وقد استجابت بثينة لمشورته فتخلت عن قفازها، وهكذا اكتسبت الثقة بالنفس ورشاقة الحركة في عملها ، وما أشد كراهية النحل لخشونة المعاملة وللجفوة في حركات النحال حينما يفتح الخلية ويتناول الأقراص.
راحت تطوف بانتظام مع أمين بطوائف المنحل، وقد قسما فحصها على ثلاثة أيام، وساعدته بثينة بمطالعتها المنزلية وبروحها الجدية المتوثبة للعمل على الفحص المجدي السريع، فكان يشرح لها ما يستحق الشرح في أثناء العمل ولكن دون إسراف، وقد عودها على كيفية الفتح المنظم، ولقنها كيف أنه لا يجوز للنحال أن يفتح أية خلية مأهولة بالنحل إلا إذا كان له سلفا غرض معين من هذا الفتح. أما الكشف عن النحل لشهوة الكشف فإضاعة للوقت وإساءة للنحل.
وما كان أبهج من منظر بثينة وقد تشجعت على العمل؛ إذ جاء الجو مسعفا وهدوء النحل معينا ودخول الرحيق في الخلايا مطمئنا، وصارت هي الأستاذة النحالة وأمين يساعدها. عرفت كيف تدخن في اعتدال عند باب الخلية، وبعد انتظار برهة (ثلاث دقائق أو نحو ذلك) ترفع الغطاء الخارجي وتضعه على الأرض مقلوبا ومجاورا للخلية، ثم الغطاء الداخلي وتقيمه إلى جانب الخلية، ثم ترفع العاسلة إن كانت موجودة بأقراصها وتضعها فوق الغطاء الخارجي، ثم تأخذ في فحص الأقراص في غرفة التربية.
كانت تبدأ - كما علمها أمين - بفحص الأقراص في أحد جانبي الخلية، وهي الأقراص التي اعتادت النحل أن تختزن فيها العسل ودقيق الأزهار، مخصصة الأقراص التي في الوسط لوضع البيض، ومن هذه الأقراص يتألف العش كما ينعتها النحالون، وكانت تخرج هذه الأقراص واحدا واحدا، وبعد تدبر وإمعان وتأكد من خلوها من الحضنة - أي خلفة النحل - كانت تضعها قائمة خارج الخلية مستندة إلى حائطها الجانبي أو الخلفي بعيدة عن طيران النحل وغير معترضة لعمل أمين أو لعملها، ولما كان فيض العسل قد بدأ والجو الدافئ مستمرا فقد علمها أن تنقل الأقراص العسلية التي في غرفة التربية إلى العاسلة، أي غرفة الغسل، لتشجع النحل على الصعود إليها، وتنقل محلها الأقراص الفارغة التي في العاسلة، وبذلك تشجع الملكة على البيض وتوسع العش، وكان للملكة هذه ولرعاياها حديث طويل بينهما قبل أن تنهمك بثينة هذا الانهماك في الإجراءات العملية لإنتاج العسل.
كان حديثا خلابا ساحرا سحرها أي سحر، فإن كل وصف قرأته لم يكن ليقارن بما شاهدته بعينيها ولمسته بيديها وأحسته بنفسها من مظاهر هذه الحشرة الجميلة وتكوينها وتصرفاتها حتى كانت بثينة تقف الوقفات الطويلة مع أمين دون كلال أو ملل، وكادت تنسى أو تهمل طعامها وشرابها وقد أصيبت بما يسميه الهواة «حمى النحل»، وليس هذا فحسب، فقد اكتشفت نفسها - كما يقال - وأحست بشخصية جديدة وبعالم جديد، وشعرت بأنها أضاعت أعواما من حياتها في قشور حسبتها لب الجمال وروح الطبيعة، في حين أنها كانت في الواقع غير ممتزجة بها وبعيدة عن صميمها ... وها هي ذي الآن مندمجة فيها أي اندماج حتى لتكاد تحس في تحمسها أنها من أسرة النحل، وأنها عاملة من العاملات ... - لا، بل أنت أغلى ملكاتي يا بثينة.
الفصل الخامس
فيم إذن كانت تلك الدروس الأولى، وما هي عجائبها وطرائفها التي أثرت في نفسها ذلك التأثير البالغ؟
قال أمين، معرفا بسكان الخلية أو بالشعب المكدود كما نعت بنات هذه المملكة: انظري يا بثينة إلى باب هذه الخلية وحدثيني عما تلاحظينه على النحل. - وددت لو حدثتني أنت أولا. - سمعا وطاعة ولو إلى حين. - إذن دعني أسألك: لماذا يقف بعض النحل هكذا متجها إلى باب الخلية برءوسه ومثبتا أرجله حيث يقف ومروحا بأجنحته في قوة هكذا؟ وما هي هذه النحل الغادية الرائحة فيما بين صفي النحل المروحة؟ - أحسنت يا عزيزتي، لقد سألت وأجبت في آن واحد، إن هذه النحل المروحة يا بثينة تؤدي وظيفة هامة ألا وهي تهوية الخلية لضبط درجة الحرارة والرطوبة فيها، وعلى الأخص درجة الحرارة، وذلك بتشجيع التبخر وتلطيف الهواء داخل الخلية، وهكذا قلما تزيد درجة الحرارة في الخلية، وعلى الأخص وسط «العش» حيث تكون الخلية على درجة 37 بمقياس سنتجراد، أو ما يقارب درجة حرارة الإنسان، بل إن استمرار هذه الحرارة العالية نسبيا قد يقتل الحضنة، فإذا زادت درجة حرارة الجو على ذلك استعانت النحل بالتهوية على تخفيضها وإلا تعرضت الأقراص الشمعية للذوبان فيموت النحل غرقا في العسل السائل منها كما تموت الحضنة، وإن النحل بتهويتها هذه لتحدث تيارا شديدا من الهواء - إذا ما كثر عدد النحل المهوية - كفيلا بإطفاء شمعة موقدة أمام باب الخلية، بل لقد عرف أن حريقا أصاب حائطا جانبيا من خلية دون أن يذيب أقراصها وذلك بفضل سيطرة النحل على درجة حرارة الخلية، وتلاحظين يا بثينة أن هذه النحل المروحة تقف خلف بعضها البعض في نظام تاركة مجالا ما بين صفوفها الطويلة لتمر منها النحل السارحة رائحة غادية. - ولكنك لم تحدثني يا أمين عن درجة حرارة النحلة ذاتها، وعن العوامل التي تؤلف حرارة الخلية. هل النحلة مثلا باردة الدم كحضرتي أو دافئة الدم مثلك؟ وإذا كانت مثلي فما الذي يدفئها؟ هل تباح في الخلية أمثال مغازلاتك لتدفئة النحل أم هي تحت رحمة الجو؟ - الحقيقة يا بثينة أنك أصبحت مطلعة ماكرة، وإني أمامك أجتاز امتحانا عسيرا، ولعلك تعتمدين هنا على حماية بنات جنسك أو على رعاياك ... اسمعي يا سكرتي: النحلة في الواقع لا تملك وسيلة أو جهازا لتكوين حرارة منتظمة لجسمها، كما أنها من ضروب الكائنات الباردة الدم، ولكنها إذا هبطت حرارتها إلى درجة 7 س. باتت حياتها في خطر، ولكي تحقق النحل تلك الحرارة العالية نسبيا داخل الخلية، تعتمد على حيلتين: فإذا ارتفعت حرارة الجو عمدت إلى التهوية كما رأيت، أما إذا هبطت درجتها فإن النحل تعتمد على الحركات العضلية - وعلى الأخص بتحريك عضلات أجنحتها تحريكا هادئا - وعلى تفاعل أجسامها الحيوي من التغذية؛ لتوكيد الحرارة الإضافية اللازمة، وإذا ما هبطت درجة حرارة النحل إلى 14 س كونت النحل لمة ليدفئ بعضها بعضا بهذا التجمع الشديد على الأقراص الوسطى في المعتاد دفعا لبرودة الجو، حتى إذا ما عادت حرارة الجو إلى الارتفاع انحلت اللمة وبدأت النحل تطير وتسرح لجلب حاجتها من الماء والرحيق والعكبر - أي دقيق الأزهار أو حبوب اللقاح كما تسمى - ولا بد لهذا النشاط من حرارة عامة في الخلية لا تقل درجتها في المعتاد عن 21 س، ولكن الملكة لا تبيض في حرارة تقل درجتها عن 34 س في عيون الأقراص، وسأريك النحل في خلية الرصد الزجاجية وهي مشغولة بفرز الشمع من غدد خاصة في بطنها لبناء الأقراص، وهي في هذه الحالة تحتاج إلى درجة حرارة في محيطها لا تقل عن 37 س، ولكن استمرار هذه الحرارة، أو ما هي أعلى منها، قد يؤدي بالحضنة كما أخبرتك من قبل، وعندما يتكاثر النحل وينثال من الخلية تكون درجة الحرارة فيها عامة زهاء 35 س، وقد ترتفع الحرارة إلى درجة 40 س إذا ما حدث اضطراب داخل الخلية يزيد من حيوية النحل وحركاتها، ولذلك أوصي تلاميذي بتحاشي كل الأسباب التي ينتج عنها اضطراب النحل، ويجب أن يكون ديدنهم دائما الهدوء واللطف في معاملة النحل على اعتبار أنها شخصيات صديقة لها حياة تصان وكرامة تراعى ووفاء يؤدى. أما الطامة الكبرى التي تصيب الخلية، أو على الأصح سكانها ومتاعهم نتيجة الحراة العالية، فمن التعرض لأشعة الشمس المباشرة في جو حار إذا ما ترك النحال باب الخلية ضيقا وعاق النحل عن أداء واجب التهوية وكانت قوة النحل المروحة غير وافية، ولذلك يجب على النحال أن يحتاط ضد هذا الخطر بتظليل المنحل ورشه بالماء إذا تيسر ذلك، وبتمكين النحل من حسن تهوية الخلية وإلا ارتفعت درجة الحرارة إلى نحو 60 س، وحينئذ تسقط الأقراص ويسيح العسل ويغرق النحل وتتلف الحضنة فيصيب الطائفة البوار. - يظهر يا أمين أنك تعمل سرا في مصلحة الطبيعيات وتحسبني مرشحة للتوظف فيها حتى صرت تهاجمني بدرجات الحرارة هذه ما بين هبوط وصعود وهكذا. - لا صعوبة يا مولاتي في بياني المجمل، وأنت التي شجعتني على التسلسل في هذا الموضوع، وعلى كل حال أعتذر إليك إذا كنت ضايقتك. - وهل هكذا يكون الحزم مع تلميذتك؟ ألم تقرأ كتاب “Good Bye Mr Chipps”
أو لعلك شاهدت هذا الفيلم البديع ورأيت كيف ينبغي أن يكون المعلم الناجح مع تلاميذه؟ - ألم أقل إنك أصبحت ماكرة يا بثينتي، وقد أصبحت في حيرة ما بين جدك ودعابتك وسخطك ورضاك؟ - وكيف أسخط عليك يا أستاذي العزيز المحبوب؟ وهل يمكن أن تصدق أني أسأم من حوارك أو حديثك؟ أو لعلك تريد أن تتهرب من السؤال الذي أود أن أطرحه عليك في نفس هذا الموضوع؟ - وما هو يا فاتنتي؟ - قرأت أن النحل قد تطير حتى ولو كانت درجة حرارة الجو 7 س إذا استثارها الضوء في الخارج إبان الشتاء، في حين أنك تقول: إن حياة النحل في خطر إذا هبطت درجة الحرارة الجوية إلى هذا الحد. فكيف تفسر هذا التناقض؟ - المسألة بسيطة: عند ما تكون درجة حرارة الجو 7 س، أو حتى أقل من ذلك، لن تكون درجة الحرارة وسط لمة النحل أقل من 14 س. فإذا طار بعض النحل من الخلية بتأثير استهواء الأشعة في الخارج فإنه يتعرض للخطر ما لم يكن طيرانه في أشعة الشمس ولبرهة قصيرة، ولذلك يوصى في الممالك الباردة الجو بتظليل أبواب الخلايا في الشتاء حتى لا تشجع النحل على الخروج بتأثير أشعة الشمس إذا كان الجو غير مأمون. - وكيف تكون التشتية في المناطق الشديدة البرودة والمغمورة بالثلج؟ - إذا سمحت يا تلميذتي النجيبة بل يا أستاذتي المتبحرة فلنترك هذا البحث إلى حينه، ولنأخذ بما هو معجل بحثه اليوم بيننا ... - نصحتك الحزم في معاملتي، فما علي إلا أن أقول: سمعا وطاعة.
وراح أمين بمعاونتها يفتح الخلايا الواحدة تلو الأخرى، ويقيد المذكرات عن كل منها في بطاقة أثبتها من الداخل في غطاء الخلية الخارجي، وقد ذكر على البطاقة رقم الخلية وصنف النحل وقوة الطائفة وحالتها من جميع الوجوه في عبارات مقتضبة أو في حروف أو إشارات رمزية، ولم يكتف بهذا بل كان يكتب بالطباشير - (وقد انتهى موسم المطر) - بحروف رمزية على واجهة الخلايا ما يعتبره هاما من ملاحظات توجيهية، حتى إنه كان يباهي بأنه في نظرة جائلة يستطيع أن يقدر ما عليه أن يعمله في المنحل وحالة المنحل إجمالا.
ناپیژندل شوی مخ