الفصل الثاني
وقفت سيارة أمين أمام منزل بثينة مبكرة في صباح ذلك اليوم الباسم البهج الذي تجمعت فيه مناقب الربيع، وبدت السيارة ذاتها كأنها متهللة تهلل صاحبها. أسرع أمين إلى بثينة يستعجل خروجها كأنما هما والطبيعة على موعد في وليمة روحية - وليمة الحب الطليق، وغادرا المنزل فرحين قريرين، وقد أخذا معمها ما طاب من زاد أعدته بثينة بيدها، ولكنه أبى عليها أن تأخذ أي كتاب محتجا بأنها لن تجد الوقت لاستيعاب حتى صفحة واحدة من سفر الحياة التي ستتهافت عليها ... فاستسلمت لإرادته كأنما تتحدى قدرته على إسعادها الكامل في ذلك وهي تقول: سنرى!
ومضت السيارة في طريقها حتى تجاوزت مدينة الإسكندرية، وسارت في الطريق الريفي محاذية ترعة المحمودية إلى أن بلغت المنحل المقصود، وهو يبعد زهاء العشرين من الكيلومترات عن قلب المدينة.
وكانت الساعة حول التاسعة صباحا، وقد كان اليوم في صباحة الفتى الرياضي الرشيق الذي استحق بتفوقه أن تنثر حوله الرياحين، أو هكذا تخيلته بثينة ... أما أمين فرآه مولود الطبيعة الجميل وقد عبق الجو بأنفاسها، ولطفت الأشعة رعاية لهذا الوليد الحبيب، وتبرجت الأزهار وتراقصت مع النسيم الرقيق، وسقسقت العصافير ما بين طائرة ومتخطرة في أثواب جديدة احتفاء بميلاد الحب الجديد بين أحضان الربيع. ولم يفت الفراشات أن تساهم في هذا العيد البهيج مجاملة لأخواتهن النحل التي ملأت الفضاء بغنائها، كما انتعشت شتى الحشرات وشعرت بكيانها وبنصيبها في نظام الطبيعة البديع ... وقد ملأت الجو روح لا تكيف من التعاطف بين النبات والحيوان، وكاد الجماد ذاته يستجيب إليها فوقف الإنسان بينها مشدوها حائرا مأخوذا بسحر هذا الجمال!
فتح أمين الباب الخشبي للمنحل، ووقف وبثينة في خشوع وصمت كأنهما في صلاة قدسية، وما أكثر الصلوات في محراب الطبيعة لمن يؤمن بها! وبقيا على هذه الحالة دقائق حتى أفاقا ... ثم أخذ وبثينة يفتحان حجرات المنحل الثلاث، ويتهيآن لإعداد ما فيه متعة يومهما. كان المنحل يتألف من سبعين خلية خشبية موزعة بنظام على صفوف عشرة، وبين كل خلية وأخرى مسافة متر من الجهات الأربع تيسيرا للعمل فيها ولتنقل النحال فيما بينها، وقد غرس بعض أشجار الفاكهة كالمشمش والموالح والرمان وبعض الأشجار المزهرة العسلية هنا وهناك توفيرا للظل ولتعلق النحل بفروعها إذا ما انثال في أوان تكاثره، وكان يحيط بالمنحل سوق من القوائم الخشبية والأسلاك الشائكة، وجرت حوله قناة ماء، كما أحاطت به أشجار البقم والسسبان فأكسبته سياجا ناضرا وظلا وارفا، واتصلت القناة بساقية في جوار المنحل كانت تتعهده أحيانا بمائها كما كانت تتعهد أحلام صاحبه بدورانها وبأنينها الشجي وبصوت الصبي الحادي للسائمتين إذا ما غافلتاه وتوقفتا عن العمل مجاراة لسنة الناس أنفسهم ... وكانت في إحدى جوانب المنحل مضخة ماء مركبة على حوض من الأسمنت يصب في القناة الحافة بسور المنحل، وقد احتاط أمين فصانها في صندوق خشبي متين مقفل لا يفتح إلا عند استعمالها، وذلك منعا للإغراء على سرقة أجزائها التي باتت نادرة في زمن الحرب ندرة الأمانة في المعاملة، وفي الجوانب الثلاثة الأخرى أقام أمين ثلاث حجرات خشبية ممتازة متينة الأقفال خصص إحداها لاستراحته ومكتبه، وفيها كان يبدل ملابسه تأهبا للعمل في المنحل وبعد الفراغ من العمل، وأودع فيها من أدوية الطوارئ وحاجاتها ما أراح باله، وخصص الثانية بقسمتها مخزنا لأدوات المنحل ولأدوات الطهي ومكانا يعد فيه الطعام والشراب له ولنحله ولضيوفه، وقد أودع فيها بعض الكراسي والمناضد والحصير وتوابعها وبعض الزاد والماء مما قدر فيه الكفاية للراحة والمتعة إذا ما أمضى وصحبه يومهم في المنحل، وخصص الثالثة لفرز العسل من الأقراص وهو حادث لا يتكرر إلا مرات معدودة في العام، ولكنه حادث خطير يستحق أن يفرد له مكانا خاصا يتسم بالنظافة التامة التي من أجلها عني أمين بتركيب مضخة الماء لتزوده دائما بحاجته منه في وفرة وسخاء، وقد وضع في هذه الحجرة أحدث أدوات الفرز على الأساليب العلمية الحديثة التي تسمح باستخلاص العسل من الأقراص دون تلف لها، حتى إذا ما أعيدت إلى النحل جدد مخزونه من العسل فيها ما دام للأزهار جودها بالرحيق، وجدد النحال فرز هذا العسل متى نضج ومتى كانت الظروف سامحة بهذا التكرار.
قال أمين: هذه يا بثينة مملكتي الرئيسية وإن تحدتني النحل في هذا الادعاء، وسأحاول يا عزيزتي أن أجعلك شريكتي في حكمها وفي التآلف معها، ولن أثقل عليك الآن بشرح مسهب لتكوينها حتى ولا لتقسيم النحل، فحسبك أولا هذه النظرة الإجمالية المستوعبة لصورته العامة ولروحه الفنية ... ألا توافقيني يا حبيبتي على أن فيه شيئا من السحر الذي تحتفظ بأغلبه هؤلاء العذارى المجنحات وإن تلقنت منها الكثير من أسراره وطقوسه؟!
فضحكت بثينة، وقالت: يا لك من شاعر، لقد مضى علي الآن نصف ساعة أو يزيد وأنت مستغرق في تأملاتك إلا أن تجري هنا وهناك كالطفل الغرير فرحا بحشراتك هذه بينما لا أزال وجلة، ولم تفكر في أن تعرض علي كرسيا لأقعد وأستريح! - عفوا يا محبوبتي.
وهرع أمين فجلب كرسيين بوسادتين ووضعهما إلى جوار الحجرة المقاربة لباب المنحل وهي المخصصة للأدوات والمطعم، ودعاها إلى الجلوس، ملاحظا أنه اختار هذا الموضع؛ ليكونا بمنأى عن مسارب النحل في طيرانها إلى الحقول وإلى غدير الماء المجاور حتى لا تصطدم بهما في أثناء طيرانها فتضطر إلى لسعهما.
كانت الخضرة الزبرجدية من الأرض والصفرة الذهبية من الشمس متحالفتين على غمر الخلائق بكل ما يوحيه اللون من حاسة الغبطة والاطمئنان، وكانت لحظة شعر أمين وبثينة فيها بسعادة تصوفية غالية حينما لبثا صامتين ذاهلين يتأملان في كل ما حولهما من نضرة وشباب ولون واعيين وغير واعيين، وبدا كل شيء كأنه حالم مسحور، حتى أشرعة القوارب المنخفضة الماضية في ترعة المحمودية كانت تبدو في مظهر عجيب لاحتجاب قواربها عن الناظرين، وكأنما تسير بمفردها شارات لحوريات الماء المتدللات، فلم تفق بثينة من هذا الاستهواء الذي دبرته الطبيعة لأبنائها البررة إلا على القبلات الحارة يطبعها أمين على وجهها الحلو وهي تدفعه عنها في دلال العطف والشكران.
قال أمين: والآن يا حبيبتي، هلمي إلى العمل. - أي عمل يا أمين، وأنا لا أزال خائفة من النحل ... كل شيء هنا جميل فاتن، وقد يستملح حتى منظر الأشواك ولا يستطاب تناولها ... فلماذا لا تحدثني حديثك المشوق عن نحلك العزيزات فحسب، وكفى الله المؤمنين شر القتال؟! - إني أتعهد لك يا بثينة أضعاف ما تعهدت لك من قبل بأن النحل لن تمسك بسوء ما دمنا لا نضرها ولا نسيء إليها، فهلمي إلى إبدال ملابسك بملابس العمل، والبسي احتياطا القناع الواقي للرأس وسأفعل ذلك بعدك، ولا تنسي لبس السروال، وسأعد المدخن زيادة في الاحتياط لتهدئة النحل.
ناپیژندل شوی مخ