قال: «هي ورقة لا فائدة لك فيها.»
فقال الأغا: «أعلم ذلك، ولكني أريد أن أطلع عليها.»
فقال غريب: «ليس فيها شيء يوجب إخفاءها لكنها ثمينة عندي لأنها من أعز الناس علي.» فضحك الأغا وقال: «لعلها تذكار من حبيبتك!» فخجل غريب لذلك، وقال: «لا، وإنما هي تذكار من والدتي.» فأراد الأغا أن يطيل السؤال، ولكنه كان قد وصل إلى السجن فأدخل غريبا ذلك السجن المظلم، وصرف من كان واقفا هناك من الشرطة، ودخل السجن معه لكي يعد له مكانا يمكث فيه. •••
استعظم غريب الدخول إلى ذلك المكان المظلم، وكاد الشرر يطير من عينيه، ولم يكن معه إلا الأغا فسار به إلى حجرة مضيئة ليس فيها أحد، وأجلسه على حصير هناك، وجلس هو بجانبه فتعجب للطف ذلك الأغا، وخشي أن يكون وراء ذلك دسيسة مدبرة، تهدف إلى قتله، فصار ينظر إليه نظرة الحذر، غير أن ملامح وجهه لم تكن تظهر فيها دلائل الخيانة.
تقدم الأغا إلى غريب - بعد أن جلسا - وطلب منه بصوت ضعيف أن يطلعه على تلك البطاقة، فقال غريب: «وما غرضك منها؟» قال: «لا غرض لي سوى أني أحب الاطلاع على نصائح الوالدين.» فأعطاه البطاقة، فلما قرأها وقف شعر رأسه من التأثر، وقال: «حقا إن هذه الوالدة لجوهرة ثمينة، فهذه أجمل وصية يمكن أن توجهها أم لولدها.»
وقد حمل غريب ذلك اللطف والدعة محمل الخديعة؛ لأنه قلما ظهر بين رجال والي عكا أناس في مثل هذه العواطف النبيلة.
ثم قال الأغا لغريب: «قد آن وقت الغداء، ولا بد أنكم تحتاجون إلى طعام.» فقال غريب: «إن نفسي لا تطلب طعاما ولا شرابا.» فأخذ سالم أغا يخفف عنه ويعزيه إلى أن قال: «يظهر لي أنك لم تقاس عذاب السجون أيها الأمير، كل واشرب واهنأ فعسى أن يمن الله بالفرج من الآن إلى المساء!» وقد لمح غريب من ذلك أن الرجل يقصد مساعدته فهدأ روعه، ولما جاء الطعام أكل ولكنه عاد فتذكر والدته فانقبض وجهه، فقال له سالم أغا: «ما بال سيدي الأمير منقبض الوجه؟»
فأجاب غريب: «لا تظن يا أخي أني خائف من الموت، لا ورأس أبي وإنما خوفي مصدره الإشفاق على والدتي التي إذا علمت بسوء أصابني لا تعيش ساعة من بعدي، وإذا كنت أحب الحياة فمن أجلها وحرصا على راحتها.»
فتبسم سالم أغا قائلا: «طب نفسا يا عزيزي، فإني عون لك على النجاة من هذا الضيق إن شاء الله.» فقال غريب: «وكيف يمكنك ذلك وقد أمرت أن تحافظ علي في السجن؟» فقال الأغا: «ما لنا وللأوامر، إننا نفعل ما نشاء!» فقال غريب: «أخشى أن يسبب لك ذلك ضررا، ثق إنني أفضل البقاء هنا والموت على أن يمسك أي سوء، نتيجة ارتكاب مثل هذه الخيانة.» فعجب الأغا لهذه العواطف النبيلة وازدادت محبته له، وهم إليه وقبل عارضيه وقال: «لا، لا يا سيدي إن ذلك لا يعد خيانة لأني أكون قد أنقذت بريئا من يد ظالم، فإن عبد الله باشا رجل مستبد غشوم لا يعرف الصداقة، ولا تظن أني أطعن فيه وهو رئيسي، وإنما رأيت منه أمورا أوجبت نفوري منه، وميلي إلى الجنود المصرية.»
فقال غريب: «يا للعجب، ألا تكون قد خرجت عن طاعة مولاك وخنت وطنك؟» فضحك سالم أغا، وقال: لا يا سيدي، إن عبد الله باشا ليس مولاي ولا أنا من أهالي عكا ولا أهالي سوريا، وإنما ساقتني الأقدار إلى هنا مصادفة، وسأقص عليك قصتي في فرصة أخرى إن شاء الله.
ناپیژندل شوی مخ