مكثت جميلة في بيت الأمير بشير كواحدة من أهله مكرمة معززة، وكان سعيد يتردد عليها من وقت إلى آخر، وهي تستأنس به وتحادثه بما بينهما من الأمور التي لم يطلع عليها إلا رئيس الدير. وظل سعيد يغتنم كل فرصة لزيارتها ومواساتها، وظلت تشكره لأنه كان السبب في وصولها إلى هذه الحالة.
أما غريب فظل ينمو ويشب بسرعة، عقلا وجسدا، حتى بلغ الثامنة من العمر، فكان الناظر إليه يظنه ابن خمس عشرة سنة، وكان هو يظن نفسه ابن الأمير بشير لأن أمه كتمت عنه كل ما يتعلق بوالده. وقد أسند الأمير تعليم غريب وتثقيفه لنديمه المعلم بطرس كرامة من أهالي حمص، وكان ذا معرفة باللغة والشعر، وكان يعلم الأمير «أمين» ابن الأمير بشير أيضا. فرأى المعلم بطرس في غريب ذكاء حادا وقريحة وقادة فأحبه وزاد رغبة في تعليمه. والحقيقة أن هذا الغلام كان لفرط ذكائه ولطف خلقه لا يراه أحد إلا ويتعلق بمحبته، فإنه كان طويل القامة على صغر سنه، حاد العينين واسعهما عريض الجبهة، رشيق الحركة، ساكن الجأش برغم صغر سنه، حاد الذهن، سريع الانتباه.
ولا حاجة بنا إلى ذكر مقدار فرح والدته به، غير أنها لم تكن تظهر له استحسانا، بل كانت تظهر له أنها تنتظر منه أكثر من ذلك.
أما الأمير بشير فكان يحب غريبا محبة شديدة ويعامله معاملة أولاده، ومع أن منصبه كان يقضي عليه بالتغيب عن بيت الدين كثيرا، فإنه كان كلما عاد من سفر سأل عن غريب وعن راحته وتلقاه، فيقبله.
وكان غريب يحب الأمير محبة عظيمة ممزوجة بالاحترام. أما سعيد فكان معجبا بالأمير بشير لأنه لم يشاهد في حياته رجلا مثله، ومع أنه اختلط مدة طويلة بالمماليك والأرناءوط والمغاربة والإنكشارية فإنه لم ير قط مثل هيبة هذا الرجل. وكان إذا خاطبه في أمر، اعتبر نفسه يخاطب رجلا أعلى رتبة من البشر، فلا يستطيع التكلم إلا مطرقا، ولا سيما إذا دخل عليه في مجلسه ورأى المجلس على كثرة من فيه من الأمراء والمشايخ قد استولى السكوت عليه، لا يسمع فيه إلا صوته الجهوري آمرا أو ناهيا.
فراق مر
ولما عزم الأمير بشير على السفر إلى مصر سنة 1821 بسبب تهديد والي البلاد إياه بالقتل، كان في بلدة خارج بيت الدين، فدعا ولديه خليلا وأمينا ليرافقاه. وكان أمين شديد التعلق بغريب رفيقه في التعليم، فطلب إلى المعلم بطرس أن يستعطف الأمير لعله يأذن لغريب في مرافقته إلى مصر. وكان الأمير ممن يصغون إلى كلام رجال العلم، هذا إلى أنه كان يحب المعلم بطرس بوجه خاص ويثق به لأنه نديمه، فقبل الأمير تحقيق تلك الرغبة. كل ذلك وجميلة لا تعلم بشيء، فلما بلغها ورود الأمر بسفر غريب وقع الرعب في قلبها؛ لأنها تمقت الأرض التي فقدت فيها زوجها، وخرجت منها خروج اللصوص، فدعت سعيدا إليها وحدثته على انفراد قائلة: «انظر يا سعيد، إن الأمير قد بعث إلى حبيبي غريب أن يرافقه إلى مصر، وأنت تعلم مدى تعلقي به، وكيف هجرت الدنيا من أجله، ولا يخفى عليك أنه صغير السن إذ لم يتجاوز العاشرة من العمر، وهو ذاهب إلى بلاد قتل فيها أبوه، ويقيم فيها قاتله، وسيمر بأرض فقد فيها أخوه (قالت ذلك وتنهدت) فلا أدري ماذا أعمل.»
فأجابها سعيد قائلا: «لا بد لك يا سيدتي من الصبر، فإن غريبا مسافر مع عصبة قوية من الرجال لا خوف عليهم. وأما قولك إنه ذاهب إلى حيث قتل أبوه، فهو لا يعلم بذلك، ولا يعرفه أحد بهذه الصفة في الدنيا كلها إلا رئيس ذلك الدير، وإلى ذلك، فإن بقاءه هنا أكثر خطرا عليه؛ لأن الأمير سائر إلى مصر لاضطراب الأحوال هنا.»
فقالت جميلة بلهفة: «ما هذا الاضطراب؟ أخبرني بأمره!»
فقال سعيد: «لا تخافي يا سيدتي، فإنها خلافات سياسية لا تمس الأشخاص.»
ناپیژندل شوی مخ