وكانت هذه أول مرة خرج فيها غريب من بيت الدين، فحول نظره إلى ربا لبنان وهو على جواد مطهم، لا يمنعه صغر سنه من الظهور بمظهر كبار الفرسان. وقد جعل على رأسه كوفية من الحرير فوقها العقال البدوي، وارتدى قفطانا من الحرير فوقه الجمدان المزرر بأزرار القصب. وكان على حداثة سنه يحسن ركوب الخيل شأن أولاد أمراء لبنان، فإنهم يشبون على ظهور الخيل، ولا سيما بيت الأمير بشير، فقد كان يضرب المثل بإصطبله. وكان الركب يلتفتون إلى غريب بوجه خاص ويلاطفونه، مراعاة لصغر سنه وجماله ودعته، فإذا وصلوا إلى مكان أو قرية، يقول السياس بعضهم لبعض: «هل نخبر الأمير الصغير بهذا الأمر وذاك المنظر؟» وكان يقابل ذلك منهم بالبشاشة واللطف والثناء.
وما زال الركب سائرين إلى المساء فباتوا في إحدى القرى، ثم نهضوا في الصباح التالي، وما زالوا بين حل وترحال حتى التقوا بالأمير بشير، فسلموا عليه وقبلوا يديه، وسار الركبان معا، وجدا السير نحو مصر، وكان عددهم ينيف على مائة فارس، ومعهم الخدم والحشم، والناس يتقاطرون من القرى والبلاد، يقفون على جانبي الطريق لمشاهدة الأمير بشير الذي طالما سمعوا عنه.
أما الأمير ومن معه، فظلوا في طريقهم حتى أتوا إلى الشاطئ فنزلوا بعدتهم وخيلهم في زوارق ، سارت بهم إلى العزبة بقرب دمياط، فبعث كاشف دمياط يسأل الأمير عن سبب مجيئه، فأجابه أنه جاء يتشرف برحاب العزيز. فبعث إليه الكاشف أن يبيت الليلة في العزبة، وفي الغد يدخل ثغر دمياط، فنزل الأمير بحاشيته وأولاده في تلك القرية، وبعث إليهم الكاشف بما يحتاجون إليه من الزاد والعلف فأعدت لهم الأطعمة. وبعد تناول الغداء والقيلولة خرجوا إلى الحقول والمزارع، يسرحون الطرف في أرض مصر وحقولها.
أما غريب فأقام في الخيمة، وقد أعد ورقا وحبرا فجلس يكتب كتابا إلى والدته، لأن خيالها لم يبرح في ذلك السفر ذاكرته، مع ما اعترضه في طريقه من لبنان إلى مصر من المناظر العديدة المختلفة، فأخذ القلم والورق وقص لها ما شاهده في سفره من أوله إلى آخره، يتخلل ذلك عواطف الشوق والحنو.
ولما أتم الكتاب خرج من الخيمة، فلم ير أحدا غير الخدم والسياس، وقد سرحوا الخيل للمرعى في تلك المزارع فتأمل ما حوله من الأرض، فإذا هي مستوية السطح تربتها مائلة إلى السواد لا شيء فيها من المرتفعات أو الجبال، فتذكر ربا لبنان وأوديته وينابيعه، فانتقلت به مخيلته إلى سراي بيت الدين، وما تشرف عليه من الجبال والأودية والغابات والبساتين، ثم ذكر والدته وما أوصته به فخفق قلبه شوقا، واشتد به ذلك حتى غلب عليه البكاء. وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب فجعل ينظر إليها من وراء الأفق، ويعجب بما لبسته من الحلل القرمزية والذهبية والفضية مما يأخذ بالعقول، غير أن ذلك لم يكن ليشغله عن تذكر والدته والحالة التي شاهدها عليها أثناء اللقاء الأخير، فقد كانت تلك الحال تزيد من إثارة عواطفه وتجعله يندم على مجيئه، ويتمنى لو كان طائرا ليعود إلى بيت الدين ليشاهدها ويقبل يدها.
وبينما هو في تلك الهواجس، إذ عاد الأمير وأولاده وهم يتحدثون بما شاهدوه من خصب تلك الأرض وطيب زرعها، فلما وصل الأمير إلى فسطاطه رأى غريبا فقال له: «أين كنت يا ولدي؟ ولم لم تذهب معنا؟» فاعتذر بأنه كان يكتب كتابا إلى والدته، ثم دفع إليه بالكتاب، وقال له: «أسألك يا سيدي أن تبعث به إلى والدتي!» فوعده بذلك، وبعد قليل حضر العشاء فتناولوه، وذهب كل منهم إلى فراشه عاجلا طلبا للراحة بعد الذي قاسوه من وعثاء السفر. •••
وفي الصباح استقبلهم الكاشف مرحبا، وكان قد بعث إلى الإسكندرية يخبر محمد علي باشا بذلك، فأجابه أن يسير الأمير إلى القاهرة مكرما، وكتب إلى نائبه هناك أن يستقبل الأمير ومن معه، ويقدم لهم الإكرام والمبرة، ويقول له إن العزيز يهنئك بالسلامة، وإنه لم يدخل أحد أعز منك إلى مصر. فركب الأمير وبطانته، حتى إذا ما وصلوا بولاق ميناء القاهرة، وجدوا في استقبال الأمير حنا البحري الحمصي فرحب به، وأخبره أن العزيز في الإسكندرية، وسيحضر قريبا. ثم سار به وبأولاده إلى جزيرة الروضة المقابلة لمصر القديمة، وأنزله في قصر الخازندار.
أما غريب فإنه لما وصل إلى القاهرة أعجبه كبرها وكثرة الناس بها؛ لأنها أول مدينة رآها بهذا الاتساع، فأخذ يسأل من حوله عن كل جديد شاهده، وكانوا يصفون له ذلك وصفا دقيقا. فلما ساروا إلى جزيرة الروضة دهش غريب لأمر تلك الجزيرة القائمة في وسط النيل المبارك الغدوات، وما زالوا سائرين حتى نزلوا القصر على الرحب والسعة فوجدوا فيه كل ما يحتاجون إليه، وقد أعد الخدم سائر الحاجيات. وفي تلك الليلة كتب غريب إلى والدته بما حدث له بعد الكتاب الأول.
مصر القاهرة
وفي الصباح التالي، ذهب الأمير لمقابلة إبراهيم باشا في قصره بضواحي القاهرة، ورافقه ابناه. أما غريب فأوصى به الأمير أحد رجال القصر المدعو أحمد، وكان فيما مضى من جنود محمد علي ثم تولى خدمة ذلك القصر، وكان يخرج بغريب للنزهة أثناء غياب الأمير بشير، فسر غريب بذلك؛ لأنه لصغر سنه لم تكن تلذ له المقابلات الرسمية.
ناپیژندل شوی مخ