وبوجه الإجمال أصبح ذلك التعليم المشوه آلة للانتقام وجر الويلات على العالم، وسلاحا حادا لاغتيال النفوس واضطهاد الناس وإقلاق راحتهم.
5
أما بعلزبول فلم يقتنع بما سمع، ولم يشأ أن يصدق ما قام به أعوانه من النجاح في إفساد الناس وحملهم على تشويه ذلك التعليم البسيط، الذي لا يقبل التأويل والتحريف، ولذلك قال لمحدثه: إن ذلك التعليم واضح وضوحا جليا فضلا عن قرب مأخذه، فقد جاء فيه: «افعل مع الناس ما تريد أن يفعلوا بك»، فهل مثل هذه الآية مما يجوز تحريفها وقلب معناها؟
فقال الشيطان ذو الوشاح: أجل، إنها قابلة للتحريف، وإن الناس حسب مشورتي لهم استعملوا لذلك وسائل عديدة، وإني سأضرب لك مثلا أظن أنه كاف لإقناعك: إن الناس يتداولون حكاية مآلها أن ساحرا صالحا أراد أن ينقذ رجلا من ساحر آخر ماكر شرير، فحوله حبة قمح، فمسخ الساحر الشرير نفسه ديكا وأراد أن ينقد تلك الحبة، ولكن الساحر الصالح نثر فوق تلك الحبة أردبا من القمح، فلم يستطع الساحر الشرير أن يأكل الأردب، كما أنه لم يستطع معرفة الحبة المطلوبة. وعلى مثال هذه الحكاية تصرف الناس - حسب مشورتي لهم - بتعليم ذاك الذي قال إن الناموس كله محصور بالكلمات الآتية: «اصنع مع غيرك ما تريد أن يصنع بك».
لم يقتصروا على ذلك بل جعلوا ناموس الله المقدس وشريعته الطاهرة في تسعة وأربعين كتابا، واعتقدوا أن جميع ما جاء فيها مكتوب بإلهام الله - والروح القدس - وبذلك هالوا على ذلك الحق المفهوم الواضح ركاما من الحقائق المقدسة، التي اعترفوا بأنه موحى بها وآمنوا بما جاء فيها، وقد ضاع بينها الحق اللازم للناس، ذلك الحق الذي جعل الناس أطهارا أبرارا، وعاشوا بموجبه زمانا في الطهارة والتقوى والصلاح والسلام. وما تقدم هو إحدى الطرق التي استعملها الناس.
والطريقة الثانية التي استعملوها بنجاح باهر وفوز مبين في خلال ألف عام؛ هي أنهم جعلوا يقتلون ويحرقون ويضطهدون كل من حاول إظهار الحقيقة. أما الآن فقد توقفوا مرغمين عن سفك الدماء وإحراق النفوس، ولكنهم ما زالوا يستعملون تلك الطريقة على صورة أخرى؛ فإنهم يضطهدون كل من يحاول إظهار الحقيقة، ويشون عليه الوشايات الفاسدة، فيعكرون صفو حياته بما يدسونه له من السموم القتالة، ويندر وجود من يقاومهم وجها لوجه ويحاول إماطة النقاب عن خزعبلاتهم وسفسطاتهم.
ولهم أيضا طريقة ثالثة لتشويه ذلك التعليم؛ هي أنهم عندما ألفوا الكنيسة أصبحوا يعتقدون أنها مقدسة طاهرة معصومة عن ارتكاب الخطايا والآثام، وغدوا بعد ذلك يعلمون الناس تعاليم مطابقة لأهوائهم مضادة لذلك التعليم الحقيقي، بل هي وإياه على طرفي نقيض، ويجهدون النفس في إقناع تلاميذهم وطوائفهم بأن تعاليمهم هذه مقدسة موافقة للتعليم الوارد في الكتاب المقدس، وتأييدا لما أقول أضرب مثلا من تعاليمهم: جاء في الكتاب المقدس: «معلمكم واحد هو المسيح»، وجاء فيه أيضا: «لا تتخذوا لكم أبا على الأرض مطلقا أيا كان؛ لأن أباكم واحد الذي في السموات، ولا تقولوا إن لنا معلمين على الأرض؛ لأن معلمكم واحد هو المسيح»، ولكنهم ضربوا بهذه الأقوال عرض الحائط وجعلوا يقولون إننا وحدنا - دون سوانا - آباء الناس وإننا نحن معلموهم. وجاء في الكتاب المقدس أيضا: «إذا أردت أن تصلي فادخل مخدعك واقفل بابك وصل لأبيك الذي في السموات، فأبوك الذي يراك في الخفاء يجازيك علانية»، وأما هم فإنهم يعلمون بأنه يجب على المسيحيين أن يصلوا علنا مجتمعين في المعابد والهياكل تحت أنغام الموسيقى ورناتها الشجية. وجاء في الكتاب المقدس: «لا تحلفوا البتة»، ولكنهم يعلمون بأنه يجوز للناس إقسام الأيمان أمام الحكام ليستطيع هؤلاء تنفيذ النظام والقوانين. وجاء في ذلك الكتاب: «لا تقتل»، وأما هم فيحللون قتل النفوس في الحروب، ويفتون للحكام بإصدار الأحكام القاضية بقتل النفوس.
قال هذا الشيطان ذو الوشاح، ثم أغمض عينيه وضغط برأسه على عنقه حتى مست أذناه كتفيه.
فقال بعلزبول: إن جميع ما سمعته حسن جدا جدا. وابتسم ابتسامة تدل على ارتياحه وانشراحه مما فعله أتباعه، وقد أجاب الشياطين المحدقون به على تلك الابتسامة بقهقهة دوت لها أركان المكان.
6
ناپیژندل شوی مخ