه إلى أدلة خاصة فكل ما نذكره بعد ذلك من الأحاديث والآثار وشرط عمر وغيره تأكيد لذلك فإن كان في بعض إسنادها وهن فلا يضرنا؛ لأن الحكم الذي قصدناه ثابت بدون ما ذكرناه وهذا كما أنا نقرهم على شرب الخمر ولا يقول أحد إن شرب الخمر حلال لهم ولا أنا نأذن لهم فيه ولم يرد في القرآن لفظ الكنيسة.
مخ ۵
قال الله تعالى {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات} فالصوامع للرهبان والصلوات قيل إنها لليهود واسمها بلسانهم صلوتا، والبيع جمع بيعة بكسر الباء قيل لليهود والكنائس للنصارى وقيل البيع للنصارى.
والظاهر أن اسم الكنائس مأخوذ من كناس الظبي الذي تأوي إليه فالنصارى واليهود يأوون إلى كنائسهم في خفية من المسلمين لعبادتهم الباطلة.
وقال النووي في اللغات: الكنيسة المعبد للكفار وقال الجوهري هي للنصارى.
وكل ما أحدث منها بعد الفتح فهو منهدم بالإجماع في الأمصار، وكذا في غير الأمصار خلافا لأبي حنيفة وكل ما كان قبل الفتح وبعد النسخ والتبديل هو الذي يتكلم الفقهاء في تقريره إذا شرط يجوز الشرط وكل ما كان قبل النسخ والتبديل لم أر للفقهاء فيه كلاما، والذي يظهر أن حكمه حكم المساجد يوحد مسجدا للمسلمين يوحد فيه الله تعالى؛ لأنه بني لذلك حيث كانوا على إسلام، فشريعة موسى وعيسى عليهما السلام الإسلام كشريعتنا فلا يمكن النصارى أو اليهود منه.
مخ ۶
وقد قسم الفقهاء البلاد إلى ما فتح عنوة وصلحا وما أنشأه المسلمون وسنذكر ذلك ولكن كله لا شيء منه تبقى فيه كنيسة من غير شرط، سواء فتح عنوة أم صلحا وإذا حصل الشك فيما فتح عنوة أو صلحا لم يضر لما نبهنا عليه من أن شرط التبقية الشرط فيهما وإذا حصل الشك في الشرط فهذا موضع عمره في الفقه هل يقال: الأصل عدم الشرط فنهدمها ما لم يثبت شرط إبقائها أو يقال: إنها الآن موجودة فلا نهدمها بالشك، وهذا إذا تحققنا وجودها عند الفتح وشككنا في شرط الإبقاء فقط فإن شككنا في وجودها عند الفتح انضاف شك إلى شك فكان جانب التبقية أضعف ويقع النظر في أنهم هل لهم يد عليها أو نقول إن بلادنا عليها وعلى كنائسها وهل إذا هدمها هادم ولو قلنا بتبقيتها لا يضمن صورة التأليف كما لا يضمن إذا فصل الصليب والمزمار وهل يضمن الحجارة ونحوها رابله التأليف هذا ينبغي فيه تفصيل وهو أنه إذا احتمل أنها أخذت من موات كنقر في حجر في أرض موات فلا ضمان أصلا؛ لأنها لم تدخل في ملك من اتخذها لذلك لهذا القصد كالمسجد الذي يبنى في الموات بغير تشبيه وإن لم يحتمل ذلك بل كانت مما جرى عليه ملك ووقفت لذلك ولم يعلم واقفها هذه الكنائس الموجودة فالظاهر أيضا أنها لا يضمن وإن كان الهادم ارتكب حراما.
واعلم أن في الآثار التي سنذكرها في كلام الفقهاء وفي كلام الفقهاء ما يقتضي هدم الكنائس وما يقتضي إبقاءها ولا تناقض في ذلك؛ لأنه يختلف باختلاف محالها وصفتها كما سترى ذلك مبينا - إن شاء الله تعالى - فلا تغتر سادة الفقهاء بما تجده من بعض كلام في ذلك حتى تنظر ما فيه من كلام غيره وتحيط علما بأصوله وفروعه.
ولنشرع فيما تيسر ذكره من الأحاديث والآثار وكلام الفقهاء إن شاء الله تعالى طالبا من الله العون والعصمة والتوفيق:
مخ ۸
(باب الأحاديث الواردة في ذلك) أنبأ أبو محمد الدمياطي قال أنبأنا أبو الحسين علي بن عبد الله بن علي بن منصور بن المقير أنبأ الحافظ ابن ناصر قال أنا الشيخان أبو رجاء إسماعيل بن أحمد بن محمد الحداد الأصبهاني والشيخ أبو عثمان إسماعيل بن أبي سعيد محمد بن أحمد بن ملة الأصبهاني قالا أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم الكاتب الأصبهاني أنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ في كتاب شروط الذمة ثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث ثنا سليمان بن داود أبو أيوب ثنا سعيد بن الحباب ثنا عبيد بن بشار عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تحدثوا كنيسة في الإسلام ولا تجددوا ما ذهب منها} هكذا في هذه الطريق عبيد بن بشار وأظنه تصحيفا فقد رواه أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ الجرجاني في كتابه الكامل في ترجمة سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا نذر في معصية ولا يمين في معصية وكفارته كفارة يمين} .
مخ ۹
قال ابن عدي وبإسناده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تبنى كنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها} سعيد بن سنان ضعفه الأكثرون ووثقه بعضهم وكان من صالحي أهل الشام وأفضلهم وهو من رجال ابن ماجه كنيته أبو المهدي.
وذكره عبد الحق في الأحكام.
وقوله لا يجدد ما خرب منها عام لأن الفعل الماضي إذا كان صلة لموصول احتمل المضي والاستقبال فيحمل عليهما للعموم ويعم أيضا الترميم والإعادة؛ لأن قوله " ما " يعم خراب كلها وخراب بعضها، وقوله " لا تبنى " يعم الأمصار والقرى، وقوله " ما خرب يعم الكنائس القديمة والمراد في الإسلام كالبناء فكل ما بنوه أو رمموه أو أعادوه في بلاد الإسلام أو في بلاد عليها حكم الإسلام فما صولحوا عليه وإن لم يكن فيه مسلم إذا صالحناهم على أن البلد لنا وهذا بلا شك.
وقد يقال إنما صالحناهم على أن البلد لهم يدخل في ذلك ويمنع منه.
وقد اختلف أصحاب الشافعي فيما فتح صلحا على أن يكون البلد لهم في إحداث كنائس فيها فعن بعض الأصحاب منعه على مقتضى ما ذكرناه من الأحاديث.
مخ ۱۰
وقال الرافعي الظاهر أنه لا منع فيه لأنهم يتصرفون في ملكهم والدار لهم وأما ما بنوه في مدة الإسلام في بلادهم قبل الفتح وهم محاربون فهو وإن كان حراما عليهم لكنه لو صالحونا عليه بعد ذلك جاز لأنا لا ننظر إلى ما كان قبل ذلك ونبتدئ من حين الصلح حكما جديدا.
وبالإسناد إلى أبي الشيخ ابن حبان قال حدثني خالي ثنا مقدام بن داود بن عيسى بمصر ثنا النضر بن عبد الجبار ثنا ابن لهيعة عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {لا خصاء في الإسلام ولا بنيان كنيسة} .
إسناده ضعيف وبنيان كنيسة يشمل الابتداء والإعادة المراد في الإسلام كما فسرناه في الحديث الذي قبله.
وبالإسناد إلى ابن حبان ثنا ابن رستة وثنا أبو جعفر محمد بن علي بن مخلد قالا ثنا أبو أيوب سليمان بن داود ثنا محمد بن دينار ثنا أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اهدموا الصوامع واهدموا البيع} إسناده ضعيف ولو صح لكان يمكن التمسك بعمومه فيما حدث في الإسلام وفيما قدم.
مخ ۱۱
وروى أحمد بن حنبل قال ثنا حماد بن خالد الخياط ثنا الليث بن سعد عن توبة عن نمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة} وروينا في كتاب الأموال لأبي عبيد قال ثنا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد قال حدثني توبة بن النمر الحضرمي قاضي مصر عمن أخبره قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة} استدلوا به على عدم إحداث الكنائس ولو قيل إنه شامل للأحداث والإبقاء لم يبعد، يخص منه ما كان بالشرط بدليل ويبقى ما عداه على مقتضى اللفظ، وتقديره لا كنيسة موجودة شرعا.
وهذه الأحاديث التي ذكرناها مطلقة لم يعين فيها بلاد صلح ولا عنوة ولا غيرها فهي تشمل جميع بلاد الإسلام لأجل العموم المستفاد من النفي.
مخ ۱۲
ومن الأحاديث العامة في ذلك ما رواه أبو داود ثنا سليمان بن داود العتكي ثنا جرير، ح وقرأت على الصنهاجي أنبأ أبو بكر بن القسطلاني أنا ابن البناء أنا الكروخي أنبأ الأزدي والعورجي قالا أنبأ الجراحي أنا المحيوي ثنا الترمذي ثنا يحيى بن أكثم ثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تكون قبلتان في بلد واحد} هذا لفظ أبي داود في باب إخراج اليهود من جزيرة العرب ولفظ الترمذي {لا تصلح قبلتان في أرض واحدة وليس على المسلمين جزية} أخرجه في كتاب الزكاة.
قال وحدثنا أبو كريب ثنا جرير عن قابوس بهذا الإسناد نحوه.
وهذا الحديث قد اختلف في إسناده وإرساله فرواه العتكي وأبو كريب عن جرير عن قابوس كما رأيت ورويناه مقتصرا على الفصل الثاني من يمينه وهو قوله {ليس على مسلم جزية} .
مخ ۱۳
في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام الذي سمعناه على شيخنا الدمياطي بسماعه من ابن الجميزي قال أبو عبيد ثنا مصعب بن المقدام عن سفيان بن سعيد عن قابوس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وجرير وإن كان ثقة لكن سفيان أجل منه فعلى طريقة المحدثين المرسل أصح، وعلى طريقة بعض الفقهاء في المسند زيادة، وقد ذكر الترمذي الخلاف في إسناده وإرساله وقابوس فيه لين مع توثيق بعضهم له، وكان يحيى بن سعيد يحدث عنه ويحيى لا يحدث إلا عن ثقة، وفي القلب منه شيء ولا يتبين لي قيام الحجة به وحده، وعدت الشيخ نور الدين البكري في مرضه فسألني عن هذا الحديث، وقال ما بقي إلا تصحيحه وأفتى بهدم الكنائس وبإجلاء اليهود والنصارى.
وقد رأيت في كلام ابن جرير أن حكم جميع بلاد الإسلام حكم جزيرة العرب ثم رأيت أنا في كلام ابن جرير بعد ذلك وسأذكره في فصل مفرد إن شاء الله تعالى وأتكلم عليه.
وفي الأموال لأبي عبيد حدثني نعيم عن شبل بن عباد عن قيس بن سعد قال سمعت طاوسا يقول لا ينبغي لبيت رحمة أن يكون عند بيت عذاب.
مخ ۱۴
قال أبو عبيد أراه يعني الكنائس والبيع وبيوت النيران يقول لا ينبغي أن تكون مع المساجد في أمصار المسلمين وفي سنن أبي داود أيضا حدثنا محمد بن داود بن سفيان ثنا يحيى بن حسان ثنا سليمان بن موسى أبو داود ثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب عن سمرة بن جندب أما بعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله} لم يروه من أصحاب الكتب الستة إلا أبو داود وبوب له باب الإقامة في أرض المشرك، وليس في سنده ضعف فهو حديث حسن وبإسنادنا المتقدم إلى أبي الشيخ حدثنا إسحاق بن بيان الواسطي ثنا فضل بن سهل ثنا مضر بن عطاء الواسطي ثنا همام عن قتادة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم} .
هذا هو معنى الحديث الأول.
وقد اختلف العلماء في تسمية الكتابي مشركا، فالحديث يشمله عنده فيستدل على تحريم مساكنته، والمساكنة إن أخذت مطلقة في البلد يلزم أن لا يكون لهم في تلك البلد كنيسة لأن الكنيسة إنما تبقى لهم بالشرط إذا كانوا فيها.
مخ ۱۵
وروى أبو داود والترمذي أيضا والنسائي وقبلهم أبو بكر بن أبي شيبة بأسانيد صحيحة إلى قيس بن أبي حازم التابعي الكبير فمنهم من أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر بن أبي شيبة والنسائي وبعض طرق أبي داود والترمذي ومنهم من أسنده عن قيس عن جرير عن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال البخاري إن المرسل أصح.
ولفظ الحديث {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس بالسجود فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله ولم قال لا تراءى ناراهما} فسر أهل الغريب هذا الحديث بأنه يلزم المسلم ويجب عليه أن يباعد منزله عن منزل المشرك ولا ينزل بالموضع الذي إذا أوقدت فيه ناره تلوح وتظهر لنا المشرك إذا أوقدها في منزله.
ولكنه ينزل مع المسلمين في دارهم وإنما كره مجاورة المشركين لأنه لا عهد لهم ولا أمان وحث المسلمين على الهجرة.
مخ ۱۶
والترائي تفاعل من الرؤية يقال تراءى القوم إذا رأى بعضهم بعضا وتراءى لي الشيء إذا ظهر حتى رأيته، وإسناد الترائي إلى النارين مجاز من قولهم داري تنظر إلى دار فلان أي تقابلها.
يقول ناراهما مختلفتان هذه تدعو إلى الله وهذه تدعو إلى الشيطان فكيف يتفقان.
والأصل في تراءى تتراءى حذفت إحدى التاءين تخفيفا.
وما ذكروه من الحمل على من لا عهد له ظاهر مشركا أو كتابيا، والكتابي الذي لا عهد له داخل في ذلك إما بالنص إن جعلنا مشركا، وإما بالمعنى أما من لا عهد له أو ذمة فالمعنى لا يقتضيه ويحتمل أن يقال به.
وإذا دعت الحاجة إلى مساكنته في بلد يفرد له مكان لا يجاور فيه المسلمين ولا يقرب منهم تبعد ناره.
مخ ۱۷
وفي البخاري في باب إخراج اليهود من جزيرة العرب ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} وفيه عن أبي هريرة {بينما نحن في المسجد خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال انطلقوا فخرجنا حتى جئنا بيت المدارس فقال أسلموا تسلموا واعلموا أن الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض فمن يجد منكم بماله شيئا فليبعه وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله} وفي سنن أبي داود عن ابن عباس {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بثلاثة وقال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} وفيه عن جابر بن عبد الله أخبرني عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول {لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب لا أترك فيها إلا مسلما} .
وقال مالك أجلى عمر يهود نجران ولم يحل من فيها من اليهود أنهم لم يؤوها.
وقال مالك أجلى عمر يهود نجران وفدك.
وفي البخاري وقال عبد الرزاق أنا ابن جريج قال حدثني موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز.
مخ ۱۸
{وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها وكانت الأرض لله عليها لله وللرسول وللمسلمين، وأراد إخراج اليهود منها فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرهم بها أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمرة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نقركم بها على ذلك ما شئنا فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء} .
فهذه الأحاديث كلها ببلد معين إلا ما في الأخير من جزيرة العرب وسنتكلم عليها في كلام ابن جرير.
وفي سنن أبي داود عن مصرف بن عمرو اليامي عن يونس بن بكير عن أسباط بن نصر عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير وكلهم ثقات عن ابن عباس {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والنصف في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمين على أن لا يهدم لهم بيعة ولا يخرج لهم قس ولا يفتنون عن دينهم ما لم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا} .
قال إسماعيل: فقد أكلوا الربا.
مخ ۱۹
قال أبو داود: ونقضوا بعض ما اشترط عليهم.
وهذا الحديث في صلح أهل نجران حسن جدا عمدة في هذا النوع من الصلح وتسويغ أن يشترط لهم في مثله عدم هدم بيعهم وانظر كونه لم يشترط إلا عدم الهدم ما قال التبقية فإن التبقية تستلزم فعل ما يقتضي البقاء كما في الغراس والبناء الذي يجب إبقاؤهما فلم يرد في البيع والكنائس مثل ذلك لأنا إنما نعتمد الأدلة الشرعية.
مخ ۲۰
والدليل الشرعي في هذا النوع هو الذي ذكرناه فلا يتعدى، وذكر ابن سعد في الطبقات في وفد نجران {أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران فخرج وفدهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم نصارى منهم العاقب أميرهم وأبو الحارث أسقفهم والسيد صاحب رحلهم فدخلوا المسجد وعليهم ثياب الحبرة وأردية مكفوفة بالحرير فقاموا يصلون في المسجد نحو المشرق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنهم فلم يكلمهم فقال لهم عثمان ذلك من أجل زيكم هذا فانصرفوا ثم غدوا عليه بزي الرهبان فسلموا عليه فرد عليهم ودعاهم إلى الإسلام فأبوا وأكثروا الكلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أنكرتم ما أقول فهلم أباهلكم فامتنعوا من المباهلة وطلبوا الصلح فصالحهم على هذا.
مخ ۲۱
وقال فيه على نفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وبيعهم لا يغير أسقف من سقيفاه ولا راهب من رهبانيته فرجعوا إلى بلادهم فلم يلبث السيد والعاقب إلا يسيرا حتى رجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلما فأنزلهما دار أبي أيوب وأقام أهل نجران على ما كتب حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحمة الله ورضوانه ثم ولي أبو بكر فكتب بالوصاة بهم عند وفاته ثم أصابوا ربا فأخرجهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أرضهم وكتب لهم من سار منهم فإنه آمن بأمان الله لا يضرهم أحد من المسلمين وفاء لهم بما كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر.
فمن وقعوا به من أمراء الشام وأمراء العراق فليوسقهم من جريب الأرض فما اعتملوا من ذلك فهو لهم صدقة بمكان أرضهم لا سبيل عليهم فيه لأحد ولا مغرم فمن حضرهم فلينصرهم على من ظلمهم فإنهم أقوام أهل ذمة وجزيتهم عنهم متروكة أربعة عشر شهرا بعد أن يقدموا فوقع ناس منهم بالعراق فنزلوا النجرانية التي بناحية الكوفة} .
مخ ۲۲
فانظر كم في هذه القصة من فائدة وتركهم لما وصلوا إلى المشرق ليس إحداث فعل من المسلمين تأنيس لهم رجاء إسلامهم والإعراض عنهم وعدم كلامهم لما كانوا عليه من الزي والحرير بذلك على أن الذي نقرهم عليه إنما هو بغير فعل منا، وعقده الصلح مع كبارهم محمول على أن جميعهم راضون به، والمصالحة على الحلل وغيرها دليل على أنه لا يتعين في الجزية الذهب والورق، وفي بعض الروايات قال أو قيمتها أواقي.
فأما الحلل فيمكن أن يقال إنها معلومة وأما التردد بينها بين قيمتها فإن ثبت في الحديث دل على اغتفار هذه الجهالة على أن ما ذكر من الدروع والسلاح يقتضي ذلك ويوافقه ما يشترط عليهم من الضيافة، والأصحاب اجتهدوا في بيان إعلامها على الوجه المشترط في سائر العقود والظاهر أن أرض نجران بقيت على ملكهم فهي الصورة التي ذكر الأصحاب فيها الفتح صلحا على أن تكون رقبة البلد لهم ويؤدون الخراج عنها وإلا منع من بقاء الكنائس فيها.
مخ ۲۳