ثم عرض أحمد على الأمير غريب أن يتوسد للقيلولة، فقبل فقاده إلى دور علوي ودخل به إلى غرفة مشرفة على بيت آخر مقابل لذلك البيت، فنزع غريب بعض ثيابه وتوسد.
نساء المماليك
ولم يكد غريب يضطجع حتى سمع لغطا يتخلله صوت امرأة تنوح وتندب فأصاخ بسمعه، فإذا ذلك اللغط في البيت المقابل، وأطل من النافذة فرأى في ذلك البيت امرأة كالبدر جمالا، تستجير من رجل رث الثياب، يضربها كأن له سلطانا أن يفعل ذلك، فتحركت في قلب غريب عواطف الشهامة والمروءة فأمر بعض من معه من اللبنانيين أن ينزلوا لإنقاذ هذه المرأة من يد ذلك الرجل، فنزلوا أسرع من لمح البصر بعد أن سألوا أحمد عن الطريق، فأخذهم إلى باب البيت بعد أن أوصاهم أن لا يخبروا أحدا بذلك، وعاد إلى غرفة غريب فإذا هو مطل من النافذة ينظر إلى ذلك الرجل، وقد كان يتميز غيظا حتى إنه هم أن يلقي بنفسه من تلك النافذة لنصرة تلك المرأة.
فلما دخل أحمد انتبه غريب، فالتفت إليه قائلا: «من هذا الوحش الذي يضرب هذه المسكينة؟» قال له: «إن لهؤلاء يا سيدي قصة سأتلوها عليك الآن.» ثم سمعا صوت رجال غرباء في تلك الدار، وقد دخلوا فضربوا الرجل وخلصوا المرأة وجاءوا بها إلى بيت الحريم، كل ذلك والرجل ينادي بأعلى صوته، قائلا: «أنى لكم أن تأخذوا امرأتي مني؟ أليست ملكي ولي أن أتصرف معها كيف أشاء؟» فتعجب غريب من هذا القول، والتفت إلى أحمد قائلا: «أصحيح أنها امرأته؟» قال: «نعم يا سيدي.» قال: «يظهر أنهما مختلفا التفكير والذوق.» قال: «نعم، وسبب ذلك أنه حكم هذا القطر منذ بضعة قرون جماعة من الشراكسة وغيرهم، يقال لهم «المماليك» كانوا في أول الأمر خدما في دور الخلفاء العباسيين وغيرهم، يرسلون إليهم من ولاتهم في تركستان، في جملة هدايا أخرى بدلا من الجزية، فلما اعتنقوا الديانة الإسلامية وتعلموا وتثقفوا، أحبهم الخلفاء وعهدوا إليهم بإدارة عدد من مصالح الدولة، فقلدوا بعضهم الولاية، وبعضهم الخراج، وبعضهم إمارة السر إلى آخره. وما زالت أنفسهم تتوق إلى السلطة وحب السيادة، حتى تحقق لهم ذلك في أواخر الدولة العثمانية فصاروا أمراء أشبه بمديرين، ولكنهم أرادوا الاستبداد فسعت الحكومة العثمانية في إبادتهم فلم تنجح، حتى كانت أيام محمد علي باشا عزيز مصر الحالي ، فعمد منذ نحو اثنتي عشرة سنة إلى مكيدة ذبحهم بها عن آخرهم في القلعة، التي شاهدتها عن بعد في هذا الصباح، ثم أمر بمصادرة كل ما يملكونه من المال والمتاع، وأذن لرجاله من الجند وغيرهم في التزوج بنسائهم فأصبح هؤلاء النساء في حال الموت أهون عليهن منها؛ لأنهن بعد أن كن في عز وجاه أصبحن إماء لرجال لم يكن يقبلنهم عبيدا لهن. وهذه المرأة كانت من نساء أمير من هؤلاء الأمراء، فكان نصيبها التزوج بهذا الرجل، وهو من عساكر العزيز، فتراه ناقما عليها يضربها لأقل سبب. وقد مضى على هذه المسكينة عشر سنوات أو أكثر، وهي في مثل هذا العذاب، يأتيها كل ليلة وقد أسكره الخمر، فيعاملها كما رأيت.»
فتأثر غريب بهذه القصة حتى كاد يبكي، وبينما هما في الحديث، إذ دخلت خادمة تقول لسيدها: «إن السيدة كاملة تريد الدخول لتكلم الأمير.» فسأل غريب عن تلك السيدة، فقال أحمد: «هي المرأة التي نحن بصددها.» فقال: «دعوها تدخل.» فدخلت، والدموع ملء عينيها، وترامت على قدمي غريب قائلة: «إني ملتجئة إليك يا سيدي، وأستحلفك برأس أبيك أن تنقذني من هذه الشدة، فتأمر رجالك أن يحملوني من هذا المكان إلى حيث تشاءون، فأتخلص من هذا الإنسان المتوحش.» وكانت تقول ذلك، وهي تجهش بالبكاء، فازداد قلب غريب رقة وحنوا فأنهضها وأجلسها قائلا: «لا تخافي يا خالتي، وسأكلم أبي الليلة إن شاء الله وأستحلفه أن يخلصك من هذا الرجل فتذهبي معنا إلى لبنان.» قالت: «يا حبذا ذاك!» ثم قال لأحمد: «أتريد أن تبقيها في بيتك إلى الغد حتى نرى والدي ونكلمه؟» قال: «حسنا وإنما أخشى تبعة ذلك.» فقال غريب: «لا تخف، فإنني سأخبر أبي بحقيقة الأمر.»
فتقدمت السيدة وقبلت غريبا وألحت عليه ألا ينسى، فوعدها خيرا إذ امتلأ قلبه شفقة عليها. أما زوجها، فكان قد خرج يريد عرض دعواه على أغا الضابط، فقيل له إن دعواه مع ابن الأمير بشير، الذي هو صديق حميم لعزيز مصر. فتريث على أمل أن يسترجع امرأته باللطف.
أما غريب فخرج برجاله مع أحمد، يطوفون المدينة حتى وصلوا إلى قلعة الجبل، فقال أحمد: «هذه قلعة الجبل، فيها ديوان الحكومة، وفي هذه القلعة قتل المماليك كما أخبرتك.»
وكانت تقول ذلك وهي تجهش بالبكاء، فازداد قلب غريب رقة وحنوا، فأنهضها وأجلسها قائلا: لا تخافي يا خالتي!
فلما وصلوا إلى بابها اعترضهم حارس عليه لباس غريب، لم ير غريب مثله، وهو تنورة بيضاء كثيرة الزم والتجعد لا تتجاوز الركبتين، عليها منطقة من الحرير الملون قليلة الشد، وفوق ذلك الجمدان الجوخ المزرر، وعلى رأسه طربوش طويل مثني إلى الوراء، تتدلى منه طرة طويلة، وفي منطقته زوج غدارات، وطبنجة وخنجر، وقد تقلد سيفا محنيا. وكان طويل النجاد مستوي القامة كبير الشارب حاد العينين، تظهر عليه ملامح الشجاعة والنشاط، فخاطبه أحمد يستأذنه في الدخول فأذن لهم. فلما دخلوا سأل غريب عن ذلك الرجل، فقال أحمد: «هذا من جماعة الأرناءوط، وهم جنود من جهات ألبانيا في الروملي، وكان منهم تحت قيادة محمد علي باشا في بدء تدخله في حكومة مصر أربعة آلاف، وكانوا له عونا في كثير من أعماله.»
وكان دخول غريب، ومن معه، من باب العزب المشرف على الميدان. ويؤدي إلى هذا الباب مرتفع أشبه بتل منبسط، فقال أحمد لغريب: «قبل الدخول انظر يا سيدي، إن لهذا التل وهذا الباب حكاية سأتلوها عليك.» فلما دخلوا من الباب، دلفوا منه إلى مضيق صخري، والقلعة قائمة على سفح الجبل، وقد نحت كثير من جدرانها من صخر الجبل عينه. ويؤدي ذلك المضيق إلى أبنية القلعة، وهي تشبه بلدا صغيرا لسعتها، فلما صعدوا إلى أعلى ذلك المضيق قال أحمد: «هذا هو المكان الذي ذبح فيه الأمراء المماليك، وكانوا أكثر من أربعمائة، أتوا بالملابس الرسمية مدعوين لتناول القهوة في سراي القلعة؛ احتفالا بخروج طوسون باشا ابن محمد علي باشا لمقاتلة الوهابيين في شبه جزيرة العرب، بإشارة من مولانا السلطان. فتناولوا القهوة في القاعة التي ستشاهدونها في صدر القلعة حيث مجلس العزيز، وقد وقف الرجال صفوفا للخروج في الموكب، وكان العزيز قد تواطأ مع قواده على إهلاكهم. فلما اقترب الموكب من هذا الباب حوصر المماليك في هذا المضيق يحيط بهم الأرناءوط من ناحية والمغاربة من ناحية أخرى، ثم أقفلت أبواب القلعة بغتة وقتل هؤلاء المماليك عن آخرهم، ولم ينج منهم إلا أمير عاقه شأن من شئون بيته فجاء إلى الاحتفال متأخرا، فلما وصل إلى الباب، وكان الموكب آتيا للخروج آثر التريث حتى يخرج الموكب فيسير في أثره، فوقف بجواده خارج هذا الباب فوق ذلك التل المنبسط، ولم يمض إلا القليل حتى سمع إطلاق البارود، ورأى الأبواب قد أقفلت، فعلم أنها مكيدة، فهمز جواده طالبا الصحراء فرارا من الموت، ولم نعد نسمع عنه شيئا.»
ناپیژندل شوی مخ