منازل الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد
تأليف: أبو زكريا يحيى بن إبراهيم السلماسي
تحقيق: محمود عبد الرحمن قدح
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله ﷺ وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله ﷿ قد تكفل بحفظ هذا الدين الذي أنزله على خاتم أنبيائه ورسله نبينا محمد ﷺ فقال تعالى ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ١ فهيّأ الله ﷿ لنبيه ﷺ أصحابًا - هم صفوة الخلق وخيرته بعد الأنبياء - وجعلهم وزراء له وأنصارا وأتباعًا، فحملوا الأمانة من بعده ﷺ، فأدّوها ورعوها حق رعايتها، وجاهدوا في الله حق جهاده، وسار التابعون لهم بإحسان على طريقتهم ومنهجهم إلى يوم الدين.
ولما نشأت البدع وظهرت الفرق التي حذرنا منها النبي ﷺ وأمرنا بالتمسك بما كان عليه ﷺ وصحابته من بعده، فقد سخر الله من عباده الصالحين في كل مكان وزمان من يدعون إلى السنة ويبينونها للناس، ويردون على البدعة ويحذرون منها.
_________
١ سورة الحجر /٩.
1 / 7
قال الإمام أبو القاسم اللالكائي: ثم إنه لم يزل في كل عصر من الأعصار إمام من سلف أو عالم من خلف قايم لله بحقه وناصح لدينه فيها، يصرف همته إلى جمع اعتقاد أهل الحديث على سنن كتاب الله ورسوله وآثار صحابته، ويجتهد في تصنيفه، ويتعب نفسه في تهذيبه رغبة منه في إحياء سنته وتجديد شريعته، وتطرية ذكرهما على أسماع المتمسكين بهما من أهل ملته، أو لزجر غال في بدعته، أو مستغرق يدعو إلى ضلالته، أو مفتتن بجهالته لقلة بصيرته اهـ١.
ومن هؤلاء العلماء الذين بذلوا مهجهم ونذروا أوقاتهم لهذا الواجب العظيم، الإمام الواعظ أبو زكريا يحيى بن إبراهيم الأزدي السلماسي الذي بيّن في كتابه – الذي بين أيدينا- منازل الأئمة الأربعة، أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد ﵃ أجمعين - اتفاق المعتقد عند الأئمة الأربعة الكرام، المقتدى بهم في الإسلام، والمعتمد على أقوالهم وفقههم بين الأنام.
فإن اعتقاد هؤلاء الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة الأعلام هو ما نطق به الكتاب والسنة، وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ولم يكن بين هؤلاء الأئمة - ولله الحمد والمنة - خلاف في المعتقد وأصول الدين، وإنما وقع الخلاف بينهم في بعض فروع الشريعة وجزئياتها.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن اعتقاد الشافعي فأجاب - رحمه
_________
١ شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ١/٢٦.
1 / 8
الله - بقوله: اعتقاد الشافعي ﵁، واعتقاد سلف الإسلام، كمالك، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، هو اعتقاد المشايخ المقتدى بهم، كالفضيل بن عياض، وأببي سليمان الدارمي، وسهل بن عبد الله التستري، وغيرهم، فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة وأمثالهم نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة ﵀، فإن الاعتقاد الثابت عنه في التوحيد والقدر ونحو ذلك، موافق لاعتقاد هؤلاء، واعتقاد هؤلاء هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة اهـ١.
وإن في بيان وحدة معتقد الأئمة الأربعة، وإيضاح مجمل اعتقادهم وموافقته للسنة والمأثور عن سلف الأمة، إقامة للحجة على كل من يتبع مذاهب هؤلاء وهو على غير طريقتهم. وأمر آخر هو أن بيان معتقد هؤلاء الأئمة الأعلام من مصادرها المعتبرة هو تزييف وإبطال للآراء المنسوبة للإمام وهو منها بريء٢.
هذا هو موضوع الكتاب الذي بين أيدينا والذي عقدت العزم - مستعينا بالله - على تحقيقه ودراسته والتعليق عليه وإخراجه، بحول الله وقدرته وتوفيقه.
وقد قسمت البحث في دراسة الكتاب وتحقيقه إلى قسمين كالآتي:
_________
١ مجموع الفتاوى ٥/٢٥٦، وبنحوه في منهاج السنة ٢/١٠٦، وكتاب الإيمان ص٣٥٠،٣٥١.
٢ أصول الدين عند الأئمة الأربعة واحدة، د. ناصر القفاري، ص٣٤.
1 / 9
القسم الأول: دراسة المؤلف وكتابه، ويشتمل على ثلاثة مباحث هي:
المبحث الأول: التعريف بالمؤلف
المبحث الثاني: دراسة الكتاب
المبحث الثالث: منهجي في التحقيق
القسم الثاني: نص الكتاب المحقق.
ثم وضعت فهارس متنوعة للبحث إعانةً لقارئيه، سائلا الله العظيم أن يتقبل مني هذا العمل، وسائر أعمالي وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وألا يحرمني ووالدي أجرها إنه سميع مجيب. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.
وكتبه
محمود بن عبد الرحمن قدح
1 / 10
القسم الأول: دراسة المؤلف والكتاب
المبحث الأول: ترجمة المؤلف
...
المبحث الأول: التعريف بالمؤلف
اسمه ونسبه ونسبته:
هو يحيى بن أبي طاهر إبراهيم بن أحمد بن محمد الأزدي السَّلَمَاسي. فأمَّا نسبته (الأزدي) فهي نسبة إلى قبيلة (الأزَدْ) من أعظم قبائل العرب وأشهرها
_________
وردت ترجمة المؤلف في المصادر الآتية:
تاريخ مدينة مدشق ٦٤/٤٤-٤٦ للإمام الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي، المعروف بابن عساكر.
مشيخة ابن الجوزي ص١٤٥-١٤٧ للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد ابن الجوزي.
المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ١٠/١٦٤ للإمام أبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي.
المختصر المحتاج إليه من تاريخ الحافظ أبي عبد الله محمد بن سعيد ين يحي ابن الدبيثي الذي جعله ذيلا على تاريخ أبي سعيد عبد الكريم السمعاني الحافظ المذيل على تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي ١/٣٨٥، ٣٨٦ رقم (١٤٤٥) للعلامة محمد بن سعيد بن محمد الدبيثي، واختصره الإمام الذهبي.
تاريخ الإسلام ٣٧/٤١٥، ٤١٦ للإمام الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي.
تذكرة الحفاظ ص١٢٩٢ للإمام الذهبي.
ميزان الاعتدال في نقد الرجال ٤/٣٦٠ للإمام الذهبي.
المغني في الضعفاء ٢/٢٧٠، ٧٢٩ للإمام الذهبي، وورد ذكره في سير أعلام النبلاء ١٩/١٢٣، ٢٠/٢٤٠، ٢٩١ للإمام الذهبي
لسان الميزان ٦/٢٤٠ للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني.
1 / 13
، تنتسب إلى الأزد بن الغوث بن نَبْت بن مالك بن كهلان من القحطانية١.
وأما (السلماسي) فهي نسبة إلى مدينة (سَلَماس) - بفتح أوله وثانيه - وهي مدينة مشهورة بأذربيجان٢، خرج منها جماعة من العلماء منهم:
- موسى بن عمران بن موسى بن هلال أبو عمران٣.
- أبو القاسم حريز بن أحمد بن حريز السلماسي، أحد الأئمة المشهورين بالفضل، وكان حسن الاعتقاد، فصيح اللسان، مات في شوال سنة ٤٣٦هـ٤.
- أبو حفص عمر بن يوسف بن الحسن السلماسي.
- أبو الحسن المظفر بن الحسن بن المهند السلماسي.
_________
١ ر: معجم قبائل العرب القديمة والحديثة ١/١٥-١٨ عمر رضا كحالة، إصدار مؤسسة الرسالة، بيروت ١٣٩٨هـ - ١٩٧٨م ط٢.
٢ سلماس: بينها وبين أرمية يومان، وبينها وبين تبريز ثلاثة أيام، وهي بينهما، وقد خرب الآن معظمها، وبين سلماس وخُوَيَّ مرحلة. (ر: معجم البلدان ٣/٢٧٠ ياقوت الحموي، تحقيق: فريد عبد العزيز الجندي)، وفي المنجد في الأعلام ص ٣٦٢: سلماس: منطقة في أذربيجان شمال غربي بحيرة أرميا، يسكنها خمسون ألف نسمة، فيها قرى كان يسكنها الأرمن والسريان والكلدان واليهود مع أكثرية من الشعية. اهـ.
٣ ر: معجم البلدان ٣/٢٧٠.
٤ اللباب في تهذيب الأنساب ٢/١٢٦ عز الدين ابن الأثير الجزري، والأنساب ٣/٢٧٥ للسمعاني.
1 / 14
- أبو محمد الحسن بن جعفر بن داود السلماسي، توفي سنة ٤١٩هـ.
- أبو عبد الله الحسين بن جعفر بن محمد بن جعفر بن داود ابن الحسن السلماسي، كان ثقة، توفي سنة ٤٤٦هـ.
- أبو نصر محمد بن الحسن بن محمد بن جعفر بن داود السلماسي، ابن عم أبي عبد الله بن السلماسي، كان صدوقا، مات سنة ٤٤٤هـ.
- أبو طاهر المحسن بن جعفر بن محمد بن جعفر بن داود ابن الحسن السلماسي، كان ثقةً، مات سنة ٤٣٦هـ١.
٢- كنيته ولقبه:
أجمعت المصادر التي ذكرت المؤلف على أن كنيته (أبو زكريا)، ولكن لم تذكر تلك المصادر أسماء أو عدد أولاده.
وقد اشتهر المؤلف بلقب (الواعظ) ٢ لأنه كان يعقد مجلس الو عظ والتذكير في دمشق وبغداد، وكان له القبول التام٣، ولعلَّ المؤلف ﵀ كان مأذونا له بالوعظ من قبل الخليفة أو الولاة، "فقد كان معه علمان أسودان من أعلام الخليفة، ينصبهما على كرسيه وقت وعظه"٤.
_________
١ ر: الأنساب ٣/٢٧٥، ٢٧٦ للسمعاني.
٢ أورد لقبه الحافظ ابن عساكر، وابن الجوزي، وابن الدبيثي، والذهبي.
٣ ابن الجوزي في مشيخته ص١٤٧، والمنتظم ١٠/١٦٤.
٤ تاريخ دمشق ٦٤/٤٥ لابن عساكر.
1 / 15
٣- ولادته ونشأته:
قال الحافظ ابن عساكر عن المؤلف - رحمهما الله -: وكان مولده في ما ذكر سنة أربع وسبعين وأربعمائة١، وبدأ بسماع الحديث سنة إحدى وثمانين٢، واستجاز له أبوه من مشايخ بغداد سنة نيف وثمانين ٣اهـ.
ويبدو لنا من ترجمة المؤلف وسيرته ورحلاته - فيما سيأتي - أن ولادة المؤلف ونشأته كانت في مدينة (سلماس) التي ينتسب إليها.
٤- طلبه للعلم ورحلاته فيه:
لقد كانت أسرة المؤلف - فيما يبدو لنا - أسرة خير وفضل، وبيته بيت علم وصلاح، فأبوه من المهتمين بالحديث وروايته، مما ساهم في نشأته العلمية وتكوينه في وقت مبكّر، فحببته أسرته في العلم والعلماء، ودفعت به إلى حلق العلم، فأقرأته القرآن، وحثته على سماع الحديث وكتابته وتحمله، "فبدأ المؤلف في
_________
١ وقع تصحيف في النسخة المطبوعة من تاريخ دمشق ٦٤/٤٤في تاريخ ولادة المؤلف وأنها كانت سنة (أربع وتسعين وأربعمائة) !!! وهذا مخالف لسياق الكلام المذكور بعده، ولذلك فقد رجعت إلى مخطوطة تاريخ دمشق، نسخة الظاهرية فوجدت الخطأ فيها، ثم رجعت إلى نسخة أخرى بالمغرب في خزانة ابن يوسف بمراكش (توجد مصورة ميكروفيلم عنها بالجامعة الإسلامية تحت رقم ٤١٨٠) فوجدت الصواب فيها وهو ما أثبته، حيث صحفت كلمة "سبعين" إلى "تسعين"، وتأكد لي صحة ذلك بالرجوع أيضا إلى مختصر تاريخ دمشق ٢٧/٢٠٠ للعلامة ابن منظور، فقد ذكر أن ولادة المؤلف كانت سنة أربع وسبعين وأربعمائة.
٢ أي: سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
٣ تاريخ دمشق ٦٤/٤٤،٤٥.
1 / 16
سماع الحديث سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وكان في السابعة من عمره حينئذ١، واستجاز له أبوه من مشايخ بغداد سنة نيف وثمانين)، حيث ذكر ذلك الحافظ ابن عساكر في تاريخه من مناقب المؤلف ﵀ -٢.وبهذه العناية المبكرة من والد المؤلف، وبما كان له من الهمة والإقبال الكبير والجد والاجتهاد في طلب العلم، فإنه لم يكتف بالأخذ عن مشايخ بلده أو ممن استجاز له والده، وإنما جدّ في السعي والرحلة لطلب العلم، فانتقل من بلده وفارق أهله، وهجر مصالحه ومنافعه رغبة في التزود من معين العلم والمعرفة، والسماع عن ثقات المشايخ وأئمة العلم في مختلف البلدان.
فذكر الحافظ ابن عساكر٣ أن المؤلف ارتحل لطلب العلم وسماع الحديث إلى الموصل٤ وإلى خُوَيّ٥، وإلى مَرَنْد٦.
_________
١ يجوز - عند جمهور المحدّثين - تحَمُّل الصبي للرواية، ولا تجوز الرواية عنه إلا بعد التمييز (ر: النكت على مقدمة ابن الصلاح ٣/٤٦١-٤٧١ للإمام بدر الدين الزركشي، تحقيق د. زين العابدين بن محمد) .
٢ ر: تاريخ دمشق ٦٤/٤٥.
٣ المرجع السابق ٦٤/٤٥.
٤ الموصل: مدينة مشهورة تقع شمال العراق.
٥ خُوَيّ: بلفظ تصغير (خو) - من أيام العرب - وهو واد من وراء نهر أبي موسى، بلد مشهور من أعمال أذربيجان، حصن كثير الخير والفواكه، وينسب إليها الثياب الخوية (ر: معجم البلدان ٢/٤٦٦ لياقوت الحموي) . وقال عنها القزويني: أهلها أهل السنة، والجماعات على مذهب واحد، ليس بينهم اختلاف المذهب (ر: آثار البلاد ص٥٢٧) .
٦ مرند: بفتح أوله وثانيه، من مشاهير مدن أذربيجان، بينها وبين تبريز يومان. (ر: معجم البلدان ٥/١٢٩) .
1 / 17
٥- شيوخه وتلاميذه:
بينّا فيما سبق أن المؤلف قد طلب العلم في سن مبكرة، وسافر وارتحل لطلب العلم والسماع من المشايخ، ومن كانت هذه حالته وهمته العالية لا بُدَّ أن يتتلمذ على عدد كبير من المشايخ وعلماء عصره، وقد أورد الحافظ ابن عساكر بعض شيوخ المؤلف وهم:
- سمع من أبيه أبي طاهر إبراهيم بن أحمد السلماسي.
- وسمع من أبي الوفاء خليل بن شعبان بن إبراهيم
- وسمع بالموصل من أبي بكر محمد بن القاسم بن الشهرزوري، وهو من مشايخ ابن عساكر.
- ومن أبي القاسم نصر بن محمد بن أحمد بن صفوان الموصلي.
- وسمع بخُوَيّ من أبي عبد الله محمد بن الهادي بن أحمد بن بعون الدقوقي.
- وسمع بمرند من أبي الفضل نعمة الله بن محمد العبدوي المرندي، من مشايخ ابن عساكر.
- وسمع من جماعة من شيوخ أذربيجان، وغيرهم١.
أما عن تلاميذه فقد تتلمذ عليه وسمع منه عدد من العلماء الأجلاء ومنهم:
- الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن الشافعي المعروف بابن عساكر
_________
١ ر: تاريخ دمشق ٦٤/٤٥.
1 / 18
المتوفى سنة ٥٧١هـ، الذي قال عنه: سمعت منه جزءًا خَرَّج له عن شيوخه، ولم أجد نسخته عندي، وعلقت عنه أشياء يسيرة، ثم أخرج الحافظ ابن عساكر حديثًا سمعه من المؤلف بإسناده، وقال عقب الحديث: هذا إسناد مظلم، وحديثه منكر١.
- الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي المتوفى سنة ٥٩٧هـ، وقد أورده ابن الجوزي في مشيخته الذي ضمّ تراجم شيوخه الذين تتلمذ عليهم، وقد سمع منه ابن الجوزي شيئًا من الحديث بقراءة ابن ناصر، وأخرج له ابن الجوزي حديثًا سمعه من المؤلف بإسناده في يوم الثلاثاء ثالث ذي القعدة من سنة ثمان وأربعين وخمسمائة٢.
- الإمام المحدّث الحافظ، أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد ابن علي بن عمر السَّلاَميُّ البغدادي، المعروف بابن ناصر، المتوفى سنة ٥٥٠هـ٣، وهو المراد في كلام ابن الجوزي السابق أنه سمع من المؤلف شيئًا من الحديث بقراءة ابن ناصر.
- أبو الحسن بن المُقير، وهو آخر من روى عن المؤلف السلماسي بالإجازة٤.
_________
١ المرجع السابق ٦٤/٤٥،٤٦.
٢ مشيخة ابن الجوزي ص١٤٥،١٤٦، الشيخ الحادي والخمسون - لأبي الفرج ابن الجوزي.
٣ ر: ترجمته في المنتظم ١٠/١٦٣ لابن الجوزي، وسير أعلام النبلاء ٢٠/٢٦٥ للذهبي.
٤ تاريخ الإسلام ٣٧/٤١٥،٤١٦ للإمام الذهبي.
1 / 19
٦- مؤلفاته وأقوال العلماء فيه:
ذكر الحافظ ابن عساكر أن المؤلف صنف كتابين هما:
- الكتاب الأول سماه (باب المدينة) .
قال الحافظ ابن عساكر عن هذا الكتاب: وصنف كتابًا سماه (باب المدينة) افتتحه يحيى بن إبراهيم، ذكر فيه أحاديث في فضل علي لم يسمع، تقرَّب بذلك إلى الرئيس أبي الفوارس بن الصوفي ونفق١ عنده بذلك، وقفت على ذلك الكتاب فأبان عن قلة معرفة منه بالحديث، وكثرة نفاق في الاعتقاد٢ اهـ.
وبسبب هذا الكتاب ونقد الحافظ ابن عساكر له ولمؤلفه، فإن المؤرخين والعلماء الذين ترجموا للمؤلف في كتبهم - كالإمام الذهبي والحافظ ابن حجر - قد تابعوا ابن عساكر في نقده ذلك، ما عدا ابن الجوزي - الذي كان معاصرا لابن عساكر - وابن الدبيثي في تاريخه، حيث لم يشيرا إلى الكتاب المذكور في ترجمتهما للمؤلف، فقد قال الإمام الذهبي تبعا لابن عساكر في كتابه (المغني في الضعفاء): يحيى بن إبراهيم السلماسي، معروف، صنف في مناقب علي كتاب (باب المدينة) أبان فيه عن جهل وهوى٣ اهـ.
_________
١ في النسخة المطبوعة من تاريخ دمشق (له)، وأشار محقق النسخة في الحاشية أن رسمها بالأصل (معف)، فرجعت إلى مخطوطة تاريخ دمشق وصوبت الكلمة كما أثبتها.
٢ تاريخ دمشق ٦٤/٤٥.
٣ المغني في الضعفاء ٢/٧٢٩ رقم الترجمة (٦٩٢٢) .
1 / 20
وأعاد الإمام الذهبي ترجمة المؤلف في كتابه (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) مضيفًا بأنه روى عنه - أي المؤلف - أبو القاسم ابن عساكر وغيره١.
وقال الحافظ ابن حجر تبعًا للذهبي وابن عساكر في كتابه (لسان الميزان): يحيى بن إبراهيم السلماسي، شيخ معروف متأخر، له مصنف في مناقب علي ﵁، أبان فيه عن جهل وهوى، روى عنه أبو القاسم ابن عساكر وغيره اهـ٢.
قلت: لم أقف على الكتاب المذكور فيما بحثت فيه من فهارس المخطوطات والمكتبات المعروفة، ولعل المؤلف - عفا الله عنا وعنه - قد كتب هذا الكتاب في بداية حياته العلمية، أو تحت ظروف قاهرة ألجأته إلى ذلك، مع أن ذلك ليس عذرًا للمؤلف فيما كتبه وأخطأ فيه في كتابه (باب المدينة) حسب قول ابن عساكر، ولكن الذي يهمنا معرفته أن المؤلف - عفا الله عنا وعنه - قد رجع عن خطئه ذلك، وأعلن أن اعتقاده في الصحابة جميعا وفي علي خاصة ﵃ خاصة هو اعتقاد السلف أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والأئمة العلماء ومنهم الأئمة الأربعة الأعلام، فقد صرّح بذلك في كتابه الثاني -الذي بين أيدينا- حيث يقول المؤلف السلماسي: وأفضل الصحابة المهاجرين العشرة الذين شهد لهم رسول الله ﷺ بالجنة، وأفضل العشرة الخلفاء الأئمة الأربعة، وأفضلهم أبوبكر الصديق،
_________
١ ميزان الاعتدال في نقد الرجال ٤/٣٦٠ رقم الترجمة (٩٤٤٩) .
٢ لسان الميزان ٦/٢٤٠ رقم الترجمة (٨٤٦) .
1 / 21
ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى ﵃.
قال الله تعالى: ﴿لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ...﴾ نزلت الآية في أبي بكر الصديق ﵁ حيث أنفق ماله بمكة، ونصر النبي ﷺ وهو أول من آمن من الرجال، وقد وردت في فضائل الأربعة الآيات الكثيرة، قال الله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم ...﴾ ثم ذكر المؤلف بعض الآيات والأحاديث الواردة في فضائل الصحابة - ثم قال: وأجمعوا على الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله ﷺ، فقد قال ﷺ: "إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا"، وروى عن أبي سعيد أنه قال: مثل أصحاب رسول الله ﷺ مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها.
وينتهون إلى ما روي عن عمر بن عبد العزيز وقد سئل عما شجر بينهم فقال: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون.
وسئل بعض العلماء من التابعين عن ذلك، فقال: أقول ما قال موسى ﵇ لفرعون حين قال له ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى﴾ ثم قال المؤلف: فنترحم على جميع الصحابة، ونحبهم وننتهي إلى قول الله ﷿: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ثم قال المؤلف أبو زكريا السلماسي - وقد شهد رسول الله ﷺ لعشرة من أصحابه بالجنة، هم خير الناس، وأفضلهم الخلفاء الراشدون، ويجب على المسلمين
1 / 22
مدحهم والثناء عليهم، والدعاء لهم ولجميع الصحابة لما بذلوه من وسع النفس والمال في إقامة الحق، ونصرة الدين ﵃ أجمعين اهـ.
وقال المؤلف في نهاية ذكره لجمل الاعتقاد: هذا دينهم واعتقادهم - أي الصحابة والتابعون وأئمة الأمصار من الفقهاء وأصحاب الحديث في كل زمان ومكان - ذكرته على وجه الاختصار وحذفت الأسانيد كراهية الإكثار اهـ١.
وبهذا يتبين أن المؤلف - غفر الله لنا وله- قد رجع إلى الحق والصواب، وعقيدة السلف خاصة في الصحابة وفي علي ﵃، وأن المؤلف لا يقول في علي إلا ما قاله الصحابة والتابعون والأئمة فيه ﵁.
بقي أن نشير إلى أن تلك الملحوظة التي ذكرها ابن عساكر لا تحط من مكانة المؤلف، ولا تقلل من شأنه، ولا تمنع من الاستفادة من علمه في الجوانب والكتب الأخرى للمؤلف - كما فعل ابن عساكر نفسه في التتلمذ والأخذ عن المؤلف مع نقده إياه - وقلَّ أن نجد عالمًا لا يخطئ، فكما قال الإمام مالك - إمام دار الهجرة -: كلٌّ يؤخذ من كلامه ويرد عليه، إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم٢.
أما الكتاب الثاني للمؤلف فهو منازل الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ﵃ أجمعين، وهو الكتاب الذي بين أيدينا وقمنا بتحقيقه ودراسته - ولله الحمد والمنة. وقد قال الحافظ ابن عساكر عن هذا الكتاب الثاني: ووقعت له على كتاب صنفه في فضل الأئمة الأربعة: أبي حنيفة،
_________
١ ر: النص المحقق ص ١٢٨-١٣٧.
٢ رواه الإمام ابن عبد البر في جامع العلم ٢/١٩، وأبو شامة في المختصر المؤمل ص ٦٦.
1 / 23
ومالك، والشافعي، وأحمد، ما به بأس١.
ويظهر لنا - والله أعلم - من ترتيب كلام ابن عساكر عن كتابي المؤلف، أن كتاب (باب المدينة) ألفه أبو زكريا السلماسي أولًا، ثم ألف من بعده كتابه الثاني وهو (منازل الأئمة الأربعة)، وهذا يؤكد ما ذكرناه من قبل في رجوع المؤلف إلى عقيدة السلف وثباته عليها ودفاعه عنها والدعوة إليها، ويؤيد ذلك أيضا ما ذكره الحافظ ابن عساكر في نهاية ترجمة المؤلف بأنه كان يذهب مذهب أحمد بن حنبل في الأصول، وينتحل مذهب الشافعي في الفروع وتلك شهادة مهمة وتزكية عالية من الحافظ ابن عساكر لشيخه السلماسي، ونسأل الله ﷿ للجميع الرحمة والمغفرة في الدنيا والآخرة.
٧- أقوال العلماء الأخرى فيه:
- قال عنه الحافظ ابن عساكر: قدم دمشق سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، ونزل دويرة السميساطني، وعقد مجلس التذكير، ... وكانت معه كتب كثيرة، وسماعه فيها قليل٢، وكان له نظم ونثر، وكان ذا ثروة٣.
_________
١ ر: تاريخ دمشق ٦٤/٤٥.
٢ كلام الحافظ ابن عساكر بأن سماع المؤلف السلماسي في كتبه قليل، فيه نظر، فإن المؤلف ﵀ قد ذكر في كتابه الذي بين أيدينا جملة من المصنفات الحديثية والتأريخية وغيرها - وهي كثيرة - وقد صرح المؤلف السلماسي بسماعه لتلك الكتب. (ر: ص ٣١، ٣٢) في مصادر المؤلف في الكتاب.
٣ تاريخ دمشق ٦٤/٤٤،٤٥.
1 / 24
- وقال عنه الحافظ ابن الجوزي: أبو زكريا الواعظ السلماسي، سمع الحديث، وقدم إلى بغداد، فوعظ بها، ووقع له القبول التام، ثم غاب عنها نحوا من أربعين سنة، ثم قدم بعد الأربعين وخمسمائة، فطلب أن يفتح له الجامع ليعظ فلم يجب إلى ذلك، فسمعنا منه شيئًا من الحديث، ثم رحل عن بغداد١.
- قال عنه الحافظ الذهبي: والواعظ الكبير أبو زكريا يحيى بن إبراهيم السلماسي٢.
٨- عقيدته ومذهبه الفقهي:
لقد كان المؤلف أبو زكريا السلماسي ﵀ على عقيدة أهل السنة والجماعة، عقيدة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، التي تلقوها عن رسول الله ﷺ، ولا أدل على ذلك من كتابه الذي بين أيدينا، الذي أوضح فيه عقيدة السلف الصالح بأدلتها من الكتاب والسنة وأقوال السلف رحمهم الله تعالى.
ومما يؤكد سلامة عقيدة المؤلف ﵀ شهادة تلميذه الإمام الحافظ ابن عساكر بقوله عن المؤلف: وكان يذهب مذهب أحمد بن حنبل في الأصول، وينتحل مذهب الشافعي في الفروع. اهـ٣.
_________
١ مشيخة ابن الجوزي ص١٤٧، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ١٠/١٦٤ لابن الجوزي، تاريخ الإسلام ٣٧/٤١٥،٤١٦ للذهبي.
٢ سير أعلام النبلاء ٢٠/٢٧٠.
٣ تاريخ دمشق ٦٤/٤٥.
1 / 25
فالانتساب إلى الإمام أحمد في الأصول هو انتساب إلى السنة١، فالإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة بلا منازع٢.
وانتساب المؤلف في الفروع الفقهية إلى الإمام الشافعي تأكيد على اتفاق الأئمة الأربعة في العقيدة وأصول الدين وإجماعهم عليها، وأن اختلافهم لم يكن إلا في أمور محدودة من فروع الشريعة لا في أصولها.
وفاته:
عاش المؤلف ستة وسبعين عامًا قضاها في طلب العلم والرحلة إليه ثم تعليمه، ووعظ الناس وتذكيرهم ونصحهم وإرشادهم وتبصيرهم بأمور دينهم، وفي رواية الحديث، في بغداد ودمشق وسلماس وغيرها.
_________
١ قال الإمام أحمد: أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة ...الخ (ر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة ١/١٥٦ للالكائي)، وقال الإمام ابن تيمية: ولفظ السنة في كلام السلف، يتناول السنة في العبادات، وفي الاعتقادات، وإن كان كثير ممن صنف في السنة يقصدون الكلام في الاعتقادات، وهذا كقول ابن مسعود، وأبي بن كعب، وأبي الدرداء ﵃: "اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة". اهـ. (ر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص٧٧ لابن تيمية تحقيق: د. صلاح الدين المنجد) .
٢ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وصار الإمام أحمد علمًا لأهل السنة الجائين بعده من جميع الطوائف، كلهم يوافقه في جمل أقواله وأصول مذاهبه، لأنه حفظ على الأمة الإيمان الموروث والأصول النبوية ممن أراد أن يحرفها. (ر: مجموع الفتاوى ١٢/٤٣٩) .
1 / 26
وقد مات المؤلف بعد رجوعه إلى بلده سلماس بيسير١، حيث توفي في شهر شعبان٢ سنة خمسين وخمسمائة من الهجرة النبوية٣، ﵀ رحمة واسعة، وأدخله فسيح جناته، وشملنا وإياه بمغفرته ورضوانه آمين.
_________
١ ر: تاريخ دمشق٦٤/٤٥.
٢ ر: المختصر المحتاج إليه من تاريخ ابن الدبيثي ١/٣٨٥ إختصار الإمام الذهبي، تاريخ الإسلام ٣٧/٤١٥،٤١٦ للذهبي.
٣ مشيخة ابن الجوزي ص١٧٤، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ١٠/١٦٤ لابن الجوزي، المختصر المحتاج إليه من تاريخ ابن الدبيثي ١/٣٨٥، تاريخ الإسلام ٣٧/٤١٦ للذهبي، وتذكرة الحفاظ ص١٢٩٢ للذهبي، وسير أعلام النبلاء ٢٠/٢٧٠،٢٩١.
1 / 27
المبحث الثاني: دراسة الكتاب
(١) اسم الكتاب:
الاسم المثبت على غلاف الكتاب هو (منازل١ الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ﵃ أجمعين) .
(٢) توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف:
إن نسبة الكتاب للمؤلف - رحمه الله تعالى - ثابتة قطعا بأدلة عدة:
- أن الحافظ ابن عساكر - وهو من تلاميذ المؤلف كما ذكرنا - قد اطلع عليه وقرأه ونسبه للمؤلف، قال الحافظ ابن عساكر: "ووقعت له على كتاب صنفه في فضل الأئمة الأربعة أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، ما به بأس. اهـ.٢
- ذكر اسم المؤلف على غلاف الكتاب مقرونا باسم الكتاب.
- تصريح المؤلف باسمه ونسبه في مقدمة الكتاب.
_________
١ المنزلة: الدار والمكانة والمرتبة، جمعها: منازل، يقال: له منزلة عند الأمير: مكانة، وهو رفيع المنازل: المراتب. (ر: المعجم الوسيط ٢/٩١٥ من إصدارات مجمع اللغة العربية بالقاهرة) .
٢ ر: تاريخ دمشق ٦٤/٤٥.
1 / 28