14
ولذلك فإن جلجاميش وعاء أثري وفني يحتوي على مزيج مأسوي مدهش من مغامرة الإنسان بحثا عن نفسه وصراعه الأخلاقي مع الشر، ورؤاه ومواقفه الوجودية التي تتذبذب بين الاستغراق في نبع اللحظة الراهنة واغتراف كل ممكناتها، والتصميم على تحقيق أمل «يوتوبي» يبدو في حكم المستحيل، أضف إلى هذا أهم ما اشتهر به جلجاميش وضمن له الشمول والحضور وراء حدود المكان والزمان، وهو سعيه الدائب إلى الخلود الذي يمكنه من الإفلات من «حظ البشر»، ويعينه على مواجهة الموت القابع في مخدعه، وتخطي أسوار الفناء الذي يشل خطاه ويحاصر حياته في كل لحظة، ويلتهم كل أعماله وأتعابه وما بنت يداه ... ثم إنها تخاطبنا اليوم أيضا - كغيرها من أمهات النصوص في تراثنا الأدبي والحضاري - في سعينا الدائب لمعرفة هويتنا وتحقيقها، وتطلعنا لإرساء الأساس الأول المفتقد لوجودنا وتقدمنا على درب التحضر والتنور والتطور، ألا وهو الحرية، وهل ثمة سبيل يقربنا من هويتنا مثل تفهم نصوص تراثنا، وتتبع مسار تحولاتها التاريخية في مختلف السياقات والأبنية الاجتماعية والسياسية والثقافية ... إلخ وتجديد حضورها في وعينا، وجعلها معاصرة لنفسها ولنا في وقت واحد (على حد التعبير الجميل الذي يوجه بحوث المفكر العربي محمد عابد الجابري في التراث العربي والإسلامي وتجده في مقدمة كتابه نحن والتراث)؟! (13) تزخر الملحمة بشواهد عديدة على التفكير السومري والبابلي القديم وأوضاعه التاريخية والنفسية والاجتماعية والثقافية والطبقية ... إلخ، ومواقفه من البيئة المحيطة به ومن العالم السفلي الذي لا رجاء فيه ولا عودة منه (بالأكدية: ايرصة لاتاري أو أشار لاتاري ...)، وتقاليده وحكمته وأحلامه ورؤاه التي تتنبأ بسلوكه وتوجهه كما تكشف عن رعبه من أرض اللاعودة وأسرارها، وحياته اليومية المنغصة بالسخرة والقهر والطاعة المطلقة للحاكم الإلهي أو المتأله (الإنسي) والكهنوت ومجمع الآلهة الرهيب الذي يحكم الكون والمدن ويعين مندوبين عنه من صغار الآلهة لحكم البيوت والعائلات أيضا ... وهي تدلنا كذلك على علاقاته السياسية والاقتصادية بجيرانه (فالرحلة المحفوفة بالمخاطر إلى غابة الأرز في جبل لبنان تبين حاجته إلى الخشب والمعادن الشحيحة في بلده)، وعلى صلته بالآلهة الذين يخشى غضبهم وانتقامهم (مثل إنليل رب العواصف) والآلهة الذين يتضرع إليهم وينعم بعطفهم وتعاطفهم (مثل أيا وشمش) وتمتعه بنوع من الديموقراطية البدائية التي تجلت في وجود مجلسين للشورى من الشيوخ والشباب، وبدايات زحف الحضارة (ممثلة في جلجاميش وبغي المعبد) بترفها وفسادها على البداوة (ممثلة في أنكيدو وحش البرية) بقيمها الفطرية النقية ... إلى آخر الشواهد الدالة على تصور الرافدي القديم للعالم والبشر والحياة والموت، والقيم المختلفة كالشجاعة والحب والإيثار والعفو والخير وأضداها من الضعف والأنانية والتسلط والاستبداد والتهالك على الملذات الفاحشة، بجانب لمحات قليلة عن «علوم» الحكمة العملية في تلك العهود كالسحر والتنبؤ وتفسير الأحلام وطقوس التطهير من الأرواح الشريرة ... إلخ.
لن يتسع المجال المحدود للخوض في هذه الموضوعات التي يمكن الرجوع فيها إلى الكتب المتخصصة؛ ولذلك أستأذن القارئ في الاكتفاء بالمعلومات الضرورية التي قدمتها، وتسجيل بعض الملاحظات عن علاقتي بالملحمة وبطلها الشهير، ومحاولتي المتواضعة في قراءتها وتفسيرها من منظور ذاتي وتاريخي، ومبررات هذه الترجمة العربية الجديدة التي أتمنى أن تصل إلى الوعي المثقف، وتفتح عيون وجدانه الفردي والجمعي على آلام الماضي الممتدة في الحاضر، لعله أن يجرب تراثه ويحاول تجاوزه ... (14) يرجع حبي واهتمامي بهذه الملحمة إلى سنوات الطلب، كنت قد اطلعت عليها لأول مرة في ترجمة الأديب الألماني جورج بوخارت التي سبقت الإشارة إليها، وخطر لي في ذلك الحين - أوائل الستينيات - أن أستلهمها في عمل أدبي لا أذكر معالمه على وجه التحديد (وإن كنت قد عثرت قبل شهور قليلة على مسودته المدفونة مع غيرها من المسودات والمشروعات الموئودة في توابيت الأدراج ومقبرة الذاكرة ...)
ولا بد أنني استبعدت ذلك الخاطر النزق الذي ظل يتقلب كالشوكة في أغوار الوجدان مع غيره من الأشواك التي لا يتوقف وخزها المؤلم البطيء ... كانت التجربة فوق طاقتي المحدودة، ولم تكن قد نضجت إلى الدرجة التي تكفي لتحريك الشوكة فيتحرك القلم! ومن أنا حتى أتجاسر على الاقتراب من كنز أدبي خالد، لا يسبر أغواره إلا من يقدر على الغوص في بحار عالم حضاري كامل، عالم أقف أمامه وقفة التلميذ البائس البليد، فلا أنا أعرف اللغة الأصلية التي كتب بها، ولا لدي فكرة عن علم الآشوريات وأسراره المحجوبة إلا عن أهل الاختصاص! ثم لمن أقدم هذه التجربة وجلجاميش غائب عن وعي القارئ العام، وبيننا وبينه فجوة زمنية سحيقة لا تقل عن خمسة آلاف عام؟!
وشاءت تحولات الأيام والأعمال أن أعكف طوال السنوات الثلاث الماضية على قراءة نصوص أدب الحكمة البابلية (مثل أيوب البابلي لدلول - بيل نيميقي - أو لأمتدحن رب الحكمة والمعذب والصديق وحوار السيد والعبد وغيرها من الأمثال والحكم والتراتيل والحكايات الشعبية البابلية ...) لم يفارقني الوعي التام بمدى قصوري العلمي، وجهلي باللغتين: السومرية والأكدية جهلا فات أوان تداركه وإصلاحه ... لكن الانجذاب إلى حكمة هذه الحضارة، ومحاولة قراءتها وتفسيرها من «داخلها» بعيدا عن حكمة «اللوجوس» الذي تحكم في مسيرة ذلك النسق العقلي والمنهجي المترابط الذي نسميه الفلسفة منذ الإغريق إلى اليوم، ثم طموحي أو غروري الذي صور لي من خلال تلك النصوص القديمة التي تشبه اللآلئ الساطعة التي تقطر بدماء الشكوى والأنين من الظلم والتسلط واضطهاد البررة الصالحين، كما تردد أصوات الاحتجاج والتمرد المحبط على نظم القهر والطغيان الكهنوتي والاجتماعي؛ كل ذلك صور لي - بحدس الأديب لا بيقين العالم! - أنني قد لمست جذور المحن والمآسي العربية المتكررة في تراثنا التاريخي - وبخاصة في عصور التدهور والإنحطاط - بما يشبه القوانين التي تتحكم في الدورات الطبيعية والكونية ... ورست رحلة القارب الصغير على الشاطئ ومعها كتاب سيئ الحظ عن «حكمة بابل» ربما يقدر له الظهور في وقت غير بعيد ، ومسرحيتان قصيرتان هما كل الصيد من تلك الرحلة الخطرة إلى الأعماق المجهولة
15 ... وكان من الطبيعي أن أعاود قراءة جلجاميش في ترجماتها وصيغها المتاحة (وفي مقدمتها ترجمة شوت مع مراجعة فون سودن، وترجمة شبايزر في كتاب بريتشارد السابق الذكر، والترجمتين الأدبيتين للأستاذ ساندرز والأستاذ بوخارت، والترجمتين العربيتين للمرحوم طه باقر والأستاذ فراس السواح ...) وتحركت الشوكة القديمة وجددت وخزاتها الأليمة ... وتمخضت التجربة عن قراءة درامية للملحمة العريقة، أتاحت لي المزيد من التعمق في استكناه أحداثها ومواقفها وصورها العفوية المعجزة ببساطتها وقوة دلالتها، والتعاطف مع شخصياتها ومحاولة «إحضارها» إلى بؤرة الوعي الحاضر وتحريكها على خشبة الواقع العربي المشحون بالمآسي والهزائم والآلام، والمفعم أيضا بالأشواق والتطلعات والأحلام ... وتجسدت التجربة (أو الترجمة الدرامية بالمعنى الأصلي لكلمة الترجمة!) في مسرحية ملحمية تحمل عنوان: «هو الذي طغى ... محاكمة جلجاميش» ويعلم الله وحده إن كان القراء سيحكمون لها أو عليها
16 ...
خرجت من هذه التجربة - التي لم تكن أقل خطرا ومعاناة من أسفار جلجاميش ومعاناته التي نقشها على لوح حجري! - بضرورة إنجاز ترجمة عربية جديدة، وبأفكار وانطباعات أخرى أعرضها على القارئ قبل الحديث عن مبررات هذه الترجمة، راجيا أن يتذكر ما قلته من قبل من أنها انطباعات على وجدان أديب متعاطف، وليست أفكار عالم محقق؛ ولذلك تقع خارج مجال الصدق واليقين العلمي أو وراء حدوده ... (15) يبدو لي من قراءة الملحمة ومعايشتها - وربما أكون مخطئا في هذا الرأي! - أن شخصية جلجاميش قد مرت بتغيرات حاسمة جعلتها تتحول من «الأنا» إلى «النحن»، ومن التسلط إلى التطهر، ومن اللهفة المحمومة على الخلود الإلهي إلى الخضوع للوضع البشري والتسليم به والاتجاه بهدوء إلى مشاركة «الناس» في أعمالهم وهمومهم، وبذلك تحررت من الذعر من الموت وآمنت بقانون اللحظة الواعية الفاعلة، لحظة العمل الخلاق مع الآخرين ومن أجلهم، ويكاد يتملكني حدس غلاب بأن جلجاميش قد تطهر من استبداده الأناني ولهاثه العقيم إلى الشهرة وخلود الاسم بعد تحسره على ضياع «النبتة» في جوف الأفعى وبكائه بكاء مفجعا على الجهد الذي ذهب سدى، وسنوات الشباب التي تبددت في الغربة عن الوطن وعن الشعب الذي رجع إليه صفر اليدين من كل أمل.
ومع ذلك فربما تكون نجمة هذا الأمل قد أرسلت شعاعا رحيما إلى عقله وعينيه مع اقترابه من أسوار أوروك ورؤية شبح السور العظيم الذي اقترن باسمه إلى اليوم، وظلال الأبراج (الزقورات) والمعابد التي شيدها - قبل القيام برحلته - لإله السماء «آنو» وإلهة الحب «إينانا»، وربما يكون هذا الشعاع الرحيم قد أوحى إليه بهذا الخاطر الإنساني حقا: إن الخلود الوحيد المتاح للبشر الفانين على الأرض الفانية يكمن في مثل هذا «العمل»، لا في ذلك الحلم المستحيل أو ذلك «الوهم» الذي ساقه للاغتراب عن وطنه وشعبه، كما ساق غيره من الجبابرة والطغاة من بعده وراء أوهامهم الزائفة وشطحاتهم المدمرة ...
ومن يدري؟ فلعله أن يكون قد أحس في لحظات الندم والتطهر المأسوية بالذنب تجاه شعبه الذي طالما سخره واغتصب بناته وساق أبناءه إلى الموت أو إلى الذبح في مغامراته الفاشلة (ومن أسف أن الكاتب أو الناسخ البابلي لم يلتقط الخيط الذي قدمه له سلفه السومري عندما ذكر في إحدى القصص الخمسة التي لخصناها من قبل أن جلجاميش أخذ معه خمسين من خيرة شباب أوروك، واشترط فيهم أن يكونوا غير متزوجين! ...) وليس أدل على هذا كله - في تقديري على الأقل - من الفرحة التي لم يستطع شاعر الملحمة أن يخفيها عندما انتقل فجأة في خاتمة الملحمة إلى ترديد هتاف جلجاميش برفيق رحلته الملاح أورشنابي أن انظر يا أورشنابي إلى سور أوروك، اصعد عليه وتفحص لبناته ... إلخ!
ناپیژندل شوی مخ