ورغم محاولاتي الدائبة للنبش في ذاكرتي، لم أجد بعد فترة ما أقوله له عن اليابان، لكنه كان ما يفتأ يسأل: «أنت واثق أنه لا توجد حرب في اليابان هذه الأيام؟» كنت واثقا، إلى حد كبير، أنه لا توجد حرب فيها وقلت له ذلك. وعاد يسأل: «وهل عمروا نجاساكي بعد القنبلة؟» وقلت له إن هذا صحيح، راجيا أن أكون على صواب. لم يكن في طوقي سوى بث الاطمئنان في قلبه قدر ما استطعت ، إلى جانب سرد القليل الذي أعرفه وتكراره المرة بعد المرة. وكان فيما يبدو يتلذذ بسماع ذلك، مثل طفل يستمتع بقصة خيالية مفضلة.
وذات يوم بعد أن أفضت في الحديث من جديد عن نوعية الصوت المدهشة لجهاز التسجيل «الاستريو» الذي يملكه والدي، وهو من ماركة «سوني»، والذي يجعل المنزل كله يرتج بذبذبات الصوت، قال بصوت خافت هادئ: «ربما أعود يوما ما قبل أن أموت إلى وطني. ربما أعود يوما ما إلى اليابان. ربما.» لم أكن واثقا أنه كان يعني ما يقول، ولكن قوله كان يعني أنه ينظر في الأمر على الأقل، وهو ما جعلني أتفاءل. لكنني لم أصدق أن كنسوكي كان جادا حقا إلا في ليلة السلاحف البحرية.
كنت غارقا في النوم عندما أيقظني، قائلا: «تعال يا ميكاسان، تعال بسرعة. هيا! تعال معي!»
وسألته: «لماذا؟» لكنه كان قد انطلق. وعدوت خلفه في ضوء القمر فأدركته في منتصف الطريق المؤدي إلى البحر. وسألته مرة أخرى: «ماذا نفعل؟ وأين نذهب؟ هل جاءت سفينة؟»
وقال: «سترى فورا. سترى في الحال.» كانت ستلا تجري في أعقابي حتى وصلنا إلى الشاطئ. لم تكن مغرمة بالخروج في الظلام، ونظرت حولي فلم أجد شيئا. كان الشاطئ فيما يبدو مهجورا خاويا. وكانت الأمواج تصطدم بقلق. والقمر يركب متن السحب، وبدا العالم من حولي كأنما يمسك أنفاسه. لم أبصر ما يحدث حتى ركع كنسوكي على ركبتيه فجأة في الرمال. قائلا: «إنها صغيرة جدا، وليست قوية جدا في بعض الأحيان. وأحيانا تأتي الطيور في الصباح وتأكلها.» وهنا شاهدتها.
كنت أظن أولا أنها سرطانات بحرية أي كابوريا، ولكنني كنت مخطئا، كانت سلاحف بحرية دقيقة الحجم، أصغر من الحمسة أي سلحفاة الماء العذب، وكانت تتسلق بعناء جحورا في الرمل ثم تسرع الخطى عدوا على الشاطئ نحو البحر. شاهدت أولا واحدة، ومن بعدها أخرى فثالثة، ثم نظرت إلى الشاطئ فوجدت عشرات منها، بل مئات، وربما آلاف، وهي تهرع جميعا على الرمال التي يسطع عليها ضوء القمر وتنزل البحر. كان كل مكان في الشاطئ ينبض بحركتها. واقتربت ستلا من إحداها تتشممها فنهرتها، فتثاءبت ونظرت ببراءة إلى السماء تتطلع إلى القمر.
ورأيت أن إحداها قد انقلبت على ظهرها في قاع أحد الجحور، وأرجلها تركل الهواء في هياج. ومد كنسوكي يده فالتقطها برفق ووضعها على أقدامها من جديد فوق الرمل، قائلا: «اذهبي إلى البحر أيتها السلحفاة الصغيرة، ولتعيشي فيه الآن، وسرعان ما تكبرين وتصبحين سلحفاة بحرية جميلة. وربما تعودين يوما ما وتقابلينني.» وجلس على عجزه وهو يرقبها تجري، والتفت إلي قائلا: «هل تعرف ماذا تفعل هذه يا ميكا؟ إن السلاحف الأمهات تضع بيضها في هذا المكان. وفي ليلة معينة من كل عام، ودائما عندما يسطع نور البدر، تولد السلاحف الصغيرة. والطريق إلى البحر طويل. ويموت كثير منها. ولهذا أسهر عليها دائما. أساعدها. وأطارد الطيور حتى لا تأكل السلاحف الصغيرة. وبعد أعوام كثيرة، عندما تكبر السلاحف، تعود إلى هنا لتضع البيض من جديد. قصة حقيقية يا ميكاسان.»
وسهرنا طول الليل نرعى المواليد الكثيرة، ونرقب صغار السلاحف وهي تجري في البحر حتى تنجو. وقمنا معا بالمرور على الشاطئ، وكنا نمد أيدينا في كل جحر نجده لنرى إن كان فيه سلاحف أخرى لا تستطيع الخروج أو جنحت فتعثرت. ووجدنا عددا منها لا تقوى على المسير وإتمام الرحلة، فحملناها إلى البحر بأنفسنا، وبدا أن البحر يبعث فيها الحياة، إذ كانت تنطلق سابحة دون حاجة إلى درس في السباحة. وساعدنا عشرات منها كانت مقلوبة على الوقوف على أقدامها، ورافقناها حتى وصلت إلى البحر سالمة.
وعندما بزغ الفجر وانقضت الطيور تريد أن تلتهمها، كنا جاهزين لطردها وإبعادها. كما شاركت ستلا في الطراد نابحة إياها، وكنا نجري نحوها صارخين ملوحين بأيدينا أو كنا نقذفها بالحصى. لم يكن نجاحنا كاملا؛ ولكن معظم السلاحف نجحت في الوصول إلى البحر، ولكنها لم تكن آمنة تماما في الماء، فعلى الرغم من جهودنا المستميتة، تمكنت الطيور من التقاط عدد كبير منها بمناقيرها وطارت بها.
وما إن انتصف النهار حتى انتهى كل شيء. كان كنسوكي يقف على الشط وقد غمر الماء عقبيه، وهو يرقب آخر السلاحف وهي تسبح بعيدا عنا. وضع يده على كتفي قائلا: «إنها بالغة الضآلة يا ميكاسان، ولكنها شجاعة جدا. إنها أشجع مني. إنها لا تعرف ما سوف تجده في البحر، ولا ما سوف يحدث لها، ولكنها تخوضه مهما يكن الأمر. شجاعة بالغة. ربما تعلمت منها درسا نافعا. لقد استقر رأيي الآن؛ عندما تأتي سفينة يوما ما، ونشعل النار، ويعثرون علينا، فسوف أرحل. سأرحل مثل السلاحف البحرية. سأذهب معك. سأعود إلى وطني في اليابان. ربما وجدت كيمي، وربما وجدت ميشيا. سوف أعرف الحقيقة. سأذهب معك يا ميكاسان.»
ناپیژندل شوی مخ