عباس حافظ ... حياته وأدبه
الإطار العام
الدراسة التطبيقية
نتائج الدراسة
التوصيات
المصادر والمراجع والدوريات
بعيدا عن الأوراق
مسرحية شاترتون أو شقاء الشاعر
فارصة الزوج الموسوس
مسرحية تيمون
مسرحية زواج بالحيلة
مسرحية الاستعمار
عباس حافظ ... حياته وأدبه
الإطار العام
الدراسة التطبيقية
نتائج الدراسة
التوصيات
المصادر والمراجع والدوريات
بعيدا عن الأوراق
مسرحية شاترتون أو شقاء الشاعر
فارصة الزوج الموسوس
مسرحية تيمون
مسرحية زواج بالحيلة
مسرحية الاستعمار
مخطوطات مسرحيات عباس حافظ
مخطوطات مسرحيات عباس حافظ
دراسة ونصوص
دراسة
سيد علي إسماعيل
عباس حافظ ... حياته وأدبه
الإطار العام
(1) الموضوع
من المعروف أن السيرة الذاتية هي ما يكتبه الإنسان بنفسه عن نفسه، ساردا تاريخ حياته مسجلا أعماله وآثاره؛ وهذا السرد والتسجيل نابع من رغبته الشخصية في البقاء، لشعوره بتفرده وتميزه، فيقرر في أعماقه بأحقيته في الخلود، عن طريق نقل خبرته وتجاربه وحياته للقراء. ومن هذا المنطلق كتب طه حسين سيرته الذاتية في الأيام، وكتب المازني سيرته في قصة حياة، وأحمد أمين في حياتي، وتوفيق الحكيم في سجن العمر ... إلخ.
وبالرغم من ذلك، لوحظ أن السير الذاتية المكتوبة والمنشورة في أدبنا العربي الحديث، تعتبر قليلة نسبيا، إذا قورنت بعدد المتفردين والمتميزين في مجال الأدب؛ والسر في ذلك - من وجهة نظري - راجع إلى أن أغلب المتفردين والمتميزين لم يكتبوا سيرهم الذاتية، ظنا منهم أن حياتهم لا تستحق التسجيل، أو أن حياتهم شيء خاص لا يجب نشره أو تعريته أمام الجميع، أو أن في حياتهم أسرارا لا يجب البوح بها، أو أن القدر لم يمهلهم العيش حتى يكتبوا سيرهم ... إلخ هذه الأسباب والاعتبارات.
وغالبا ما يجود الزمان بأشخاص يقدرون قيمة المتفردين والمتميزين في مجال الأدب، فيأخذون على عاتقهم مهمة كتابة سيرهم، فيقدمون للقراء نماذج مشرفة تستحق الخلود الأدبي، وتستحق أن تكون نبراسا للأجيال القادمة. وهذا النوع من السير، معروف بالسيرة الغيرية، ويقصد بها قيام شخص بكتابة سيرة شخص آخر، شريطة أن يكون هذا الآخر معروفا على مستوى الأدب أو الاجتماع أو السياسة ... إلخ، أي أن يكون فذا ومتفردا ومتميزا في مجال ما.
وغالبا ما يكتب الشخص سيرة غيرية لشخص آخر، لصداقة بينهما دامت سنوات، أو سدادا لدين أدبي ومعنوي من تلميذ لأستاذه، أو تأبينا له لإحياء ذكراه، أو إعلاء لشأنه، أو خدمة للعلم أو ... إلخ. ولا أظن أن من يكتب مثل هذا النوع من السير يجد معاناة كبيرة في الحصول على معلومات المترجم له؛ فكفى به أن يتذكر سنوات الصداقة ليكتب السيرة باعتباره شاهدا عليها، أو أن يتذكر مواقف أستاذه وحياته معه إذا أراد أن يسدد الدين لأستاذه، أو أن يسأل أفراد أسرة المترجم له أو أن يطلع على وثائقه - المحفوظة لديهم - ومكتبته - الموجودة بالفعل - في حال تأبينه وإحياء ذكراه، أو أن يقرأ ما كتب عن المترجم له سابقا من أجل إعلاء شأنه، أو من أجل الكتابة عنه خدمة للعلم. (2) أهمية الدراسة وأسباب اختيار الموضوع
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ماذا يفعل المرء إذا أراد أن يكتب سيرة غيرية لشخص ما، لم يجد عنه غير معلومات شحيحة، لا ترقى لأن تكون نواة للكتابة عنه؟! وربما يعلق القارئ قائلا: هذا الشخص من المؤكد أنه لا يمثل شيئا في مجال الأدب، ولم يكن متفردا أو متميزا، وبالتالي لم يهتم به الآخرون فلم يكتبوا عنه، ومن هنا شحت المعلومات الخاصة به. ورغم وجاهة هذا التعليق، إلا أن الشخص المراد الكتابة عنه، كان في زمنه متميزا وفي مجاله الأدبي متفردا! وربما يعلق آخر قائلا: من المؤكد أنه من الأدباء المنسيين! فأجيبه قائلا: نعم ... نعم ... إنه عباس حافظ الأديب المنسي، الذي قال قبل وفاته عام 1959: «إن الأدباء يموتون فطيسا، فقلة منهم هي التي تستأثر باهتمام الباحثين بعد رحيلهم، أما الكثرة الكاثرة فيغلفها النسيان، ربما إلى يوم الدين.»
1
وكأنه - بهذا القول - كان يتحدث عن نفسه شاعرا بدنو أجله، وأنه سيكون ضمن الكثرة المنسية إلى يوم الدين!
وهناك سؤال ربما يدور في خلد القارئ: لماذا أكتب عن عباس حافظ؟ وأجيبه قائلا: أكتب عنه استكمالا لمنهجي في الكتابة عن الشخصيات المنسية، التي كان لها دور بارز في الحياة الأدبية، ولم يلتفت إليها الكثيرون، لندرة ما يعرف عنهم، أو لصعوبة البحث عنهم، أو لوعورة الكتابة عنهم، أو لتوفر معلومات مغلوطة عنهم، أو ... إلخ، أمثال: إسماعيل عاصم، ويعقوب صنوع، وتادرس وهبي، وحسن مرعي، وغيرهم.
ومن هذا المنطلق دار النقاش بيني وبين الدكتور سامح مهران - رئيس المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية - حول نشر بعض المخطوطات المسرحية، التي تجسد مراحل فنية معينة مثل مسرحية «عنوان التوفيق في قصة يوسف الصديق»، التي تعتبر ريادة مصرية في مجال مسرحة المناهج الدراسية، ومسرحية «الأزهر وقضية حمادة باشا»، التي ترجح ريادة مصر التطبيقية للمسرح التسجيلي؛ وقد أصدر المركز هاتين المسرحيتين في العامين الماضيين.
واستمرارا في استكمال هذا المشروع، وقع اختيارنا هذا العام، على مجموعة النصوص المسرحية المخطوطة التي ترجمها عباس حافظ - والمنشورة في هذا الكتاب - والتي تمتد من عام 1916 إلى عام 1952. وعلى الرغم من قيمة النصوص المنشورة، إلا أن قيمتها الحقيقية لا تكمن في ترجمتها، بقدر ما تكمن في دفعي إلى تعريف القراء بعباس حافظ، ومحاولة كتابة سيرة غيرية عنه، حتى أخرجه من كثرة الأدباء المنسيين، لينضم إلى الصفوة ممن لهم سير منشورة؛ فهذا حق الرجل على المركز الذي يحتفظ بمجموعة لا بأس بها من مخطوطاته المسرحية، وحقه علي أنا شخصيا، طالما نذرت نفسي للكتابة عن المنسيين أمثاله! (3) الدراسات السابقة
لم تعن دراسة سابقة - على حد اطلاعي - بحياة أو أعمال عباس حافظ الأدبية. وكل ما هو متوفر عنه حتى الآن عدة أسطر قليلة كتبت عن إحصاء لبعض أعماله عام 1949،
2
وأسطر أخرى كتبت في نعيه عام 1959.
3
وقد جمع خير الدين الزركلي هذه الأسطر عندما تحدث عن عباس حافظ في موسوعته «الأعلام».
4
كما كان لي شرف كتابة هامش عن عباس حافظ في كتاب سابق لي عام 2003، أجملت فيه أهم سنوات حياته الوظيفية، مع إحصاء مختصر لأهم أعماله الأدبية.
5
وعباس حافظ كما شغلني، شغل غيري أمثال الكاتب نبيل فرج، الذي نشر له خطابا، كان قد أرسله إلى طه حسين عام 1955 بخصوص ترجمة إحدى مسرحيات شكسبير. وحاول نبيل فرج الحصول على معلومات تسعفه عن عباس حافظ دون جدوى - رغم اعتقاده بقيمة الرجل في مجال التأليف والترجمة - فعلق على ذلك قائلا: «من الأسماء التي كان لها دورها في مجال التأليف والترجمة، في النصف الأول من هذا القرن، [ويقصد القرن العشرين] ولم يعد يذكرها أحد؛ الكاتب والمترجم عباس حافظ.»
6
وقد صدق الكاتب في اعتقاده وتعليقه، كما سنرى. (4) المنهج والأدوات
ربما أنسب منهج لهذه الدراسة، هو المنهج التاريخي، طالما سنتعرض إلى سيرة أحد الأدباء المنسيين، معتمدين فيها على الوثائق والحقائق والأحداث التاريخية المتعلقة بالمترجم له، وذلك من أجل الوقوف على أعماله الأدبية في زمنها وعصرها، وبيان قيمة تفرده وتميزه في عصره، وصولا إلى كتابة سيرته.
ومن أجل تطبيق هذا المنهج، وصولا إلى تحقيق أهداف الدراسة، اطلعنا على بعض وثائق عباس حافظ الرسمية، من خلال ملفه الوظيفي الرسمي المحفوظ بدار المحفوظات العمومية بالقلعة، ورصدنا عناوين إنتاجه الأدبي من الفهارس المتاحة بدار الكتب المصرية، وببعض المكتبات الأخرى، وأخيرا بحثنا عن مقالاته وأخباره المنشورة في الدوريات المعاصرة لحياته، وتحديدا مقالاته المتعلقة بنشاطه المسرحي. (5) أهداف الدراسة
إذا كانت لدراستنا هذه أهداف تطمح إلى تحقيقها، فقد اخترنا موضوع «عباس حافظ ... حياته وأدبه»، من أجل الوصول إلى: (أ)
الكشف عن حياة عباس حافظ العملية والوظيفية. (ب)
الوقوف على إنتاج ونشاط عباس حافظ الأدبي، من خلال: (1)
الإنتاج الأدبي المنشور والمخطوط. (2)
المسرحيات الممثلة على خشبة المسرح. (3)
النقد المسرحي المنشور.
الدراسة التطبيقية
(1) حقائق في حياة عباس حافظ
عندما فكرت في كتابة سيرة حياة عباس حافظ، انتابتني الحيرة الشديدة، بسبب قلة المعلومات المكتوبة عنه في الورق المنشور، الذي لم يتعد الأسطر القليلة كما أوضحت سابقا، وأخذت أبحث عن ورق آخر لعلي أجد فيه ضالتي المنشودة؛ وأخيرا حصلت على كنز من الورق الأصفر البالي محفوظا في ملف باسم عباس حافظ، لم تمسسه يد منذ أن حفظ بدار المحفوظات العمومية بالقلعة عام 1959.
1
وعندما لمست يدي أوراق هذا الملف، شعرت بقشعريرة غريبة، وبإحساس كبير بالمسئولية تجاه صاحبها، وكأنه يوصيني خيرا بأوراقه التي كادت أن تدفن معه! وبتصفح هذه الأوراق، تذكرت قصيدة «ورق» لصديقي الشاعر الدكتور محمد أبو الفضل بدران، الذي يقول في بعض سطورها:
ورق ... ... ... ورق
كل الحياة ورق
فشهادة الميلاد حبر من ورق
والنعي سطر في الورق
والعلم أطنان الورق
والجهل من عادي الورق
ويعرف الإنسان إن حمل الورق
والإرث مخطوط الورق
والموت يبدأ بالورق
ونموت إن سقط الورق
كل الحياة ورق
ماذا لو احترق الورق
ورق ... ... ... ورق
وإذا نظرنا إلى ورق ملف عباس حافظ علي حافظ، فسنجده يخبرنا بأنه ولد يوم 24 / 12 / 1893 بشارع الخليج المرخم بالموسكي، وحصل على الابتدائية عام 1908، وعلى الثانوية عام 1913. وبعد ثلاثة أعوام التحق بوظيفة سكرتير مالي بوزارة الحربية لمدة شهرين على سبيل التجربة، فأبلى بلاء حسنا في أعمال الترجمة، فاستحق التثبيت في وظيفته، بناء على الإشادة الرسمية من قبل رئيسه في العمل، الذي أوضح فيها أن عباس حافظ لديه استعداد كبير للقيام بأعمال الترجمة، وأن كفاءته يندر وجودها في أقرانه، بالإضافة إلى ما اتصف به من دماثة الأخلاق وإطاعة الأوامر، التي يعجب بها كل من يعمل معه.
صورة مستخرج شهادة ميلاد عباس حافظ عام 1893.
صورة شهادة الابتدائية الخاصة بعباس حافظ عام 1908.
صورة شهادة الثانوية الخاصة بعباس حافظ عام 1913.
وما بين عامي 1917 و1922 نجده يتنقل بين العديد من الوظائف داخل وزارة الحربية، فتارة نجده سكرتيرا ماليا بمصر، وتارة أخرى نجده كاتم أسرار الحربية بالسودان. وفي الملف وثيقة مؤرخة في ديسمبر 1923، عبارة عن إشادة من أحمد رفعت - قائمقام أركان حرب الطوبجية - إلى الجنرال الإنجليزي في مصر، يشيد فيها بمساعدة عباس حافظ له في ترجمة كتابين من كتب تعليمات الطوبجية، ولولا هذه المساعدة ما كانت الترجمة تمت بصورتها الحالية. ويختتم أحمد رفعت إشادته هذه بقوله: «وقد حررت هذه الشهادة لما شاهدته من حضرته من اجتهاده واستعداده الفائق لترجمة القوانين العسكرية.»
ورغم هذه الإشادة التي تدل على أن عباس حافظ ساعد في الترجمة، إلا أن الحقيقة - التي ستظهر فيما بعد - ستثبت أن عباس حافظ هو المترجم الحقيقي لهذين الكتابين وغيرهما من الكتب ! وربما تكررت هذه المأساة في حياة عباس حافظ الوظيفية، مما جعله يشعر باليأس وفقدان الأمل في نيل التقدير المستحق له. فقد لاحظنا - في ملفه - تقارير سرية كتب بياناتها الأساسية عباس حافظ بنفسه، ووجدناه يكتب في خانة النياشين والميداليات والمشابك، تعليقات يائسة تدل على إحباط نفسي كبير! فمثلا في تقرير عام 1924، علق على هذه الخانة قائلا: «لا أملك منها شيئا.» وفي العام التالي قال: «أين أنا منها؟» وفي العام الثالث، قال: «لا تصلح لي ولا أصلح لها.» وفي العام الرابع، قال: «لست منها ولا قلامة ظفر!»
وبناء على ذلك، وجدنا عباس حافظ يرسل خطابا إلى الجنرال الإنجليزي في مصر - وهو أعلى رئيس له في العمل - يقر فيه بملل العيش في مصر، والضجر الذي انتابه بسبب ضآلة الراتب الذي لا يكفل له ولأولاده أدنى مراتب العيش الكريم، كما أنه فقد ابنا له في عمر الطفولة، مما جعله يصرف بعض أوقاته في الكتابة الأدبية والصحفية؛ ولهذه الأسباب طلب من الجنرال الموافقة على مبادلة عمله الوظيفي في مصر، بعمل زميل له في الخرطوم.
وتمت المبادلة بالفعل، ولكن ضغوط الحياة لازمت عباس حافظ، مما اضطره للتغيب عن عمله عدة أيام بدون إذن، مما استوجب وقوع العقاب الإداري عليه؛ فكتب عباس في ديسمبر 1924 مظلمة إلى اللواء محمد رفقي باشا، أبان فيها أمورا مهمة، واعترف فيها بأنه المترجم الحقيقي ل «مجموعة القوانين الحديثة وكتب التعليم كقانون البياد الحديث والقانون المالي وقوانين الطوبجية وغيرها مما لا حاجة إلى ذكره!» ويرفض في نهاية مظلمته ذكر الأسباب الحقيقية لتغيبه، ويلتمس مقابلة الوزير شخصيا لإخباره بهذه الأسباب.
والوثائق المحفوظة في ملف عباس حافظ تصمت نهائيا تجاه هذه المظلمة، وربما تم حفظها أو بالأصح قبرها، حتى لا تكشف أسرارا ربما تسيء إلى شخصيات كبيرة في الوزارة. والدليل على ذلك أن عباس حافظ اعترف - ولأول مرة - أنه المترجم الحقيقي لمجموعة من الكتب التي لم تنسب ترجمتها إليه! وهذا الاعتراف - رغم خطورته - لا يمثل كل شيء؛ فهناك أمور أخرى أخطر من ذلك، يود عباس حافظ إخبارها شخصيا إلى الوزير، تتعلق بأسباب تغيبه عن العمل، ولو كانت هذه الأسباب عادية أو طبيعية لكان ذكرها للواء محمد رفقي باشا. ومن هنا نستشعر بأن أسباب تغيب عباس حافظ عن العمل، أسباب تتعلق بأمور خطيرة وتمس شخصيات لها اعتبارها في الوزارة! ولولا خطورتها وأهميتها ما كان يتجرأ بمطالبة مقابلة الوزير شخصيا!
وهكذا يستشعر القارئ روح الشجاعة لدى عباس حافظ، ولكن للشجاعة ثمنا لا بد أن يدفع! ففي فبراير 1925 كان الدور على عباس حافظ كي يترقى في وظيفته إلى الدرجة الأعلى، وبسبب شجاعته وجرأته كافأه رجال الوزارة بحرمانه من الترقية، فكتب إلى الوزير مظلمة جديدة، يستغيث فيها بكلمات تدمي القلوب وتزلزل المشاعر، ومما جاء فيها قوله: «... أنا شاب كفؤ في عملي بشهادة نفسي أولا وبشهادة رؤسائي وبشهادة موظفي الوزارة على بكرة أبيهم. وقد كنت مثال النشاط في العمل والدأب على إظهار الكفاءة على أمل الترقي ... يا الله! أهكذا يأبى النحس إلا أن يلازمني. يا للداهية! أهكذا سأموت حيا. أهكذا سأدفن في هذه الوزارة، أهكذا سأبقى حتى يشيب الغراب ... فيا ضيعة الشباب! ويا خيبة الآمال! ويا خسارة الفكر والعقل والهمة والكفاءة والنشاط ...»
وذيلت هذه المظلمة بحاشية من المسئول، أفادت بعدم قبولها أو النظر فيها؛ لأن الترقيات لا تتم إلا بناء على التقارير السرية السنوية. ومن العجب العجاب أن التقرير السري السنوي لعباس حافظ، جاء فيه تحت بند استعداده لوظيفته الآتي: «استعداده العلمي والأدبي يؤهله لأرقى من وظيفته بكثير!» كما جاء في تقرير عام 1928 تحت بند درجة اجتهاده: «مستخدم دءوب على العمل، غيور فيه، ذو كفاية له، عليم بعمله كل العلم، تعينه في ذلك كثير معرفته الاستثنائية للغة الإنجليزية.» وجاء تحت بند مقدرته على القيام بواجبات وظيفته: «على أتم المقدرة، ومما رأيته من عباس أفندي حافظ أقول إنه ينبغي أن يسير شوطا بعيدا في هذا السبيل.» وأخيرا جاء تحت بند استعداده الاستثنائي: «أعده مترجما استثنائيا، وهو في وسعه أن يترجم الوثائق بسرعة وبأسلوب لا يدع مجالا للشك في معانيها الأصلية!»
وعلى الرغم من كفاءة عباس حافظ - كما أثبتت تقاريره السرية - إلا أنه لم يرق إلى الدرجة الأعلى، إلا بعد مرور ثلاثة عشر عاما! وهذه الترقية جاءت عندما قرر الجنرال نقله إلى مصلحة التجارة والصناعة. والغريب أن رئيس عباس حافظ في العمل، كتب خطابا إلى الجنرال بخصوص هذا النقل، قال فيه: «ستخسر الوزارة مستخدما حسنا للغاية إذا نقل عباس أفندي من هنا؛ فإن خدماته نحتاج إليها بصفة خاصة في هذه الإدارة؛ لأنه قائم بالترجمة الفنية.»
وربما نستنتج من هذا القول، أن المسئولين في الوزارة لا يميلون إلى نقل عباس حافظ إلى أية جهة أخرى، حتى يستغلوه في الترجمة نيابة عن الآخرين! أو ربما خوفا من خروجه عن سيطرتهم، فيشهر بهم في مكانه الجديد! وهذا يفسر لنا لماذا يصر المسئولون على الإشادة به، وفي الوقت نفسه يصرون على عدم ترقيته! لأن الترقية ربما ستمنحه منصبا أعلى، يحصنه من الانصياع لرغباتهم في الترجمة نيابة عنهم أو عن غيرهم!
وتبتسم الحياة أياما قليلة لعباس حافظ، في ظل وزارة الوفد، التي أكرمته لكفاءته من جهة، ولمبدئه السياسي الوفدي من جهة أخرى، حيث أصدر وزير الداخلية مصطفى النحاس باشا قرارا بترقيته بصفة استثنائية عام 1930. ولكن ما لبث أن تغير الحال، حيث جاءت وزارة إسماعيل صدقي باشا، وكشرت عن أنيابها له، فنقلته إلى أسوان وهو في أشد الحاجة لوجوده في القاهرة لمعالجة زوجته المريضة بالقلب، بل وبدأ رجال الوزارة يرصدون مقالاته الصحفية، ويتعقبون نشاطه الأدبي لإيجاد ذريعة للإيقاع به، وللأسف نجحوا في ذلك!
ففي يوم 9 / 9 / 1930 نشرت جريدة صوت مصر مقالة لعباس حافظ بعنوان حمدي سيف النصر. فقام وكيل عموم الأمن العام برفع مذكرة إلى الوزير، أبان فيها أن المقالة تمدح حمدي سيف النصر، وتطعن في كرامة وسمعة اللواء عبد العظيم علي باشا، فضلا عما في المقالة من أمور سياسية تعرض لها الكاتب، مما يتنافى مع واجب وظيفته؛ فقرر رئيس الوزراء إسماعيل صدقي فصل عباس حافظ من وظيفته، مستندا في هذا الفصل على مادة قانونية «تحظر على جميع موظفي الحكومة إبداء ملحوظات شخصية بواسطة الجرائد».
وإذا نظرنا إلى المقالة المنشورة، فسنجدها مقارنة بين شخصيتين، الأولى أشاد بها عباس حافظ إشادة كبيرة مع إحصاء لجهودها وخدماتها للأمة، وقد ذكر اسمها علانية وهو الضابط حمدي سيف النصر. أما الشخصية الأخرى فكانت على نقيض الشخصية الأولى تماما، حيث أحصى عباس خستها ودناءتها واستغلالها لمنصبها في منافعها الشخصية، مع عدم ذكر اسمها مطلقا، وكل ما ذكره عباس هو رتبتها العسكرية؛ أي إن الطعن والتشهير كان بالإيحاء والتلميح وليس بالقول والتصريح.
2
ولم تكتف وزارة صدقي باشا بفصل عباس حافظ، بل أنهكته بالتحقيقات والاضطهادات والغرامات ... إلخ، طوال أربع سنوات، عاش فيها عباس وأولاده الستة - بنين وبنات
3 - في ضيق شديد، ولم يجد ملاذا لسبل العيش إلا في عمله بالصحافة، خصوصا جريدة «كوكب الشرق»، حيث كان محررها الأول في هذه الفترة. وفي أواخر عام 1934، ابتسم القدر مرة أخرى له، عندما تولت وزارة محمد توفيق نسيم الحكم، فأعادته إلى العمل مرة أخرى في إدارة المطبوعات بوزارة الداخلية، بناء على قرار مجلس الوزراء القاضي بعودة الموظفين المفصولين من وظائفهم لأسباب سياسية. وبعد عام رقي إلى الدرجة الأعلى، وتم ندبه عام 1936 للعمل في سكرتارية الهيئة الرسمية للمفاوضة، التابعة لرئاسة مجلس الوزراء.
وعاش عباس حافظ في أمان وظيفي لمدة عامين فقط! حيث تغيرت الوزارة، وبالتالي تغير الموقف تجاهه، فقامت الوزارة الجديدة - وزارة محمد محمود باشا - في فبراير 1938، بفصله من عمله - مع مجموعة أخرى
4 - دون سابق إنذار، وذلك لأسباب سياسية. ويعيش عباس وأسرته في ضنك العيش أربع سنوات أخرى، حتى تغيرت الوزارة عام 1942، فأعاده رئيس الوزراء - ووزير الداخلية - مصطفى النحاس باشا، إلى العمل مع ترقيته؛ فقام عباس حافظ بكتابة شكوى إليه، يلتمس فيها إنصافه وظيفيا. ولأهمية هذه الوثيقة - من وجهة نظرنا - لما بها من شرح واف لحياة عباس الوظيفية، ولما بها من معلومات رسمية مهمة، نذكرها هنا بصورتها الكاملة:
القاهرة في 25 / 5 / 1942
حضرة صاحب المقام الرفيع وزير الداخلية
ألتمس النظر في شكواي هذه بعين العطف الذي طالما غمرتموني به وشددتم أزري بفيضه في أيام المحن وشدائد الجهاد: (1)
يبلغ مجموع مدة خدمتي الحكومية المحسوبة في المعاش نحو 28 سنة قضيت منها في الدرجة الثامنة 14 سنة وفي السابعة 3 سنوات وفي السادسة 5 سنوات وفي الخامسة 6 سنوات. وأعدت إلى الخدمة في شهر مارس الماضي ثم رقيت في دوري إلى الدرجة الرابعة من أول أبريل، وكان ينبغي الاحتفاظ بأقدميتي في الدرجة الخامسة فيجعل تاريخ ترقيتي الأخيرة من أبريل سنة 1940. ولكني فقدت سنتين مع هذه الترقية العادية التي جاءت بعد فصلي وإحالتي إلى المعاش بلا ذنب جنيته غير عقيدتي السياسية، وإن كانت فضيلة تقرها أبسط مظاهر الحريات وحقوق الإنسان. (2)
ومع ترقيتي الأخيرة لم يتجاوز راتبي ثلاثين جنيها ونصف جنيه، أي دون أقل مربوط الدرجة بنحو خمسة جنيهات. ويبلغ صافي المرتب حوالي 22 جنيها، بعد الاستقطاعات المقررة واستبعاد نحو 6 جنيهات نظير الاستبدال النقدي لجزء من المعاش في الأربع سنوات التي قضيتها مبعدا عن وظيفتي بسبب الحزبية الطاغية. (3)
وقد كنت من القلائل الذين حوربوا أكثر من مرة في رزقي ورزق أولادي بسبب عقيدتي الوطنية؛ ففصلت من وظيفتي في سنة 1930 وشردت تشريدا في العهد الصدقي، وقدمت إلى القضاء عدة مرات وقاسيت المحن مختلفات، ثم فصلت في أعقاب الحكومة الوفدية في فبراير 1938. وبلغ مجموع المدة التي قضيتها طريدا من وظيفتي في هاتين المرتين نحو عشر سنوات، وهي فترة لا يستهان بها في أدوار عمر الإنسان، ودليل على شناعة الحزبية التي نكبتني في مادة حياتي وأصابت أسرتي وأولادي الأبرياء بأشد البلاء. (4)
ولم يكن عملي في الحكومة عاديا منذ دخلت خدمتها، فإن الأربعة عشر عاما التي قضيتها في وزارة الدفاع بالدرجة الثامنة - وهي الدرجة الدنيا في السلم الحكومي - كانت فترة إنتاج غزير لا يمكن أن ينتجه مستخدم في هذه الدرجة الصغيرة، فقد اشتغلت فيها بترجمة القوانين وتعريب كتب التعليم والفنون العسكرية، وهو عمل كان يؤديه وكيل إدارة قبل أن أتولاه، ولا تزال الكتب الفنية التي نقلتها إلى العربية في ذلك العهد مراجع في الجيش إلى الآن. وقد نقلت منها في سنة 1928 إلى مصلحة التجارة والصناعة قبل تحويلها إلى وزارة بعد ترقيتي إلى درجة «ب» - المعادلة للسابعة الآن - فقمت بتحرير مجلة التجارة، وترجمت رسالة خبير الأرز، ورسالة خبير القطن، وأديت فيها عملا فنيا لا يتفق مع درجتي الصغيرة في ذلك الحين. وفي سنة 1930 نقلت إلى وزارة الداخلية في إدارة المطبوعات حيث قمت بعمل يتصل بالصحافة، ولم أكن يومئذ تجاوزت الدرجة السادسة، ولكن فصلت لعقيدتي السياسية في تلك السنة، وعانيت الشظف وصنوف البلاء خمسة أعوام متوالية حتى أعدت إلى الخدمة في سنة 1935، ولكني لم أكد أستقر وأنقه من صدمة الفصل خمسة أعوام أو تزيد حتى فصلت مرة أخرى فجأة وبلا سابق تمهيد أو أقل نذير. وفي السنتين الأخيرتين كان معاشي قد وصل إلى نحو خمسة جنيهات وهي لا تكفي لمستخدم صغير، فضلا عن رجل متزوج ووالد بنات وبنين. (5)
ثمانية وعشرون عاما في خدمة الحكومة، والعمل الممتاز والتفاني في المصلحة العامة، وإيثار خير الوطن على المنفعة الشخصية، ولم تتجاوز ماهيتي بعد كل ذلك، ورغم الأهوال والنكبات التي امتحنت بها، ثلاثين جنيها مع مكانتي الملحوظة في النهضة الثقافية، ومساهمتي من ثلاثين سنة في تغذية الأدب والحرية الفكرية في البلاد. وهي معاملة من الدولة قاسية بلا شك، ولا ترضاها حكومة الشعب لكاتب مفكر ووطني مخلص خاض أشد المحن وصنوف البلاء. (6)
لهذا رأيت أن ألجأ إلى رفعة الرئيس الجليل ملتمسا تسوية حالتي من بداية خدمتي إلى الآن لوضعي في الدرجة الثالثة بأقصى مربوطها حتى لا تقتل روح التضحية إذا هي لم تجد حسن التقدير.
وكتب النحاس باشا حاشية أسفل الشكوى، قال فيها: «حضرة الأستاذ الكبير معروف بصدق بلائه في الأدب وله مكانة عظيمة في عالم القلم، وهو من المعروفين بالوطنية الصادقة، فتكتب مذكرة للعرض بإجابة طلبه.» وبالفعل ينصف النحاس الباشا عباس حافظ ويصدر قرارا بترقيته إلى الدرجة الثالثة.
ويهنأ عباس حافظ عامين متتاليين من الاضطهاد والقمع، ولكنه لم يهنأ من متطلبات الحياة، فقد مرت السنون وكبرت بناته، وجاءت مرحلة زواجهن وما يصاحبها من مستلزمات مالية؛ فنجد الكاتب الكبير والوطني المخلص يتقدم بطلب تلو الآخر لاستبدال معاشه، من أجل زواج بناته، ووصل الأمر به إلى أن المتبقي من راتبه بعد هذا الاستبدال، لا يصلح للعيش بصورة كريمة. ولكن ماذا يفعل الأب أمام قسوة الحياة؟! لم يكن أمامه إلا أن يطلب بصفة استثنائية من وزير الداخلية فؤاد سراج الدين، استبدال خمسة جنيهات من معاشه لاستكمال مستلزمات زواج ابنته، ووافق الوزير على طلبه في أبريل 1944.
وعندما أتم عباس رسالته تجاه ابنته، وبدأ يفكر في كيفية العيش بالقدر الضئيل المتبقي من راتبه، حدث تغيير وزاري، فتلقى عباس قرارا من رئيس الوزراء أحمد ماهر باشا في أكتوبر 1944، يقضي بفصله من عمله لأسباب سياسية! وتزداد الهموم على عباس حافظ وتتراكم الديون عليه، فينبش بأظافره أرض الحياة ويصمد أمام ضربات القدر، ويدفع الثمن الباهظ نتيجة مواقفه السياسية طوال ست سنوات، تعاقبت خلالها وزارات كثيرة، منها: وزارة النقراشي باشا، ووزارة إسماعيل صدقي باشا، ووزارة إبراهيم عبد الهادي باشا، ووزارة حسين سري باشا، ووزارة النحاس باشا؛ ووزارة النحاس باشا الأخيرة استمرت في الحكم أسبوعين فقط، وربما لو طال عمرها لكانت أعادت عباس حافظ إلى عمله. ولكن شاءت الأقدار أن تأتي وزارة علي ماهر باشا إلى الحكم في عام 1950، وهي الوزارة التي فصلت عباس حافظ، وهي أيضا الوزارة التي أصدرت قرارا بإعادة المفصولين السياسيين، وبالتالي عودة عباس حافظ إلى وظيفته.
وبعد استلام عباس وظيفته، قرر أن يضع حدا لتلاعب رجال الوزارات به، وذلك بأن يحيل نفسه بنفسه إلى المعاش في أغسطس 1950، دون انتظار الموعد الرسمي لذلك في ديسمبر 1953، كما قال أيضا في مذكرته ب «التوصية لدى القصر بالإنعام علي بالبيكوية من الدرجة الأولى. وليس من شك في أن هذا هو أكبر صنيع تسدونه إلى رجل وطني وفي أينما خدم الدولة والشعب.»
وبالفعل تمت إحالته إلى المعاش في أكتوبر 1950، دون أي ذكر لمنحه البيكوية بصورة رسمية.
5
وربما عز على الحكومة إحالته إلى المعاش دون أن تضع له العراقيل حيث حذفت من سنوات خدمته، فترات فصله السياسي، رغم مخالفة هذا الأمر للقوانين المعمول بها، فأقام عباس دعوى قضائية ضد وزير الداخلية ووزارة المالية ورئاسة مجلس الوزراء، استمرت ثلاث سنوات، حتى جاء الحكم أخيرا في صالحه.
وارتضى عباس حافظ بمعاشه، وتفرغ للكتابة والأدب عدة سنوات، من أجل توفير لقمة العيش له ولأولاده. وكفى بنا للاستدلال على حياته البائسة بعد المعاش، أن نذكر عدة أسطر من رسالته إلى الدكتور طه حسين عام 1955، قال فيها: «أحسبني أطول بالترجمة عهدا من أي مترجم في مصر. فقد بدأت عام 1912 ... أي منذ قرابة 43 عاما ... ورغم هذا العمر الطويل في الترجمة لا أزال رجلا فقيرا لن يجد أهله عند موته ثمن أكفانه، على كثرة ما كسبت، وطول ما اشتغلت. ولكن لي ذرية ضعافا احتملت جلدا تكاليفهم ولا أزال أرعاهم.»
6
وظل الأديب الكبير عباس حافظ يعمل جاهدا، حتى أسلم روحه لبارئها يوم 24 / 6 / 1959، عن عمر يناهز الخامسة والستين، وكان آخر عمل له هو رئاسة تحرير وكالة رويتر.
7 (2) عباس حافظ أديبا
كان الأدب المتنفس الوحيد لعباس حافظ، أمام الاضطهاد الوظيفي الذي لازمه طوال حياته، وهذا يفسر غزارة إنتاجه الأدبي - نوعا ما - خصوصا في مجال الترجمة. وملفه الوظيفي لا يحمل سوى عناوين قليلة لما قام به من ترجمات بحكم وظيفته رغم أهميتها في إظهار حقيقة نسبتها إلى مترجمها الحقيقي، كما بينا. ولعل تنكيل الوزارات المختلفة بعباس حافظ، وفصله من عمله لسنوات كثيرة، أفسح المجال لقريحته الأدبية، لتنتج إنتاجا وفيرا يدر عليه بعض المال، كي يستطيع التواصل في الحياة، وبذلك تتحقق مقولة «رب ضارة نافعة». وإن كان مجال الترجمة الأدبية، هو المجال الأبرز في إنتاج عباس حافظ الأدبي، إلا أن له مجالات أدبية أخرى، تتنوع بين التأليف والنقد وكتابة المقالات الصحفية. (2-1) إنتاجه الأدبي
تشير الأسطر القليلة التي كتبت عن عباس حافظ أن إنتاجه الأدبي تمثل في تأليف وترجمة عشرة كتب، وثماني عشرة مسرحية، بالإضافة إلى مقالاته في جريدة البلاغ. وللأسف لم تذكر هذه الأسطر عناوين هذه الكتب أو المسرحيات، واكتفت بذكر أمثلة منها، لا تتعدى أصابع اليد الواحدة! لذلك اجتهدت في إحصاء أغلب العناوين التي تغطي مجالات عباس حافظ الأدبية، تبعا لما بين يدي من معلومات. وإذا بدأنا بالكتب فسنجدها تتوزع بين التأليف والترجمة في أكثر من مجال.
فمثلا في مجال التأليف التاريخي والسياسي والاجتماعي، وجدنا له الكتب الآتية: «نهضة مصر»، المطبعة التوفيقية بشارع درب الجماميز، عام 1922؛ و«بطل النهضة المصرية الكبرى سعد زغلول باشا»، نشره عبد العال أحمد حمدان الكتبي عام 1936؛ و«مصطفى النحاس أو الزعامة والزعيم»، مطبعة مصر 1937؛
8
و«الشيوعية في الإسلام»؛ و«علم النفس الاجتماعي: بحث في نشأة الاجتماع وتطوره»، المكتبة التجارية الكبرى عام 1948.
أما الكتب المترجمة والمعربة، فمنها: «كنوز الملك سليمان» للسير ريدر هجارد عام 1911؛ و«ألوان من الحب»، سلسلة كتب للجميع، مطابع جريدة المصري، 1950؛ ورواية «الشهداء»، كتاب مسامرات الشعب، مطبعة الشعب؛ وقصة «أسطورة الحيوانات الثائرة» لجورج أرويل، دار المعارف 1951؛ و«المعبود الذي هوى: دراسات في الشيوعية»، دار النيل للطباعة 1951؛
9
و«مذكرات بكوك» لتشارلز دكنز، 1958؛ و«المملوك المفقود».
أما المسرحيات المترجمة المنشورة، فمنها: «سيرانو دي برجراك» لأدمون روستان، سلسلة روائع المسرح العالمي، عدد 3، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة، يوليو 1959؛ و«ضجة فارغة» لشكسبير، مسرحيات شكسبير، المجلد التاسع، الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، دار المعارف، عام 1968؛ و«العبرة بالخواتيم» لشكسبير، مسرحيات شكسبير، المجلد الثالث عشر، الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، دار المعارف، عام 1983.
10
أما المسرحيات المترجمة غير المنشورة، والمحفوظ بعضها - بالمركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية - في صورة مخطوطة، فهي: «شاترتون أو شقاء الشاعر» لألفريد دوفيني 1916،
11 «الزوج الموسوس» 1916،
12 «تيمون» لشكسبير 1921،
13 «زواج بالحيلة» لموليير،
14 «الاستعمار».
15
وهذه المسرحيات المخطوطة، هي النصوص المنشورة في هذا الكتاب.
أما المسرحيات - المترجمة أو المؤلفة - التي تعتبر مجهولة؛ لأنها لم تنشر ولم نستطع الحصول عليها، ولكننا حصلنا على إعلاناتها ومقالاتها عندما مثلت - وسنفصل الحديث عنها فيما بعد - فهي: «العذراء المفتونة» لهنري باتاي 1916، و«قسوة الشرائع» 1917، و«الشمس المشرقة» 1918، و«قابيل» 1921، و«زعيم الشعب» لبول بورجيه 1921، و«نبي الوطنية» لبون لوازون 1925.
هذا بالإضافة إلى الكتب التي ذكرها الزركلي ولم نطلع عليها، وهي: «العقل الباطن وعلاقته بالأمراض النفسية» لسادلر، «سلمى»، «الفردوس المسموم»، «دموع وضحكات ».
أما المجال الصحفي، فكان عباس حافظ من أعلامه، وكانت مقالاته تنشر في الصفحات الأولى تحت اسم «الكاتب الكبير عباس حافظ». وتنوع نشاطه الصحفي بين نشر المقالات والقصص المترجمة في المجلات، وبين نشر المقالات الأدبية والسياسية في الصحف؛ فعلى سبيل المثال، نجده ينشر بعض الترجمات في مجلة البيان للشيخ عبد الرحمن البرقوقي عام 1912،
16
ويقوم بتحرير مجلة التجارة عام 1928، وينشر في مجلة الهلال - يناير 1946 - قصة قصيرة من تأليفه بعنوان «أعاصير العاطفة»، ويترجم رسائل بيتهوفن تحت عنوان «الحبيب المجهول» وينشرها في مجلة الهلال أيضا - يناير 1937 - ويترجم ملخص قصة «الصقر» لكارل ماسون، وينشرها في مجلة الهلال كذلك في مارس 1947. كما وجدنا له أيضا قصة قصيرة مؤلفة باسم «عرفت الحب».
وإذا تطرقنا إلى مقالاته الصحفية، فسنحتاج إلى دراسة أخرى لتتبعها! حيث كان عباس حافظ - في أغلب فترات فصله الوظيفي - مقيما في دور هذه الصحف، بل وكان عنوان إقامته الدائم في هذه الفترات، هو عنوان إحدى الصحف أو المجلات! وهذا من واقع وثائق ملفه الوظيفي. فعلى سبيل المثال: كان عنوانه عام 1924 هو عنوان «جريدة الحال» لصاحبها خليل بك عاصم، وفي العام التالي كان عنوانه «مجلة اللطائف المصورة»، وفي عام 1934 كان عنوانه «جريدة كوكب الشرق»، حيث كان محررها الأول. هذا بالإضافة إلى مقالاته في صحف المنبر، صوت مصر، البلاغ، المصري ... إلخ. (2-2) نشاطه المسرحي
أحصينا فيما سبق - تبعا لما بين أدينا - مسرحيات عباس حافظ المترجمة، ولاحظنا أن المنشور منها لا يتعدى الثلاث! رغم أنه ترجم أربع عشرة مسرحية، وهو العدد المتاح لنا، والذي يشير إلى وجود عدد آخر لم نستطع الحصول عليه. وإذا كانت المسرحيات المترجمة متاحة الآن، سواء كانت منشورة أو مخطوطة، إلا أن غير المتاح هو المسرحيات المترجمة والمؤلفة المجهولة! ولحسن الحظ أن أخبار هذه المسرحيات - عندما مثلت - ما زالت محفوظة بين أوراق الدوريات المختلفة، والتي تمتد من عام 1916 إلى عام 1930! ومن الواجب علينا، طالما أخرجنا حياة عباس حافظ من بين أوراق ملفه، أن نخرج أيضا معلومات مسرحياته المجهولة من بين أوراق الدوريات!
وتعتبر مسرحية «شاترتون أو شقاء الشاعر» أولى مسرحيات عباس حافظ المترجمة والممثلة أيضا، وذلك على الرغم مما يشوبها من غموض في ظروف تمثيلها على خشبة المسرح! ففي مايو 1916، نشرت جريدة المقطم إعلانا تحت عنوان الأدب والطرب، جاء فيه: «في مساء يوم الخميس 18 مايو الجاري يمثل جوق الممثلة المصرية السيدة منيرة المهدية لأول مرة رواية السارق في تياترو برنتانيا، ثم يقوم ممثلان نابغان بتمثيل «شقاء الشاعر»، وهي مأساة بليغة مبكية تصور حياة شاعر خالد قضى ضحية الإهمال، معربة بقلم الكاتب الكبير عباس حافظ. وتطرب السيدة منيرة المهدية الحضور بقصيدة استقبال وقصيدة سلي النجوم. وتختم الحفلة بفصل مجوني من أمين عطا الله.»
17
وعلى الرغم من ذكر اسم المسرحية «شقاء الشاعر»، واسم معربها عباس حافظ بصورة صريحة لا لبس فيها، إلا أننا نشك في تمثيل المسرحية من قبل فرقة منيرة المهدية، وبالصورة الموصوفة في الإعلان، وذلك لعدة أسباب، منها: (1)
أن منيرة المهدية لا تمثل أية مسرحية لا يكون الغناء أساسها التمثيلي، وأن يكون بطلها شخصية نسائية، حتى تضمن منيرة دور البطولة التمثيلية والغنائية فيها. والمعروف أن مسرحية «شقاء الشاعر» بطلها شاعر، وخالية من الغناء! (2)
الإعلان المنشور يفيد بأن الفرقة ستمثل أولا المسرحية الأساسية «السارق»، ثم بعد ذلك تمثل الفرقة - في العرض ذاته - مسرحية «شقاء الشاعر»! وعلى ذلك نقول: هل يعقل تمثيل مسرحيتين كبيرتين في ليلة عرض واحدة؟! هذا بالإضافة إلى الفصل المضحك وغناء منيرة المهدية عدة قصائد! (3)
يفيد الإعلان المنشور أن ممثلين فقط سيقومان بتمثيل مسرحية «شقاء الشاعر»، علما بأن شخصيات المسرحية - كما هو ثابت من النص المنشور في هذا الكتاب - أكثر من عشر شخصيات!
لهذه الأسباب نشك في تمثيل المسرحية بالصورة التي جاءت في الإعلان السابق. ومما يؤكد هذا الشك قيام جريدة الوطن بنشر كلمة قصيرة بقلم أدهم دلاور - بعد أقل من أسبوع على نشر الإعلان السابق - أبان فيها أنه مدعو - من قبل عباس حافظ - لحضور بروفات مسرحية «شقاء الشاعر شاترتون»، التي عربها عباس حافظ عن الكاتب الفرنسي الفريد دوفيني، وأن نجيب الريحاني سيقوم بدور البطولة فيها!
18
دون أن يذكر أية إشارة أو تصحيح للإعلان السابق! علما بأن مذكرات الريحاني ومعظم الكتابات التي كتبت عنه لم يأت بها أي ذكر لهذه المسرحية، مما يجعلنا نشك في قيام الريحاني بتمثيل هذه المسرحية، بناء على الكلمة المنشورة! ومما يؤكد هذه الشكوك برمتها، عدم وجود أية مقالات نقدية - حسب اطلاعنا - تفيد بأن منيرة المهدية أو نجيب الريحاني قاما بتمثيل مسرحية «شاترتون»!
إعلان مسرحية شاترتون (هذا الإعلان أهداه لي الزميل د. سامي عبد الحليم، فله مني جزيل الشكر والتقدير).
وعلى الرغم من شكنا في تمثيل هذه المسرحية، رغم ما نشر عنها عام 1916، إلا أننا وجدنا دليلا قاطعا على تمثيلها، ولكن للأسف بدون تاريخ واضح! وهذا الدليل عبارة عن إعلان صغير كان يوزع على المارة وفي المقاهي والشوارع وعلى أبواب المسارح، يفيد بأن جمعية رقي الآداب والتمثيل ستمثل مسرحية «شاترتون» تأليف الفريد دوفيني ومن تعريب عباس حافظ. وإذا علمنا أن هذه الجمعية تمثل نشاطها التمثيلي في عام 1916، سيكون هذا العام هو الاحتمال الأكبر لتمثيل مسرحية «شاترتون».
ومسرحية «شاترتون أو شقاء الشاعر»، تدور أحداثها حول شاعر شاب يدعي شاترتون، انعزل عن الأصدقاء والناس لأنهم لم يقدروا موهبته الشعرية، فعاش يائسا بائسا في غرفة بمنزل جون بل، بعد أن أخفى عنه اسمه وعمله. وبمرور الأيام تنشأ علاقة عاطفية طاهرة بين شاترتون وبين كيتي بل زوجة صاحب البيت. وهذه العلاقة لاحظها الأستاذ، وهو رجل متدين وأحد سكان المنزل، وكان دائما يحذر شاترتون من الاستمرار في هذه العلاقة، باعتباره من الشعراء مرهفي الحس. وبمرور الوقت، وأمام الحاجة إلى المال، قام شاترتون بتأليف عدة قصائد، قام بنشرها في الصحف، على اعتبار أنها من نظم شاعر قديم. فقامت ضجة نقدية كبيرة حول ظهور هذه القصائد، وقام النقاد باكتشاف الحقيقة، فانهالوا بالتجريح على شاترتون، رغم أنهم مدحوا هذه القصائد، عندما اعتقدوا أنها من نظم الشاعر القديم. وفي يوم يأتي بعض الأصدقاء إلى المنزل لزيارة جون بل، فيتعرف أحدهم على شاترتون، ويقص على الموجودين قصته. هنا لم يجد شاترتون ملاذا غير حب كيتي بل وعطف الأستاذ، ولكنه كان يعلم أن حبه لكيتي هو حب من طرف واحد، وعندما شعر بأنها تبادله الحب، انتحر كي يحافظ على أسرتها، وكي ينهي حياته البائسة. ولكن كيتي بل حزنت عليه حزنا شديدا حتى ماتت!
أما المسرحية الثانية، التي عربها عباس حافظ من الفرنسية، فكانت «العذراء المفتونة» تأليف هنري باتاي، ومثلتها فرقة الشيخ سلامة حجازي على مسرح الحمراء بالإسكندرية في ديسمبر 1916.
19
وفرقة سلامة حجازي مثلت له أيضا مسرحيته المعربة الثالثة «قسوة الشرائع» بدار الأوبرا في مارس وأبريل 1917.
20
أما مسرحيته الرابعة فكانت «الشمس المشرقة»، وهي مسرحية يابانية - ربما عربها من ترجمة إنجليزية أو فرنسية - وهذه المسرحية مثلتها فرقة عبد الرحمن رشدي بدار الأوبرا في مايو 1918.
21
وقدمتها الفرقة مرة أخرى على مسرح كازينو دي باري في سبتمبر، وكانت من تمثيل: عبد الرحمن رشدي وعمر وصفي وروز اليوسف، وغناء محمد عبد الوهاب. وفي مايو 1930 مثلت نقابة موظفي الحكومة المصرية هذه المسرحية بدار الأوبرا، وقام بتمثيلها بعض الموظفين الهواة.
22
ومسرحية «الشمس المشرقة»، تدور أحداثها حول شاب ضحى بحياته فداء لزعيم أمته. ذلك الزعيم الذي اتهم بقتل امرأة كانت تسعى للحصول منه على معلومات مهمة، وكانت تخدعه باسم الحب. وهذا الزعيم هام في حب هذه المرأة، ولكنه عندما اكتشف خيانتها للوطن قام بقتلها، مفضلا حب الوطن على حبه الشخصي، فتم القبض عليه وتقديمه للمحاكمة. وأثناء المحاكمة تقدم شاب مخلص لوطنه ولزعيمه ووقف أمام القضاة مدعيا أنه القاتل الحقيقي، وبذلك أنقذ زعيمه. وذهب الشاب ضحية الواجب، فأشرقت الشمس على الوطن من جديد.
إعلان مسرحية الشمس المشرقة (هذا الإعلان أهداه لي الزميل د. سامي عبد الحليم، فله مني جزيل الشكر والتقدير).
وكانت مسرحية «قابيل»، المسرحية الخامسة في ترتيب مسرحيات عباس حافظ الممثلة، ولكنها في الوقت نفسه تعتبر أول مسرحية مؤلفة له! ولكن بكل أسف هي مسرحية مفقودة، لم نحصل على نصها حتى الآن! وقد عرضتها فرقة إخوان عكاشة على مسرح حديقة الأزبكية في يونيو 1921، وقام بتمثيلها عبد الله عكاشة ، عبد العزيز خليل، بشارة واكيم، وآخرون، ثم أعادت الفرقة تمثيلها في مايو 1923.
23
ومسرحية «قابيل» تدور أحداثها حول زواج مصطفى بك ابن عثمان باشا، من الفتاة إحسان ابنة عز الدين باشا. ولكن هذا الزواج لم يدم طويلا حيث طلق مصطفى زوجته بعد أن أنجبت له ابنا هو مختار بك. وبعد الطلاق قام مصطفى بالزواج من أخرى ورزق منها بولد هو جلال بك وبابنة هي سنية. وبمرور الوقت نشأت عداوة بين الأخوين، وصلت إلى حد الشروع في القتل، عندما اعتدى مختار على أخيه جلال فأصابه إصابة قاتلة، وبدأت النيابة التحقيق دون أن تعثر على الجاني. ولكن الأب اكتشف أن الجاني هو ابنه مختار، فصمم على تقديمه للعدالة، ولكن المحقق يأتي في هذه اللحظة ويقول إن المجني عليه أعطى أوصافا مختلفة عن أوصاف مختار، كي يبعد الشبهة عنه لأن الأمل في إنقاذه من إصابته ضئيل. وعندما يسمع الجاني هذا، يقرر الانتحار تكفيرا عن جريمته. وفي اللحظة التي ينتحر فيها الشقيق الجاني، يتم شفاء الشقيق المجني عليه.
بعد أيام قليلة من تمثيل مسرحية «قابيل»، وجدنا فرقة عمر بك سري تعرض مسرحية «زعيم الشعب» من تأليف بول بورجيه ومن تعريب عباس حافظ، لتكون مسرحيته الممثلة السادسة، وقام ببطولتها عمر سري وأحمد علام، وتم عرضها في أواخر يونيو 1921.
24
والغريب أننا وجدنا ملخصا منشورا لهذه المسرحية في إحدى الصحف، يتشابه إلى حد ما مع بعض الخطوط الرئيسية لمسرحية «قابيل»، رغم إقرار الصحف بأن مسرحية «قابيل»، مسرحية مؤلفة!
وملخص المسرحية المنشور، يصفها بأنها «رواية جليلة يلتقي فيها والد عظيم وابن مجرم نزق، يحاول أن يغري أباه باستخدام نفوذه لكتم جرمه، فيصمم الأب على تسليم ابنه للعدالة حفظا لسمعته ومنصبه. ولكنه يعود بحكم الأبوة فيصفح عنه على شريطة أن يرحل مجاهدا للتكفير عن ذنبه، ثم يقدم الأب العظيم استقالته من منصبه الذي لا يستطيع إشغاله وعلى ضميره وقر كهذا.»
25
أما مسرحيته السابعة والأخيرة فكانت «نبي الوطنية» لبون لوازون، عرضتها فرقة جورج أبيض على مسرح برنتانيا في يناير 1925، وقام ببطولتها جورج أبيض، دولت أبيض، حسين رياض، بشارة واكيم، منسي فهمي، عباس فارس، عبد الفتاح القصري، أحمد نجيب، يوسف حسني، جميلة سالم.
26
وموضوع هذه المسرحية يتشابه أيضا مع موضوع مسرحيتي «قابيل» و«زعيم الشعب»! وكأن عباس حافظ لا يؤلف ولا يعرب ولا يترجم إلا المسرحيات الملتهبة بحب الوطن والتضحية في سبيله بكل عزيز، والتمسك بالمبدأ مهما كان الثمن المدفوع!
فمسرحية «نبي الوطنية» تدور أحداثها حول النائب الوطني بودوان، الذي رفض منذ زمن منصب الوزير، من أجل الدفاع عن مبادئ حزبه، وفضل أن يكون حرا طليقا من قيود الوزارة. وتنتشر في البلدة فضيحة رشوة كبيرة يتهم فيها بعض كبار القوم، فيقبل بودوان منصب الوزير من أجل تطهير البلدة، ويبدأ عمله بقضية الرشوة، فيتضح له أن ابنه من أكبر المتورطين فيها. ويحاول بعض المسئولين الضغط عليه كي لا يفضح ابنه، الذي أصبح نائبا في البرلمان، وإشفاقا على أمه وعلى نفسه باعتباره أبا قبل كل شيء. ولكن بودوان ينسى عاطفة الأبوة، وينسى تضرعات زوجته ويعلن على الملأ أن المجرم في حق وطنه هو ابنه وفلذة كبده، وكان في استطاعته أن يكتم السر، ولكن الإيمان بالوطن عنده كان المقام الأول، وكل ما في العالم من اعتبارات يجب أن يطرح ويمتهن!
ومن حسن الحظ، أن هذه المسرحية شاهدها أحد نقاد ذاك الزمان - ممن نثق في رأيهم وكتاباتهم - وهو محمد عبد المجيد حلمي، الذي كتب كلمة عن أسلوب عباس حافظ في الترجمة، تعكس لنا قيمة ترجماته، ونظرة النقاد لها في زمنها. حيث قال الناقد: «ترجم هذه الرواية الحية، الأديب عباس حافظ، وأنت تعرف كتابته، ولغته، فليس في مصر أديب لم يقرأ له، وليس في مصر متأدب لم يتذوق حلاوة تلك اللغة الموسيقية البديعة، فإذا نجحت الرواية - وقد نجحت - فلا أقل من أن تقول إن لعباس حافظ فضلا كبيرا في نجاحها. فقد سارت الرواية متسقة على نمط واحد من الإبداع، وفي قوة متناسبة بين إحكام الموضوع، وإحكام الوضع المسرحي، وإحكام الترجمة، وإحكام التمثيل! ولقد يعيب بعضهم هذه اللغة الفخمة التي ترجم بها عباس حافظ، وهم معذورون، فقد ألفوا اللغة الدارجة على المسرح، وتعودوا العامية، وما فوقها، وما دونها. وإذن فقد كان لا بد من إدخال هذه اللغة الفخمة الرائعة في المسرح ولو بين حين وحين.»
27 (2-3) عباس حافظ ناقدا مسرحيا
لم يكن مجال الترجمة المجال الوحيد في نشاط عباس حافظ المسرحي، بل هناك نشاط آخر هو النقد المسرحي الذي مارسه - ربما - قبل الترجمة المسرحية. وأولى محاولاته النقدية بدأت في مارس 1916، عندما نشر مجموعة من المقالات النقدية بجريدة المنبر، تحت عنوان «الروح العامة في آداب المسرح المصري». في هذه المقالات ظهر عباس حافظ بمظهر الناقد المتمرس، لا الناقد المبتدئ، بل وظهر بمظهر الرائد في مجال نقد لغة المسرح ونصوصها، وبالأخص لغة ترجمة المسرحيات الممثلة.
ففي هذه المقالات، شن عباس حافظ هجوما شرسا على عرض مسرحية «أجاممنون أو الرجاء بعد اليأس» التي عرضتها فرقة الشيخ سلامة حجازي. وتمثل هجومه في امتعاضه من لغة ترجمة الشيخ نجيب الحداد لهذه المسرحية، حيث إنها لغة أصبحت غير مناسبة للعصر وتطوراته، وإن كانت مناسبة للغة العروض المسرحية في القرن التاسع عشر. كما بين في نقده أن الجمهور أصبح تواقا لسماع لغة المثقفين المتعلمين، بعد أن مج سماع لغة التجار العاميين من أهل المسرح، الذين لا هم لهم سوى استلاب نقود الجمهور، بغض النظر عن إكسابهم قيمة المسرح المتمثلة في لغته الراقية. كما بين أيضا أن صراعا بدأ ينشب بين القديم والجديد، وتفضيله لانتصار الجديد وأصحابه ممن يترجمون بلغة عصرية فصيحة، صالحة لمتطلبات العصر.
28
وربما هذا النقد النظري، كان دافعا قويا لعباس حافظ كي يخوض مجال الترجمة المسرحية الملائمة لروح العصر، لتكون ترجماته - فيما بعد - تطبيقا لما نظر له في هذه المقالات.
وفي مارس 1916 أيضا، كتب عباس حافظ في جريدة المنبر مجموعة مقالات نقدية، تحت عنوان «قلب المرأة للكاتب الكبير عباس حافظ»، هاجم فيها كتابات محمد لطفي جمعة، وبالأخص مسرحيته قلب المرأة. ويعاب على أسلوب عباس حافظ النقدي في هذه المقالات، تدني مستوى مفرداته وأوصافه المشينة ، التي وصلت إلى حد وصف لطفي جمعة بأنه «من الحشرات الأدبية التي تمتص أفكار المنتجين»!
وفي هذه المقالات نبش عباس حافظ تاريخ لطفي جمعة الأدبي، متهما إياه بسرقة ترجمة كتاب «كلمات نابليون»، الذي ترجمه إبراهيم رمزي، وأعاد لطفي - فيما بعد - نشره باسم «حكم نابليون». كما اتهمه أيضا بانتحال مقالة منشورة في مجلة أدبية لكاتب مصري مفكر، كانت تدور حول آراء نقد كتاب «سر تطور الأمم» لجوستاف لوبون وترجمة فتحي زغلول. وبعد هذا التشكيك في قدرات لطفي جمعة الأدبية، واتهامه بالسرقة العلمية، فجر عباس حافظ مفاجأته بأن مسرحية قلب المرأة ليست من بنات أفكار لطفي جمعة، بل هي منتحلة من مسرحيتين أجنبيتين، وراح يعطي الدليل وراء الآخر!
29
والغريب أن مسرحية قلب المرأة ما هي إلا جزء من ترجمة لطفي جمعة الذاتية، تحكي عن فترة من حياته قضاها في أوروبا أثناء الدراسة.
30
ولعل عباس حافظ فطن إلى ذلك فيما بعد، فأرسل رسالة إلى لطفي جمعة بعد أكثر من عام، يعتذر فيها عما بدر منه في الماضي.
31
وتوالت بعد ذلك مقالات عباس حافظ النقدية المتعلقة بالمسرح، مثل مقالته النقدية عن مسرحية حسناء العرب لفيليب مخلوف، الذي امتدح أسلوبها العربي الرصين.
32
ومن الواضح أن روح النقد المسرحي عند عباس حافظ، لم تكن مقصورة على كتاباته الصحفية، بل كانت ملتصقة بعمله الوظيفي. ففي عام 1935 كان عباس حافظ يعمل رقيبا على النصوص المسرحية في قلم المطبوعات بوزارة الداخلية، وكان يكتب التقارير المتنوعة الخاصة بتصريح أو بمنع النصوص المسرحية من التمثيل على خشبة المسرح. والرقابة المسرحية - كما هو معروف - كانت قاصرة على رصد الموانع الرقابية المتعلقة بالأمور الدينية والأمن العام. ولكن عباس حافظ انتهج أسلوبا جديدا في الرقابة المسرحية، لم يكن معهودا من قبل، ويعتبر رائدا في انتهاجه.
ففي يناير 1935 تقدم إلى قلم المطبوعات - نائب مدير معهد التمثيل الشرقي - الكاتب سيد الجمل
33
بمسرحيته المؤلفة «نيران»،
34
من أجل التصريح بتمثيلها، وقام بقراءتها عباس حافظ - بوصفه رقيبا - وكتب تقريرا نقديا برفضها، لما بها من ركاكة وضعف بالغ في كل موضع بها، وليس لها أي مغزى، ومفتقدة للعقدة والحبكة المسرحية ... إلخ. ويختتم الرقيب الناقد تقريره بقوله: «فإن كان المراد من رقابة الروايات الاطمئنان المجرد إلى خلوها من أية فكرة خطرة على الأمن أو على النظام الاجتماعي فهذه من ذلك كله خالية. ولا مانع من ردها إلى المؤلف ليعالج إصلاحها إن استطاع. وإن كان غرض الرقابة سلامة ما يقدم إلى الجمهور والمخافة على ذوقه من الإفساد وحمايته من أن تكون تجارب المؤلفين المبتذلين على حسابه؛ فلست أرى وجها لإقرار هذه الرواية بحال.»
35
وهذا التقرير يعتبر وثيقة مهمة بالنسبة لنظم الرقابة المسرحية، لما احتوى عليه من روح نقدية، وبنود رقابية تقدمية. فلأول مرة نجد الرقيب - بروح نقدية - يبحث عن المغزى والمضمون ... إلخ، قبل أن يبحث عن الموانع الرقابية. هذا فضلا عن بحثه في المصطلحات المسرحية، مثل العقدة والحبكة والتصوير ... إلخ. وأهم ما يميز هذا الرقيب الناقد، تفهمه الواعي لدور الرقابة. فهو لا يطبق نصوص القانون بصورة عمياء - كما يفعل معظم الرقباء - بل نجده يطبق روح القانون. وتبلغ الجرأة برقيبنا الناقد أن يوجه أنظار المسئولين على رقابة الروايات، إلى أن الهدف من الرقابة ليس المحافظة على الأمن العام والمجتمع - كما هو معروف ومتبع من قبل جميع الرقباء - بقدر المحافظة على سلامة الذوق الفني عند الجمهور فيما يتلقاه من فنون مسرحية. وأمام إيمانه بهذه الحقيقة يرفض الترخيص بتمثيل المسرحية، ويصدق على هذا الرفض رئيسه في العمل!
وبهذا الحماس النقدي، وجدنا عباس حافظ يكتب تقريرا برفض مسرحية الزعيم
36
لأحمد يوسف
37
عام 1936؛ لأنه يصور زعيم الأكثرية بصورة غير لائقة، ويلصق به علاقات مشينة مع إحدى الراقصات، كما يصور حياته بصورة لاهية. كما أن المؤلف خلع عليه لقب «الرئيس الجليل»، وهو لقب بعض الزعماء بالفعل. ويختتم الرقيب عباس حافظ تقريره بقوله: «هذا كلام فارغ، وموضوعات لا يليق عرضها على الجمهور في المسارح ... ولا يمكن السماح برواية كهذه مطلقا.» وربما كان الرقيب الناقد محقا في رأيه هذا؛ لأنه في ذلك الوقت كان الأقدر على معرفة الزعامة وقدرها عند الناس ؛ لأنه ألف في هذه الفترة كتابين عن زعيمين جليلين هما سعد زغلول ومصطفى النحاس، كما مر بنا. وربما كانت آراء عباس حافظ، من الآراء التي تستلفت نظر رؤسائه في العمل، بدليل أن مديره الأعلى صدق على رفض المسرحية.
صورة تقرير عباس حافظ لمسرحية الزعيم تأليف أحمد يوسف عام 1936.
ومن الجدير بالذكر، أن عباس حافظ لم يكتف بنقد المسرح التطبيقي - الممثل - باعتباره ناقدا صحفيا، أو بالنقد الرقابي باعتباره رقيبا مسرحيا، بل أيضا وجدنا له أعمالا نقدية نظرية ذات منهج علمي في الترجمة؛ فعندما طبعت مسرحية «سيرانو دي برجراك» لأدمون روستان وترجمة عباس حافظ، وجدنا المترجم لم يلتزم الترجمة فحسب، بل تعداها إلى وضع بعض الحواشي التي تدل على سعة اطلاعه وثقافته المتنوعة وعلمه الغزير؛ فعلى سبيل المثال، يأتي في ثنايا حوار المسرحية ذكر الرسامين دي شامبان وجاك كالو، دون أي تعريف لهما، فيقوم المترجم عباس حافظ بكتابة هامش، عرف فيه هذين العلمين للقارئ، مع ذكر لأهم أعمالهما الفنية؛ كذلك وجدناه يشرح في هوامشه معنى رياح المسترال، وشخصية سكاراموش، واسم ميرميدون ... إلخ.
وكفى بنا أن نذكر هنا رأي عبد الرحمن صدقي في ترجمة عباس حافظ لهذه المسرحية، عندما قال: «إني اليوم على يقين من أن هذا الشعر الذي يحرص أهله هذا الحرص على نصه الفاخر في أصله الفرنسي، قد لقي في ترجمته هذه إلى اللسان العربي صورته المطابقة ... ويحملنا على هذا اليقين ما يعرف به الناقل الفاضل من التمكن في صناعته، والتجلية في حلبته، والانطباع على قوة البيان، والبصر بمذاهب الكلام، وفنون الأدب. والحق أن هذه المسرحية في حلتها العربية من أنفس ما يهدى إلى القراء، شبابهم وشيوخهم على السواء، ولا نخص عشاق المسرح منهم، بل قراء الأدب كلهم، في الوطن العربي كله.»
38
وفي ترجمة عباس حافظ لمسرحية شكسبير «ضجة فارغة» أو
much ado about nothing ، نجده يلتزم منهجه في الترجمة من حيث وضع الهوامش التفسيرية والتعليقات الأدبية والنقدية، ثم نجده يطور هذا المنهج إلى كتابة نقد متنوع في عدة عناوين منها: كلمة الناقل، وأسلوب شكسبير في قصصه الماجنة، وحياة شكسبير، ومصادر القصة: من أين استقى الشاعر موضوعه؟
39
وبالأسلوب نفسه ترجم عباس حافظ مسرحية شكسبير «العبرة بالخواتيم»، وقدم لها بمقدمة نقدية، جاءت في عدة عناوين منها: موضوع القصة ومن أين اقتبسها شكسبير، وبراعة شكسبير في صياغة القصة والزيادة عليها ... إلخ.
40
خاتمة
هذه هي سيرة الكاتب والأديب المترجم عباس حافظ؛ ذلك الرجل المضطهد وظيفيا لانتمائه السياسي الوطني، والذي قاوم أعداءه بالصبر والتحمل، والذي أدى رسالته في الحياة على أتم وجه، والذي نذر قلمه من أجل مبادئه السياسية، والذي يعتبر من الوطنيين المخلصين لقضايا وطنه؛ وهو أيضا الكاتب التاريخي الذي كتب عن الزعماء الوطنيين أمثال سعد زغلول ومصطفى النحاس، وهو الكاتب السياسي الذي كتب عن الشيوعية، وهو الكاتب الاجتماعي الذي كتب عن نشأة الاجتماع وتطوره، وهو الكاتب المسرحي الذي تنوع إنتاجه بين التأليف والترجمة والتعريب والنقد، وهو الصحفي المنتشرة كتاباته في أغلب الصحف والمجلات طوال نصف قرن؛ وأخيرا، هو أحد رواد الترجمة في عصرنا الحديث، ممن ترجموا الكتب المتنوعة منذ عام 1911، وحتى وفاته عام 1959.
نتائج الدراسة
في نهاية هذه الدراسة، التي تناولت موضوع «عباس حافظ ... حياته وأدبه»، توصلت الدراسة إلى الحقائق والنتائج الآتية:
من حيث الحقائق المتعلقة بحياة عباس حافظ، اتضح أنه: (1)
ولد يوم 24 / 12 / 1893 بشارع الخليج المرخم بالموسكي، وحصل على الابتدائية عام 1908، وعلى الثانوية عام 1913، وتوفي يوم 24 / 6 / 1959. (2)
عمل موظفا ومترجما في وزارة الحربية منذ عام 1916 إلى 1950، ولم يتلق التقدير المستحق له، رغم إشادة جميع رؤسائه بعمله المتميز وأخلاقه الحميدة. (3)
تم اضطهاده وظيفيا بسبب إخلاصه لمبدئه السياسي، فحرم من الترقية المستحقة عام 1925، وفصل من وظيفته عام 1930 لنشره مقالة صحفية أبدى فيها رأيه السياسي، وفصل ثانية عام 1938 دون سابق إنذار، وفصل للمرة الثالثة عام 1944 لأسباب سياسية، فقرر إحالة نفسه بنفسه إلى المعاش قبل موعده بثلاث سنوات. (4)
ترجم من عام 1923 إلى 1942 - باعتباره موظفا - مجموعة من الكتب الحكومية الخاصة بوزارة الحربية، منها: مجموعة القوانين الحديثة، قانون البياد الحديث، القانون المالي، قوانين الطوبجية، الفنون العسكرية، رسالة خبير الأرز، رسالة خبير القطن.
من حيث إنتاج عباس حافظ الأدبي المؤلف، اتضح أنه: (5)
ألف عدة كتب في التاريخ والسياسة والاجتماع وعلم النفس، منها: نهضة مصر، بطل النهضة المصرية الكبرى سعد زغلول باشا، مصطفى النحاس أو الزعامة والزعيم، الشيوعية في الإسلام، علم النفس الاجتماعي، العقل الباطن وعلاقته بالأمراض النفسية.
من حيث إنتاج عباس حافظ الأدبي المترجم والمعرب، اتضح أنه: (6)
ترجم وعرب كتبا عديدة، منها: كنوز الملك سليمان، رواية الشهداء، قصة أسطورة الحيوانات الثائرة، المعبود الذي هوى: دراسات في الشيوعية، مذكرات بكوك، المملوك المفقود، ألوان من الحب.
من حيث إنتاج عباس حافظ المسرحي، اتضح أنه: (7)
ترجم ونشر عدة مسرحيات، منها: سيرانو دي برجراك لأدمون روستان، وضجة فارغة، والعبرة بالخواتيم لشكسبير. (8)
ترجم مجموعة من المسرحيات، يحتفظ المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية بأغلبها في صورتها المخطوطة، وهي: شاترتون أو شقاء الشاعر، تيمون، زواج بالحيلة، الاستعمار، بالإضافة إلى مخطوطة مسرحية الزوج الموسوس، المحفوظة في مكتبتي الخاصة؛ وهذه المسرحيات منشورة في هذا الكتاب. (9)
ترجم وألف مجموعة من المسرحيات، ما زالت مفقودة رغم تمثيلها في الفترة من بين عامي 1916-1925، ومنها: العذراء المفتونة، قسوة الشرائع، الشمس المشرقة، قابيل، زعيم الشعب، نبي الوطنية.
من حيث عمل عباس حافظ في مجال الصحافة، اتضح أنه: (10)
نشر المقالات السياسية والأدبية والقصص المترجمة في كثير من المجلات والجرائد منذ عام 1912، منها: مجلة البيان، مجلة التجارة، مجلة الهلال، مجلة اللطائف المصورة، جريدة الحال، جريدة المنبر، جريدة كوكب الشرق، جريدة صوت مصر، جريدة البلاغ، جريدة المصري.
من حيث عمل عباس حافظ في مجال النقد المسرحي، اتضح أنه: (11)
بدأ النقد المسرحي عام 1916 بجريدة المنبر، واتجه نقده نحو لغة ترجمة المسرحيات، وكشف السرقات الأدبية. (12)
كان أول رقيب مسرحي انتهج أسلوبا جديدا في الرقابة المسرحية - لم يكن معهودا من قبل، ويعتبر رائدا في انتهاجه - عندما منع تمثيل المسرحيات بسبب هبوط مستواها الفني والأدبي، رغم عدم اشتمالها على الموانع الرقابية المتعلقة بالدين أو بالأمن العام.
التوصيات
بناء على ما تكشف للدراسة من خلال تناول موضوع «عباس حافظ ... حياته وأدبه»، يمكن القول بأن رسم صورة متكاملة لحياة وأدب عباس حافظ، يحتاج إلى دراسات مساندة، تتمثل في الآتي: (1)
دراسة أسلوب ترجمة عباس حافظ بالنسبة للكتب الحكومية، مثل: مجموعة القوانين الحديثة، قانون البياد الحديث، القانون المالي، قوانين الطوبجية، الفنون العسكرية، رسالة خبير الأرز، رسالة خبير القطن؛ ومقارنتها بأسلوبه في ترجمة الكتب الأدبية. (2)
دراسة منهجه في الكتابة التاريخية والسياسية والاجتماعية، من خلال كتبه المؤلفة، ومنها: نهضة مصر، بطل النهضة المصرية الكبرى سعد زغلول باشا، مصطفى النحاس أو الزعامة والزعيم، الشيوعية في الإسلام، علم النفس الاجتماعي، العقل الباطن وعلاقته بالأمراض النفسية. (3)
البحث والتنقيب عن مسرحياته المؤلفة والمترجمة المفقودة، والتي مثلت منذ عام 1916، ومن ثم دراستها، وهي: العذراء المفتونة، قسوة الشرائع، الشمس المشرقة، قابيل، زعيم الشعب، نبي الوطنية. (4)
دراسة أسلوب عباس حافظ في ترجمة مسرحيتي «شاترتون أو شقاء الشاعر»، و«تيمون»، ومقارنتهما بأسلوب حسن نديم في ترجمته لمسرحية «شاترتون» عام 1961، وبأسلوب الدكتور عبد الواحد لؤلؤة في ترجمته لمسرحية «تيمون الأثيني» لشكسبير عام 1977، خصوصا أن عباس حافظ له السبق في ترجمتهما. (5)
تجميع كتابات عباس حافظ السياسية والأدبية والنقدية المنشورة في المجلات والجرائد منذ عام 1912، وبالأخص المنشورة في: مجلة البيان، مجلة التجارة، مجلة الهلال، مجلة اللطائف المصورة، جريدة الحال، جريدة المنبر، جريدة كوكب الشرق، جريدة صوت مصر، جريدة البلاغ، جريدة المصري.
الأستاذ الدكتور
سيد علي إسماعيل
كلية دار العلوم، جامعة المنيا
كلية الآداب والعلوم، جامعة قطر
المصادر والمراجع والدوريات
المصادر (1)
أدمون روستان، سيرانو دي برجراك، ترجمة عباس حافظ، سلسلة روائع المسرح العالمي، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1959. (2)
الفريد ديفيني، شاترتون، ترجمة حسن نديم، مراجعة عبد الحميد الدواخلي، تقديم الدكتور محمد مندور، سلسلة روائع المسرح العالمي، عدد 10، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، فبراير 1961. (3)
شكسبير، تيمون الأثيني، تحقيق وتقديم: ه. ج. أوليفر، ترجمة: د. عبد الواحد لؤلؤة، مراجعة: د. محمد إسماعيل الموافي، سلسلة من المسرح العالمي، عدد 95، وزارة الإعلام، الكويت، أغسطس 1977. (4)
شكسبير، مسرحية العبرة بالخواتيم، ترجمة عباس حافظ، مسرحيات شكسبير، المجلد الثالث عشر، الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، دار المعارف، 1983. (5)
شكسبير، مسرحية ضجة فارغة، ترجمة عباس حافظ، مسرحيات شكسبير، المجلد التاسع، الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، دار المعارف، 1968. (6)
عباس حافظ، مسرحية الاستعمار، 1952، مخطوطة. (7)
عباس حافظ، مسرحية الزوج الموسوس لموليير، 1916، مخطوطة. (8)
عباس حافظ، مسرحية تيمون، 1921، مخطوطة. (9)
عباس حافظ، مسرحية زواج بالحيلة لموليير، د. ت، مخطوطة. (10)
قلم الوزارات بدار المحفوظات العمومية بالقلعة، ملف باسم: عباس حافظ علي حافظ.
المراجع (1)
خير الدين الزركلي، الأعلام، المجلد الثالث، دار العلم للملايين، بيروت، ط9، 1990. (2)
رابح لطفي جمعة (جمع وتعليق)، حوار المفكرين: رسائل أعلام العصر إلى محمد لطفي جمعة، عالم الكتب، القاهرة، ط1، 2000. (3)
د. سيد علي إسماعيل، الرقابة والمسرح المرفوض، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997. (4)
د. سيد علي إسماعيل، مخطوطات مسرحيات محمد لطفي جمعة: الأعمال الكاملة، المجلس الأعلى للثقافة، وزارة الثقافة، 2001. (5)
د. سيد علي إسماعيل، مخطوطات مسرحيات محمد لطفي جمعة، الجزء الأول: المسرحيات المؤلفة، مطبعة أبو هلال بالمنيا، 1997. (6)
د. سيد علي إسماعيل، مسيرة المسرح في مصر 1900-1935، الجزء الأول: (فرق المسرح الغنائي)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003. (7)
مجموعة من الكتاب «المعبود الذي هوى: دراسات في الشيوعية»، ترجمة: عباس حافظ بك، دار النيل للطباعة، 1951. (8)
نبيل فرج، طه حسين ومعاصروه، دار الهلال، كتاب الهلال، عدد 521، مايو 1994. (9)
يوسف أسعد داغر، معجم المسرحيات العربية والمعربة، وزارة الثقافة والفنون، الدار الوطنية للتوزيع والإعلان، العراق، 1978.
الدوريات (1)
جريدة أبو الهول 28 / 6 / 1921. (2)
مجلة الاثنين والدنيا 31 / 10 / 1949. (3)
جريدة الأخبار 28 / 5 / 1921، 19 / 6 / 1921. (4)
جريدة الأفكار 26 / 3 / 1917، 1 / 4 / 1918. (5)
جريدة الأهرام 1 / 5 / 1923، 24 / 6 / 1959. (6)
جريدة البصير 14 / 12 / 1916. (7)
جريدة الحرية الإلكترونية 19 / 11 / 2006. (8)
جريدة السياسة 9 / 1 / 1925. (9)
جريدة صوت مصر 9 / 9 / 1930. (10)
جريدة كوكب الشرق 1-6 / 1 / 1925، 1 / 5 / 1930. (11)
جريدة مصر 14 / 10 / 1916. (12)
جريدة المقطم 9 / 5 / 1916. (13)
جريدة المنبر 14-31 / 3 / 1916، 18 / 3 / 1917. (14)
جريدة الوطن 15 / 5 / 1916.
بعيدا عن الأوراق
بعد أن أنهيت كتابة هذا الكتاب بصورة كاملة، وأثناء مرحلة المراجعة النهائية - قبل تسليمه للمطبعة - دار في خلدي سؤال يقول: هل تبقى أحد من أسرة عباس حافظ؟ وتخيلت الإجابة بنعم ... وسرحت في هذا الاحتمال! وحلمت بمقابلة الأسرة، وتخيلت نفسي بين أرفف مكتبته، وأنني أقرأ مذكراته وخطاباته ومخطوطاته؛ لأن من المؤكد أنه كان يحتفظ بمكتبة عامرة؛ وحاولت أن أحقق هذا الحلم بكل وسيلة ممكنة عن طريق سؤال بعض الأساتذة والمثقفين ممن لهم ولع بالأدباء وتراجمهم، أمثال الأستاذ أحمد حسين الطماوي والأستاذ نبيل فرج وغيرهما، دون جدوى.
وقبل أن أصاب بالإحباط فكرت في الاتصال بدليل التليفونات المصرية، والسؤال عن أي فرد يكون جده اسمه عباس حافظ! وبالفعل حدث هذا وظفرت برقم اسم جد صاحبه عباس حافظ، واتصلت به ... ولكن الرقم لا يستجيب! فالجرس يدق حتى يتوقف دون استجابة، وكررت المحاولة كل يوم لمدة أسبوعين دون جدوى، فيئست تماما، وقررت تسليم الكتاب بعد ثلاثة أيام، حسب موعد المطبعة. وأثناء تنظيم الأوراق وترتيبها سقطت قصاصة ورق، فالتقطتها ووجدتها رقم التليفون الذي لا يرد! وقبل أن أمزقها أدرت قرص التليفون لآخر مرة من باب التجربة، وكانت المفاجأة بأن سمعت صوتا يرد علي! وبعد مكالمة قصيرة جدا، اكتشفت أن هناك تشابها في الأسماء، فلم يكن صاحب الرقم حفيد عباس حافظ الأديب!
وهنا جاءتني فكرة أخرى، لماذا لم أسأل عن أحد يكون اسم والده أو جده أنور عباس حافظ، وهو الابن الوحيد لعباس حافظ! وسرت حول هذا الاحتمال، وسألت الدليل وكانت الإجابة مخيبة للآمال، فلا يوجد رقم تليفون اسم والد أو جد صاحبه أنور عباس حافظ. وقبل أن أشكر عاملة الدليل، وجدتها تقول: هناك تليفون باسم أنور عباس حافظ! قلت لها: مستحيل أن يكون أنور ابن عباس حافظ ما زال على قيد الحياة، ومن المؤكد أنه تشابه في الأسماء. فقالت: هذا كل ما لدي. فأخذت منها الرقم وشكرتها، وأدرت قرص التليفون على هذا الرقم، وأنا واثق كل الثقة بأنه رقم لا علاقة له بالموضوع؛ وبعد لحظات قصيرة من سماع الجرس في الطرف الآخر، سمعت صوت فتاة تحدثني، فقلت لها: هل هذا رقم أنور عباس حافظ. قالت: نعم. قلت: هل هو محام. قالت: نعم. قلت: هل والده عباس حافظ الأديب. قالت: نعم. فلم أتمالك نفسي من الفرحة!
وبدأت أسألها بعض الأسئلة البسيطة عن عباس حافظ، فقالت: أنا لا أعلم عنه الكثير؛ لأنه والد جدي أنور، ولكن ماما تستطيع إفادتك، وستتحدث معك الآن. وبالفعل تحدثت مع والدتها السيدة نبيلة أنور عباس حافظ حديثا قصيرا ومقتضبا، حيث أظهرت سعادتها بأن كتابا سيصدر عن جدها، يحمل شيئا عن حياته وأدبه؛ لأنها شغوفة لمعرفة هذا الجد الأديب بصورة أكثر مما تسمع عنه، وحاولت أن أعرف منها معلومات أكثر مما دونته في هذا الكتاب، فلم تستطع إفادتي وأشعرتني بأنني أعرف عن عباس حافظ أكثر مما تعرفه عنه عائلته! ولكنها أعطتني أملا جديدا، عندما قالت إن عمتها السيدة سناء، هي أكثر دراية بوالدها، وتستطيع إفادتي، وإنها ستدبر لقاء يجمعني بها.
تم اللقاء بيني وبين السيدة سناء عباس حافظ - أرملة المرحوم اللواء أحمد محمد السباعي، الشقيق الأصغر للمرحوم الأديب يوسف السباعي - يوم الاثنين 26 / 2 / 2007، بحضور ابنها الأستاذ يوسف السباعي، صاحب شركات دراسات الجدوى في مجال تصدير الغاز؛ وكان لقاء وديا مفعما بالذكريات الجميلة، وما خرجت به من هذا اللقاء، يعتبر توضيحا لبعض الأمور، وإضافة معلومات جديدة عن عباس حافظ، بالإضافة إلى بعض الصور النادرة، لم أشأ أن أضعها في موضعها المناسب في الصفحات السابقة التي تحدثت فيها عن حياته، خشية اختلاط المعلومات الشفهية بالمعلومات الوثائقية المستخرجة من الملفات الرسمية؛ لذلك فضلت وضعها تحت عنوان مستقل، وهو «بعيدا عن الأوراق». وإليك أيها القارئ ما خرجت به من هذا اللقاء.
ينحدر عباس حافظ من أصول تركية ترجع إلى الأمير كتخدا صاحب جامع الكيخيا بميدان الأوبرا - ولفظ كيخيا تحوير لاسم كتخدا - وكان والد عباس يعمل في المعية الخديوية أيام حكم الخديوي توفيق، وتزوج من إحدى وصيفات القصر الخديوي، وهي السيدة «يارد نور»، التي أنجبت عباسا وشقيقه حسين وشقيقته زينب هانم سلطانة. وقد أنجب عباس حافظ ولدين وأربع بنات: علي وأنور، وفريدة ومنيرة ونبيلة وسناء. ومات علي طفلا عام 1924، وماتت نبيلة في عمر السابعة عشرة عام 1940 تقريبا، ورثاها والدها بقصيدة أدمت قلب كل من قرأها.
وعلى الرغم من أن الوثائق الرسمية تفيد بأن عباس حافظ حصل على شهادة الثانوية، إلا أنه كاد أن يتم تعليمه العالي في مدرسة الحقوق العليا، حيث وصل في تعليمه إلى السنة الثالثة، ولكنه ترك الدراسة والتحق بالوظائف الحكومية. كذلك تؤكد ابنته بأن والدها عباس حافظ حصل على رتبة البيكوية رسميا من القصر، وإلى وقت قريب كانت تحتفظ بالبراءة الرسمية لهذه البيكوية.
وتروي السيدة سناء ذكرياتها عن يوم وفاة والدها، قائلة: بعد سنوات قليلة من قيام ثورة يوليو 1952، أصبح لكل مصلحة حكومية مشرف من الضباط، يتحكم فيها كما يشاء، وفي هذا الوقت كان عباس حافظ رئيس تحرير وكالة رويتر للأنباء، وكان مقرها بعمارة الإيموبيليا بباب اللوق، وبين ليلة وضحاها فوجئ عباس حافظ بتعيين أحد الضباط مشرفا على الوكالة، وبعد أيام قليلة احتل هذا المشرف مكتب رئيس التحرير عباس حافظ! وبعد فترة وجيزة تم تخفيض راتب عباس إلى النصف! ناهيك عن المضايقات والضغوط النفسية التي مورست على هذا الأديب! وفي أحد الأيام عاد عباس من عمله في الوكالة إلى منزله، مهموما مغموما حاملا بعض كتبه ومتعلقاته الشخصية، وبعد تناول الغذاء، نام في غرفته دقائق معدودة، كانت هي دقائق حياته المتبقية، حيث أسلم الروح لبارئها!
عباس حافظ طفلا في القرن التاسع عشر.
عباس حافظ عام 1949.
عباس حافظ في منزله يوم زواج ابنته سناء على الصاغ أحمد محمد السباعي يوم 30 / 4 / 1953.
عباس حافظ يوم فرح ابنته سناء بين مدير وكالة رويتر الأجنبي توماس، ومديرها المصري.
يوم فرح سناء عام 1953، من اليمين: الواقف العريس الصاغ أحمد محمد السباعي، أنور حبيب، عباس حافظ (من ظهره)، محمد أنور السادات، غير معروف (من ظهره)، محمد صلاح الدين باشا.
شهادة الإعفاء من الخدمة العسكرية بالبدل النقدي باسم عباس حافظ عام 1912.
مسرحية شاترتون أو شقاء الشاعر
تأليف: ألفريد دوفيني
ترجمة: عباس حافظ
عام 1916
ولد شاترتون الشاعر سنة 1752 بمدينة بريستول، وتوفي سنة 1770 بلندن.
1 ***
أشخاص الرواية وأسماؤهم
شاترتون
الأستاذ
كيتي بل
جون بل
لورد بكفورد محافظ المدينة
لورد تالبوت
لورد لودرذال
لورد كنسنجتون
سائس
صناع
راشيل طفلة في السادسة ابنة كيتي بل
طفل في الرابعة أخوها
ثلاثة لوردات فتيان
أشخاص الرواية وملابسهم
شاترتون:
شاب في نضارة العمر ... شاحب اللون ... مهزول البدن، كثير حركات الوجه ... ملتهب الذهن بالخواطر والأفكار، رشيق الطلعة ساذجها، يأخذه الحياء والجبن أمام كيتي بل ، ويتملكه الود والرفق أمام الأستاذ، ولكنه متكبر مزهو أمام الآخرين، متسخط على الناس متبرم بهم، رزين فياض في لهجته وكلامه.
ملابسه:
سترة وصدار وسراويل سود، حذاء قصير النعل ... ذو شعور سوداء مرسلة فوق جبينه دون نظام أو دهان.
كيتي بل:
كامرأة شابة في حدود الثانية والعشرين حزينة ... جميلة في مظهرها وأدبها، تقية متدينة حيية في كل حركاتها، ترتعش في حضرة زوجها، مرسلة عواطفها كلها في حب طفليها، تعود شفقتها على شاترتون بعد قليل حبا ... تحس ذلك فتأخذها الرعدة، والحذر الذي تحبسه في فؤادها من هذا الحب لا يلبث حتى يصير عظيما؛ كل من يشهدها يعتقد أن حزنا منتظرا وفزعا فجائيا كافيان لقتلها في الحال.
ملابسها:
قبعة من القطيفة السوداء، وشاح طويل من الحرير الرمادي ذو أشرطة سوداء، شعور طويلة مرسلة تهفو فوق ظهرها.
الأستاذ:
شيخ في الخمسين، قوي البدن صحيحه، نشيط في لهجته، حاد في قوله ... يبدو بحنان الوالد أمام الذين يحوطونه ... يرقبهم في صمت ... تأخذه الدعابة والسخرية والإشفاق لرؤية شرور المجتمع ونقائصه ... متسخط على الجمعية البشرية وإن كان رفيقا بكل فرد، لا يثور فيه سخطه إلا إذا ثار غضبه ... وهو صديق الأسرة المتنبه لأداء كل الواجبات، العامل على حفظ النظام والسلام في البيت.
ملابسه:
سترة وصدار وسراويل قصيرة لا تزيد عن الركبتين ... سمراء اللون ... وقبعة كبيرة مستديرة ذات حافة عريضة ... له فروع بيضاء مسترسلة.
جون بل:
رجل يناهز الخامسة والأربعين أو الخمسين، قوي البدن، محمر الوجه من أثر الشراب والجعة - البيرة - والأكل، يظهر في مشيته وحركاته أبهة الغني وكبرياءه ... ينظر نظرات السيد المتهم كل من حوله ... تبدو عليه دلائل البخل والغيرة، ولا يفتأ يظهر للناس أنه السيد في كل حركة يبدي وكل كلمة يقول.
ملابسه:
بدلة كبيرة بسيطة ذات لون أسود، شعور مفروقة لا دهان بها.
لورد بكفورد:
شيخ غني وجيه ... منتفخ الخدين انتفاخة العظمة والزهو ... يمشي بقدم ثابتة بطيئة ... يحترم الأغنياء، ويحتقر الفقراء.
ملابسه:
سترة فخمة ... صدار من الحرير ... عصا كبيرة ذات تفاحة من الذهب ... يلبس «ياقة» المحافظين .
لورد تالبوت:
شاب طائش وطيب القلب في آن واحد ... رقيق مفراح ... يميل إلى اللهو، نشيط الحركات رشيقها ... عدو كل عمل جدي ... ناعم البال لأنه يعيش بعيدا عن كل هم أو حزن أو جد.
ملابسه:
ثياب صيد حمراء اللون ... شعور معقوصة مدهونة ... يلبس قبعة صغيرة سوداء لامعة.
الفصل الأول (يرفع الستار عن طابق رحيب أنيق في دار جون، بل يفضي إلى مصنعه، وعلى يسار الجمهور قد وضعت موقدة دفء يستقر وقودها، وعلى اليمين باب حجرة كيتي بل، وفي أقصى المكان باب زجاجي كبير يلوح منه جزء من المصنع، وهناك سلم عالية تلتف وتدور حتى تنتهي إلى عدة أبواب صغيرة مظلمة يبدو من بينها باب حجرة الشاعر شاترتون ... هذا والأستاذ في ناحية يقرأ، وعلى اليمين قد جلست السيدة كيتي بل وعند قدميها وليدها يلعب فوق مقعد صغير، وطفلتها واقفة بجانبها.)
الموقف الأول (الأستاذ - كيتي بل - راشل)
كيتي بل (تخاطب طفلتها وقد تقدمت ناحية من شقيقها تريه كتابا في يدها) :
يلوح لي أني أسمع صوت السيد يتكلم ... فهلا سكتما أيها الطفلان ... (ثم تلتفت موجهة القول إلى الأستاذ)
ألا تظن أنه قد حدث أمر في المصنع؟ (يرفع الأستاذ كتفيه)
رباه! إن أباك قد أخذه الغضب. أجل، هذا أنا أسمع صوته يضج صارخا مغضبا ... آي راشل، لا تلعبي يا طفلتي، لا تلعبي (إذ ذاك يسقط الكتاب من يد الطفلة وتقف منصتة) .
راشل :
لعله سيهدأ الآن ... أليس كذلك يا سيدي؟ (فيشير إليها الأستاذ بالإيجاب ... ثم ينثني يسترسل في قراءته.)
كيتي بل (لطفلتها) :
ولكن من الذي أعطاك هذا الكتاب؟ هذه نسخة من الكتاب المقدس ... ألا قلت من الذي أعطاه لك يا راشل، إني أعتقد أنه ولا ريب الفتى الشاب الذي يسكن هنا منذ ثلاثة أشهر.
راشل :
هو ذاك يا أماه!
كيتي بل :
رباه! ... وكيف يا طفلتي، وأنا حذرتك أن تتقبلي من أحد شيئا؟ ... ولا سيما من هذا الفتى المكدود الفقير ... ولكن متى رأيته يا ابنتي؟ ... إني أعرف أنك قد ذهبت هذا الصباح أنت وشقيقك فعانقتماه في حجرته ... فلماذا تذهبان إلى غرفته يا طفلي؟ هذا أمر غير محمود! ... (تعانقهما)
إنه لا يبرح يكتب ولا ريب ... لأنه منذ ليلة الأمس والمصباح يضيء في حجرته.
راشل :
نعم ... وكان يبكي!
كيتي بل :
يبكي! ... كفى ولا تذكري شيئا من هذا أمام أحد من الناس ... وستذهبين إليه فتردين عليه كتابه إذا هو ناداك ... ولكن إياك وأن تزعجيه يا ابنتي ... ثم لا تقبلي بعد منه طريفة ولا هدية ... ألا ترين أنني لم أكلمه مرة واحدة وهو قد أقام هنا ثلاثة أشهر سويا ... ثم هذا أنت تتقبلين منه ... كتابا! كلا يا ابنتي ... ليس هذا محمودا منك ... اذهبي ... اذهبي فاعتنقي الأستاذ واهبطي بين ذراعيه ... اذهبي، فهو خير صديق أنعم الله به علينا (يجري الطفلان فيجلسان فوق ركبتي الأستاذ) .
الأستاذ :
أقبلا علي فاجلسا فوق ركبتي أنتما الاثنان ... ثم استمعا إلي جيدا ... اذهبا فقولا لوالدتكما الصغيرة الساذجة إنها تحمل بين جنبيها قلبا طاهرا مؤمنا، ولكنها بعد أشد طفولة منكما؛ لأنها لم تفكر رويدا فيما أمرتكما به ... إني أتوسل إليها أن تعلم أن رد الهدية إلى البائس الفقير الذي أهداها يكسر فؤاده ... ويجرح عزته ... ويذكره بؤسه ومحنته.
كيتي بل (وهي تثبت من مقعدها) :
آه ... أنه على حق ... نعم ... إنه على حق ... هاتي الكتاب يا راشل ... خليق بنا أن نحفظه يا طفلتي ... وأن نحفظه آخر الحياة ... إن أمك يا راشل قد أساءت وأخطأت ... إن صديقنا الأستاذ أبدا في جانب الحق (يبدو على الأستاذ التأثر فيقبل يدها) .
الأستاذ :
أي كيتي بل ... أي كيتي بل ... أيتها النفس النقية المعذبة ... لا تقولي هذا عني ... ليس في هذه الأرض شيء يقال له الذكاء الإنساني ... أنت ترين أنني إذا كنت الآن قد أصبت من ناحية، فقد أخطأت من الأخرى ... أكان خليقا بي أن أنبه الطفلين إلى هناة بدت من أمهما؟ أي كيتي بل ... ليس في الأرض أعطف من فؤادك الحار الفياض ... ولا أجمل من آهات نفسك الحنون المتواضعة (يسمعون صوتا عاليا يرتفع في غضب) .
كيتي بل (وهي ترتعد) :
وا رباه! لقد عاد إلى الغضب ... هذا صوت أبيهما يضج من الحنق ... (تضع يدها على قلبها)
وا قلباه! ... لا أستطيع أن أملك أنفاسي ... إن هذا الصوت يقطع نياط فؤادي ... ماذا تراهم أحدثوا؟ هذه غضبة ثانية كغضب ليلة الأمس (تسقط متراخية القوى في مقعد)
لا أستطيع أن أقف ... أليس غضبه كالعاصفة الهوجاء القاسية ... وكل العواصف الشديدة تؤثر على قلبي الخفاق الضعيف.
الأستاذ :
هذا نزاع حاد قائم بينه وبين عمال مصنعه ... إنهم يسألونه العفو عن رفيق لهم أنزل به غضبه ... إن هؤلاء المساكين خلقاء بالرثاء والرحمة ... ألا ادخلي حجرتك أنت والطفلان ... لا حاجة بكما إلى البقاء ... إن هذا الرجل يريد أن يودي بحياتك ... وما أشبهه بالطائر الذي يريد أن يهدم وكره بأظلافه (تخرج ويدها فوق قلبها، وهي معتمدة بيدها على رأس ابنها، وفي إثرها ابنتها) .
الموقف الثاني (الأستاذ - جون بل - طائفة من العمال)
الأستاذ (وهو واقف وحده يرتقب دخول جون بل) :
هذا هو قادم في حنقه وغضبه ... ذلك الرجل الغني المترف الناعم الحياة ... هذا هو الأناني المؤثر ذاته على أهل الأرض أجمعين ... هذا هو القوي والقانون في جانبه (يدخل جون بل وفي إثره عشرون عاملا من عماله وهم سكوت، ثم يصطفون عند الباب) .
جون بل (يخاطب العمال وهو في حنق) :
كلا ... كلا ... كلا ... ستشتغلون وأنوفكم راغمة ... نعم، ستشتغلون أكثر مما اشتغلتم ... وكفى ... (يقول أحدهم وهو في وسط رفقائه)
وستربح أقل مما ربحت ... وكفى.
جون بل :
لو أني تبينت هذا المتكلم إذن لطردته من القرية كلها كما طردت رفيقه من قبل.
الأستاذ :
مرحى يا جون بل ... مرحى ... أنت اليوم مليك يأمر وينهى في رعيته.
جون بل :
وهل تراني أحفل بك أيها الأستاذ ... فلو أني عرفت الذي تكلم من بينكم ... هذا الجاحد الخسيس البذيء الذي يجبه سيده في حضرته ... انظروا لي كيف ترونني بلغت هذه العيشة الراغدة الناضرة، هل انتهت إلي هذه الثروة التي أملكها دفعة واحدة ... إذا كنت سيد القرية الفرد وغنيها الأوحد ... أفلم يكن ذلك بجدي ودأبي ... ألست اليوم لكم قدوة للعمل والكد والاقتصاد؟ هل ظهرت لكم يوما مكسالا بليدا أو مسرفا متلافا؟ ... إذن فليعمل أحدكم مثل ما عملت فيصبح غنيا مثلي ... نعم، إن الآلات تنقص من أجوركم ولكنها تزيد في مكاسبي ... إني حزين لأمركم ولكن راض عن نفسي مغتبط ... ولو كانت لكم الآلات إذن لرضيت بأن تكون لكم الأرباح ... ولكني أنا الذي اشتريت هذه الآلات بالمال الذي اكتسبته بقوة ساعدي وعرق جبيني ... فاقتدوا إذن بي ... خذوا أنفسكم بالكد والاجتهاد واعملوا فوق كل شيء على الاقتصاد ... واحفظوا جيدا هذا المثل السائر الذي كان يتمثل به الآباء: «لتحتفظ بالبنسات تحتفظ بنفسها الشلنات»، أما الآن فلا تكلموني عن رفيقكم توبي فقد طردته ولن أرده ... انكفئوا إلى أعمالكم ... ولا تكثروا القول، فإن الذي يتكلم منكم سيكون نصيبه الطرد والحرمان ... سنحبس عنه في القرية الطعام والشراب والمبيت والمقام (يخرجون) .
الأستاذ :
لا فض فوك أيها الصديق ... لا فض فوك ... يا الله من هذه البلاغة المتدفقة الساحرة ... لا أظن أنني سمعت طرفا منها في مجالس البرلمان (يعود جون بل إلى اهتياجه ويمسح وجهه بمنديله) .
جون بل :
وأنت ... ألست تستخدم أستاذيتك لتكون ظلا ثقيلا على الناس؟ أين كنت؟ ... أنت تتكلم قليلا ... ولكن أما كان أخلق بك ألا تتكلم لا قليلا ولا كثيرا ... أنت تقذف بالكلمات في الحديث كما تقذف الخناجر والسكاكين.
الأستاذ :
ذلك لأنها كلمات الحق والحكمة يا سيد بل ... فإذا كان السامعون حمقى طائشين أثارت لديهم السخط والغضب ... ولكني لست على قولها بالنادم الآسف ... إن تأثير كلمة الحق لا يلبث قليلا حتى يزول.
جون بل (بتلطف) :
إني لست على رأيك هذا ... أنت تعلم أني أحب أن أطارحك الجدل والحديث في أفانين السياسة وشئونها ... ولكنك تريد دائما أن تقيس كل الناس بنفسك ... وأنت في ذلك على خطأ ... إن طائفتكم معشر الأساتذة ليست إلا جمعا شاذا عن بقية الناس ... وأنت في الأساتذة أشدهم شذوذا وخروجا ... أنت قسمت كل ما كان في حوزتك بين ذوي قرابتك وأهل عشيرتك ... وأصبحت لا تملك إلا رزقا من العيش خشنا حقيرا، ورحت تقطع الحياة جلوسا وخمولا وتفكيرا ... وإني لأود لك أن تكون راضيا بذلك مسرورا ... ولكني لا أود منك أن تكون في بيتي فتغري خدمتي على رءوس الأشهاد بالبذاء والعصيان.
الأستاذ :
يا سبحان الله! وماذا يضيرك منهم البذاء والعصيان ... هل يستطيع رعاء الأغنام أن يمنعك من جزاز أصوافها وأوبارها ... أو يحول بينك وبين نحرها وأكلها؟ أفي هؤلاء الناس من يستغني عن شراء ألبان غنمك؟ وهل في عشائر القرية كلها عشيرة لا ترسل بنيها وغلمانها وبناتها لكي يكدوا ويذبلوا في عملك ومصنعك ... أي بيت في القرية لا تملكه؟ ... وأي مسكن لا تطلب فيه الأجر الفاحش المرهق؟ ... أليست دقائق أعمارهم جميعا تحتسب لك وتعد في حوزتك؟ ... وأي قطرة من عرق جباهم لا تسيل لتنمية ثروتك؟ ... إن أرض قرية نورتون جميعها ببيوتها وعشائرها أصبحت في قبضة يدك، كما كانت الكرة الأرضية يوما في أيدي شارلمان العظيم ... وقد صرت أنت السيد المطلق في الإقطاعية المترامية الأطراف.
جون بل :
هو ذاك ... ولكنه حق وعدل ... إن الأرض لي لأنني أنا الذي اشتريتها ... وكذلك البيوت ... لأنني أنا الذي ابتنيتها ... والسكان ... لأنني أنا الذي أجرتهم إياها وأسكنتهم ... وعملهم ... لأنني أنا الذي أدفع أجورهم ... أنا على الحق ... لأنني مع القانون.
الأستاذ :
وقانونك ... هل هو مع الله؟
جون بل :
لو لم تكن أستاذا لكان جديرا بك أن تشنق لقولك هذا.
الأستاذ :
إني لأوثر أن أشنق على أن أقول غير ما قلت ... لأنني أحمل لك حبا حقيقيا خالصا لا شائبة فيه.
جون بل :
ولو لم تكن كذلك يا أستاذ صديقي منذ عشرين حولا أو تزيد ... وأنقذت طفلا لي من مخالب الموت ... إذن لما وددت أن أراك أبد الدهر.
الأستاذ :
وكان ذلك شرا عليك ... إذن لما استطعت أن أنقذك أنت الآخر من نفسك ... هذا أنت قد طمست على بصيرتك الطماعة في المال واستأسر بلبك الجشع ... إني أريد ألا تطرد ذلك العامل المسكين الذي غضبت عليه ... إني لا ألتمس ذلك منك ... لأنني لا ألتمس من أحد شيئا ... ولكني أنصح لك به وأشير.
جون بل :
لقد نفذ السهم ... ماذا! ألست رب أسرة مثلهم؟ ... ألا تراني أدع امرأتي تعمل في البيت ... نعم أفهم، لا يرونها تشتغل، ولكنها مع ذلك تكد في الدار وتتعب ... إنني أريد أن يكون بيتي هذا مغنى جميلا بديعا ينزل به النبلاء والأشراف وهم راجعون من ندوات البرلمان ومسارح الصيد ... وسأنتفع من هذه العلاقات يوما من الأيام ... نعم إن توبي كان عاملا دءوبا مجتهدا، ولكنه كان نزقا شقيا ... إن الرجل العاقل الحازم يأبى إلا أن يكون كل شيء حوله نافعا ... يجب أن يكون كل شيء في خدمته ... الناس والجماد ... إن الأرض خصيبة مثمرة، والمال مثلها خصيب مثمر ... والزمن دائما في خدمة المال. إن توبي أبى إلا أن يكون شرا على زوجه وأطفاله ... وهذه نكبة له عظيمة ... ولكني لست عليها مسئولا.
الأستاذ :
لقد كسر إحدى ذراعيه في آلة من آلاتك.
جون بل :
نعم، ولكنه كسر الآلة أيضا!
الأستاذ :
أجل ... وأنت ولا ريب تحزن على أداة الصلب والحديد ... ولا تأسف على أداة الدم واللحم ... إن فؤادك قد قد من الحديد الذي صنعت منه آلاتك ... وسيصبح المجتمع كله أخشن فؤادا منك ... سيكون إلهه الدينار، ومليكه يهوديا مرابيا ... ولكن ليست هذه جريمتك ... أنت تعمل كما رأيت الناس يعملون ... والآن إذا لم تردني أن أتكلم ... فدعني إذن اقرأ (يعود إلى قراءته ... يتقدم جون بل إلى باب حجرة امرأته، فيفتحه بشدة) .
جون بل :
مسز بل! تعالي هنا.
الموقف الثالث (الأستاذ - جون بل - كيتي بل)
كيتي بل (تتقدم كيتي بل مرتجفة تقود طفليها بيديها وهما يختفيان في ثوبها خوفا من أبيهما) :
ها أنا!
جون بل :
هاتي حساب الأمس من فضلك ... وهذا الشاب الذي يسكن في الغرفة العليا ... ما اسمه؟ ... توماس فقط؟ ... أرجو أن يخلي الحجرة في أقرب وقت.
كيتي بل (تذهب إلى المائدة فتعود إليه بدفتر كبير) :
إنه كتب توماس فقط في عقد الإيجار ... هذه هي حسابات اليوم مع حساب الأيام الماضية.
جون بل (ينكب على الدفتر يتفحصه) :
كاترين! ... لست دقيقة في الحساب (يمهل ثم ينظر إليها في وجهها وعليه علائم الشك والإبهام)
إنه يقيم الليل مسهدا ساهرا ... توماس هذا! ... إن هذا لغريب ... ولشد ما تظهر عليه دلائل الحزن والبؤس! (يعود إلى النظر في الدفتر يدير عينه في أسطره)
لم تدققي في الحساب.
كيتي بل :
رباه! ... ولم هذا القول؟
جون بل :
أولا تتبينين ذلك يا مسز بل؟
كيتي بل :
أذلك لأن الأرقام غير واضحة؟
جون بل :
كلا ... من الذي ينكر عليك حسن خطك ... ألا تستطيعين أن تجيبي بالحق؟
كيتي بل :
ولكن ما الذي تجده في هذا الدفتر ... وما الذي يغضبك منه؟
جون بل :
إن الذي يغضبني هو الذي لا أجده ... إن ضياعه من قائمة الحساب يدهشني كل الدهشة.
كيتي بل (باضطراب) :
إني لا أفهم ما تريد؟
جون بل :
إن في الحساب نقصا يربو على خمسة جنيهات ... وقد تحققت ذلك من النظرة الأولى.
كيتي بل :
هل تستطيع أن تشرح لي كيف ذلك؟
جون بل (وهو يمسك إحدى ذراعيها) :
اذهبي إلى حجرتك ... ثم إياك أن تعودي بعد اليوم إلى ذهولك ... وما بال الطفلين بليدان لا يشتغلان ... إني لا أحب هذا ... إن بيتي قد أصبح مهملا لا عناية فيه ... وما بال راشل تشتمل في ثوب عاري الصدر ... أنا لا أحتمل هذا ... (تجري راشل فترمي بنفسها بين ذراعي الأستاذ ... ويتقدم جون بل في إثر كيتي بل وقد دخلت الحجرة أمامه)
أعيدي الجمع مرة أخرى ... ودققي في عملية الضرب (يدخل الحجرة في إثر زوجته) .
الموقف الرابع (الأستاذ - راشل)
راشل :
إني خائفة.
الأستاذ :
وستظلين كذلك آخر الدهر يا طفلة ... اليوم تخافين أباك ... وغدا تخافين زوجك ... وكذلك ستعيشين حتى آخر الحياة يا ابنتي (هنا يرى شاترتون خارجا من حجرته وهابطا السلم على مهل ... ثم يقف يتأمل الشيخ والطفلة) .
الأستاذ (يسترسل في حديثه مع الطفلة) :
إذن فالعبي أيتها العزيزة الحسناء وارتعي ... حتى تصبحي امرأة ... وتناسي كل شيء يا طفلة ... العبي دائما ولا تفكري ... تعالي فأجلسي فوق ركبتي ... هنا ... أنت تبكين! ... لك الله! وتخفين رأسك الجميل بين ذراعي! ... انظري ... انظري ... هذا هو صديقك يهبط إلينا.
الموقف الخامس (الأستاذ - راشل - شاترتون) (تجري راشل نحو شاترتون ... فيعانقها ويمد يده مصافحا الأستاذ.)
شاترتون :
ألا عم صباحا أيها الصديق.
الأستاذ :
وا حزناه لك! ... إن روحك تريد أن تلتهم بدنك ... إن يديك ملتهبتان ... وجهك شاحب مهزول ... كم تظنك تعيش؟
شاترتون :
أقل ما يمكن من الزمن ... ومسز بل أليست هنا؟
الأستاذ :
أوليست حياتك نافعة لأحد؟
شاترتون :
على العكس ... بل هي شر على الناس أجمعين!
الأستاذ :
وهل تعتقد ما تقول؟
شاترتون :
كاعتقادك أنت في مسيحيتك (يضحك ضحكات مريرة) .
الأستاذ :
وكم بلغت اليوم من العمر؟ ... إن لك قلبا طاهرا طفلا كقلب راشل الحسناء ... ولكن لك روح الشيوخ البعيدي العهد بالحياة.
شاترتون :
غدا أتم الربيع الثامن عشر.
الأستاذ :
لك الله أيها الطفل المسكين!
شاترتون :
أما مسكين فنعم ... وأما طفل فلا ... إني عشت ألف عام.
الأستاذ :
ولو عشتها لما استطعت أن تدرك نصف ما في الناس من شر وفساد ... ولكن العلم في جوف البؤس.
شاترتون :
إذن فأنا اليوم أعلم العلماء ... ولكني كنت أظن أن مسز بل كانت هنا ... لقد كتبت الساعة خطابا كلفني نصيبا كبيرا.
الأستاذ :
إني أراك متعبا ... ولقد حذرتك من إنهاك قوتك ... إن الناس ينقسمون طائفتين ... شهداء وجلادين ... وأنت ولا ريب ستكون شهيد الجميع ... كوالدة هذه الطفلة.
شاترتون (برعشة شديدة) :
إن الشهداء أبوا إلا أن يكونوا شهداء، وقد كان خلاصهم في أيديهم.
الأستاذ :
وماذا تعني بهذا؟
شاترتون (يعانق راشل ثم يقول بصوت عذب رقيق) :
أتريد أن نخيف الطفلة ... وعلى مسمع من أذني أمها؟
الأستاذ :
وأين صوتك العذب الرقيق من ذلك الصوت الخشن الذي يصم أذني أمها؟! كلا ... لن تستطيع أن تستمع حديثنا ... ألا تسمع؟ ... هذا صوت زوجها يناديها.
شاترتون (وهو يرتكن على مسند المقعد الذي يجلس فوقه الأستاذ) :
أنت تؤنبني كثيرا وتلومني ... ولكن نبئني فقط لماذا لا يتابع الإنسان نفسه إلى أبعد حدودها ما دام سيموت آخر الأمر ... إني قد أجمعت الرأي على ألا أخفي جزءا من نفسي حتى أموت ... وأن أبقى على حقيقتي حتى القبر ... وأن أستمع إلى صوت فؤادي إذا فاض ... وأن أصدع بأمره إذا أمر ... وأن أسير على القانون الذي وضعته أنا لنفسي ... أخبرني ماذا يجدي الإنسان أن يتظاهر بالقسوة وهو في صميم فؤاده رفيق رحيم ... إنكم لتشهدون مني ابتسامة الوداعة تبدو من خلال عبوستي الكاذبة؛ لأنني لا أستطيع أن أجد حجابا يخفي هذه الابتسامة ... إن الناس يفرون مني في كل مكان ويطرحونني جانبا ... ولكني لا أثور للدفاع عن نفسي ... وما أشد حزني إذ أرى كثيرين منهم يجدون الفرح والبهجة في انتصارهم علي بحيلهم السافلة ... وأمازيحهم القاسية ... إني لأشهدهم وهم يصنعون لي الحبائل والأشراك، فلا يخطر لي أن أهم بقطع حبالة واحدة منها ... لأني قد أصبحت لا أحفل بحياتي ... ولكني مع هذا أثأر لنفسي من هذا الاحتقار الذي أراه منهم ... لأنه يرفعني في نظري ... ويلوح لي أن العناية الإلهية لا تريد أن أهزم في الحياة كل الهزيمة ... وإلا أفليس لها مقصد من خلقي؟ ... أليس لي الحق في معارضتها ومقاومتها حتى تصلح الكون؟ ... هل لي أن أنكر الله؟
الأستاذ :
إن التفكير الدائم سيقتل فيك حب العمل.
شاترتون :
آه ... وماذا يهم! إذا كانت ساعة واحدة في التفكير قد تثمر أكثر من عشرين يوما في حياة الآخرين ... من الذي يستطيع أن يحكم بيني وبينهم؟ أتريد أن نعمل فقط بجسومنا ... أليس عمل الذهن جديرا بشيء من الرحمة والتقدير ... يا سبحان الله! أتريدون أن أقول للإلهام والتفكير ... «لا تأت ... لأنك لست بذي فائدة»؟!
الأستاذ :
وقد كتب التفكير خاتمتك المخيفة في وجهك ... أنا لا ألومك يا بني ... ولكني أبكي لك.
شاترتون (يجلس) :
أيها الأستاذ الطيب القلب ... هل تراكم معاشر المتدينين تحسون الشفقة والرحمة للذين يتعذبون من حرارة التفكير؟ إني أراك تحنو علي ... وهذا ما يتعزى به فؤادي ... (إذ ذلك تأتي راشل فتجلس فوق ركبة شاترتون)
والحق أقول ... لقد سعدت بالحياة هذه الأشهر الثلاثة التي أقمتها هنا ... لأني اعتزلت الناس وهجرتهم، وهذا أنا أجد أطفالا جميلة تجلس فوق ركبتي.
الأستاذ :
يا صديقي ... إني أحبك لرزانتك وجدك ... أحبك لأن العالم بأسره يبغضك ... إن الإنسان المفكر يعيش عالة على العاديين الذين يملئون رحاب الأرض ... إن الشعر والكتابة والتفكير قد أصبحت في هذا العصر مرضا غير جدير بالرحمة والرثاء، أنت لا تعرف من هم الذين يكرهونك ويجدون عليك ... ولكني أعرفهم.
شاترتون (بحرارة) :
ولكن ألست أستحق منهم الحب والاحترام ... أنا الذي أعمل على خدمتهم الليل والنهار ... أنا الذي أنبش كتب الأولين لكي أستخرج لهم أزاهير من الشعر الجديد ... أنا الذي أغيب في جوف البحار والأنهار بحثا عن تلك الدرة المتألقة ... (تتدلى راشل عن ركبة شاترتون وتذهب فتجلس فوق مقعد صغير عند قدمي الأستاذ ... وشاترتون يسترسل)
آه ... لو كنت تعلم قيمة مجهوداتي ... لقد جعلت غرفتي معبدا ووقفت حياتي للتأمل والتفكير ... وأطلقت روحي بعيدا عن هذا العصر الذي نعيش فيه ... لأنه عصر مادي مخيف ... درجت ألتمس شعر العصور الماضية ... ثم نظمت لهم شعرا طريفا ولم أقل لهم أنه قد خرج من قلمي ... وإلا لاستهانوا به وحقروه ... وتضاحكوا من أمره ... ولشد ما أكبروه وصفقوا له معتقدين أنه شعر شاعر قديم أسميته الشاعر رولي من أهل العصر القديم ... وهو لا اسم له في الحقيقة ولا وجود.
الأستاذ :
أجل ... وكذلك هم يأبون إلا أن يحبوا الموتى ... ويميتوا الأحياء.
شاترتون :
ومع ذلك فقد عرف الناس أن الكتاب بقلمي ... ولن يستطيعوا أن يبيدوه بل سيدعونه يعيش ... ولكنهم لم يعطوني في مقابله إلا قليلا من الضوضاء ... وهي لا تغني عن الجوع شيئا ... وما أنا بمستطيع أن أحترف بشيء غير الكتابة ... لقد حاولت كثيرا أن أنهزم لهم وأقذف الشعر والكتابة جانبا ... ولكني لم أستطع أن أنجح ... لقد أغروني على أن أجد لي عملا ماديا فحاولته ... ولكني لم أستطع أن أصبر عليه ... فهل يريد الناس أن يعيبوا على الله أن خلقني شاعرا؟ هل تسمي هذا مني قوة مخيفة أم ضعفا شائنا ... إني لا أعرف أيهما ... إني لا أستطيع أن أقاوم مد روحي الصخاب الفياض الذي يطغى ويطفو على الرغم مني ... لقد عالجت الأعمال الهادئة كالصحافة والحساب وأمثالهما، فلم ألبث حتى طرحتها ... إن روحي لا تستطيع أن تطمئن للأرقام والقوائم والجداول والحسابات ... وا أسفاه يا صديقي! ... وا أسفاه! ... إني حزين! ... إن بدني متعب منهوك ... (ينهض من مجلسه بقليل من الانفعال والاهتياج)
ومع ذلك فلو كانت لي أكبر قوة في الأرض لظل يقوم بيني وبين العمل البدني ذلك العدد اللدود الذي خلق معي ... هذه الجنية التي درجت معي منذ المهد ... وهي نزعة الشعر والتفكير ... إنها تتبعني في كل مكان، إنها تلازمني ... إنها تحول بيني وبين كل شيء ... إنها تسعد حياتي وتشقيها معا ... إنها تنقذني ... ثم هي تميتني!
الأستاذ :
وماذا أنت صانع بعد هذا؟
شاترتون :
لا أدري! ... أكتب! ... ولماذا أكتب؟ ... لا أدري ... لأنه يجب علي أن أكتب (يسقط في مقعده ولا ينتبه بعد ذلك إلى كلام الأستاذ، وإنما يتأمل راشل ويناديها إلى جانبه) .
الأستاذ :
إن العلة عضال قاسية!
شاترتون (يعود إلى الكلام) :
علتي؟!
الأستاذ :
كلا ... بل علة الإنسانية ... إنك لنبل فؤادك ترثي للذين يصيحون بك: «كن شيئا آخر غير ما أنت عليه!» ولكني أحتقرهم وألعنهم ... لأنهم يريدون أن يقولوا: «عد إلى الكوكب الذي منه جئت ... ليس لك مكان عندنا!» (يستمر شاترتون في مداعبة الطفلة ويهمس لها في أذنيها بينما الأستاذ يتكلم)
وأنت أين الكتاب المقدس؟ ... ثم أين أمك؟ (وهو ينهض من مجلسه)
ألا تريد أن نخرج سويا للرياضة؟
شاترتون (إلى راشل) :
ماذا صنعت بالكتاب المقدس يا آنسة؟
الأستاذ :
ألا تسمع صوت أبيها وهو يصرخ ... اسمع!
جون بل (وهو داخل الحجرة) :
كلا ... لا أريده في بيتي ... فهو لا مرتزق له ... كلا يا سيدتي ... كلا.
الأستاذ (يخاطب شاترتون وهو يأخذ قبعته وعصاه مسرعا) :
إن عينيك ملتهبتان ويجب أن تشم الهواء ... تعال ... إن نسائم الصبح تزيل عنك أثر ليلتك.
شاترتون (وهو ينظر إلى الحجرة يرتقب مطلع كيتي بل) :
حقا ... إن هذه المرأة الشابة منكودة معذبة!
الأستاذ :
هذا لا يهم أحدا من الناس ... إني لا أريد أن تكون موجودا هنا عند خروجها من الحجرة ... إن هناك أمورا لا يروقك أن تراها ... هيا بنا ... هيا بنا!
شاترتون :
يا الله! ... إنها تبكي ... لك الحق أيها الأستاذ ... إني لا أستطيع أن أشهد منظرا كهذا ... هلم بنا!
الموقف السادس (تدخل كيتي بل يتبعها زوجها.)
كيتي بل (تخاطب راشل وتأخذها من يدها إلى باب الحجرة لكي تدخل) :
اذهبي يا ابنتي فاجلسي مع أخيك ودعينا وحدنا ... (إلى زوجها)
إني أتوسل إليك أن لا تكرهني على أن أقول لك أين ذهبت الجنيهات التي نقصت من الحساب ... ستة جنيهات! ... هل هي تعد شيئا مذكورا في ثروتك؟ ألا ترى يا سيدي أنني كنت أستطيع أن أخفيها عنك بتغيير الحساب ... ولكني لا أستطيع أن أركن إلى الكذب ... ولو كان في قول الكذب نجاة طفلي العزيزين من الموت ... ولكني فضلت أن أتوسل إليك أن تدعني أعتصم بالصمت؛ لأنني لا أستطيع أن أبوح الآن بالحق أو ألجأ إلى الكذب ... وإن كان لا ضير علي منه.
جون بل :
إنك لم تظهري بهذا المظهر يوما من الأيام منذ وضع الكاهن يدك في يدي!
كيتي بل :
ومن هذا تعلم أن الباعث عليه هو الواجب.
جون بل :
أو الذنب يا سيدتي.
كيتي بل (بغضب) :
ألا تصدقني؟
جون بل :
ربما!
كيتي بل :
هلا عاملتني بالرحمة والحنان ... أنت تريد أن تقتلني بهذا الكلام.
جون بل :
وي! أنت أقوى صحة مما تظنين.
كيتي بل :
وا أسفاه! لا يغرنك هذا ... إني أستحلفك بحق طفلينا المسكينين.
جون بل :
حيث أرى سرا أرى جرما!
كيتي بل :
فإذا لم تجد إلا حسنة؟ ... ألا تستشعر الخجل والندم؟
جون بل :
وإذا كان حسنة ... فلماذا تخفى؟
كيتي بل :
لماذا؟ ... يا جون بل؟ لأنك تحمل بين جنبيك قلبا صلبا قاسيا ... إنك لا تفتأ تمنعني أن أعمل كما أشاء ... ومع ذلك ... إن الذي يعطي الفقير إنما يقرض الله.
جون بل :
كان خيرا لك أن تقرضيه بفوائد مقابل شيء من الرهن!
كيتي بل :
يغفر الله لك!
جون بل (وهو يتقدم إلى الحجرة بخطى واسعة) :
أنت أصبحت تقرئين كثيرا في هذه الأيام ... أنا لا أحب هذا الجنون في المرأة ... أتريدين أن تكوني فقيهة؟
كيتي بل :
وا رحمتاه يا صديقي! ... هل بلغت بك القسوة إلى السخرية مني ... وا حزناه! ... لست إلا امرأة ساذجة ضعيفة ... إني لا أعرف في العالم إلا فرائضي الدينية.
جون بل :
إن معرفتها فقط دون تأديتها إثم واستهتار.
كيتي بل :
هبني بضعة أسابيع أعتصم فيها بالصمت، فإذا مضت فإن أول كلمة تخرج من فمي ستكون الاستغفار عن سكوتي عن الاعتراف إلى ذاك اليوم ... وبعد ذلك أقص عليك جميع الذي فعلت.
جون بل :
وأرجو أن لا تكتمي منه شيئا.
كيتي بل :
الله يعلم! ... ليس في حياتي لحظة واحدة أخجل من ذكراها.
جون بل :
ومع ذلك فأنت لم تكتميني شيئا حتى اليوم.
كيتي بل :
قد يعلمنا الخوف قول الكذب في بعض الأحيان.
جون بل :
إذن فأنت تعرفين اختراع الأكاذيب؟
كيتي بل :
لو كنت أعرفه لما توسلت إليك ألا تسألني ... إنك قاض بعيد عن الرحمة والرفق.
جون بل :
الرحمة والرفق! ... وأي حاجة لي بهما؟ ... ستقدمين لي حسابا عن المبلغ المفقود.
كيتي بل :
إذن فأمهلني إلى الغد.
جون بل :
ليكن ذلك ... لن أتكلم حتى الغد.
كيتي بل (تقبل يده) :
واها لك! ... أنت طيب القلب ... فكن كذلك دائما.
جون بل :
هذا حسن ... هذا حسن ... ولكن فكري في الغد (يخرج) .
كيتي بل (وحدها) :
لماذا وخزني ضميري على الاحتفاظ بالكتاب الذي أهداه إلى راشل عندما لمست يد زوجي ... إن الضمير لا يخطئ! (تفكر هنيهة وهي صامتة)
إذن فلأرد الكتاب إليه! (تخرج وهي تمشي بخطى متمهلة بينما الستار يسدل.)
الفصل الثاني
المنظر السابق بعينه.
الموقف الأول (يدخل شاترتون مسرعا كأنما يريد أن يهرب من إنسان ما.)
شاترتون :
ها نحن قد وصلنا!
الأستاذ :
أيها الصديق ... هل تراك جننت؟
شاترتون :
كلا ... إني أعرف جيدا ماذا أفعل.
الأستاذ :
ولكن لماذا تجري هكذا مسرعا هاربا؟
شاترتون (باضطراب) :
أتظن أنه رآني؟
الأستاذ :
إنه لم يثن عنان جواده ... ولم يلتفت ... وكان سائساه يمشيان في إثر الجواد ... ولكن لماذا تريد أن تتجنب هذا الفتى المتألق الجميل؟
شاترتون :
هل أنت واثق من أنه لم يرني؟
الأستاذ :
إن لم يكن القسم أمرا نكرا ... إذن لأقسمت لك.
شاترتون :
الآن أطمئن ... إنه من أصدقائي ... إنه اللورد تالبوت.
الأستاذ :
وماذا يخيفك منه ... إن الصديق لا يخيف.
شاترتون (وهو يمشي بخطى واسعة ، وقد عادت إليه نزعة المجون) :
لقد كان الشر كله لو رآني ... إذن لأكتشف مكمني ... وبدد سلامي ... وعرف اسمي.
الأستاذ :
يا للشقاء!
شاترتون :
وهل تعرف اسمي الحقيقي حتى تفهم ذلك؟
الأستاذ :
إن هناك خطرا مخيفا يتهددك ... إن لك مظهرا مزعجا موحشا ... وأخشى أن يحسبوك من الأشرار المجرمين.
شاترتون :
رباه! ... لماذا خرجت معك؟ ... إنه رآني ولا ريب.
الأستاذ :
لقد رأيته كثيرا ينحدر إلى هذا البيت مع رفقته وهم راجعون من الصيد.
شاترتون :
هو؟
الأستاذ :
نعم هو ... مع جمع من أصدقائه اللوردات الفتيان.
شاترتون :
إذن فقد قدر علي أن لا أجد مكمنا في الأرض ... الأصدقاء دائما الأصدقاء.
الأستاذ :
هل تكره الأصدقاء؟
شاترتون (بمجون) :
لم تمش يوما أبطئ من مشيك اليوم!
الأستاذ :
أتريد أن تثير علي رعايتك ... يصنع الله لك يا صديقي المسكين ... إن الطبيعة لم تعد تفتنك بمظاهر جلالها وروعتها ... إن الطبيعة مائتة في ناظريك.
شاترتون :
هل تعتقد أن مسز بل متدينة ... يلوح لي أني رأيتها تحمل الكتاب المقدس في يدها.
الأستاذ (ببرود) :
لم أتحقق من ذلك ... ولكني أعهدها امرأة تقدس فرائضها وتخاف ربها ... ولكني لم أر كتابا في يدها ... (لنفسه من ناحية)
لماذا يميل بالحديث إلى هذه الناحية ... في أي شيء تراه يفكر؟ ... أرجو أن لا يسترسل في هذا القول. (يعود إلى مخاطبته)
ثم هي امرأة هادئة العواطف باردتها، لا تحب إلا طفليها ... ولا سيما إذا مرضا ... إني أعرفها منذ مولدها.
شاترتون :
إني لا أشك في أن لقائي باللورد تالبوت سيحدث لي مصابا عظيما؟
الأستاذ :
وكيف ذلك؟
شاترتون :
لا أعلم ولكن سترى ... وإذا أحبت هذه المرأة الشابة يوما، فخير لها أن تنتحر من أن تطاوع صوت فؤادها ... أليس كذلك؟
الأستاذ :
ألا يخطر في ذهنك إلا الحزن والمصاب والألم؟!
شاترتون :
إني أحس حولي شرا متوقعا محتما ... ولكني قد اعتدت ذلك فلم أعد أقاوم أو أغالب ... إن عدوي لا يدعني يوما واحدا ... إنه يتابعني في كل مكان أعتصم بنجوته.
الأستاذ :
أي عدو تعني؟
شاترتون :
سمه ما شئت ... سمه الأقدار ... أو الحظ ... أو أي اسم تحب ... لأني لا أعرف.
الأستاذ :
أنت تريد أن تنحرف عن الدين؟
شاترتون (يذهب إليه فيأخذ يده في يده) :
أنت تخشى أن أحدث شرا في هذا البيت ... لا تخف! إني وديع كالأطفال ... أيها الأستاذ ... ألم تر يوما إنسانا موبوءا أو مجذوبا؟ ... ألم تر في نفسك إذ ذاك الرغبة في أن تبعده عن مساكن الأصحاء؟ ... إذن فأبعدني! ... أطردني! ... أو فدعني مقصيا وحيدا ... بل إني سأبتعد بنفسي مخافة أن يصاب إنسان بعدواي. (أصوات عالية وطلقات نارية إعلانا بابتداء الصيد)
صه! انظر كيف يعكرون بضوضائهم هذا السكون السائد الجميل!
الموقف الثاني (شاترتون - الأستاذ - جون بل - كيتي بل)
جون بل (لزوجته) :
لقد أسأت يا كيتي إذ لم تخبريني إنه شاب كبير القدر (يدخل الخادم يحمل الشاي) .
كيتي بل :
وهل هو كذلك؟ حقا إنني لم أكن أعرف.
جون بل :
وذو مكانة سامية ... وقد أنبأني اللورد تالبوت أنه صديقه ... وإنه فتى مشهور لا يريد أن يكون معروفا.
كيتي بل :
وا حزناه! ... أوليس هو إذن بائسا منكودا ... ولكني لا أستطيع أن أكلمه ... إني ذاهبة.
جون بل :
كلا ... لا تذهبي ... أدعيه لتناول الشاي هو والأستاذ معنا ... إن ذلك سيسر اللورد تالبوت (يذهب فيجلس على اليمين قريبا من وابور الشاي) .
الأستاذ (يخاطب شاترتون وهو متحفز للذهاب إلى حجرته) :
كلا ... كلا ... لا تذهب إنهما يتكلمان عنك.
كيتي بل :
يا صديقي ... هل تتفضل علينا فتسأله أن يتناول طعام الأفطار مع زوجي وطفلي ...
الأستاذ :
إنك قد أخطأت صنعا بدعوته ... إن مثله لا يحتمل الدعوات.
كيتي بل :
ولكن زوجي هو الذي أراد.
الأستاذ :
إن إرادتك هي التي يهتم لها فقط ... (إلى شاترتون)
إن السيدة تدعو ضيفها إلى تناول الشاي على مائدة الأسرة ... (ثم يهمس له)
ينبغي ألا تقبل ... إنها قد أكرهت على دعوتك ... بأمر زوجها ... ولكن ذلك لا يسرها.
جون بل (يقرأ في صحيفة الأخبار ... وهو يقول لكيتي) :
هل دعوته؟
كيتي بل :
لقد كلمه الأستاذ.
شاترتون (موجها الخطاب للأستاذ) :
إني مضطر أن أذهب إلى حجرتي.
الأستاذ (لكيتي) :
إنه مضطر إلى الذهاب إلى حجرته.
كيتي بل (تخاطب زوجها ) :
إن السيد مضطر إلى الذهاب إلى حجرته.
جون بل :
يا للكبر! ... ويا للأنفة! ... إنه يظن أنه يولينا الشرف الأكبر بإبائه (يوليهم ظهره ويعود إلى قراءته) .
شاترتون (يخاطب الأستاذ) :
لن أستطيع أن أقبل دعوتهم ... إنهم لم يدعوني إلا إشفاقا علي (يولي وجهه نحو حجرته ... ويتبعه الأستاذ فيمنعه ... وإذ ذاك يدخل خادم وهو يقود الطفلين ويجلسهما حول المائدة ... والأستاذ يجلس في أقصى المسرح هو وشاترتون ... وكيتي بل تجلس على اليمين، وجون بل على اليسار وظهره قبالة الحجرة، والطفلان بجانب أمهما) .
الموقف الثالث (يدخل اللورد تالبوت، واللورد لودردال، واللورد كنسنجتون، ولوردات آخرون وهم في أثواب الصيد.)
لورد تالبوت (وهو نشوان قليلا) :
أين هو؟ ... أين هو؟ هذا أنت يا صديقي ... هذا أنت يا رفيق الطفولة ... يا للشيطان! ... أي شيء تفعل هنا؟ ... أتريد أن تعتزلنا؟ ... هل أصبحت لا تريدنا؟ ... هل بعد إذن بيننا العهد ... وتقطعت أسباب الود؟ ... ألأنك قد أصبحت اليوم مشهورا رحت تحتقرنا وتزدرينا؟ ... إني لم أستطع الصبر على التعليم في المدرسة اللهم إلا في فن الملاكمة ... وقد أتقنتها كل الإتقان ... ولكن ذلك لا يمنع أن أكون صديقك ... هذا هو صديقي القديم يا سادة.
شاترتون (وهو يريد أن يقاطعه) :
مولاي ...
لورد تالبوت :
هاكم صديقي القديم شاترتون ...
شاترتون (وهو يشد على يد تالبوت بجد ووقار) :
جورج! جورج! يا لك من طائش دائما!
لورد تالبوت :
لا يؤلمك هذا ... هذا هو الشاعر رب القصائد الممتعة التي أحدثت الضجة الكبرى يا سادة ... وقد كنت معه في المدرسة ... ونحن طفلان ... يمين الله ما شككت يوما في هذا النبوغ المتوقد ... أقدم إليك يا عزيزي لورد لودردال، ولورد لنسنجتون، وهما يحفظان قصيدتك هارولد عن ظهر القلب ... آه لو أنك جلست الليلة إلى العشاء معنا، إذن لسررن السرور كله ... إنهما ليضجان كل يوم بأبيات قصيدتك ... إنك لا تحب صيد الثعالبة وإلا لاصطحبناك معنا ... ولكنا نعرج على هذه الدار لتناول العشاء بعد متعبة الصيد ... وكذلك سنقيم الليلة هنا للعشاء ... ويا للفرح! ... وسنلهو الليلة جميعا ونبتهج ... ولكن هذا أنت في أثواب الحداد! ... آه يا للشيطان!
شاترتون (بحزن) :
نعم لوفاة أبي!
لورد تالبوت :
آه ... ولكنه كان شيخا أشيب تقدمت به السن، ماذا تريد منه بعد ذلك ... وهذا أنت قد ورثته.
شاترتون (بحرارة حزن شديد) :
نعم، جميع الذي بقي بعده!
لورد تالبوت :
يمين الرحمن إنك لتنفق مالك عن جود وسخاء كما كنت في المدرسة ... وهذا يكسبك الفخر والشرف ... ومع ذلك أنت تبدو اليوم جهما مخيف الطلعة، ولكني في الحقيقة مثلك اليوم لأني أعاني مرض الكبد ... أي مسز بل! أنت تقية متدينة ... وي! إنك لم تمدي إلي يدك للسلام اليوم ... ولو لم تكوني كذلك لوصيتك بصديقي كل الخير.
جون بل :
أجيبي اللورد كيتي ... إن مولاي يعرف إنها ضعيفة حيية ... (إلى كيتي بل همسا)
أظهري أمامه الاحترام والعناية بصديقه.
كيتي بل :
إن مولاي اللورد خليق بأن لا يشك في العناية التي يبديها زوجي للذين يسكنون منازله.
جون بل :
إنها يا مولاي من الجبن والضعف حتى إنها لم تخاطبه ولا مرة واحدة ... هل تعتقد ذلك؟ ولا مرة واحدة منذ ثلاثة أشهر سويا أقامها عندنا.
لورد تالبوت :
آه يا سيد جون بل ... هذا حياء يجب أن تدرأه عن زوجتك ... هذا ليس بالأمر المحمود ... وأنت يا شاترتون ... يا للشيطان! ... انته عن هذا الحياء أنت الآخر ... هذا ليس بالأمر المحمود.
الأستاذ (دون أن ينهض من مجلسه) :
أيها الشاب الثرثار! ما كان أجدر بك أنت الآخر أن تنتهي عن ثرثرتك! ... إنك لم تفه بكلمة طيبة مذ تكلمت.
لورد تالبوت :
ما هذا؟ ... ما هذا الحيوان المتأبد؟
جون بل :
مغفرة يا ميلورد ... إنه أستاذ (ضحكات عالية من اللوردات) .
لورد تالبوت :
لا غرو ... لا غرو ... مرحبا بالأستاذ! (يذهب إليه فيحملق في وجهه، ثم يلتفت إليهم فيقول)
إنه حيوان تافه لا يستحق الصيد يا سادة (ضحكات عالية من اللوردات) .
شاترتون (يتقدم مسرعا إلى لورد تالبوت ويخاطبه في صوت منخفض) :
هذا مجون منك يا جورج! ... إني لا أحب المجون! ... إني أريد أن أكلمك عند رجعتك من الصيد.
لورد تالبوت (يعود إلى الجد) :
آه ولكني حسبتك تبتهج بهذا ... هل آلمك ما رأيت؟ ... لقد اصطحبنا اليوم كئوسا قليلة من الشراب ... ولكن ماذا تراني فعلت؟ لقد كنت أريد أن أضحك الجميع ... أنت جئت هنا من أجل هذه المرأة الحسناء ... آه ... أليس كذلك ... لقد لحظت ذلك بنفسي ...
شاترتون :
بحق الأرض والسموات ... لا تزد كلمة يا ميلورد.
لورد تالبوت :
إن مزاحي اليوم قاس معيب ... مسز بل! لا تعطه ولا قدحا من الشاي اليوم ... فإن ذلك يسوءني إن أردت الحق.
كيتي بل (لنفسها) :
يا إلهي! كيف يكلمني بهذه القحة الشائنة ... (يتقدم لورد لودريال فيشد على يد شاترتون)
يمين الله إني لمبتهج بمعرفتك ... إن أشعارك تروقني.
شاترتون :
تروقك يا ميلورد؟
لودردال :
بلا ريب ... وقد أبهجني حقا أنك تقيم هنا ... لقد كنت في المدرسة أزكى من تالبوت، وستدعني بلا شك أكسب الرهان.
لورد كنسنجتون :
نعم ... لأنه قد أفرط في تبذير المال للزواج ولم يفلح ... ولن ينال كاترين الحسناء ... كاترين أم كيتي؟ ... آه ...
شاترتون :
نعم ... كيتي يا ميلورد ... هذا تصغير كاترين اسمها.
كيتي بل (في ناحية) :
رباه! ... وهؤلاء أيضا يشيرون إلي ... وأمامه!
لورد كنسنجتون :
إني أعتقد أنها كانت ستميل إليه ... ولكنك جئت فسلبته مكانه ... ومع ذلك فإن جورج فتى طيب ولن يزاحمك ... أنت تلوح حزينا متألما؟
شاترتون :
ولا سيما في هذه اللحظة ...
لورد تالبوت :
كفى كفى يا سادة ... لا تبعدوا في القول! (يدخل سائسان معا.)
سائس :
إن جياد مولاي على استعداد.
تالبوت (وهو يضرب بيده فوق كتف جون بل) :
يا سيد جون بل الكريم، إن نبيذ فرنسا وخمرة إسبانيا لا يوجدان إلا في بيت امرأتك الصغيرة التقية ... نحن نريد أن نعاقر شرابك ونحسو من خمرتك في صميم بيتك ... وخذ علي ميثاق الشرف أني سأهديك فراء عشرة من الثعالبة لكي تجعل منها معاطف لزوجتك ... فهلموا بنا ندخل البيت يا سادة ... وسنلهو الليلة ونبتهج.
جون بل :
يا سيد شاترتون إني حقا سعيد بمعرفتك ... (يصافحه ويضرب بيده فوق كتفه ملاطفا)
إن داري كلها في خدمتك ... (إلى كيتي وهي تتقدم تريد دخول البيت)
وأنت يا كاترين تحدثي قليلا مع السيد ... يجب أن نسكنه حجرة أجمل مظهرا وأغلى أجرة.
كيتي بل :
إن طفلي في انتظاري.
جون بل :
البثي هنا ... كوني مؤدبة ... إني أريد ذلك.
شاترتون :
لنخرج من هنا ... ما أشد حزني أن أرى المكمن الأخير الذي جئت إليه قد عرف! ... وصفاء العيش الذي كنت أريده قد بدد! ... وعزلتي التي كنت أريدها قد هوجمت! ... يا للعذاب! ... ويا للشقاء! ... ويا للبؤس! ... لنخرج من هنا ... لنبتعد.
جون بل :
إن لي حاجة إليك أيها الأستاذ ... أريد أن تأتي معي ... لنترك زوجتي مع السيد ... إني أريد أن أكلمك في بعض شأني ... وأريد أن أصلح بينك وبين مولاي الميلورد.
الأستاذ :
كلا ... إني لا أريد أن أبرح هذا المكان (يدخل الجميع ويبقى الأستاذ جالسا في برهة المسرح، وكيتي وشاترتون واقفان مطرقي الرأس مضطربين) .
الموقف الرابع
الأستاذ (يخاطب كيتي بل ويأخذ يد شاترتون اليسرى، ويضع يده هو فوق قلب الفتى) :
إن القلوب الضعيفة ... القلوب الساذجة النقية البريئة لا تستطيع أن تكتم الكراهية الشديدة التي تثور لديها عند رؤية الناس ... أي بني! أي طفلي الصغير المسكين ... إن العزلة ستكون خطرا شديدا عليك ... إن العيش في ظلال الوحدة لا يحتمل أن تهب عليه ريح غريبة ... إن الحياة يا بني عاصفة هوجاء؛ فلينبغي للمرء أن يعتاد هبوبها وزفيفها ... أليس غريبا يا مسز بل أن يكون في هذا العمر الناضر ويأبى إلا أن يكمن عن العالم ويختبئ ... إني سأتركك الآن لكي تنصحي له وتثنيه عن عزلته.
كيتي بل (باضطراب) :
كلا ... كلا ... يا صديقي ابق هنا ... إن زوجي سيغضب إذا لم يجدك هنا ... ولماذا امتنع السيد عن مرافقة صحابته وأصدقاء طفولته ... لقد أدهشني رفضه الدخول معهم.
الأستاذ :
هل أزعجتك ضوضاؤهم يا ابنتي؟
كيتي بل :
أجل يا أبي ... ومقاصدهم ... ألم يكن السيد في حديثهم؟
شاترتون (في ناحية) :
لقد سمعتهم ولا ريب ... وا رباه! لقد تألمت ... ليست هي بالمرأة التي يظنون.
كيتي بل (تخاطب الأستاذ بانفعال لا تستطيع أن تمسكه) :
إني لم أعش بعد وحيدة يا صديقي ... إني أشعر بذلك ما دمت إلى جانبي .
الأستاذ (لكيتي) :
لا تذكري ذلك يا بنية ...
كيتي بل :
لقد وجدت هذا الكتاب في يد ابنتي ... سل السيد إذا كان كتابه.
شاترتون :
حقا إنه كتابي ... ولكني أود الآن أن يعود إلي.
كيتي بل (لنفسها) :
يلوح لي أنه قد تأثر ... وا رباه! ... إني لا أجسر أن أرده إليه ... ولا أن أحفظه!
الأستاذ (في ناحية لنفسه) :
يا الله! ها هي قد تملكها الاضطراب (يضع الكتاب في جيبه بعد أن يتلفت يمنة ويسرة يراقب اضطرابهما ويقول لشاترتون)
أنشدك الله إلا ما سكت ... إنها توشك أن تبكي.
كيتي بل (وهي تعود إلى هدوئها) :
إن للسيد أصدقاء فرحين ونبلاء الإحساس أيضا ... ولا ريب.
الأستاذ :
لا تعيبيه بهم يا ابنتي ... إنه لم يدعهم إليه.
كيتي بل :
إني أعرف أن السيد شاترتون لم يدعهم إلى هذا البيت.
شاترتون :
إن رؤية عدو قاتل لدود لا تسوءني مثل رؤيتي لهم ... صدقيني يا سيدتي.
كيتي بل :
يلوح عليهم أنهم يعرفون السيد شاترتون كل المعرفة، وإن كنا نحن لا نعرفه مثلهم.
الأستاذ (في صوت منخفض لشاترتون) :
يا لهؤلاء الأشقياء! ... لقد أدموا فؤادها.
شاترتون :
وفؤادي أنا ... يا سيدي!
كيتي بل :
إن السيد شاترتون يعرف سلوكهم كما يعرفون هم مقاصده ... ولكن بماذا أولوا سكناه هنا؟
الأستاذ (وهو ينهض من مجلسه) :
يا للسماء ... لهذا الجراد المنتشر الخبيث الذي يغير على الأرض الناضرة فيسوءها! ... ما أشر هذا الجراد الملعون الذي يسميه الناس معشر الظرفاء! ... انظري أي قلب أساءوا في لحظة واحدة!
شاترتون (وهو يكره الأستاذ على الجلوس) :
بحق السماء! لا تذهب حتى أعلم أي منكر تظنني أحدثت ... إن ذلك يؤلمني أشد الألم.
كيتي بل :
إن زوجي قد أمرني أن أقدم للسيد شاترتون حجرة خيرا من حجرته.
شاترتون :
ليس هناك خير من حجرتي ... لأنها تناسب مقاصدي.
كيتي بل :
إن ذكر مقاصد السيد يثير الرعب أكثر مما يثير الاحترام ... إني ...
شاترتون :
ماذا؟
كيتي بل :
يخيل لي ...
الأستاذ :
ماذا تقولين؟
كيتي بل :
يخيل لي ... أن هؤلاء الأشراف معذورون لاندهاشهم لرؤية صديقهم الذي هجر القصور، وجاء يخفي اسمه وحياته بين أسرة حقيرة مثلنا.
الأستاذ (يخاطب شاترتون) :
هون عليك أيها الصديق ... إنها تريد أن تقول إنك منذ اليوم الذي نزلت فيه هذا البيت لم يكن لك مظهر الصديق الغني لهؤلاء الفتيان الأشراف المترفين.
شاترتون (بحزن) :
ولو سألوني يومذاك عن ثروتي وتاريخي وحياتي لما دخلت هذا البيت ... ولو سألوني اليوم عنها إذن لطردت ...
الأستاذ :
إن سكوتا يبعث عليه الكبر والزهو قد يساء به الظن.
شاترتون (يحاول شاترتون أن يجيب ولكن يتمهل ... ثم يعود فيقول بصرخة عالية) :
إن عذاب الشهداء لا يهم الناس! (ثم يخرج وهو يجري نحو حجرته.)
كيتي بل (باضطراب وخوف) :
رباه! لماذا خرج هكذا هاربا؟ ... إن الكلمات الأولى التي خاطبته بها قد أثارت في فؤاده لوعة الحزن! ... ولكن أتراني أنا المخطئة؟ ... لماذا جاء إلى هذا البيت ... إني لا أفهم شيئا ... وأريد أن أفهم ... إن صفاء بيتي قد بدد به ومن أجله معا ... يا للرحمن! ماذا تراني فعلت؟ ... وددت أني لم أر هؤلاء الأشراف الفاسدين.
الأستاذ (بحزن وقلق) :
ولكن أي ذنب ارتكبه هو؟
كيتي بل :
أولم تسمع حديثهم أيها الصديق ... هؤلاء الفتيان الأشراف؟ ... وا رباه! ... كيف استطاعوا أن يزعجوا هذه الحياة التي أبى الله إلا أن يباركها ... نبئني يا صديقي وأنت رجل ... أنت الذي خلص فؤادك من شر هؤلاء الفجرة المفسدين ... أنت الشيخ الوقور الجليل ... أنت الذي تؤمن بوجود الله والروح ... نبئني يا صديقي كيف ينبغي إذن أن تعيش المرأة؟ ... وأين ينبغي أن تختفي وتعتصم ... لقد أردت أن أعيش في أكناف السكون والحياء والتقوى ... وأختفي وراء حجب العزلة الهادئة ... فجاءوا اليوم يهتكون حجابها ويعكرون هدوءها ... لقد ظننتني كإحدى نسائهم ... أخواتهم وعماتهم وذوات قرابتهم ... ولكنهم هؤلاء جاءوا يتراهنون علي ويتزاحمون ... وا حزناه! ماذا يجديني إذن من طفلي الصغيرين وكنت أحسهما لي الملاكين الحارسين ... ماذا يفيدني من وحشة العزلة وكنت أظنها تحميني من شر الناس وفسادهم ... رباه! أي امرأة تستطيع بعد الآن أن تصون شرفها وعفافها إذا كان الشبان يهاجمونها في كل مكان، ويخادعونها ويتلاعبون بفؤادها كما يتلاعبون بالكرة ... (يحتبس صوتها فتشهق بالبكاء)
أواه يا صديقي! ... يا صديقي ... دعهم لا يدخلون بيتي بعد اليوم.
الأستاذ :
من هم؟
كيتي بل :
هم جميعا ... هم ... كل الناس.
الأستاذ :
وكيف؟
كيتي بل :
وهو أيضا ... نعم هو أيضا (تنفجر عيناها بالدمع) .
الأستاذ :
ولكن أتريدين بذلك أن تقتليه ... ماذا صنع؟
كيتي بل (باضطراب) :
يا إلهي! ... أنا أقتله؟ ... أنا الذي أريد ذلك؟! ... يا إله السموات! ... إنك لم تفهم بعد حديث الفؤاد ... لقد فتحت لك قلبي ... فما بالك لا تقرأ ما فيه؟! ... آه يا صديقي! ... إني أريد أن أسر إليك سر روحي ... واها لي! ... ليت أبي كان حيا ... (تأخذ يدها في يد الأستاذ)
نعم ليتني أستطيع الاعتراف ... ما أشد حاجتي إليه!
الأستاذ :
إذا كان ضميرك يعذبك يا ابنتي، فلماذا تخفي عني؟
كيتي بل :
إذن فنبئني لم هذا الاضطراب الذي أشعر به عند رؤية هذا الشاب ... لم هذه الدموع المنحدرة التي تطفو من عيني على الرغم مني لمجرد رؤيته.
الأستاذ :
واها لك أيتها المرأة! ... يا للمرأة الضعيفة المسكينة! ... بحق السماء كفكفي دموعك فها هو ذا قد أقبل.
كيتي بل :
رباه! ... ما أرعب طلعته!
شاترتون (يدخل شاترتون كالمجنون حاسر الرأس ... ويذهب في الحجرة ويجيء ويتكلم وهو يمشي دون أن ينظر إليهما، كأنه لا يراهما) :
ومع ذلك هم لا يملكون شيئا من أموالهم وثرواتهم إلا كما أملك أنا هذه الحجرة ... إن العالم ليس إلا كلمة فارغة لا معنى لها ... نحن نستطيع أن نفقد العالم أو نكسبه بكلمة واحدة ... نحن لا نملك من هذه الأرض حتى ولا مواطئ أقدامنا ... سأرد إليكم حجرتكم إذا شئتم ... أريد كهفا أظلم منها وأصغر، ومع ذلك أريد أن ينجح الخطاب الذي كتبته ... ولكن كفى ... كفى ... ولا تذكر هذا الآن ... (يسقط في مقعد.)
الأستاذ (ينهض ويتقدم نحوه فيضع يده فوق رأسه ملاطفا) :
هدئ روعك يا صديقي ... هدئ روعك ... إن رأسك تكاد تحترق ... لا تدع حزنك يثور وينفجر ... لا ترعب هذه المرأة الغريبة عنك.
شاترتون (يثب من مجلسه عند كلمة غريبة عنك، ويقول بتهكم مخيف) :
ليس على الأرض كلها إنسان واحد غير غريب عني ... يجب أن أودع العالم وأرتحل عن أهله ... المعذرة يا سادة إذا أنا تكلمت ... والمغفرة والصفح ... لا أريد إلا أن تمهلوني بضعة أيام أقيمها في هذا البيت ... حتى أتم جمع الصفحات التي قضي علي أن أكتبها ... إني كالنجار الذي يجمع الألواح إلى بعضها فيخرج منها لوحا واحدا ... نعم يا سادة ... إني نجار كتب لا غير ... لا حاجة بي إلى معمل أكبر من معملي الصغير الحقير ... إن السيد بل قد رق فؤاده نحوي لصداقة اللورد تالبوت ... نعم، إن اللورد تالبوت فتى محبب خليق هنا بالحب والاحترام ... ولكن لا صداقة بيني وبينه ولا ود ... لقد كان ذلك ونحن طفلان صغيران لا نفهم ... ولكن الآن مضى عهد الحب والولاء ... أنا نجار كتب ... نجار كتب يا سادة لا غير ... الوداع يا سيدتي ... الوداع يا سيدتي ... ها ... ها ... إني أضعت جزءا كبيرا من الوقت ... إلى العمل ... إلى العمل! (يصعد السلم بخطى واسعة ويدخل غرفة مغلقا في إثره بابها.)
الموقف الخامس (الأستاذ - كيتي بل (في حيرة وذهول))
الأستاذ :
هل أرعبك منظره يا ابنتي؟
كيتي بل :
كل الرعب!
الأستاذ :
وأنا أيضا.
كيتي بل :
وأنت أيضا؟ ... أنت القوي الثابت الجنان الذي لا يرعبه شيء في الأرض ... رباه! ... إني لا أستطيع أن أدرك من هذا شيئا ... لقد خدعنا هذا الشاب ... دخل بيتنا في زي البؤساء ... وهو في الحقيقة غني كبير الثراء ... ثم ألم يخاطبه هؤلاء الأشراف كأنه نظيرهم ... إذن ماذا جاء يفعل هنا؟ ... وما معنى شكاته وحزنه وتألمه ... ومع ذلك ... إني أتبين الصدق في لهجته ... والبؤس والشقاء في هيأته!
الأستاذ :
خير لهذا الشاب أن يموت!
كيتي بل :
يموت! ... ولماذا؟
الأستاذ :
لأن الموت خير من الجنون.
كيتي بل :
إذن فهل تظن ... ويلاه! ... إن قلبي يخونني ... (تسقط في كرسيها.)
الأستاذ :
إن أكبر عقول الأرض لا تستطيع أن تحتمل العذاب الذي يعانيه ... أي كيتي بل! ليس في ملائكة السماء أطهر فؤادا منك ... أنت كمريم العذراء في عفافها ونبلها ... ومع ذلك ... فقد جلبت - وأنت لا تدري - شرا عظيما مرعبا.
كيتي بل :
وا قوى السماء ! ... أيكون هذا؟
الأستاذ :
استمعي إلي يا ابنتي ... أنت لا تستطيعين أن تدركي كيف يخرج الشر من الخير، ويحدث الأمر السيئ في الأمر المحمود والجميل ... ولكن انظري كيف أن نظرة واحدة منك بعثتها الرحمة ... وهي أكبر فضائل السموات ... قد ذهبت بعقل هذا الشاب ... إن حرارة الشعر والتفكير قد ألهبت ذهنه وأحرقت روحه ... ولكنه مع ذلك لا يزال يحمل قلب الأطفال ... إنه لا يعرف له عشيرة ولا أهلا ... ولكنه يبحث - وإن كان لا يقول - عن عشيرة تحنو عليه، وأهل يترفقون به ... وقد أعتاد أن يراك على مقربة منه ... بل لعله أعتاد أن يرى فيك أمه ... ويشرف منك على حنان الأمهات ... إن هذا السكون الذي يحف بك كان خطرا على هذا العقل المفكر كخطر النوم بين الأكمام والأزهار ... ليس هذا ذنبك إذ كان قد ظن نفسه سعيدا في هذه الدار ... ولكنه بعد يشعر لك بحنان صامت عميق ... فهل تريدين أن تنزعيه من فؤاده؟
كيتي بل :
وا أسفاه! ... أتعتقد إذن أنه لم يخدعنا؟
الأستاذ :
ألا تقرئين في جبينه أسطر الحزن والبؤس؟ ... إني أتبين في وجهه حزنا عميقا.
كيتي بل :
آه يا إلهي! لقد جرحت فؤاده بما قلت له الساعة!
الأستاذ :
إني لا أشك في ذلك يا سيدتي.
كيتي بل :
أواه ... ولكن لا تحزن! فليتك تعلم ماذا صنعت وسأصنع ...
الأستاذ :
أريد أن أعلم.
كيتي بل :
كنت أخفيت عن زوجي مقدارا من النقود وأرسلت إلى شاترتون دينا عليه، ثم لم أجسر أن أسأله ردها ولم أستردها حتى اليوم ... وقد اكتشف زوجي ضياع المبلغ من سجل حسابه ... وقد كنت منذ هنيهة عزمت على أن أفاتح شاترتون في أمرها ... ولكن أي صنيع جميل أسيدتنيه يا أبتاه إذ حلت الآن بيني وبين نيتي السيئة ... نعم ... لقد كانت تكون جريمة منكرة ولا ريب ... أليس كذلك؟
الأستاذ :
وإذن لكان يؤثر أن يرتكب هو الآخر جريمة مخيفة على أن يرد سؤالك ... لأنه حمي الأنف أبي الروح ... لنعطف عليه يا صديقتي ولنحسن إليه ... إنه يعاني مرضا نفسانيا لا نجاة له منه ... مرضا عسيرا معديا ... مرضا هائلا يتملك النفوس الشابة المتوقدة الحديثة العهد بقسوة الحياة ... تلك النفوس الطاهرة التي فتنها حب الحق والجمال والفضيلة، ثم لم تلق في العالم إلا الكذب والخداع والقبح والظلم والشر ... ولم تشهد إلا مجتمعا مشوها مضطربا فاسدا ... هذا المرض هو كره الحياة ... وإيثار الموت ... هو العناد الفلسفي ... هو الانتحار.
كيتي بل :
وا حزناه! ... يغفر الرحمن له! ... أواه! أحقا ما تقول؟ (تخفي وجهها بيديها وتبكي.)
الأستاذ :
نعم، أسميه عنادا لأنه قلما يمتنع هؤلاء المساكين عن نيتهم إذا هدأ حزنهم.
كيتي بل :
رباه! ... أحقا ما تقول؟! ... لا تكتمني الحق ... أخبرني كل شيء ... إني لا أريد أن يموت! ويلاه! ... ماذا ترونه صنع أو ارتكب؟ أيموت وهو في نضارة الشباب؟ أتموت هذه النفس الملائكية البريئة ... أيموت وله بركة الملائكة وسذاجة الأطفال وذكاء العظماء! أتركن هذه النفس الطاهرة إلى جريمة الجرائم ورأس الآثام! كلا ... لن يكون ذلك ... لن يقتل نفسه ... ماذا يفتقد من مطالب الحياة؟ ... المال؟ ... إني سأجمعه له ... هذه جواهري لم أتحل بها ... خذها إليه ... بعها من أجله ... أيقتل نفسه على مرأى مني ومن طفلي؟ ... كلا ... كلا ... بع جواهري كلها من أجله ... هذا كل ما أستطيع ... سأخفي بعد ذلك أمري وسأرتكب من أجله الإثم ... سأكذب على زوجي هذا كل شيء!
الأستاذ :
أواه يا ابنتي! ... ما أنبل الفؤاد الذي تحملين! (يقبل يديها معا)
لتحفظك الملائكة ... ولكن أمسكي عليك جواهرك، إنه ليموت عشرين مرة قبل أن يتقبل مالا لم يكسبه بنفسه ... ولقد حاولت أن أرده عن هذا النقص الشريف فلم أستطع ... ذلك إباء الفقر، وتلك عزة الفقراء!
كيتي بل :
ولكن ألم يتكلم الآن عن خطاب كتبه ... وينتظر منه تنفيس كربته؟
الأستاذ :
نعم ... هو ذلك، إن ذاكرتي قد نسيته ولكن فؤادك لم ينسه ... هذا دليل آخر من دلائل الرحمة والإشفاق عليه ... لنعتمد إذن على هذا الخطاب.
كيتي بل :
ولكن ماذا كان يريد بقوله عن لورد تالبوت إنه إنسان محبب جدير هنا بالحب والاحترام؟
الأستاذ :
لا تحفلي بكلمة تافهة كهذه ... إن ذهننا مثل ذهنه متعبا من قسوة العمل والآلام لا تتطرق إليه نزعات الغيرة ... ولكن ماذا؟ ... أتريدين أن تظني أنه يعد لورد تالبوت مزاحما له؟ ... ولذلك يغار منه ... والآن تصوري أن هذه العاطفة التي يبديها تتحول فيه حبا شديدا ... إذن ...
كيتي بل :
حسبك ولا تزد ... دعني أهرب! (تضع يديها فوق أذنيها هربا من سماع كلماته وتتولى ذاهبة.)
الأستاذ (يقول في إثرها) :
إذا كان هذا، فخير له أن يموت!
الفصل الثالث (حجرة شاترتون ... حجرة حقيرة صغيرة تبدو عليها مظاهر البؤس، لا موقدة فيها ولا أثاث ... لا تحتوي غير سرير حقير لا نظام له.)
الموقف الأول
شاترتون (جالسا فوق كرسي السرير الصغير يكتب فوق ركبته) :
إنها لا تحبني ولا ريب ... وأنا ... لا أريد أن أعرف إذا كنت أحبها أم لا ... إن يدي باردتان مقرورتان ... ورأسي يلتهب ... هذا أنا وحدي أمام عملي ... لا يهمني الآن ابتسامات الناس ولا حنانهم ولا تحياتهم ... إن تلك الرواية المضحكة قد انتهت ... إذن فلا تبدي في رواية أخرى بيني وبين نفسي فقط ... يجب الآن أن تكون إرادتي قوية حتى تغالب روحي وتحبسها في جثتي ... يجب أمام شاترتون المريض ... شاترتون الذي يرتعش من البرد ... شاترتون الجائع ... أن تضع إرادتي شاترتون آخر يعمل على تسلية الجمهور بأشعاره ... يجب أن يصف شاترتون الثاني شاترتون الأول ... يجب أن يصف الشاعر حال الشحاذ المتسول، هذا هو الشعر الذي يمكن أن يقبل ... فإما نسليهم وإما نجوع ... إما نلهيهم بالقصائد الجائعة وإما نظل على جوعنا فنموت ... لا بد من أن نفتح قلوبنا فنضعها فوق مائدة المزاد للبيع كالدواليب ... فإذا كان بها جروح فخير لها ... أنها تشترى إذ ذاك بثمن طيب مقبول ... (ينهض)
انهض يا خلقة الله! ... أبدع في رسم صورتك وأنت في هذه الحال ... (يضحك ويتمشى ثم يعود إلى مجلسه، وإذ ذاك تدق هناك ساعة حائط قديمة نصف ساعة دقتين متواليتين)
لا ... لا ... إن الساعة تداعبك ... إنها تمزح معك ... اجلس واشتغل أيها الشقي! أنت تضيع وقتك بالتفكير ... ليس لك إلا فكرة واحدة ... وهي أنك فقير ... هل سمعت ... أنت فقير ! ... كل دقيقة تضيع في التفكير تطير منك ولا تعود ... إنها دقيقة عقيمة لا نفع منها ... آه ... ابتعد عني ... ابتعد عني أيها الكسل ... إني أتوسل إليك ... لا تقترب مني فتجهز علي ... أعطني ظهرك ... انطلق عني ... فإن اسمي وسكني قد اكتشفا ... وإذا طلع علي الغد ولم أتم هذا الكتاب ... فقد ضعت ... نعم ضعت ... ولا أمل في صلاحي ... إذن يقبض علي ... ثم أحاكم ... فيحكم علي ... ثم أقذف في غيابة السجن ... يا للعار! ... يا للعار! ... (يكتب)
وإذن فلن تحبني هذه المرأة الشابة بعد ذلك؟ ... ولكن لماذا أعود إلى التفكير في هذا؟ (سكون طويل)
إن عندي قليلا من الزهو يضطرني إلى التفكير فيها ... ولكن ألم يتساءلوا علام الزهو والكبر من مثلي؟ وبماذا أزهي وأتكبر؟ وأنا ليس لي مكان بين الناس ولا شأن ولا قدر ... ولا مقام ... ولكن الذي لا ريب فيه أن إبائي الطبيعي يفيدني ... إنه يصرخ في أذني دائما ألا أنحني لإنسان أو أتذلل لمخلوق في الأرض ... ولكن لمن ننحني في هذا العالم ونذل ... ننحني للنساء ... نحن نضع كل شيء أمامهن ... يا للمخلوقات الضعيفات ... إنهن ليجلسن فوق عروش القلوب ... ومع ذلك إن النساء يحببن الذي لا ينحني لإنسان في العالم ... وبحق السماء إنهن على حق ... إذن فلن تراني يوما محني الرأس ... آه ... ليتها كانت تحبني! (يسترسل في حلم طويل ... ثم ينتبه بشدة)
إذن فلتكتب إيها الشقي المنكود! أظهر كل قوتك ... ولكن لماذا هي ضعيفة إلى هذا الحد؟ ما بالها لا تستطيع أن تنظر إلى هذه الروح المتمردة التي تثيرها وتهز فؤادها ... إني أراها تهرب دائما عند وجود روحها ... أواه ... أيتها الروح ... أيتها السيدة المتحكمة في الجسم ... المسيطرة على البدن ... أيتها النفس الأبية الجموح ... أترتعدين من هذه الرياح الباردة التي تنفذ إلى حجرتك الحقيرة المتهدمة؟ ... أيها الإنسان الأبي المتكبر، أتكفي لفحة من الهواء البارد المقرور لهزيمتك؟ (يضع غطاء سريره فوق كتفه)
الهواء البارد المقرور! ها هو ذا ينشر فوق النافذة غشاء أشهب ناصعا كالكفن الأبيض ... لقد كان كذلك فوق نافذة أبي ليلة وفاته (تدق الساعة دقة ثلاثة أرباع الساعة)
هذه هي الساعة تدق ثانية ... إن الوقت يستحثني ولم أكتب شيئا بعد ... (يقرأ)
هارولد ... هارولد ... أيها المسيح! ... آه ... ولكن ماذا بحديثي من هارولد المسيح ... إني لا أستطيع أن أفهم لماذا كتبت هذا ... (يمزق الورقة ... ثم تأخذه غشية فيقول)
هل أريد أن أكون مؤمنا؟ ... إني أكذب ... لو كنت مؤمنا لجعلت نفسي راهبا ... إن الراهب لا يملك إلا سريرا من الخشب ... ولكنه ليس مثلي ... لأنه ينام فوقه على الأقل ... ولكل الناس سرر مرفوعة يضطجعون فوقها ... وأنا لي سرير مثلهم ... ولكني أشتغل فوقه ... لأظفر بشيء من النقود (يرفع يده إلى رأسه)
أين أذهب؟ ... أين أذهب؟ ... إن الألفاظ تسوق المعاني على الرغم منها ... يا إله السماء! ... أليس هذا جنونا؟ ... ولكن كفى ... كفى ... هدئ روعك ... هدئ روعك ... لنقرأ ثانية ... نعم، ولكن هذه القصيدة أليست بديعة ... لقد كتبت بكل سرعة ... كتبت لأعيش من ثمنها ... يا للعذاب ويا للويل! ... وقصيدة موقعة هايستنج ... وقصيدة السكسكون القدماء ... وقصيدة الفورمان العصريين ... ولكن هل أنا مغتبط بهذه القصائد الجائعة ... كلا ... إذن فلماذا أتكلم عنها ... لأني أحب أن أتكلم كثيرا عما أكتب (ينهض ويمشي في الحجرة بخطى واسعة) ... أتظل ياقظا ولا دفء لديك ... وكل شيء حولك يرتعد ويرتجف ... بينما الفضيلة تصرخ وتستنجد وتختنق بالبكاء ... بينما العمل الذهني البديع يحتقر ويمتهن بينما الأمل قد فقد سفينته ... والإيمان قوته وسلطته ... والإحسان أبناءه الفقراء الجائعين ... بينما القانون قد أصبح خشنا ملوثا قاسيا كالبغي المتبذلة ... بينما الأرض تصرخ وتطلب الإنصاف للشاعر من الذين يحتقرون جوفها ليظفروا بذهبها وفضتها ثم يقولون له ... عد أيها البليد إلى السماء! (يبكي طويلا بحرقة شديدة)
هل قدر على هذه العاصفة الشديدة أن تنشر أكفانها على نافذتك ... كما نشرتها يوما على نافذة والدك؟
الأستاذ :
ولا ريب سيسمو بروحك إلى أطباق الخيال ... ثم يبكيك بعد ذلك ... ثم يمنحك سباتا عميقا هادئا لا عذاب فيه ... لقد مكثت وحدك طويلا يا شاترتون (يضع الأستاذ الزجاجة فوق المائدة فيأخذها شاترتون خفية دون أن يراه الأستاذ) .
شاترتون :
وإذا كنت أريد أن ألبث وحدي طول الحياة، أليس ذلك من حقي (يجلس الأستاذ فوق السرير، ويظل شاترتون واقفا محملق البصر زائغه) .
الأستاذ :
وكذلك يقول البراهمة والبوذيون.
شاترتون :
لو كان الناس وهبوني ساعة واحدة من النعمة والراحة لكنت اليوم مؤمنا متدينا ... إن الذي تخافه مني يسميه الفلاسفة الخروج الفلسفي من الحياة.
الأستاذ :
هذا حق ... ولكنهم يقولون أيضا إن الأسباب التي تبعث على الخروج من هذه الحياة قد تكون يوما تافهة عارضة غير باقية ... ويجب أن تعلم أيها الصديق أن الأقدار تتغير وتتبدل ... وأن الأقدار دائما في عون الحي ...
شاترتون :
نعم ولكنها لن تستطيع شيئا ضد الميت ... إني أقول لك إنها قد أحدثت من الشر أكثر مما جاءت بالخير ... وإن ليس للإنسان إلا أن يهرب من سوئها.
الأستاذ :
أنت على حق ... ولكن هذا جبن ... أليس من الجبن والحقارة أن يذهب الإنسان فيخفي نفسه تحت جنادل من الصخر الأصم ... في حفرة مظلمة هاوية، خشية من سلطة الأقدار ورهبة من حكمها.
شاترتون :
وهل تعرف كثيرين من الجبناء قتلوا أنفسهم؟
الأستاذ :
لا أذكر الآن إلا نيرون.
شاترتون :
ولكني لا أظنه كان جبانا ... إن الشعوب لا تحب الجبناء ... وقد كان نيرون الأمبراطور المطلق الذائع الذكر في إيطاليا كلها.
الأستاذ :
ما أغرب تعريفك للشهرة يا بني ... إني لا أعارضك في هذا ... أنت تدلل جيدا على صحة عزيمتك ... ولكن ألا ترى أن خروجك من الحياة سيسر أعداءك وحاسديك ... إنهم سيتخذون ذلك وسيلة طيبة لتفكهة الجمهور باختراع جملة من الأضاحيك والتهكمات عن قصة موتك، وأنت بذلك ستقدم لهم ما لم يكونوا يحلمون به أبد الدهر ... أنت تريد أن تمحو ذكرك وتبيد اسمك ... وتذلل لهم هزيمتك.
شاترتون :
أنت تعلق الأهمية الكبرى على شيء لا أحفل به ... من ترى يعرفني؟ ... ومن ذا الذي يحس بوجودي؟
الأستاذ (في ناحية لنفسه) :
إن هذا الخيط الذي تشبثت به لا يزال يهز فؤاده ... إذن فلنسترسل في إقناعه من هذه الناحية (إلى شاترتون)
إنهم يعرفون اسمك أكثر مما تريد أنت أن تخفيه ...
شاترتون :
أحقا ما تقول؟ ... إني لأبتهج الآن بمعرفة ذلك ... إذن فسيذكرون اسمي من بعدي.
الأستاذ (لنفسه) :
إنه لا يزال يساق إلى فكرته (إلى شاترتون)
ولكن كان يلوح لي في هذا الصباح إنك كنت تتوقع أمرا من خطاب كتبته.
شاترتون :
أجل ... فقد كتبت إلى محافظ المدينة لورد بكفورد ... وكان يعرف أبي كل المعرفة ... لقد طالما عرض علي أن يظلوني برعايتهم فأبيت ... لأني لا أحب أن أكون تحت رعاية أحد من الناس ... لقد كنت أردت أن أعتمد فقط على الشعر والتفكير لكي أعيش ... أية حماقة كانت وأي جنون! ... لقد خذلني أمس كل شيء حتى الأشعار والتفكير ... ولم يبق لي اليوم إلا أن أركن إلى رعاية الناس.
الأستاذ :
إنهم يقولون إن لورد بكفورد من أرق الناس فؤادا، وأعطفهم كبدا، وأذكى أهل لندن أجمعين ... حسنا فعلت ... ولماذا سكت حتى اليوم عن التماس رعايته؟
شاترتون :
كفاني ما رأيت من الناس.
الأستاذ :
ماذا يضيرك أيها الصديق ... جرب العاقل والأحمق، والخشن والرحيم.
شاترتون :
ولكن لماذا كل هذه المحاولات؟ ... إن أهل التفكير هم دائما عرضة للمشانق ... إن الشقاء ومناكد الحياة وإهمال الجيل هي المدارج التي تصعد بهم إلى حبال المشنقة ... فلماذا تريد أن تحول بيني وبين خاتمتي ... لماذا تريد أن أهين نفسي وأجرح إبائي بطلب الحماية من غيري وهي لا تفيد ... إني أريد أن أخرج من الحياة فلا تمنعني ... لقد قضي علي بالموت وكفى.
الأستاذ (وهو ينهض عن السرير) :
إذن فليغفر الله ما أنا مقدم عليه! ... أي شاترتون ... استمع لكلماتي ... إني شيخ تنفست به مراحل الحياة ... وأنا من عصبة أهل الدين القوامين على الناس ... أقول لك باسم الله كلمة حقة صادقة، أقولها لإنقاذك لأنه واجبي الذي يقضي على شعوري الشائبة البيضاء ... شاترتون ... شاترتون! ... لك أن تفقد حياتك وروحك ... ولكن ليس لك حق في أن تفقد العالم روحين ... إن هناك حياة تعلقت بحياتك، وروحا امتزجت بروحك ... ولن تستطيع هذه الروح أن تعيش إذا فقدت أنت حياتك ... وإذا أنت ارتحلت عن العالم فهي ولا ريب في إثارك ... شاترتون ... شاترتون! ... لك أن تنكر اليوم الآخر، ولكنها مؤمنة فلا تنكرها ... وسوف تحاسب على أحزانك وآلامك وبأسك، ولعلك ظافر بالرحمة من الله والغفران ... ولكن هي لن تظفر بشيء منها لأنها ناعمة العيش راغدة الحياة ... أي بني ... إني أسألك الرحمة لها وأنا راكع بين يديك؛ لأنها في هذا العالم كابنتي!
شاترتون :
رباه! ... ماذا تريد أن تقول يا صديقي ... يا أبي ... إذن فهل ... انهض أيها الصديق ... انهض ... أنت تشعرني لذعة الخجل.
الأستاذ :
الرحمة يا بني! ... لأنها ستموت إذا أنت مت.
شاترتون :
ومن تعني؟
الأستاذ :
لأنها يا بني ضعيفة الجسم والروح.
شاترتون :
سمها يا صديقي ... هل تريد أن أعتقد ...
الأستاذ (ينهض) :
ألم تتبين السر من وجهها؟ ... لن يعود بك حاجة إلى الانتحار ... ينبغي الآن أن تعيش!
شاترتون :
إذن ...
الأستاذ :
أجل ... زوجة صديقي القديم ... زوجة رب البيت الذي أنت فيه ... والدة الطفلين الجميلين اللذين يحبانك!
شاترتون :
كيتي بل؟!
الأستاذ :
إنها تحبك يا بني ... فهل تريد إذن أن تقتلها؟
شاترتون (يسقط بين ذراعي الأستاذ) :
وا أسفاه! ... لن أستطيع أن أعرف الآن هل أعيش أم أموت؟
الأستاذ (بصرخة عالية) :
بل يجب أن تعيش ... ونستغفر الله!
الفصل الرابع (المنظر الأول بعينه ... كيتي بل تخرج من حجرتها وتنظر في القاعة.)
كيتي بل :
لا أحد ... أقبلا يا ولدي ... يجب أن لا تختفيا في عمل الخير ... اذهبا سريعا إليه في حجرته ... وأحملا إليه هذا (تلتفت إلى الأستاذ)
أنا جئت إليك أيها الصديق لأستمع إليك (إلى طفليها)
أحملا إليه كل فاكهتكما ... ولكن لا تقولا له أنني أنا الذي أرسلتكما إليه ... أصعدا بهدوء وسكون ... هكذا ... نعم ... هكذا ... (يصعد الطفلان بهدوء وهما يحملان سلة الفاكهة ... ويدخلان برفق حجرة شاترتون ... فإذا انتهيا إلى الدرجة الأخيرة من السلم تبتدئ كيتي بل الحديث)
إذن فهل تعتقد أيها الصديق إن اللورد بكفورد محافظ المدينة سيحسن إليه ... أواه يا صديقي ... لقد أجمعت الرأي على أن أوافقك في كل ما تنصح لي به.
الأستاذ :
نعم، يجب أن يرتحل من هذا البيت ويسكن دارا أخرى، ويحسن أن تكون بعيدة عن لندن.
كيتي بل :
ليبارك البيت الذي فيه يقيم، وإن لم يكن بيتي ... حسبي أنه يعيش !
الأستاذ :
إني لم أذكر له شيئا عن هذا العزم ... سأمهد له السبيل بعد.
كيتي بل (وهي خائفة أن يرفض) :
كما تريد ... سأكلمه أنا عنه.
الأستاذ :
كلا ... لن يكون ذلك الآن ... لنتمهل قليلا ... لنتمهل!
كيتي بل :
ولكن أتظن إنه قد يعود إلى نيته؟
الأستاذ :
أجل ... إن الحزن قد ملأ كل نفسه ... إن الكتاب لا يحبون إلا كتبهم ... إنهم لا يرتبطون بعهد ... إنهم لا يحبون أحدا ... ومع ذلك لنتمهل ... لنتمهل.
كيتي بل :
ولكن علام التمهل إذا كنت تظن بقاءه مخيفا إلى هذا الحد؟
الأستاذ :
أجل ... إني أعتقد ذلك ... ولا أحول عنه.
كيتي بل :
إذا كان ذلك محتما فلأخبره الآن به.
الأستاذ :
كلا ... كلا ... وإلا خاب كل شيء!
كيتي بل (وقد ظهر عليها دلائل الاقتناع) :
إذن، فأذن لي أيها الصديق أن أحنو عليه وأترفق به إذا ظل هنا ... خليق بنا أن نعمل على تعزيته وإدخال البهجة على فؤاده المحزون الجريح ... ها أنا قد بعثت طفلي لتسليته ودعابته ... وقد أصرا على أن يأخذا إليه كل فطائرهما ونقلهما وكل الحلوى التي في سلتهما الصغيرة ... فهل تعدها جريمة مني أيها الصديق ... أو من طفلي؟ (يولي الأستاذ وجهه ناحية ليكفكف دمعة انحدرت من عينيه)
وهم يقولون إنه ينظم أشعارا جميلة ... فهل قرأت شيئا من ديوانه؟
الأستاذ (بلهجة حارة متحمسا) :
أجل ... إن له ذهنا عبقريا متوقدا!
كيتي بل :
وهو في هذه السن الناضرة؟ ... أيكون هذا؟ ... أواه! ... أنت لا تريد أن تجيب ... ولكني لا أنسى كلمة واحدة مما تقول ... ألم تقل هذا الصباح إن رد الهدية إلى البائس المكدود الذي أهداها يكسر فؤاده ... ويجرح عزته ... ويذكره بؤسه ومحنته ... إذن فأنت لم ترد إليه كتابه المقدس ولا ريب؟ ... أحقا ذلك؟ ... أتقسم؟ (يخرج الأستاذ الكتاب ويعطيها إياه برفق وهي تنظر إليه)
خذيه يا ابنتي واحفظيه ما شئت.
كيتي بل (وهي تجلس عند قدميه كما يفعل الأطفال عندما يريدون من الكبار شيئا) :
أواه يا صديقي! ... آه يا أبي! ... إن لطبيعة قلبك مظهرا قاسيا ... ولكن ذلك هو خير أنواع الطبيعة دائما ... إنك لأسمى منا جميعا بحزنك وحكمتك ... إنك لترى منا صغائرنا وهفواتنا التي تسوءك وتحزنك، ومع ذلك تشاركنا فيها وتقاسمنا ... أنت تتألم لنا ... وتحزن لزوابع حياتنا ... ثم أنت تواسينا بكلماتك الرقيقة العذبة فتنقشع الزوبعة إثر الزوبعة ... فنشكرك ونحمدك ... ونكفكف عبراتنا ... وترقأ دموعنا ثم نبتسم لأنك كذلك تريدنا.
الأستاذ (يقبلها في جبينها) :
أي طفلتي ... أي فتاتي العزيزة! إني لا أندم على شيء ما دمت بجانبك (يسمع أصوات القادمين)
ها قد أقبلوا! ... أرجو ألا يكون هؤلاء الأشراف ... آه ... هذا تالبوت ولا ريب (يسمعان صوت بوق الصيد) .
الموقف الثاني (يدخل تالبوت وجون بل.)
لورد تالبوت :
نعم ... إني سأذهب إليهم ... ولكن يا أثقل لهوهم ... لقد سئمت صداقتهم ... كفاني ما عانيت منهم ... ليجلسوا وحدهم إلى العشاء ... يا سيد بل ... إني أريد أن أحادثك ... إنك لم تنبئني بأحزان صديقي شاترتون.
جون بل (لزوجته) :
أرجو أن تدخلي حجرتك! ... (تدخل كيتي بل حجرتها وتمشي ببطء)
ولكن يا مولاي ... إن أحزانه لم أشهدها ... أما عن فقره فلسنا ندينه في شيء.
لورد تالبوت :
يا الله! ... ماذا تراه يصنع الآن؟ ... آه لو أنك تعلم أنت ... وأنت أيها الأستاذ ... إن أشعاره الجميلة لم تكسبه في أول الأمر ولا رغيفا واحدا من الخبز ... وهذا أمر لا غرابة فيه ... حسبها أنها أشعار ... وأنها جميلة وكفى ... ثم عمد إليه كاتب دنيء الرزح خامل الذكر، فنشر في الناس أكذوبة فظيعة ... إذ ادعى أن قصيدة هارولد وكل قصائده البديعة الحسناء لم تكن من قلمه ... ولكني أشهد أنه لكاذب ... لقد رأيته ينظمها رأي العين ... وسأدلي بشهادتي بين الناس ... سأكتبها وأضع اسم تالبوت في آخرها.
الأستاذ :
وخيرا تفعل أيها الشاب.
لورد تالبوت :
وليس هذا كل شيء ... هل رأيت رجلا يطوف ببيتك يدعى سكيرنر؟
جون بل :
أجل، إني أعرفه ... إنه رجل غني من أصحاب المساكن في المدينة.
لورد تالبوت :
هو بعينه.
جون بل :
وقد جاء أمس إلى هنا.
تالبوت :
إنه يبحث عنه للقبض عليه ... نعم، هذا الرجل الفتي صاحب الملايين ... جاء ليقبض عليه من أجل أجرة حقيرة كانت عليه ... ثم إن شاترتون - ما أفظع الذي سأقول! ... إني أريد أن أهمس به همسا حتى لا يحمل الهواء هذا العار المخجل الذي سيسجل لهذه الإنسانية المتوحشة الدنيئة - ثم إن شاترتون لكي يخرج من بيت هذا الرجل تعهد بخطه وإمضائه ... إنه في يوم كذا ... وقد اقترب اليوم ... إن يرد هذا الدين ... وأنه إذا مات في هذه الفترة فلصاحب الدين أن يبيع لمدرسة التشريح - أواه! ... إني لا أستطيع أن أقول - جثته! لوفاء الدين ... وقد قبل الرجل العهد!
الأستاذ :
يا للشقاء! ويا للهول!
لورد تالبوت :
هون عليك ... إني سأدفع الدين كله من غير علمه ... ولكن راحته واطمئنان باله ... أفهمت؟
الأستاذ :
وإباؤه ... أفهمت أنت الآخر؟
لورد تالبوت :
إني أعرفه يا سيدي قبل معرفتك له ... وأعرف كيف أدخل بالكلام عليه ... يجب أن نكرهه على التفكير في مستقبله ... وأريد فوق ذلك أن أصلح الآن ما كنت أفسدت!
جون بل :
يا للشيطان! ... يا للشيطان! ... إنها لحادثة سيئة! ... إني توسمت فيه النبل يا ميلورد إذ رأيتك تميل إليه ... ولكن هذه المسألة قد تحدث فضيحة مخزية في مساكني ... والصراحة أقول إني أرجو أن تقنع هذا الشاب ألا يمكث في بيتي يا ميلورد أكثر من شهر واحد فقط.
لورد تالبوت (يضحك ضحكة مريرة) :
حسبك يا سيدي ... إن بيتي سيكون له خير عوض عن بيتك إذا شاء.
كيتي بل (تعود في خوف واضطراب) :
قبل أن تذهب يا مولاي أود أن أسألك أمرا بإذن من زوجي ...
جون بل (وهو يذهب بخطى واسعة إلى أقصى المسرح) :
لا حاجة بك إلى استئذاني ... قولي ما تشائين.
كيتي بل :
أتعرف يا مولاي السيد بكفورد محافظ المدينة؟
تالبوت :
وي يا سيدتي ... بل إني أعتقد أن بيني وبينه آصرة القربى ... ولكني قلما أراه ... مرة واحدة في كل عام ... لأنه لا يفتأ يقول لي إني مثقل بالدين وإني أميل إلى اللهو ... إني لأراه مغفلا أحمق ... وإن كان الناس كلهم يكبرونه ويجلون.
كيتي بل :
إن يبدي الأستاذ قد أنبأني أنه يفيض ذكاء وحنانا وخيرا.
تالبوت :
وإذا أردت الحق والجد، فاعلمي أنه أنبل رجل في المملكة بأسرها ... وسأذهب الليلة إليه إذا كنت تريدين منه شيئا.
كيتي بل :
إني أعتقد أن هناك إنسانا يعلق الأمل الأكبر على رحمته (وهنا ينزل شاترتون من حجرته مع الطفلين) .
جون بل :
ماذا تعنين؟ ... هل جننت؟
كيتي بل :
لا يسرك الذي أعني!
لورد تالبوت :
ولكن دعها تتكلم ... على الأقل.
الأستاذ :
إن الأمل الوحيد الذي بقي في حشاشة شاترتون قد أصبح معلقا على رعاية هذا الرجل.
لورد تالبوت :
هل تلتمسين هذا إذن من أجله؟ ... إني سأطير إليه.
جون بل (لزوجته) :
وكيف عرفت هذه الأمور يا امرأة؟!
الأستاذ :
أنا الذي أنبأتها الخبر.
جون بل (لزوجته مغضبا متوعدا) :
إذا علمت بعد اليوم ...
كيتي بل :
لا تغضب يا سيدي ولا تنذر ... لسنا وحدنا.
جون بل :
لا تتكلمي بعد الآن عن هذا الشاب (هنا يدنو شاترتون وهو يقود الطفلين بيديه ويسلمهما إلى أمهما متقدما نحو الموقدة) .
كيتي بل :
كما تريد يا سيدي.
جون بل :
هذا صديقك قد جاء يا مولاي ... وسنعرف منه ماذا يجيش في عواطفه.
الموقف الثالث (يلوح شاترتون هادئ النفس وديعا كأنما قد فارق حزنه ... يضع فوق أحد المقاعد عدة من الصحائف.)
لورد تالبوت :
أي شاترتون ... إني جئت لأؤدي إليك صنيعا ... فهل تأذن لي بتأديته؟
شاترتون (يتكلم برفق وعذوبة أشبه بعذوبة حديث الأطفال ... ولا يحول نظراته عن كيتي بل طول الوقت) :
لقد أصبحت اليوم أذعن إلى كل ما يريد الناس بي.
لورد تالبوت :
أليس بينك وبين ذلك الشقي سكيرنر أمر سيئ؟ ... إنه يريد أن يلقي عليك القبض غداة الغد.
شاترتون :
إني لا أعرف ... ولكنه على الحق.
جون بل (للأستاذ) :
إن مولاي الميلورد رفيق به رحيم ... ولكن انظر كيف كبره وعزته!
تالبوت :
أتقول إنه على الحق؟
شاترتون :
إنه على الحق ... والقانون في جانبه ... كان ينبغي علي أن أرد إليه ماله أمس ... وكنت أريد أن أبيع من أجله كتابا ولكني لم أستطع أن أتمه ... وقد كتبت اسمي على العهد الذي عاهدت ... وكان ينبغي أن أقوم أمس بوفاء الدين ... سواء علي استطعت التفكير أم لم أستطعه ... نعم ... لم يكن يصح أن أعتمد على الخواطر كما يعتمد الإنسان على سباق الخيل ... إن الخواطر تجيء يوما وتختفي أسبوعا ... إني لم أحترم ذهني الخالد فأجرته كما تؤجر البيوت ... إني أنا المخطئ وهو على الحق ... وسأحتمل جريرة الخطأ الذي ارتكبت.
الأستاذ (يخاطب كيتي بل في ناحية) :
إني أقسم إنهما سيحسبانه مجنونا ذاهب الرشد ... إنهما لا يستطيعان أن يفهما معنى كلماته.
لورد تالبوت (ضاحكا) :
واها لك! ... إنك إنما تدافع عنه خوفا من أن تكون على رأيي فيه ... أليس كذلك؟
جون بل :
هذه هي الحقيقة ... لمجرد المعارضة فقط.
شاترتون :
كلا ... إني الآن أرى العالم كله على حق إلا الشعراء! ... إن الشعر ليس إلا مرضا من أمراض العقل ... إني لا أقول ذلك عن نفسي ... لأني شفيت منه.
الأستاذ (لكيتي بل) :
إني لا أحب أن يقول هذا القول.
شاترتون :
ولن أنظم بيتا واحدا يا سادة إلى آخر الدهر ... إني أقسم لكم ... لن أكتب شطرا واحدا مهما كان الأمر.
الأستاذ (دون أن تفارق عينه النظر إليه) :
وا رباه! ... إنه لا يزال يعاود الكلام في يأسه.
تالبوت :
أحقا أنك استصرخت السيد بكفورد ابن عمي الشيخ؟ إني لأعجب كيف لم تؤثرني بذات نفسك عليه؟
شاترتون (بحرارة) :
ذلك لأن اللورد بكفورد في نظري هو الحكومة ... والحكومة هي الشعب ... والشعب هو إنجلترة ... وأنا لا أعتمد إلا على إنجلترة يا ميلورد!
لورد تالبوت :
إني على الرغم من هذا سأقول له ما تريد.
جون بل :
إنه لا يستحق!
الأستاذ :
وا فرحاه لهذه المزاحمة الجميلة على الرعاية! ... إن حماية اللورد الشيخ خير ولا ريب من حماية اللورد الشاب (يسمعون وقع عجلات عن كثب) .
كيتي بل :
يخيل لي أني أسمع صوت مركبة.
الموقف الرابع (الأشخاص أنفسهم - المحافظ) (يخرج اللوردات الفتيان ومناشفهم في أيديهم وفي أثواب الصيد لكي يروا المحافظ ... يدخل ستة من الخدم يحملون في أيديهم المشاعل ويقفون صفا واحدا ... ويعلنون حضور اللورد.)
كيتي بل :
لقد جاء مولاي اللورد بنفسه من أجل شاترتون! ... أي راشل ... طفلتي ... يا للفرح! ويا للسعادة! ... عانقاني يا ولدي عانقاني! (تجري نحوهما وتقبلهما بفرح شديد.)
جون بل :
إن للنساء نوبات جنون غريب لا يفهم!
الأستاذ (لنفسه) :
إن الأم تقبل طفليها قبلة العاشقة وهي لا تشعر (يدخل اللورد بكفورد فيجلس برفق وتمهل وأبهة في مقعد كبير) .
لورد بكفورد (وهو يحيل البصر فيهم) :
يا الله! هذا أنا أرى الذين أريدهم مجتمعين في مكان واحد ... آه ... هذا أنت يا جون بل ... أيها الصديق الكريم ... ليخيل لي أن الحياة في دارك بهيجة ناعمة ... إني أرى شبابا مشرقين يؤثرون المرح واللهو والضوضاء على الرزانة والعمل والتفكير ... ولكن كذلك الشباب ... وتلك عيشة الفتيان!
جون بل :
مولاي ... إن الميلورد كريم الفؤاد إذ شرفني بمجيء داري للمرة الثانية.
لورد بكفورد :
أجل والله! للمرة الثانية يا صديقي بل ... آه وهذان الطفلان الجميلان ... نعم، هذه هي المرة الثانية؛ لأني جئت في الأولى لتهنئتك على إنشاء مصانعك العظيمة ... وهذا أنا أجد هذا البيت المزهر البديع ... أزهى من قبل وأبدع ... حسبك أن امرأتك الشابة تشرف عليه وتديره ... ما أجمل كل شيء هنا وما أبهج! ... وأنت يا تالبوت العزيز ما بالك لا تتكلم؟ ... أتراني قطعت عليك مرحك أنت وصحبك وعشرائك؟ أي تالبوت يا ابن العم ... أنت تأبى إلا أن تكون في الحياة إباحيا ممراحا ... ولكنه دور الشباب يا بني!
لورد تالبوت :
لا تهتم كثيرا لأمري يا لورد.
لورد لودردال :
وهذا ما نقول له كل يوم يا ميلورد.
لورد بكفورد :
وأنت هنا أيضا يا لودردال؟ ... وأنت يا كنسنجتون ... دائما في صحبته؟ ... أتراكم تقيمون الليل كله غناء ورقصا ولهوا وشرابا؟ ولكن ستكون الخاتمة سيئة محزنة يا بني ... ومع ذلك فلست أؤنبكم ... إن لكل إنسان أن يصرف ماله وثراءه كما يحب ويشاء ... أي جون بل ... أليس لديك في مساكنك فتى يدعى شاترتون ... وهو الذي جئت بنفسي من أجله؟
شاترتون (يتقدم من بين الجميع) :
أنا يا مولاي الذي كتبت إليك.
لورد بكفورد :
آه ... أنت يا عزيزي! ... اقترب إذن قليلا مني حتى أرى وجهك ... إني كنت أعرف أباك ... لقد كان رجلا فاضلا ... وجنديا فقيرا ... ولكنه استطاع بعد أن يصبر على قسوة الحياة ويذلل بشجاعة معاسف العيش ... آه ... هذا أنت إذن ... توماس ... أنت تتلهى بنظم الأشعار يا بني! هذا حسن مرة أو مرتين ... ولكن لا يجب أن تسترسل الآن فيه ... ليس هناك فرد واحد لم يعالج هذا اللهو العذب الجميل ... لقد كنت مثلك أنظم الشعر يوم كنت في ربيع العمر وطراوة الشباب ... ولم ينظم ليتلتون ولا سويفت في التشبيب بالنساء أبدع مما نظمت أنا وقرضت.
شاترتون (بتهكم مر) :
إني لا أشك في ذلك يا لورد!
لورد بكفورد :
ولكني لم أكن أعطي بنات الشعر إلا أوقات الفراغ؛ لأني عرفت ما قال الشاعر بن جونسون، وهو أن أبدع شعر الأرض لا يكفي لإطعام صاحبه ... وأنه يجب ألا تتخذ هؤلاء البنات - بنات الشعر - إلا رفيقات لا زوجات (يضحك اللوردات وأشدهم لودردال) .
لودردال :
مرحى يا ميلورد! ... هذا هو الحق.
الأستاذ (في ناحية) :
إنه يريد أن يقتله ببطء!
شاترتون :
ليس أحكم مما قلت يا لورد ... إني تحققت ذلك بنفسي هذا اليوم.
لورد بكفورد :
إن تاريخ حياتك هو تاريخ آلاف من الشبان، إنك لا تستطيع أن تصنع شيئا إلا هذه الأشعار! ولكني أنشدك الحق أي نفع منها؟ ... إني أكلمك كوالد ... أي نفع تجده منها؟ ... إن الإنكليزي الحق يجب أن يكون نافعا لمملكته ... لنتباحث قليلا ... أية فكرة لديك عن واجبنا نحو الوطن؟
شاترتون (جانبا) :
وا حر قلباه لها! ... إني سأشرب الزجاجة حتى ثمالتها! ... (يخاطب اللورد)
إني أعتقد أني أفهمه يا لورد ... إن إنجلترة كالسفينة لأن جزيرتنا تشبهها ... وهي في بهرة البحار تشرف على القارة كلها ... وفوق ظهر هذه السفينة العظيمة نعمل نحن الجميع ... أما الملك والنبلاء والنواب فيجلسون عند دفتها ... وأما نحن الشعب فعلينا أن نرقب حبالها ... ونصعد فوق شراعها ... ونحرس قلاعها ونقوم على خدمتها ... ولن يتأخر فرد واحد منا عن الاشتراك في تقدم هذه السفينة العظيمة المجيدة.
لورد بكفورد :
هذا حسن ... هذا حسن ... وإن كان لا يزال يظن شعرا! ... ولكنا إذا تابعناك على رأيك وأخذناك بفكرتك ... فلا زلت أنا على الحق ... أي نفع من الشاعر في تلك السفينة؟
شاترتون :
إنه يقرأ في الكواكب يا لورد! ... إنه يطالع من خلالها الطريق الذي يريده الله!
لورد تالبوت :
ماذا تقول في هذا يا لورد ... فلا غناء للسفينة عن الدليل.
لورد بكفورد :
هذا خيال يا عزيزي أو جنون إذا شئت ... إنك لا تصلح لشيء ... لقد أفسدك هذا السخف الذي تنظم ... إن لدي تعليمات عنك ... إذا كنت تريد صراحة القول.
لورد تالبوت :
ميلورد! إنه صديقي وأرجو أن تحسن معاملته.
لورد بكفورد :
آه أيهمك أمره يا جورج؟ إذن فاطمئن ... إني سأعمل على إنقاذه يا بني ... على الرغم من سعيهم في البحث عنه ... إن شاترتون لا يعرف أنهم قد اكتشفوا سرقاته الشعرية، ولكنها كانت ولا ريب سرقات بريئة، وإني أعفو عنها بكل قلبي ... إن قصيدتك التي بعثت بها إلي بديعة ممتعة ... وها أنا قد جئت بها لأردها إليك لتسر بها مع هذا الخطاب الذي شرحت لك فيه نيتي في إنقاذك، إن راتبك مائة جنيه في العام ... فلا تظهر المحافظة والإباء يا بني ... لا ترفض العطاء ... وهل كان أبوك من صلب آدم أو من سلالة الملوك حتى ترفض ... وأنت لا تصلح في الحقيقة إلا لما عرضته عليك ... هذا أول الغيث وعما قليل ينهمر ... إنك لن تفارق قصري ... وسأشرف عليك من قرب (تتوسل كيتي بل إلى شاترتون بنظراتها ألا يرفض وقد رأت منه تردده) .
شاترتون (يتردد لحظة ثم يقول بعد أن نظر إلى كيتي) :
إني أرضى بكل شيء يا لورد.
لودردال :
ما أرق فؤاد اللورد!
جون بل :
ألا تتقبل منا كأسا من الشراب للمرة الأولى يا مولاي؟
كيتي بل (لابنتها) :
اذهبي فقبلي يده يا ابنتي.
الأستاذ (وهو يصافح شاترتون) :
أحسنت يا بني ... أحسنت.
تالبوت :
لقد كنت واثقا من ابن عمي اللورد ... هلموا بنا يا سادة، فقد انتهى الأمر على أحسن حال.
لورد بكفورد :
أي جون بل ... أيها الصديق الكريم ... خذني إلى عشاء هؤلاء الشباب الطائشين حتى أراهم وهم صافون حول المائدة ... إن ذلك يسرني.
لورد تالبوت :
يمين الله سنذهب جميعا حتى الأستاذ ... انظر يا ميلورد ... هذا شاترتون هادئ السرب ... متهلل الأسارير ... هلموا بنا تعالوا إلى العشاء يا سادة ... ولا تفكروا في شيء.
جون بل :
سنصحب جميعا مولاي الميلورد. (إلى كيتي بل)
اذهبي فأعدي كل شيء (تتقدم نحو حجرتها) .
شاترتون (يخاطب الأستاذ بتلطف) :
ألم أفعل كما كنتما تريدان؟ (إلى لورد بكفورد بصوت مرتفع)
مولاي! ... إني لك من الساعة ... وسأحرق جميع الصفحات الباقية لدي.
لورد بكفورد :
هذا حسن ... هذا حسن ... إنه سيصلح منه ما أفسد الشعر والتفكير (يخرجون) .
جون بل (يعود فيدنو من امرأته) :
وأنت فعودي إلى حجرتك ... واعلمي أني أراك وأسمعك (تقف عند باب الحجرة لحظة وهي تنظر إلى شاترتون نظرة خوف وقلق) .
كيتي بل (لوحدها) :
لماذا يريد أن يبقى وحده يا إلهي؟ (تدخل مع طفليها وهي تحمل أصغرهما فوق صدرها.)
الموقف الخامس
شاترتون (وحده يتمشى ذهابا وجيئة) :
اذهبوا فأمرحوا يا صحابتي ... ما أغرب ما تغيرت حياتي في لحظة واحدة! ... إني لا أكاد أصدق ... إذن فسيكون المستقبل رغدا هادئا ... ولكن ماذا كان يقصد هذا الرجل بذكره سرقاتي؟ ... أواه! ... هكذا يقول الجميع ... إنهم لا يصدقون أنني شاعر وأن القصيد قصيدي ... أي خطأ وأي لؤم! ولكن ماذا يكون عملي الجديد الذي يريدون! أتراني سأكون كاتب حساب؟ ... ذلك خير لأنه عمل شريف! سأستطيع أن أعيش دون أن أكتب هذه السخافات التي يسمونها شعرا ... وسيعود الأستاذ إلى هدوئه الذي عكرته عليه ... ثم هي ... هي كيتي بل! لن أقتلها إذا صح أنني كنت سأقتلها ... أيجب أن أصدق هذا؟ ... إني أشك فيه ... إنها لا تحمل إلا فؤاد الوالدات ... ولكن هذا خير لأنني لن أراها ... إنني سأجتهد في عملي الجديد وأدأب وأظهر القوة والنشاط ... هذا أهون من أن يقتل الإنسان نفسه ... ولكن الآن ... لماذا أعيش؟ ... ولمن أعيش؟ ... لكي تعيش هي وكفى! ... إذن فابتعدي عني أيتها الأفكار الشريرة ... أيتها الخواطر السوداء ... لا تعودي إلي ... لنقرأ هذا (يأخذ جريدة هناك فيقرأ) «إن شاترتون ليس المؤلف لقصائده، والدليل على هذا أن هذه القصائد البديعة هي في الحقيقة لشاعر قديم يدعى رولي ... كان قد ترجمها عن شاعر من شعراء القرن الحادي عشر ... إن هذا الغش قد يكون أدعى للرحمة والغفران؛ لأنه جاء من فتى غر مجهول ... الإمضاء بال.» بال! ... من بال هذا؟ ... ماذا صنعت له؟ ... من أي قاذورة خرج هذا الثعبان؟ ... ويلاه! ... إن اسمي قد شوه ومجدي قد أطفئ ... وشرفي قد ضاع ... أواه! ... ولكن لا ننسى اللورد ... ولا ننسى المحسن العظيم ... لنر ماذا يعرض! (يفض الخطاب ثم يقرأ ... ولكن لا يلبث أن يصيح بأعلى صوته وهو في أشد الغضب)
وظيفة رئيس الخدم في قصره! ويلاه! ... ويلاه! ... أيتها الإنسانية الملعونة ... أيتها الأرض المحقرة! ... عليك اللعنة إلى يوم الدين! (يخرج زجاجة الأفيون)
أي نفسي! ... لقد بعتك بالأمس ... وها أنا أستردك اليوم! ... (يشرب الزجاجة)
اليوم سينال الدائن دينه! الآن أصبحت حرا متخلصا من الجميع ... تحية أيتها الساعة الأولى للراحة في الأرض ... وسلاما أيتها الساعة الأخيرة في الحياة ... ومرحبا بك يا فجر اليوم الآخر! ... الوداع أيتها العواطف البشرية بكراهاتك ونزعاتك وشكوكك وآلامك وأحزانك وهمومك ومتاعبك ... الوداع ... الوداع! أيتها الأرض ... ما أكبر سعادتي اليوم وبهجتي إذ أقول لك وداعا ... وداعا! ... آه! ليت الناس يعرفون ما أشعر به الآن من الراحة والهدوء ... إذن لما ترددوا إلى هذا اليوم في الرحيل عن الأرض (هنا يلبث لحظة طويلة مسترسلا في التفكير والتأمل، وفي خلالها يتجلى وجهه مشرقا مضيئا بروعة الموت ... يشبك يديه ويسترسل في القول)
أيها الموت! يا ملاك الخلاص ... ما أعذب سكونك وهدوءك! ... لقد كنت من قبل أحبك، ولكني لم أكن أستطيع أن أدنو منك ... إذن فانظر أيها الملاك العظيم وتمهل ... حتى نحرم الناس جميعا من آثار مقامنا في الأرض (يقذف بالصحائف التي معه في نار الموقدة)
اذهبي أيتها الخواطر النبيلة التي كتبناها لهؤلاء اللؤماء الأدنياء الجاحدين ... اذهبي فتطهري في لهيب النيران ... ثم اصعدي معي بعد ذلك إلى السماء! (هنا يرفع عينيه إلى السماء ويأخذ في تمزيق قصائده ببطء، في جلال وروعة أشبه بالذي يقوم إلى الصلاة.)
الموقف السادس (كيتي بل تخرج من حجرتها بهدوء ثم تقف فتراقب شاترتون عن كثب وتتقدم فتقف بينه وبين الموقدة ... ويقف هو إذلالا عن تمزيق الأوراق التي في يده.)
كيتي بل (وحدها) :
ماذا تراه يصنع؟ ... إني لا أجسر على أن أكلمه ... ماذا تراه يحرق؟ ... إن هذه النار تخيفني ... إن وجهه المشرق على ضوئها مرعب مخيف! (إلى شاترتون)
ألا تذهب فترافق اللورد إلى العشاء؟
شاترتون (هنا يترك الأوراق تسقط من يده وهو يرتعد) :
آه ... هذا أنت ... آه يا سيدتي ... إني أركع ... الشفقة ... الشفقة ... انسيني يا سيدتي!
كيتي بل :
رباه! ... ولم هذا؟ ... وماذا صنعت؟
شاترتون :
إني راحل! ... الوداع ... هوني عليك يا سيدتي، ينبغي ألا تنخدع النساء بنا إلى هذا الحد ... إن عواطف الشعراء لا تكاد توجد ... إنهم غير خلقاء من المرأة بالحب لأنهم حقا لا يحبون أحدا ... إنهم أنانيون لا يحبون إلا أشعارهم ... إن أذهانهم تأكل قلوبهم ... إذن فلا تقرئي دواوينهم بعد الآن ولا تقتربي منهم ... وأنا! ... لقد كنت أسوأ منهم أجمعين.
كيتي بل :
رباه! ... ولماذا تقول «قد كنت»؟
شاترتون :
لأني لست الآن شاعرا ... ولا أريد أن أكونه ... ألم تشهدي أني مزقت كل شيء ... ولكني لن أصبر بعد الآن خيرا من هذا ... الوداع ... اصغي إلي ... إن لك أسرة فتانة ناعمة ... أتحبي طفليك؟
كيتي بل :
أكثر من حياتي ولا ريب.
شاترتون :
إذن فأحبي حياتك لهما.
كيتي بل :
وا أسفاه! ... إني لم أحبها إلا من أجلهما.
شاترتون :
آه ... ليس في العالم أبدع من هذا يا كيتي ... إنك تشبهين إلهة الرحمة وأنت وملاكاك الصغيران فوق ركبتيك.
كيتي بل :
ولكنهما سيتركاننا يوما من الأيام.
شاترتون :
وهذه سبيل الحياة ... هذا هو الحب الذي لا يشوب صفوه خوف ولا تعكره أحزان ... إن روحهما قطعة من روحك ... ودماءهما من دمائك ... أحبيهما يا سيدتي وحدهما وفوق كل الناس ... عديني ذلك؟
كيتي بل :
يا إلهي! ... إن عينيك مفعمتان بالدموع ثم أنت تبتسم!
شاترتون :
ألم تستطع عيناك الجميلتان أن تبكيا يوما وشفتاك لا تفتران عن الابتسام ... أي كيتي ... لا تدخلي على أسرتك الهادئة حزنا لك غريبا عنها؟
كيتي بل :
وا أسفاه! ... وهل هذا في يدنا؟
شاترتون :
أجل ... أجل ... إن هناك أفكارا يستطيع الإنسان أن يغلق فؤاده دونها ... سلي الأستاذ يشرح لك ويفسر ... ليس لدي وقت ... ليس لدي وقت ... دعيني أذهب! (يمشي نحو حجرته.)
كيتي بل :
يا إلهي لشد ما يتألم!
شاترتون :
بل ... بالعكس ... إني شفيت ... ولكن رأسي فقط يلتهب ... آه يا للسعادة! ... يا للسعادة! ... ولكنها تسيئني الآن أكثر من قساوتهم ولؤمهم.
كيتي بل :
عن أي سعادة تتكلم؟ ... أعن سعادتك؟
شاترتون :
إن النساء مخدوعات في سعادتهن ... إنهم ينتظرونك هناك ... إني واثق ... ماذا تصنعين هنا؟
كيتي بل (وقد بدا عليها التأثر والانفعال) :
إني سأبقى ... ولو انتظرني أهل الأرض أجمعون!
شاترتون :
إني سأتبعك بعد قليل ... اذهبي ... الوداع ... الوداع!
كيتي بل (وهي تستوقفه) :
أنت لن تذهب؟
شاترتون :
سأذهب ... سأذهب.
كيتي بل :
أواه! ... أنت لا تريد أن تبقى.
شاترتون (في صوت رهيب) :
سيدتي ... إن هذا البيت لك ... ولكن هذه الساعة لي!
كيتي بل :
ماذا تريد أن تفعل في خلالها؟
شاترتون :
دعيني يا كيتي ... إن للرجال أوقاتا لا يستطيعون فيها أن يتعلقوا بأذيالكن ... دعيني يا كيتي!
كيتي بل :
لن أكون سعيدة يا سيدي إذا أنت ذهبت.
شاترتون :
هل جئت لتعذبيني ... أي شيطان سيئ بعثك إلي الآن؟
كيتي بل :
رعب لا يقدر!
شاترتون :
وسترتعبين لو بقيت!
كيتي بل :
يا إلهي! ... هل تكتم نيات سيئة؟
شاترتون :
ألم تدركي ذلك مما قلت؟ ... لماذا تبقين هنا؟
كيتي بل :
ولماذا لا أبقى؟
شاترتون :
لأني أحبك يا كيتي!
كيتي بل :
أواه يا سيدي! ... إنك لم تقل هذا الآن إلا لأنك تريد أن تموت.
شاترتون :
هذا حق لي ... إني أقسم بذلك أمامك الآن ... وسأقوله بعد أمام الله!
كيتي بل :
وأنا أقسم لك إنه جريمة فلا ترتكبها.
شاترتون :
بل يجب أن أفعل ... إني محكوم علي بالموت ... في هذا العصر المادي الموحش الملعون!
كيتي بل :
ولكن تمهل يوما واحدا لتفكر في روحك.
شاترتون :
لم يبق شيء لم أفكر فيه يا كيتي.
كيتي بل :
إذن فساعة واحدة للصلاة!
شاترتون :
لا أستطيع الصلاة الآن!
كيتي بل :
إذن فأتوسل إليك من أجلي أنا ... إن ذلك سيقتلني!
شاترتون :
لقد أقنعتك بألا تفعلي! ... ليس هناك وقت ... ليس هناك وقت.
كيتي بل :
إذن فلأني أحبك! ...
شاترتون :
لقد رأيت ذلك ... ومن أجله قد أحسنت صنعا بالموت ... من أجل هذا سيغفر الله لي!
كيتي بل :
وماذا صنعت إذن؟
شاترتون (بصوت رهيب) :
ليس هناك وقت يا كيتي ... إن ميتا يكلمك الآن!
كيتي بل (وهي تركع رافعة يديها إلى السماء) :
وا قوى السماء! ... الرحمة له والغفران!
شاترتون :
اذهبي! ... الوداع!
كيتي بل (وهي تسقط) :
إذن فلن أستطع ...
شاترتون :
بل الآن تضرعي لأجلي في الأرض ... ثم في السماء! (يقبلها في جبينها ... ويصعد السلم وهو يترنح ... ثم يفتح باب الحجرة ويسقط داخلها.)
كيتي بل :
ويلاه! ... ويلاه! ... (تجد الزجاجة)
ما هذا؟ ... رباه! ... رباه! ... الرحمة له والغفران!
الموقف السابع
الأستاذ (يدخل الأستاذ يجري مهرولا) :
لقد افتضحت يا ابنتي! ... ماذا تفعلين هنا؟
كيتي بل (وهي طريحة فوق الدرجات الأولى للسلم) :
اصعد يا سيدي ... اصعد مسرعا ... إنه سيموت ... نجه يا صديقي ... أنقذه ... إذا كان هناك وقت للنجاة! (بينما يصعد الأستاذ مدارج السلم، تجري كيتي إلى النوافذ والأبواب باحثة عن إنسان يستطيع النجدة ... حتى إذا لم تجد أحدا تتبع الأستاذ برعب شديد وهي تستمع إلى الأنين الذي يتصاعد من حجرة شاترتون.)
الأستاذ (وهو يصعد بخطى واسعة يقول لكيتي) :
ابقي يا ابنتي ... ابقي ... لا تتبعيني! (يدخل الحجرة ويغلقها في إثره ... تسمع أنات محزنة من شاترتون وتنهدات عالية ... فتصعد كيتي بل ... وهي مجنونة من الفزع ... وتتعثر في كل درجة تصعدها ... ثم تحاول فتح الباب ... وهي تشده إليها فيغالب قوتها أولا ثم ينفتح ... يرى شاترتون ميتا ... وقد سقط فوق ذراع الأستاذ ... تصرخ صرخة عالية ... ثم تقع في نهاية السلم ... وهي تحتضر ... وهنا يسمع صوت جون بل زوجها ... وهو يناديها من القاعة المجاورة.)
جون بل :
مسز بل! (تحاول كيتي بل أن تنهض بمجاهدة شديدة ... جون بل يناديها مرة ثانية)
مسز بل! (تهم بالمشي ثم تجلس على السلم ... وقد فتحت كتابها المقدس تقرأ آخر صلواتها ... ويجري طفلاها إليها ويتعلقان بثوبها.)
الأستاذ (وهو في أعلى السلم ) :
أواه! ... هل رأته وهو يموت؟ ... هل رأته؟ (يدنو منها)
أواه! ... ابنتي! ... ابنتي!
جون بل (يدخل بشدة فيصعد درجتين من السلم) :
ماذا تصنعين هنا؟ ... أين هذا الشاب؟ ... إني أريد أن يخرج من بيتي.
الأستاذ :
قل ما شئت الآن ... فقد مات!
جون بل :
مات؟
الأستاذ :
نعم مات وهو في نضارة الشباب ... لقد تلقيتموه أيها الناس بكل شر وسوء ... ثم تندهشون الآن وهو مرتحل!
جون بل (وهو ينظر إلى امرأته وهي طريحة) :
ولكن ...
الأستاذ :
كفى يا سيدي ولا تزد ... حسبك رعب امرأة! (ينظر إلى كيتي فيراها تحتضر)
خذ طفليها يا سيدي من هذا المكان ... أسرع حتى لا يشهدا هذا الموقف الرهيب (ينتزع الطفلين من عند قدمي أمهما ويسلمهما إلى جون بل، ويأخذ الأم بين ذراعيه ... يأخذ جون بل الطفلين بعيدا ثم يقف مبهوتا ... تلفظ كيتي بل أنفاسها بين يدي الأستاذ) .
جون بل (بخوف) :
ما هذا؟ ... ما هذا؟ ... كيتي ... كيتي ... ماذا بك؟ (يمسك عن القول إذ يرى الأستاذ يسقط فوق ركبتيه راكعا.)
الأستاذ (وهو راكع) :
أي ربي! ... تقبل في أحضانك هذين الشهيدين! (يظل راكعا وعيناه مرفوعتان إلى السماء، بينما الستار ينسدل في رفق.) (تمت)
عباس حافظ
فارصة الزوج الموسوس
ذات فصل واحد
بقلم: موليير
تعريب: عباس حافظ
خاصة جوق عبد الله عكاشة وإخوته
يوليو 1916
1
الفصل الأول
المشهد الأول (ساحة عمومية فيها بعض المنازل - جورجيبوس - سيلي - خادمتها - تخرج سيلي من البيت باكية وأبوها يتبعها.)
سيلي :
آه، لا يمكن أبدا أنني أوافق.
جورجيبوس :
ماذا تقولين يا وقحة، أتريدين أن تعارضيني في أوامري، أليست لي كل السلطة عليك يا قليلة الأدب؛ يعني عقلك أحسن من عقلي، ولا مخك الصغير أكبر من مخ والدك. من الذي يحق له أن تكون كلمته هي النافذة، أنا أم أنت؟ من الذي يستطيع أن يقول إن رأيك ألطف من رأيي؟ آه يا مجنونة! هل ممكن أنك تعرفين الصالح لك أكثر مني؟ أوعي تزعليني أديني بقولك. يجب أن توافقي بدون كلام، وترضي بالعريس المقدر لك إنك تاخديه. ربما تقولين أنك لا تعرفينه ولا تعرفين أخلاقه. ولازم أنك تفكري قليلا في المسألة وتدبري، ولكن بعد ما أخبروني أنه غني جدا وصاحب ثروة هايلة، أنا عاوز شيء تاني ولا يهمني شيء بعد هذا الخبر المفرح الجميل. راجل عنده عشرين ألف جنيه لا يمكن أن يكون ثقيل أبدا، ومستحيل أنك تكرهيه. والنهاية أنا ضامن أنك سترضين به وبهذا المبلغ الطيب الذي تحمليه إلينا، أليس كذلك؟
سيلي :
لا، لا يمكن للأسف.
جورجيبوس :
آه، آسف في عينك، يعني إيه للأسف، آدي الأسف اللي ناخده منك، ونترك للأسف العشرين ألف جنيه، ولأجل الأسف نضيع من إيدينا هذه الثروة الهايلة، أنا إن لم أكن مالك نفسي من الغضب كنت فرجتك دي لوقت الأسف يكون إزاي، هذه هي النتيجة التي طلعنا بها من قراءة القصص والروايات طول الليل وطول النهار لما امتلى مخك بحكايات العشق ونوادر الغرام. وأنا من هنا ورايح حاحرق كل هذه الكتب الملعونة المفسدة للبنات، ولازم من النهارده وطالع تقرئي الكتب النظيفة؛ كتب الأدب، كتب الأخلاق، كتب الدين، وفضك من الوساخة دي اللي علمتك على آخر الزمن أنك تطلعي في أبوك وتعارضيه في أوامره، ولو كنت قرأت الحاجات دي الطيبة من زمان ماكنتيش النهاردة تجبريني على أني أمشي على كيفك.
سيلي :
ولكن هل تريد أن أنسى الصحبة الطويلة اللي كانت بيني وبين ليلي، أنا طبعا أكون غلطانة إذا مشيت على كيفي، ولكن أنت أيضا تكون غلطان ومالكش حق إذا نسيت الوعد الذي وعدته لليلي.
جورجيبوس :
آه، أنا صحيح ارتبطت معه بهذا الوعد، ولكن وعد آخر جاء ففسخ هذا الوعد الأول؛ لأن المصلحة قبل كل شيء. نعم، إن ليلي شاب طيب ابن حلال، ولكنه مفلس لا حيلته لا شقارة ولا نقارة، ولا يليق، في رأيي أننا علشان خاطر إفلاسه نترك هذا الغني العريض الذي أرسله الحظ إلينا. إن الذهب يا عبيطة يخلي الخلق المقلبة والسحن الملخبطة والأشكال المعفرتة تبان للناس جميلة، منظمة، لطيفة، ويخلي الثقيل في نظر العالم أخف من الريش، ويخلي الأقرع نزهي، ويخلي البارد سخن. ونهايته إن الذهب هو أحسن جمال لصاحبه، ومن غيره تصبح الحياة نكد مستمر مالوش آخر. نعم، أنا عارف إن فالير مش خفيف على قلبك، وما يجيش على ذوقك. آه، ولكن إن ما كنش يكون حبيب يبقى أهو والسلام زوج، ويمكن الحب يجي بعدين؛ لأن الحب في أغلب الأحيان يكون ثمرة الزواج، وربما تتحسن الأحوال وتجديه بعد الزفاف يستاهل الحب، ولكن مالي ولهذه الحماقة، هل أجادلك وأقنعك وأحايل جنابك بدال ما أأمرك وأنفذ كلمتي عليك. فمن فضلك اتركي هذه السخافة، وسيبك من العباطة، ولا تسمعين بعد هذه الساعة شكاياتك السخيفة التي لا محل لها من الإعراب، وسيحضر حماك لزيارتك في هذا المساء، فلازم تقابليه أحسن مقابلة وتحتفلي بحضوره. وإن كشرتي ولا بوزتي وحياة راس والدك. هيه! آدي أنت عارفة زعلي يبقى إزاي (يخرج) .
المشهد الثاني (سيلي وخادمتها)
الخادمة :
إزاي يا ستي! بقى كده ترفضي على طول اللي بيدوروا عليه الناس كلهم في الزمن ده، وبيتمنوه من قلبهم. بقى تعيطي من العدل اللي ربنا بعتولك لحد عندك ولا تضحكيش، وتفرحي وتقولي أيوه طوالي من غير كلام. يا خسارة! ياريتني كنت أنا اللي عاوز يجوزني، دانا كنت أجننت من الفرح، وكنت مش أقول بس أيوه، ولكن 12 أيوه في بعضهم. صحيح، صدق خوجة أخوك الصغير لما كان بيقول لنا إن النسوان زي شجرة اللبلاب، ما تفرعش كويس إلا لما تلف على شجرة غيرها وتضم نفسها عليها، وإنها ما تكبرش ولا تمتدش إذا سبناها لوحدها وما لألنلهاش شجرة تطلع عليها. والحقيقة ما كدبش الخوجة في المثل أبدا؛ لأني كنت بحس بكده لما كنت مع جوزي الله يرحمه، كان راجل طيب، دانا كنت وأنا على ذمته مزهزهة زي الفلة، وسمينة زي الجزيرة، والعنين كده تقولي زي عنين البقر، والخد زي طبق الورد، وكنت فرحانة ومبسوطة ولا حملش هم، وكنت في ديك الزمن اللي حقا فات زي الهوا، أنام في عز الشتا من غير لحاف، وديني الأيام دي باترعش في عز الصيف بأه. يا ستي، صدقيني مافيش أحسن من الجواز، وقطعت العزوبية وسنينها، دا مافيش أزفت منها، وخصوصا على البنت اللي دخلت في دور البلوغ.
سيلي :
وهل تنصحيني بأن أرتكب هذه الجريمة الشنيعة؟ وهي أن أهجر ليلي وأخون حبه وأتزوج برجل غيره لا يوافقني.
الخادمة :
ما هو ليلي بذمتي يا ستي راجل خاين ما ينفعش؛ لأنه بأه له زمان مسافر ولا حس ولا خبر، دانا خايفة لايكون غيابه الطويل علشان شيء، يمكن بيحب واحدة ثانية يا ستي، مين عارف!
سيلي (بعد أن تخرج صورة ليلي) :
آه، لا تؤلميني بهذا الظن الفظيع. تعالي، انظري إلى تقاطيع وجهه الجميل، إنها توحي إلى فؤادي أن حبه لي ثابت لا يزول، وأنا أعتقد أن هذه التقاطيع البديعة لا تكذب، وأن هذه الصورة تدلني على أنه لا يزال يحبني ويحفظ هوى لي في فؤاده.
الخادمة :
صحيح باين على وشه، إن الخلقة دي بتوريني بردو خلقة واحد بيحب، ولك حق صحيح أنك تحبيه.
سيلي :
ومع ذلك لازم، آه امسكيني، إني لا أقدر أن أقف (تقع منها الصورة) .
الخادمة :
ستي، آه، مالك؟ يا ربي! آه، أنت دايخة؟ أنت مسخسخة؟ آدي واحد جه أهو، قرب قرب من فضلك.
المشهد الثالث
سنارل (يدخل ويجري نحوها) :
ماذا حصل؟ أنا أهو.
الخادمة :
ستي حاتموت.
سنارل :
إزاي؟ مالها؟ إني أخشى أن يكون انتهى كل شيء، لنقترب منها. سيدتي، هل أنت ميتة؟ ياه! دي يظهر خلصت؛ لأنها ما بتتنفس.
الخادمة :
أنا رايحة أنده واحد خدام علشان يشيلها معنا، خلي بالك منها يا سيدي.
المشهد الرابع (سنارل - سيلي - مدام سنارل)
سنارل (وهو يضع يده على صدر سيلي) :
آه، إن جسمها برد ولا أعرف ما العمل! لنجس صدرها، آه يادي المصيبة، ولكن شايف فيها مع ذلك شيء من الرمق.
مدام سنارل (تنظر من نافذة بيتها المطل على الساحة، وإذ ترى زوجها هو وسيلي) :
آه! ماذا أرى؟ زوجي بين ذراعي امرأة؟ ولكن لا بد من النزول لأرى ما يكون. إنه يخونني بلا شك ويحب غيري، آه لازم أباغته.
سنارل :
يجب أن نسرع في إسعافها، إنها غلطانة جدا اللي تموت؛ لأنه من الحماقة والجنون إن الإنسان يذهب إلى العالم الآخر مع أنه يقدر هنا يمشي ويجري ويبرطع (يحملها مع الخادم الذي يأتي مع الخادمة) .
المشهد الخامس
مدام سنارل :
لقد هرب من هنا، ولا أعرف أين ذهب. ولكن لا أشك الآن في خيانته؛ فقد رأيت كل شيء. آه! هذا هو السر في البرود الغريب الذي يقابلني به في هذه الأيام. آه من الخاين، لقد أصبح يعطي كل اهتمامه وحبه وعناقه وأحضانه لغيرنا، ويسر سوانا على حسابنا، هذه عادة الأزواج دائما وهذه أفعالهم؛ يحللون لأنفسهم ما يحرمونه علينا، يبدءون في الأيام الأولى للزواج يستنكرون هجر الزوجة وخيانتها، ويظهرون لنا الحب الشديد والشفقة الجميلة، والاهتمام البديع، ولكن لا يلبث هؤلاء الخونة الغادرون الأدنياء أن يتسللوا خفية من مضاجعنا ليذهبوا إلى حبايبهم ورفقائهم وخلانهم، ونحن المسكينات غافلات ساذجات. (تلتقط الصورة التي وقعت من سيلي)
ولكن ما هذه اللقطة التي وقعت في يدي؟ إن إطارها جميل، والنقش بديع، إذن لنرى ما في داخلها.
المشهد السادس
سنارل (يدخل وهو يظن نفسه منفردا) :
كنا نظنها ماتت، ولكن المسألة جات سليمة والحمد لله، وستشفى في الحال ... ولكن أرى امرأتي هنا.
مدام سنارل (وهي تحسب نفسها منفردة) :
يا إلهي! هذه صورة مصغرة، ما أجمل هذا الشاب! إن الرسم يكاد يكون مجسما.
سنارل (لنفسه وهو ينظر من كتف امرأته للصورة التي في يدها) :
ما هذا الذي تنظر إليه بهذا الاهتمام؟ آه، إن هذه الصورة يظهر صورة رجل غريب، أنا قامت نفسي توسوس لي، وقمت أشك في أمانتها.
مدام سنارل (دون أن تلاحظ زوجها) :
إني لم أر صورة أجمل من هذه الصورة في حياتي، ولم تقع عيني على أبدع من هذا الشاب.
سنارل :
آه، وبتبوسه كمان. آه، آديني أفشتها.
مدام سنارل (مسترسلة في نجواها) :
إني لا أكتم عن نفسي إنني مسرورة من رؤية هذا الجمال، يا للأسف! ياريت لي زوج بهذا الحسن بدال جوزي ده، المجرد، النتن، الأرف، اللي يوقع اللقمة من الحنك.
سنارل (يخطف منها الصورة ) :
آه يا دون ! آديني ظبطك وأنت بتخوني شرفي، شرف جوزك العزيز. آه يا خاينة، وهو أنا ناقص حاجة من لوازم الزواج، مين يقدر يطلع في عيب، مش عاجبك ومالي عينيك هذا القوام الرشيق؟! وهذا القد الساحر الذي أعجب كل العالم، وهذا الوجه الفاتن البديع الذي تتلهف على تقبيله ألوف من النساء الجميلات والبنات الحسان، وهذا الجسم النظيف الخفيف الذي أصبح فتنة الجنس اللطيف، ألا يكفي كل هذا لإشباع فؤادك، حتى إنك علشان تملي معدتك حب؛ لأنك دباغة في الحب، رحت تجمعي بين حلاوة الزوج وحلاوة العشيق.
مدام سنارل :
بس بأه! هو الكلام ده يخش علي أنا؟ يعني بتسبق حضرتك.
سنارل :
من فضلك بلاش هزار، المسألة انكشفت، وفي إيدي الآن شهادة إثبات على خيانتك.
مدام سنارل :
بزيادة من فضلك ولا تزيد في زعلي، لا تظن أنك ستأخذ هذه الصورة أبدا، ولكن فكر قليلا ...
سنارل :
لا أفكر إلا في أن أخنقك وأقصف رقبتك، آه بس لو يقع في إيدي مع الصورة صاحبها كمان.
مدام سنارل :
وحاتعمل إيه؟
سنارل :
مالكيش دعوة. (ينظر إلى الصورة)
آه، هذا هو الشاب الجميل هذا هو رفيق السرير، هذا هو الوصمة التي وصمت بها جبيني، هذا هو الفاجر الذي ...
مدام سنارل :
الذي ... كمل ... كمل.
سنارل :
الذي ... أنا حاطأ من الزعل.
مدام سنارل :
ماذا تريد أن تقول لي بعد هذا أيها الزوج السكير؟
سنارل :
وأنت لسا سمعت حاجة مني يا فاجرة.
مدام سنارل :
وأنت تستجري تكلمني؟
سنارل :
وإزاي أنت استجريت تعملي العمايل دي؟
مدام سنارل :
عمايل إيه؟ إكلم، إكلم، بلاش ملاوعة.
سنارل :
آه، ما الفائدة من الشكوى الآن، وقد نبتت في جبيني هذه القرون الجميلة الزاهية التي تشبه قرن الخرتيت؟ آه يا للأسف! تعالي انظري موضعها اللطيف.
مدام سنارل :
أغرب شيء! بأه بعد ما أهنتني أكبر إهانة تستدعي الانتقام، جيت تدعي الغضب علشان تتسلى على حسابي، وعلشان تعرف تأثير كلامك عندي. أما وقاحة جديدة مالهاش مثيل! يبقى محقوق ويأوح.
سنارل :
أما سفيهة صحيح! مين يقدر يصدق النسوان بعدك يا فاجرة.
مدام سنارل :
اذهب وأمشي في الخبص والهلس اللي أنت عايش فيه، وابتهج بمومساتك ورفايقك وأشرح لهن حبك وهيامك، وأعطيهن بوسك وأحضانك، ولكن رجع لي الصورة فقط التي خطفتها مني (تخطف من يده الصورة وتهرب) .
سنارل (وهو يجري وراءها) :
ما تظنيش إني حاسيبك أبدا، لازم آخد الصورة غصب عنك.
المشهد السابع (ليلي - خادم)
الخادم :
أدحنا وصلنا بعد سفر تمانية أيام بالعدد لما إكسرت رجلي، واسلخت أفخاذي، ولما وصلنا انبسطت حضرتك وفرحت وجايبنا على وشنا كده من غير ما نستريح شوية، ولا ناكل لنا لقمة.
ليلي :
إن هذا الاستعجال لا يستحق الملامة؛ لأني حزين مضطرب البال من جو زواج سيلي، وأنت تعرف أنني أكاد أعبدها عبادة، وأريد قبل كل شيء أن أتحقق من هذه الإشاعة الملعونة.
الخادم :
أيوه، ولكن لازم أنك تاكل ولو لقمة صغيرة قبل ما تروح تحقق المسألة دي، علشان تتقوى شوية ويجمد قلبك وتقدر تقاوم الأخبار المحزنة؛ لأني مجربها في نفسي لما أكون على الريق وتجي لي مصيبة آسورأ وأقع في الأرض، ولكن لما أكون واكل وداببها مافيش حاجة تزحزحني من حتتي. وصدقني يا سيدي كلام جد، لازم تملى بطنك وماتخليش فيها حتة فاضية أبدا، وعلشان تصادم الحزن طيب، لازم تشرب لك عشرين كباية نبيت على الأقل لأجل تطرد الزعل وتفتح نفسك للكلام.
ليلي :
لا أقدر أن آكل شيء مطلقا.
الخادم (لنفسه) :
يا سلام! أنا حاموت من الجوع. (إلى سيده)
ولكن الغدا متحضر خلاص.
ليلي :
اخرس، أنا لا أحس بالجوع ولكن بالألم.
الخادم :
ولكن أنا حاسس بالجوز.
ليلي :
إذن اتركني أخلو بنفسي وروح كل إن كنت تحب.
الخادم :
أنا ما أقدرش أعارضك في شيء أبدا.
المشهد الثامن
ليلي (لنفسه) :
لا، لا، لا داعي للحزن، إن الأب قد وعدني، والبنت قد رأت مني مائة دليل ودليل على حبي.
المشهد التاسع (يدخل سنارل وفي يده الصورة.)
سنارل (دون أن يرى ليلي) :
سنرى، إني أريد أن أجد هذا الفلاتي المجرم الذي جر على هذا العار. إني لا أعرفه.
ليلي (لنفسه) :
يا إلهي! ماذا أرى ؟ هذه صورتي، فماذا حصل؟
سنارل (دون أن يرى ليلي) :
آه! مسكين يا سنارل خسرت شرفك على الأواخر. لازم ... (يرى ليلي فيعطي ظهره وينظر إلى الناحية الأخرى.)
ليلي (لنفسه) :
إن هذا التذكار لازم أخذ من اليد التي أخذته مني.
سنارل (لنفسه) :
آه يا غلبان يا سنارل! الناس من هنا ورايح حايجعلوك لقمة في حنكهم، ما يسيبوش سيرتك، ويمكن يعملوا عليك مواويل، ويتفرجوا على الوصمة التي طبعتها على جبينك امرأة سافلة، دون، مغفلة.
ليلي :
ولكن هل أنا غلطان؟
سنارل (لنفسه) :
آه يا خائنة! هل طاوعتك نفسك على أن تجعليني خروف وأنا في زهرة الشباب، زوجة راجل يمكن أن يقال عنه إنه جميل أتفضل عليه واد مفعوص ماطلعش لسا من البيضة.
ليلي (لنفسه وهو ينظر إلى الصورة التي في يد سنارل) :
أنا غير مخطئ، هذه صورتي بعينها.
سنارل (يعطيه ظهره) :
أما الراجل ده غريب!
ليلي (لنفسه) :
إني مندهش جدا.
سنارل (لنفسه) :
ماله بيطلع لي كده؟
ليلي (لنفسه) :
أنا عاوز أكلمه. (بصوت مرتفع)
هل ممكن ... (يبتعد سنارل إلى الجهة الأخرى)
من فضلك كلمة يا حضرة ...
سنارل (وهو يبتعد أيضا) :
عاوز يقول لي إيه يا خويا؟
ليلي :
هل ممكن إني أعرف منك كيف تحصلت على هذه الصورة.
سنارل (لنفسه) :
وهو ماله يسأل السؤال ده؟ ولكن أنا شايف ... (ينظر إلى ليلي، ثم إلى الصورة)
آه، عرفت الآن، هذا هو الرجل الذي وسخ شرفي، هذا هو رفيق حضرة زوجتي.
ليلي :
ريحني من فضلك وقول لي جات لك الصورة منين؟
سنارل :
أنا واخد بالي يا أفندم، هذه الصورة هي صورة حضرتك، وكانت في إيد صاحبتك إياها، والمسألة ما يصحش إنها تتخبى علي، لي الشرف يا حضرة الفاضل بمعرفتك، ولكن من فضلك اترك من الآن هذا الحب الذي لا يوافق عليه الزوج، وأعرف أن روابط الزواج ...
ليلي :
ماذا تقول؟ زوج التي كانت عندها هذه الصورة؟
سنارل :
أيوه يا أفندم، امرأتي ولا مؤاخذة وأنا زوجها.
ليلي :
زوجها؟
سنارل :
أي نعم، لي الشرف يا حضرة ... وزوجها المغفل ولا مؤاخذة، وأنت تعرف السبب، وأنا الآن ذاهب لأخبر أقاربها.
المشهد العاشر
ليلي :
آه، ماذا أسمع؟ أتتزوج هذا الرجل القبيح الخلقة، الشايب المخلع، وبعد الحلفان الذي خرج من فمها الخائن. تتزوج هذا الزوج الثقيل المخجل وتنساني أنا وحبي، آه من الخائنة! آه من ناكرة الجميل! إني أحس بتعب شديد من هذه الضربة المؤلمة، ومن مشقة هذا السفر الطويل، وأشعر بضعف في القلب ولا أستطيع الوقوف.
المشهد الحادي عشر
مدام سنارل (تدخل وهي معتقدة أنها وحدها) :
آه، إن المغفل أخذ مني الصورة غصب عني. (ترى ليلي)
آه ما بالك؟ هل أنت مريض؟ إني أراك يا سيدي توشك أن تسقط من الضعف.
ليلي :
إني لا أستطيع أن أقف، إني مريض.
مدام سنارل :
أخاف أن يغمى عليك في الحال. تعال يا سيدي، تعال حتى تستريح.
ليلي :
أشكرك كثيرا يا سيدتي.
المشهد الثاني عشر (يدخل سنارل وأحد أقارب زوجته.)
القريب :
أنا طبعا متصور إحساس الزوج في مثل هذه المسائل، ولكن يجب أن لا نستعجل لأن الذي سمعته منك يا نسيبي العزيز لحد الآن لا يدل مطلقا على أنها خائنة، هذه نقطة صعبة لا يمكن إثباتها؛ لأن هذا الذنب لا يمكن يتحقق على الزوجة إلا إذا عرف الزوج أن يثبته تماما.
سنارل :
يعني لازم إن الإنسان يظبطها وهي متلبسة بالجريمة، مش كده؟
القريب :
إن الاستعجال يعرضنا للخطأ. من الذي يعرف كيف وقعت هذه الصورة في يدها؟ وهل تعرف هي صاحب الصورة أم لا؟ فحقق أنت ذلك، وإذا أمكنك أن تثبت لنا خيانتها، فنحن أول من يعاقبها أشد العقاب (يخرج) .
المشهد الثالث عشر (مدام سنارل وهي على باب بيتها تقود ليلي.)
سنارل (وقد رآهما) :
آه، ماذا أرى؟ المسألة مش مسألة صورة المرة دي، آه آدي الجد ولا بلاش.
مدام سنارل (إلى ليلي) :
ما الفائدة من هذا الاستعجال يا سيدي، ربما يعاودك المرض مرة أخرى إذا خرجت الآن.
ليلي :
كلا، كلا، إني أشكرك كل الشكر على هذا الجميل الذي صنعته لي.
سنارل (لنفسه) :
الفاجرة بتتأدب معاه قوي (تدخل مدام سنارل المنزل ) .
المشهد الرابع عشر
سنارل :
لقد رآني، إذن لننظر ماذا يقول.
ليلي (لنفسه) :
آه، إني حزين الفؤاد، ولكن يجب أن لا أتسرع مع الحزن، ولازم أحقق المسألة بنفسي. (يقترب من سنارل)
آه، إنك سعيد جدا بهذه الزوجة الجميلة للغاية.
المشهد الخامس عشر (سيلي من شباك بيتها وهي تنظر إلى ليلي وهو ذاهب.)
سنارل (لنفسه) :
المسألة مش عاوزة كلام، وهذه الكلمة اللي قالها لي حاتطلع روحي. آه من وجع القرون! (ينظر إلى الناحية التي خرج منها)
اذهب، إن هذه الفعلة التي ارتكبتها تخالف الشرف.
سيلي (لنفسها وقد نزلت إلى المسرح) :
آه، إن ليلي كان هنا الآن وقد رأيته بعيني، أين تراه ذهب؟
سنارل (دون أن يراها) :
آه سعيد جدا بهذه الزوجة الجميلة للغاية. نعم، ولكن حزين جدا وسيئ البخت جدا بهذه الخيانة الفظيعة جدا للغاية. آه! أيصح مني أن أتركه يذهب بعد هذه العملة السودة، وأنا واقف بسلامتي مكتف زي البأف. آه! كان أقله أرمي له برنيطته في الأرض وأضربه طوبتين ثلاثة، أو أقطع له هدومه حتت، وعلشان أفش غليلي فيه كان حقي عنفته وجبت التايهين حتى يعرفوا هذا اللص الذي جاء ليسرق مني أعز شيء في الدنيا وهو الشرف (في خلال هذا الكلام تقترب منه سيلي قليلا قليلا، وتنتظر حتى ينتهي من مناجاته لنفسه) .
سيلي :
هل تعرف هذا الشخص الذي كان هنا الآن وكنت تكلمه؟
سنارل :
أنا لا أعرفه أبدا للأسف، ولكن امرأتي هي التي تعرفه.
سيلي :
ولماذا أراك حزينا مضطربا هكذا؟
سنارل :
إني حزين مجروح الفؤاد ... دعيني أتنهد، دعيني أبكي ...
سيلي :
ولكن ما سبب هذا الحزن؟
سنارل :
إذا كنت تجديني الآن حزينا مهموما فمش من شيء شوية، وخصوصا إني لا أحتمل الحزن، ولا صبر لي على الهموم، ولكن أنا الآن أكبر مثال للأزواج السيئ البخت، الأزواج الأنطاع، الأزواج المغفلين؛ لأنهم سلبوني شرفي وعرضي ... أفسدوا سمعة سنارل المسكين، خسروا اسمه، ضيعوا راس ماله، قلبوا كيانه.
سيلي :
ماذا تقول؟
سنارل :
هذا الولد الرقيع، هذا الولد المخنث، هذا الولد المفعوص قد ... عفوا يا سيدتي ... قد طلع لي هنا (يشاور على جبينه)
ورأيت بعيني العلاقات الجميلة التي بينه وبين زوجتي.
سيلي :
هل الشخص الذي كان هنا الآن؟
سنارل :
أي نعم، هو بعينه، هو الذي لوث شرفي ... حضرته بيدوب في امرأتي، وامرأتي حضرتها بتدوب في جنابه.
سيلي :
أواه! لقد صدق ظني، إن هذا الحضور الفجائي كان لغرض فاسد، وقد ارتعشت عندما رأيته من النافذة، وكان قلبي يتوجس شرا من حضوره.
سنارل :
لقد أظهرت يا سيدتي الرقة لحالي في هذا المصاب الذي أصابني، مع أني لا أجد هذه الرقة عند أحد من الناس، بل بالعكس أرى كثيرين عندما يسمعون هذه الحكاية يضحكون ويتهامسون.
سيلي :
وهل في الدنيا أفظع من هذه الجريمة؟ ألا يوجد عقاب لهذا الخائن؟ وهل يليق بك أن تعيش بعد الآن وشرفك ملطخ بهذه الوصمة الشنعاء؟ يا إلهي! أحقا ما أسمع؟!
سنارل :
حقا، بالنسبة لي.
سيلي :
ويل للخائن، ويل للوغد الدنيء، ويل للمنافق الخداع.
سنارل :
أشكرك يا سيدتي على هذه الحمية للشرف.
سيلي :
آه من الخبيث الذي خدعنا وعكر فؤادنا وبدد هناءنا. (سنارل يتنفس طويلا.)
سيلي :
إن فؤادنا نقيا لم يرتكب ذنبا ولم يحدث سوءا، فؤادا طاهرا عذبا مخلصا، لا يستحق هذه الإهانة الفظيعة، وهذه الجريمة النكراء.
سنارل :
هذا صحيح.
سيلي :
آه، ولكنه قد هرب. إن هذا الفؤاد ليموت حزنا وكمدا كلما تذكر هذه الدناءة الشائنة.
سنارل :
سيدتي لا تحزني ولا تتأثري لمصيبتي هذا التأثر الشديد، هدئي بالك قليلا، إن مصابي قد أحزنك وجرح فؤادك.
سيلي :
ولكن لا تتصور أبدا أنني سأقنع من هذه المصيبة بالشكوى والتأوه والحسرات. كلا، إني سأعرف كيف أنتقم، وسيكون انتقامي أشد الانتقام، إني ذاهبة (تخرج) .
المشهد السادس عشر
سنارل (لنفسه) :
أما شابة رقيقة الإحساس صحيح، الله يخليها ويطرح فيها البركة، ويحمي عنها كل شر. يا إلهي! ما هذا الحنان الذي أظهرته، وهذه الحمية التي أبدتها، إنها تريد أن تنتقم لي، أنا وشرفي، وا فرحتاه! وفي الحقيقة إن تحمسها هذا لمسألتي يعلمني كيف أصنع الآن؛ لأنه لا يصح أبدا أن يسكت الإنسان ويحط في نفسه والصبر على هذه الإهانة الملعونة، اللهم إلا الأحمق والمغفل والنتن. إذن لازم أجري وأدور على هذا الوغد الذي أهانني، ويجب أن أظهر كل الشجاعة في الانتقام لشرفي وعرضي من هذه المخزية الشائنة، وستعرف أيها السافل إزاي يكون الضحك على قفا العالم، وإزاي جنابك تستغفل الناس وتلعب على ظهر الأزواج. (يمشي قليلا ثم يرجع)
ولكن لازم أهدي بالي شوية، وأبلع ريقي، لازم ما أتهورش لحسن أنا شايف كده إن الجدع ده شضلي وفتوة، وأخلاقه ضيقة، يمكن يرأعني بنية ياخد وشي أنا راخر، تبقى مصيبة فوق مصيبة، وتبقى قرون وعصي وبنيات وبكس وشلاليت وأخواتها. لا لا يا عم، أنا من طبعي ما أحبش الفتوات والمرازيين، وما أحبش الشكل والبهدلة ... ولكن شرفي بيقول لي إن في حالة بطالة زي ده لازم يجدعن ياواد وتنتقم ... ولكن خللي شرفي يقول اللي يقوله، ما يجي هو يدافع عن نفسه ويعمل اللي يعمله. طيب ولما أعمل جدع يا حضرة الشرف وبعدين أكلها لما أشبع، ويروح واخدني شلوت في معاشي ثم البلد تسمع بالخبر ده، تبقى مبسوط جنابك يا سي الشرف. أنا عندي أقرن ثلاثين مرة ولا إنيش أتبهدل وانبطح ويسيح دمي؛ لأن الضرب طبعا حايلخبط لي خلقتي ويكسر لي ضلوعي، ويخليني عاديك ما أتنظرش أبدا. الله يلعن اللي اخترع الزعل وقال لنا أنه فيه حاجة اسمها شرف، وأنه لازم على الإنسان أن ينتقم له من المرأة الخائنة؛ غيرنا يعمل العملة واحنا اللي نتلام عليها، نسوانا ترتكب الشيء المخل بالشرف واحنا اللي نقع في جرايره، دي مسألة كان لازم يتداخل فيها البوليس ويفضها من سكات. نعم، ولكن مش فيه حاجات كتيرة بتحصل للإنسان وبيصهين بردو، ويحطها تحت درسه وانتهت. مش فيه آلام تانية ألعن من دي، القضايا والخناق والجوع والعطش والمرض، وليه الإنسان يزعل على مسألة مالهاش أساس، لازم الإنسان يهزأ بالحاجات دي وما ياخدش في باله ويحط تحت جزمته كل هم، وإذا كانت مراتي هي التي عملت عملتها، فهي التي حقها تعيط وتزعل مش أنا؛ لأني حاعيط على إيه وأنا ما عملتش شيء، ولا ليش ذنب أبدا؟ وعلى كل حال أنا مستريح من ناحية واحدة؛ وهي أنني مش وحدي اللي وقعت في الورطة دي، كتير من الأزواج في هذه الأيام يلاحظون نسوانهم تشاغل من وراهم، وتداعب وترافق وتغازل و... و... وهم في غفلة ربنا. إذن فلا لزوم مطلقا لأن أذهب وأخلق لي خناقة من الهوا على إهانة ماخرجتش عن كونها كلام فارغ في فارغ ... ولكن ربما يسموني الناس أحمق مغفل؛ لأني لم أنتقم لهذا الثقيل الذي يسمى الشرف. (يضع يده فوق صدره)
آه، إني أحس هنا بفوران شديد، والغضب يتملكني الآن. نعم، ما يصحش إن الإنسان يكون جبان إلى هذا الحد، إني أود من صميم فؤادي أن أثأر من هذا الوغد ... إذن لأجل أن أفش غللي. الأول أبدأ بأن أنشر في كل مكان وكل حتة في البلد أنه نائم الآن مع زوجتي.
المشهد السابع عشر (جورجيبوس - سيلي - الخادمة)
سيلي :
نعم يا أبي، أريد أن أطيع أوامرك؛ لأنه من أكبر واجبات البنات، فافعل كما تشاء يا والدي العزيز وزوجني لمن تشاء، فأنا رهينة إشارتك.
جورجيبوس :
آه، إني مسرور الآن بهذا الكلام الجميل، تعالي يا ابنتي تعالي لكي أعانقك؛ لأن عناق الوالد مش عيب زي عناق الغرب، إن فرحي بك كبير جدا الآن، وكأني رجعت صبي للمرة الثانية (يخرج) .
المشهد الثامن عشر
الخادمة :
أنا الحق أقول لك مستغربة خالص من أنك غيرت فكرك كده بالقوام من غير مناسبة.
سيلي :
ولو عرفت المناسبة لاحترمتني لهذا السبب.
الخادمة :
ويا ستي مافيش داعي أنك تخبي عني.
سيلي :
إذن فاعلمي أن ليلي قد جرح فؤادي بجناية فظيعة لا تحتمل، إنه لم يحضر إلى هنا، إلا لأجلها ...
الخادمة :
ولكن ... أهو جاي أهو
المشهد التاسع عشر
ليلي :
قبل أن أذهب من هذا المكان ولا أعود إلى الأبد، أريد أن أعاتبك قبل الرحيل.
سيلي :
ماذا؟ أتريد أن تكلمني أيضا بعد كل الذي حصل منك؟ ما هذه الجرأة؟
ليلي :
نعم إن جرأتي كبيرة، ولكن ذنبك أكبر. إذن فعيشي يا سيدتي وتناسيني، وابتهجي بالحياة في أحضان هذا الزوج الفاضل البديع الجميل الذي تفتخرين به وتفرحين.
سيلي :
نعم أيها الغادر إني سأعيش معه، وأكبر سروري أن أفأعك.
ليلي :
ولكن ما هو الذنب الذي ارتكبته أنا؟
سيلي :
سبحان الله! ترتكب الذنب ثم تسألني أنا ما هو!
المشهد العشرون (سيلي - ليلي - الخادمة - سنارل) (يدخل سنارل مسلح من رأسه إلى قدميه استعدادا للنزال والقتال.)
سنارل :
الحرب ... الحرب ... الحرب ... الدموية ... الهائلة ... المميتة ... على هذا الأثيم الغادر السارق للشرف، هذا الدني الذي لوث سمعتي وعرضي، من الباب للطاق.
سيلي (إلى ليلي وهي تنبهه إلى سنارل) :
التفت وانظر تعرف ذنبك.
ليلي :
آه، إني أرى ...
سيلي :
إن هذا المنظر يكفي لاندهاشك، أليس كذلك؟
ليلي :
ولكنه يخجلك أنت الأخرى أكثر مني، أليس كذلك؟
سنارل (لنفسه) :
إن غضبي الآن على آخر استيم، فلازم أتشجع، لازم أقتله بلا شك وأسيح دمه. (يخرج سيفه من غمده قليلا ويقترب منه)
إذن يجب أن أضربه.
ليلي (وهو يلتفت إليه) :
مع من تريد أن تتقاتل؟
سنارل :
لا أحد ... لا أحد ...
ليلي :
إذن فلم هذه الأسلحة كلها؟
سنارل :
هذه ... هذه ثياب. (لنفسه)
لأقول له إنها ثيابي لبستها من المطر، آه ما أشد فرحي الآن لأني سأقتله وأربح شرفي منه. لازم أتشجع، تشجع يا سنارل، تشجع.
ليلي (يلتفت إليه ثانية) :
هيه.
سنارل :
إني لم أتكلم، إني لم أتكلم ... (يضرب نفسه بضع لطمات فوق وجهه لكي يغضب ويفور دمه) ... (لنفسه)
آه، أيها الجبان! يجب أن تغضب، خللي دمك يفور. آه يا سنارل يا ضعيف، يا مسكين يا غلبان، أخص عليك! يا نعجة تحمس شوية، وحس على عرضك.
سيلي (إلى ليلي) :
كان يجب أن يقال لك في العتاب أكثر من هذا.
ليلي :
آه، إني أعرف جريمتك وغدرك بالحب والأقسام المؤكدة التي أقسمتها لحبيبك.
سنارل (لنفسه) :
يا سلام، مالي كده جبان ضعيف القلب!
سيلي (إلى ليلي) :
آه، كف عن هذه الوقاحة أيها الخائن.
سنارل (لنفسه) :
سنارل، أدنت شايف أهو عاوز يتخانق وياك، وبيجر شكلك، الشجاعة يا بني، كن قويا قليلا، تمالك نفسك واجتهد أنك تغلبه بشرف وأمانة، وهو أن تضربه وهو معطيك ظهره، حتى لا يقال أنك ضربته على غفلة منه.
ليلي (يتمشى خطوتين أو ثلاثة دون قصد، فيجعل سنارل يتراجع وكان من قبل يهم بالاقتراب) : ... (إلى سيلي)
أما وقد أغضبك حديثي، فأنا مسرور من فعلتك وراضي عن هذا الاختيار الجميل.
سيلي :
نعم، اختيار جميل على الرغم منك، اختيار لا يستطيع إنسان أن يعيب عليه أبدا.
ليلي :
وقد أحسنت في الدفاع عنه.
سنارل :
بلا شك، إنها أحسنت في الدفاع عني وعن شرفي، إن هذا العمل يا سيدي الذي عملته لا يتفق مع القانون، ولي الحق في الحزن والزعيق والصريخ، وإذا أنا كنت مغفلا من الأول، فأنا أريد أن أصلح هذا التغفيل الآن.
ليلي :
ولكن ما سبب هذه الشكوى وهذا الحزن؟
سنارل :
بزيادة بأه يا سيدي ماتاخدناش في لهجة! بأه حضرتك ما تعرفش المسألة اللي مطلعة روحي، ولكن كان لازم أن ضميرك ودمك يفهمك إن امرأتك هي امرأتي، ولا يليق بك أن تضحك على دقني وتأتي هذه العملة الملعونة.
ليلي :
أما تهمة غريبة مضحكة لم أسمع بمثلها في حياتي ... لا، لا، اطمئن يا عزيزي وأرح ضميرك، وأعلم أنها لك، وأنني أرفع من أن ...
سيلي :
كفى كفى أيها الغادر، ودعك من هذا النفاق والكذب.
ليلي :
ماذا؟ أتريدين أن تعتقدي أنني أرتكبت فاحشة مثل هذه؟ أتصدقين أنني أفعل هذا؟ أتريدين أن ترميني بهذه الخسة وهذا الجبن.
سيلي :
كلمه هو، كلمه، إنه يستطيع أن يشرح لك ويفسر.
سنارل (لسيلي) :
إنك دافعت عني أحسن دفاع، حتى إني لا أعرف ماذا أفعل الآن؛ ولذلك، الأفضل أني أوكلك في هذه المسألة.
المشهد الواحد والعشرون
مدام سنارل (إلى سيلي) :
أنا يا سيدتي لا أغير منك ولا أحب أن أغير منك، ولكن أنا مش مغفلة للدرجة دي، وإنما أنا عارفة كل شيء، وشفت بعيني ولا حدش قال لي، وما يصحش أبدا أن ترضي لنفسك العملة دي البطالة خالص، وهي أنك تخدي الراجل اللي ما أحبش غيره.
سيلي :
هذا هو التصريح الجميل اللي كنا عاوزينه من الصبح.
سنارل (لامرأته) :
حد قال لك تجي هنا يا قبيحة، جاية تتخانقي وتغجري، وهي اللي بتدافع عني أنا وشرفي ويا بعض، خايفة حضرتك على رفيقك أكتر من خوفك على عرضي.
سيلي :
اطمئني يا سيدتي، فإننا لم نفكر أبدا في أذيته. (تلتفت إلى ليلي)
هل سمعت؟ وهل تستطيع الآن أن تنكر؟ إنني مسرورة الآن؛ لأننا عرفنا نكسفك.
ليلي :
ماذا تقولون؟ إني لا أفهم منه شيئا مطلقا.
الخادمة :
إيه يا جماعة ده؟ وآخرة الكلام ده اللي مالوش معنى؟ من الصبح وأنا عاوزة بس أفهم ولو كلمة من اللي بتقولوه ومش قادرة، وكل ما أقول يابت استني للآخر لما تشوفي العبارة إيه، ألقى نفسي مش فاهمة ألعن من الأول، فقلت لما أداخل علشان أعرف المسألة إيه. (تتداخل بين ليلي وسيدتها)
جاوبوني بالدور وخللوني أتكلم (تلتفت إلى ليلي أولا)
أنت إيه اللي مزعلك منها؟
ليلي :
زعلني إن الخاينة سابتني وحاتجوز واحد تاني، فلما سمعت الإشاعة جيت جري وأنا مهموم جدا وحزين وغير مصدق أنني اتنسيت، وأن مركزي ضاع من فؤادها، فلما وصلت عرفت أنها خلاص متزوجة.
الخادمة :
متزوجة! متزوجة مين يا خويا؟
ليلي (مشيرا على سنارل) :
الراجل ده.
الخادمة :
إزاي؟ داهو؟
ليلي :
آه، آه، آه.
الخادمة :
ومين قال لك الكلام ده؟
ليلي :
هو نفسه في هذا النهار.
الخادمة (إلى سنارل) :
صحيح أنت قلت له كده؟
سنارل :
أنا! أنا ماقلتلوش إلا أنني مجوز امرأتي بس، وإن امرأتي هي امرأته.
ليلي :
وقد تأكدت لما رأيت صورتها في إيده.
سنارل :
صحيح، وآدي أهه.
ليلي (إلى سنارل) :
وأنت نفسك قلت لي إن المرأة التي أخذت من يدها هذه الصورة مرتبطة معك بروابط الزواج.
سنارل (وهو يشير إلى امرأته) :
بلا شك، وخطفتها من إيدها، ولو مكنتش الصورة مكنتش عرفت ذنبها.
مدام سنارل :
حضرتك عاوز تقول إيه؟ أنا لقيت الصورة صدفة مرمية على الأرض، وبعدين (تشاور إلى ليلي)
وجدت جنابه مريض فأخذته يستريح في البيت حتى يطيب ، وأنا مش واخدة بالي أنه هو صاحب الصورة أبدا.
سيلي :
أنا التي أحدثت كل هذا السوء تفاهم بالصورة لأنها وقعت من إيدي لما سخسخت. (إلى سنارل)
وحضرتك اللي شلتني وروحتني البيت.
الخادمة :
ودنتم شفتم إنكم من خيبتكم كنتم حاتفضلوا على الحسبة دي ولانتوش خالصين منها أبدا، وبقى كل واحد منكم مش في عقله.
سنارل (لنفسه) :
آه، بتبلفنا الخدامة دي ولا إيه؟ يظهر عاوزة لها قرشين، ولكن ... مالي عرقت كده وسخنت بقيت زي الفرن؟
مدام سنارل (لنفسها) :
لسه برضه قلقانة، ولا نيش مصدقة، وخايفة مع كده أنه بيغشني.
سنارل (إلى امرأته) :
أحسن شيء أننا ناخدها من قصيرها ونصدق الناس دول المعتبرين، وأنا حاتنازل عن حقي أكتر منك، لازم نتصالح.
مدام سنارل :
طيب معلهش، ولكن أديني بقولك لك أهه، خلي بالك وأمشي عدل، ولو عرفت شيء تاني عليك معنديش إلا الشبشب، فهمت؟
سيلي (إلى ليلي بعد أن كانا يتهامسان) :
آه، إذا كان الأمر كذلك فماذا أفعل الآن؟ وأنا لما صدقت المسألة دي رحت من زعلي قايلة لوالدي أنه لازم يجوزني لأي إنسان يعجبه، وكله علشان أنتقم منك وخلاص، ووعدته أنني أرضى بانتخابه، ولكن ها هو قد حضر.
المشهد الثاني والعشرون (يدخل جورجيبوس الآن.)
ليلي (إلى جورجيبوس) :
سيدي، هذا أنا قد رجعت من السفر على أحر من الجمر، وأنا معتقد أنني سأنال تحقيق الوعد الذي وعدته لي من زواج عزيزتي سيلي.
جورجيبوس :
سيدي، هذا أنا قد رجعت إلى هذا المكان على أحر من النيران، وأنا معتقد أنك لن تنال تحقيق الوعد الذي وعدته من زواج عزيزتي سيلي.
ليلي :
كيف يا سيدي؟ هل تخلف وعدك وتقطع أكبر أمل لي في الوجود؟
جورجيبوس :
نعم يا سيدي، أخلف وعدك وأقطع أملك، وأقوم بواجبي وأعرف شغلي، وأزوج بنتي لمن أشاء.
سيلي :
ولكن هل واجبك يا أبي أن تخلف الوعد.
جورجيبوس :
أخرسي يا بنت، أنت ما تفهميش شيء ولا تعرفيش صالحك، لازم ترضي بفالير. ولكن إني أرى والده قادما، لازم جاي عشان ينهي المسألة بالطبع .
المشهد الثالث والعشرون (يدخل والد فالير.)
جورجيبوس :
ماذا جاء بك إلى هنا يا صهري العزيز ويا حما بنتي العزيزة؟
والد فالير :
سر غريب عرفته هذا النهار، وهو يفسخ الوعد الذي كان بيني وبينك؛ إن ابني فالير متزوج من ورانا البنت اللي اسمها ليزا، وبقاله أربع تشهر وهو على كده ومحدش منا عارف شيء، وبما أننا كنا اتفقنا بينا على شيء وجات المسألة بالعند، فرأيت أن أحضر.
جورجيبوس :
عشان تفضها؟ أوي يا أفندم، دانا كنت راخر مخبي عليك أن بنتي مخطوبة من زمان لليلي مع أنه فقير يا سيدي، ولكنه غني عن الناس، له رب اسمه الكريم.
والد فالير :
عملت طيب في هذا الانتخاب الجميل.
ليلي :
ما أكبر سروري الآن! وما أحلى الحياة في نظري!
جورجيبوس :
هلموا بنا نختار اليوم الذي نحتفل فيه بالزفاف (يخرجون) .
سنارل (لنفسه) :
بالذمة ما شفتوش في الدنيا جوز موسوس زيي، ولكن ساعات الإنسان يتهيأ له يقوم يحسب العبارة جد. إذن لا تنسوا أبدا سنارل المسكين، سنارل الموسوس، سنارل اللي كان فاهم أن فروع هايلة طلعت في دماغه. تذكروني جيدا واجعلوني أكبر مثل للوسوسة، وإذا رأيتم يوما كل شيء فلا تصدقوا بشرفي شيئا. (تم الفصل)
مسرحية تيمون
تعريب: عباس حافظ
عام 1921
الفصل الأول: في أثينا (بهو في دار تيمون، وفي أقصى المسرح الموائد مصفوفة، يدخل الشاعر والمصور والجوهري والتاجر وآخرون من أبواب متفرقة.)
الشاعر :
طاب يومك يا سيدي.
المصور :
يسرني أن أراك موفور العافية.
الشاعر :
لقد افتقدتك من أيام عدة، كيف أنت والدنيا يا صاح؟
المصور :
إنها كلها نحت شاخت.
الشاعر :
ذلك أمر معلوم، ولكن أي شيء نادر غريب يروعك منها؟ ألا انظر كيف ستجد الكرم وفتنة الجود والسخاء؛ لقد ساق سلطانها كل هذه الأنفس، فجاءت إلى هذا المكان سراعا. إنني أعرف التاجر.
المصور :
إنني أعرف الرجلين؛ إن صاحبه جوهري.
التاجر :
إنه لسيد عظيم القدر.
الجوهري :
أجل، أنه لثابت اللمعة مشرق الضياء.
التاجر :
رجل لا قرين له ولا مثيل، لا يمل العطاء ولا يسأم العارفة.
الجوهري :
لقد جئته بلؤلؤة.
التاجر :
ألا فأناشدك الآلهة دعنا نراها. أللسيد تيمون جئت بها يا سيدي؟
الجوهري :
أجل، إذا هو تقبلها بثمن ربيح، ولكنه فاعل ذلك ولا ريب.
الشاعر (لنفسه متخيلا) :
إننا إذا تمدحنا القبيح أملا في الجزاء ونوال العطاء، فقد أضفنا جمال الشعر إذا نحن تغنينا بجمال الجميل.
التاجر (إلى اللؤلؤة وهو ينظر إليها) :
إنها لتركيب بديع.
الجوهري :
وإنها لسيرية، ألا تنظر هاك المائية تجري في خلالها؟
المصور (يميل نحو الشاعر) :
أسارح المخيلة أنت يا صاح في بيوت تريد أن تزجيها للسيد العظيم؟
الشاعر :
تلك أبيات زلفت من خاطري هاربة؛ إن الشعر فينا نحن الشعراء أشبه شيء بالصمغة لا يسيل لعابها عن شجرتها إلا من حيث تغذى وتسقى. إن الستار المختفية في حجرة الصوان لا تورى ولا تظهر إلا إذا حككت الحجر وقدحت الزناد. وأنت يا صاح ماذا لديك؟
المصور :
صورة يا سيدي. وحتى يخرج ديوانك أيها الصديق.
الشاعر :
على إثر النوال وأعقاب العطاء والإهداء. دعني أرى الصورة التي جئت بها.
المصور :
إنها لصورة جميلة.
الشاعر :
إنها لكذلك؛ لقد خرجت من يديك جميلة بديعة.
المصور :
بل وسطا بينهما.
الشاعر :
بل لتستحق الإعجاب. يا للصورة الجميلة! إن هذا الجمال يتكلم عن نفسه، ما هذا السحر العظيم في تلك العين! ما ذاك الخيال الرائع الذي يتحرك على تلك الشفة! إن في صحة هذه الإشارات والحركات ألف لسان وبيان.
المصور :
هذه تقليد جميل للحياة. (يدخل نواب كثيرون فيجتازون المسرح إلى الناحية الأخرى)
ألا انظر ما أكبر حاشية هذا الرجل وبطانته!
الشاعر :
هؤلاء شيوخ أثينا يا صاح.
المصور :
انظر، ها جمع آخر غيرهم.
الشاعر :
أرأيت هذا الطوفان! هذا الفيض العظيم من الزوار والقاصدين، إنني في هذه القصيدة التي أرسلتها عفو الخاطر قد صورت رجلا يلتف حوله الناس معتنقين ويمتدحونه حافين مالقين، وهو ينثر عليهم الأعطية ويبدر لهم البدرة ويجتذب القلوب العديدة، من المتملق الزجاجي الوجه إلى الفيلسوف المتسخط الغاضب الذي يكره نفسه أشد من حبه لشيء في العالم. بل إن هذا الرجل نفسه ليركع على ركبتيه أمام تيمون ويعود في سلام راضيا عن إطراقته لكلمة وقحته.
المصور :
لقد رأيتهما كثيرا يتحدثان.
الشاعر :
لقد تخيلت الثراء مصعدا ذروة جبل شاهق؛ حيث تترامى عند سفحه صحراء شاسعة غصت بالناس وامتلأت بعديد القوم، وكلهم عين طلعة لذلك الرجل الذي يعتلي سنام ذلك الجبل، حتى إذا غضبت إلهة الثراء على عشيقها وأولته وجها منها مكفهرا، لم يلبث أولئك الذين جروا وراءه يريدون قمة الجبل أن تركوه يهبط من تلك الذروة، وتزلق قدمه هاويا إلى الحضيض، دون أن تطاوع النفس أحدهم أن يرافقه في منحدره وسقوطه هذا مثل السيد تيمون، وإنه لأمر واقع إن لم يكن اليوم فغدا.
المصور :
هذا تصوير عادي يا سيدي لا روعة فيه، وإني لقدير على أن أصور لك ألف صورة أدل على تقلبات الدهر وصروف الثراء من كلماتك وقوافيك وقصيدك، على أنك قد أصبت أيها الشاعر في أن تفتح عين تيمون ليبصر المنحدر أمامه قبل أن يهوى إليه (يسمع نشيد من الداخل. يدخل تيمون فيحيي كل إنسان يراه بأجمل تحية، ويسير في إثره رسول من قبل فانتدياس وخدم كثيرون) .
تيمون (للرسول) :
أقلت أنه في غيابة السجن.
الرسول :
أجل يا سيدي العظيم، لثلاثين ألفا دينا مركبة وعجز عن النزول عنه، فلزمه الدائنون وحموا السبيل عليه، وهو يستنشدك كتابا منك إلى الذين قضوا بسجنه، فإذا لم يجد كتابك كانت أسطرك عزاءه، ورسالتك سلواه.
تيمون :
يا له من رجل شريف كريم! لست من أولئك الذين يطرحون عنهم أصدقاءهم إذا نزلت بهم حاجة إليهم، إنني أعرفه رجلا سيدا خليقا بالعون والغياث، وإنني لباذل عوني وغوثي، سأدفع أنا الدين وأفك إساره.
الرسول :
إنك يا مولاي ستلزمه عنقه لك إلى الأبد.
تيمون :
ألا أقرئه مني السلام، وسأرسل الدين يطلق سراحه، فإذا انطلق من السجن فليحضر إلي؛ إذ ليس حسبا أن نقيم عثار الضعيف، بل أن نرفقه بعد ذلك ونأخذ بيده سلاما لك.
الرسول :
السعادة لك أيها السيد العظيم (ينحني وينصرف، ينبري رجل شيخ من وسط الجمع) .
الشيخ :
أي تيمون العظيم، ألق إلي سمعك.
تيمون :
حبا وكرامة أيها الشيخ الكريم.
الشيخ :
إن في حاشيتك فتى يدعى لوسيلياس.
تيمون :
أجل، فماذا أنت محدثي عنه؟
الشيخ :
أي تيمون، سيد النبل والكرم، ألا أدعه يمثل بين يديك؟
تيمون :
أحاضر هو ندوتي هذه؟ تقدم أيها الفتى.
لوسيلياس (يتقدم من وسط الخدم) :
ها أنا ذا في خدمة السيد العظيم.
الشيخ :
إن هذا الفتى يا سيد تيمون، خادمك هذا وصنيعتك يلبس بردة الليل فيغشي داري تحت جنح الظلام. إنني رجل منذ ناشئتي الأولى، موفق ثراء حليف نعمة، وأنا أحرص الناس على أن أجد لثروتي وريثا أكرم من رجل خادم يطعم من موائد الناس.
تيمون :
وماذا بعد؟ ألا أكمل القول.
الشيخ :
إن لي فتاة وحيدة ستنزل إليها ثروتي، والفتاة صبيحة المحيا، ذات مسحة من الجمال، وقد ربيتها فأحسنت بمالي تربيتها، وفتاك هذا يستميلها إلى حبه، ولهذا جئت أضرع إليك أيها السيد العظيم أن تعدني عليه وتمنعه غشيان داري ورؤية فتاتي، بعد أن خاب فيه قولي ولم تثمر النصيحة.
تيمون :
ولكن الفتى لدينا وفي أمين.
الشيخ :
أجل، ولكن لا ينبغي أن تسلب أمانته ووفاؤه فتاتي.
تيمون :
أتحب ابنتك الفتى؟
الشيخ :
إنها طفلة غر سهلة القياد، ونحن الشيوخ نعلم أن الشباب خفيف الحلم طائش اللب.
تيمون :
أيها الفتى، أتحب الفتاة؟
لوسيلياس :
أجل يا مولاي، وقد بادلتني حبا بحب.
الشيخ :
إذا تزوجت فتاتي ولم تستوفر في الزواج رغبتي، فأنني مشهد الآلهة أنني مختار وريثي من عرض المتسولين المتكففين، وحارمها من الوراثة إلى الأبد.
تيمون :
نبئني أيها الشيخ كم يجب للفتى الذي ترتضيه زوجا لفتاتك.
الشيخ :
ثمانية عشر ألف درهم عاجلة، ونماؤها آجلة.
تيمون :
إن الفتى قضى دهرا في خدمتي، وعهد الوفاء يقضي علي بأن أخف له يدا، ألا هبه أيها الشيخ فتاتك، وأنا واهبه من المال ما أنت لفتاتك واهب.
الشيخ :
أسترهنك شرفك أيها السيد العظيم، والفتاة منذ الساعة ملك يمينه.
تيمون :
هاك يدي في يدك، وشرفي رهين موعدي.
لوسيلياس :
أشكر مولاي شكر الوضيع الحقير للسيد العظيم الخطير، ولن أحيا يوما غير مدين لك (يخرج هو والشيخ، يتقدم إذ ذاك الشاعر) .
الشاعر :
أصلحت الآلهة سيدي العظيم، ألا يتنزل سيدي لقبول خريدة خاطري؟
تيمون :
أشكرك سأسمع لك في الحال، فكن غير بعيد. (يتقدم نحو المصور)
وأنت يا صاح ما هذا الذي في يدك.
المصور :
قطعة من التصوير استنشدك قبولها.
تيمون :
مرحبا بالتصوير، فهو أقرب الأشياء إلى جمال الطبيعة، إنني أحب عملك، وستجدن دليل هذا الحب، كن غير بعيد حتى أستمع لك.
المصور :
حفظتك الآلهة.
تيمون :
سلاما أيها السيد، يدك أصافحها، يجب أن نجلس معا إلى الخوان. (إلى الجوهري)
وأنت يا سيدي، إن لؤلؤتك لم تصب من المديح قدر ما تستحق.
الجوهري :
كيف يا مولاي، إذ ما تستحق؟
تيمون :
بل طائفة من المدائح لا تعد.
الجوهري :
إنك يا مولاي تزين اللؤلؤة إذا لبستها، وهي لا تزينك.
تيمون :
أجدت السخرية.
التاجر :
كلا يا مولاي، إنه يقول حقا لا سخرية، والناس جميعا يقولون عنك ما قال.
تيمون :
من يكون ذا القادم؟ آه، أتريدون أن تسمعوا الآن ما أنتم له كارهون؟ (يدخل الفيلسوف ابيمنتاس.)
الجوهري :
إننا سنتحمل جميع شتائمه يا مولاي.
التاجر :
لن يدع أحدا يفلت من سبابه.
تيمون :
طاب مصبحك أيها الفيلسوف الكريم.
الفيلسوف :
دع طيب المصبح لك، فلن أكون كريما حتى تروح أنت لتيمون كلبا، وحتى يكون من هؤلاء الأوغاد قوم أوفياء.
تيمون :
كيف تقول عنهم أوغادا وأنت لا تعرفهم؟!
الفيلسوف :
أليسوا من أثينا وأثينا منهم!
تيمون :
بلى.
الفيلسوف :
إذن ما أنا بنادم عما قلت.
الجوهري :
أتعرفني يا ابيمنتاس؟
الفيلسوف :
أنت تعرف أنني أعرفك، ألم أسمك منذ لحظة باسمك، وأنعتك بوصفك؟!
تيمون :
إنك لرجل مزهو فخور.
الفيلسوف :
ما أنا فخور لشيء فخاري بأنني لست كتيمون (يمشي يريد الانصراف) .
تيمون :
وإلى أين أنت ذاهب الآن؟
الفيلسوف (يقف) :
لأدق عنق أثيني.
تيمون :
تلك فعلة ستموت من أجلها!
الفيلسوف :
ليكن إذا كان فعل الشيء التافه جريمة في القانون تستحق الموت.
تيمون :
ماذا تقول في هذه الصورة أتروق في عينك؟
الفيلسوف :
أجل، لنقائها وطهرها.
تيمون :
ألم يجد عملا من صورها؟
الفيلسوف :
لقد أحسن تصويرا قبله من صوره، وإن كان هو قطعة قذرة من الصور.
المصور :
إنك لكلب.
الفيلسوف :
لقد كان أبوك من جيلي، فمن يكون إذا أنا كنت كلبا؟
تيمون :
أيها الفيلسوف، ألا تجلس إلى طعامي؟
الفيلسوف :
كلا، إنني لا آكل لحوم الآدميين.
تيمون :
إنك إذا أكلتها أغضبت النساء وأسخطتهن.
الفيلسوف :
إنهن يأكلن الرجال، ألا ترى بطونهن كيف ترتفع إذا هن حملن؟ آه! كيف أنت أيها الشاعر؟
الشاعر :
وكيف أنت أيها الفيلسوف؟
الفيلسوف :
إنك لكاذب.
الشاعر :
كيف؟ ألست فيلسوفا؟
الفيلسوف :
بل إنني هو.
الشاعر :
إذن فلم أكذب.
الفيلسوف :
ألست شاعرا؟
الشاعر :
بل إنني هو.
الفيلسوف :
إذن فأنت كاذب إلي؛ انظر إلى أخيرة قصائدك، ألم تتخيل فيها تيمون رجلا عظيما؟
الشاعر :
إنني لم أتخيله، بل هو كذلك حقا.
الفيلسوف :
إذن فهو عظيم القدر مثلك، إن من يحب الناس لهو والمتملق سواء. الآلهة لي لو أنني كنت سيدا عظيما.
تيمون :
فماذا كنت فاعلا لو أنك كنته؟
الفيلسوف :
كما أفعل الآن؛ أكره السيد العظيم من كل قلبي.
تيمون :
كيف؟ تكره نفسك؟
الفيلسوف :
أجل.
تيمون :
وعلام الكره؟
الفيلسوف :
على أنني لم أكن أستحق أن أكون سيدا عظيما. (إلى التاجر)
وأنت ألست تاجرا؟
التاجر :
بلى يا ابيمنتاس.
الفيلسوف :
إذن فلتلعنك التجارة إن لم تلعنك الآلهة.
التاجر :
إذا لعنتني التجارة لعنتني الآلهة.
الفيلسوف :
إن التجارة هي إلهك؛ إذن فليلعنك إلهك (قرع الطبول والأناشيد من الخارج، يدخل خادم) .
تيمون :
ما تلك أيها الرجل.
الخادم :
هذا القائد السيباريس يا مولاي، جاء وفي رفقته فرسان مدججون.
تيمون (إلى حاشيته) :
ألا تقبلوهم وأحسنوا اللقيا، وأمضوا إلي بهم مكرمين. (يخرج بعض رجال الحاشية ... إلى الباقين من الزوار)
يجب أن تجلسوا إلى مائدتنا جميعا، لا تذهبوا حتى أشكركم؛ فإذا فرغنا من الطعام فأتوني بنفائسكم أجمعين. إنني فرح مغتبط برؤياكم. (يدخل السيباريس وحاشيته)
أهلا بك مرحبا معززا.
الفيلسوف :
يا للناس من القردة! ما أقل حب هؤلاء الأوغاد وإخلاصهم في وسط حفاوتهم هذه وآدابهم.
القائد :
إنني لمشوق إليك مفتقد طلعتك.
تيمون :
ألا مرحبا بك، هلموا بنا إلى الحجرات الأخرى نعد من المناعم ألوانا (يخرجون جميعا إلا الفيلسوف ... يدخل من الناحية الأخرى سمبرونياس ولوسياس) .
سمبرونياس :
في أي وقت نحن الآن أيها الفيلسوف؟
الفيلسوف :
الوقت الذي يجب أن يكون فيه المرء وفيا أمينا.
سمبرونياس :
إنه لم يحن بعد.
الفيلسوف :
إن ذلك لأشد لعنة عليك إذا أنت أغفلته.
لوسياس :
أمشترك أنت في مائدة تيمون؟
الفيلسوف :
أجل، لأرى اللحم الشواء يملأ بطون الأوغاد، ولأشهد معتقة الشراب تضرم رءوس الحمقى.
لوسياس :
إذن سلاما لك، سلاما لك.
الفيلسوف :
إنك لأحمق إذ تقرئني السلام مرتين.
سمبرونياس :
ولماذا يا ابيمنتاس؟
الفيلسوف :
لأنه كان ينبغي أن يحفظ منها واحدة؛ فإنني لا أريد أن أرد عليه مثلها.
سمبرونياس :
لتشنق نفسك.
الفيلسوف :
كلا، لن أفعل شيئا أنت آمري به، الآمر بذلك صاحبك هذا.
لوسياس :
أذهب أيها الكلب العقور، وإلا رفستك من هنا.
الفيلسوف :
أجل، سأغدو كلبا، ولكن في ظهري رفسة الحمار (يخرج) .
سمبرونياس :
إنه لعدو الإنسانية المسخط عليها، هلم بنا لنرى تيمون لكي نحسو من خمرته وننعم بمباهج موائده؛ إنه لآية الكرم وحسن المثوى.
لوسياس :
إنه ليصب الكرم صبا، إن بلونتس إله الذهب ليس إلا خادمه وغلامه، فلا تهدى إليه طريفة حتى يردها سبعة أضعافها، ولا تزجى إليها عارفة حتى يكسب صاحبها عشرات أمثالها أو فوق زيادة المستزيد.
سمبرونياس :
ها هو ذا قادم بجمعه العظيم (يدخل تيمون والسيباويس والوجهاء والشيوخ والخدم يعدون المائدة كلها، ويصلحون من شأنها؛ ينحني تيمون لسمبرونياس ولوسياس ويردان التحية؛ يدخل بعد الجميع منسلا كالكلب الفيلسوف غاضبا كعادته؛ تبدأ الموسيقى بالصدح والمنشدون بالألحان ثم بعد الموسيقى، يتقدم فانتدياس أمام تيمون) .
فانتدياس :
أي تيمون الكريم، لقد شاءت الآلهة أن تذكر عمر أبي المتطاول في الحياة فاختارته إلى جوارها، ومضى آمنا قرير العين إلى ضجعته الساكنة الأبدية، وخلفني أضم يدي على ثراء طائل، ولهذا جئت وأنا مدين لفضلك أرد إليك المال الذي أعطيت مضاعفا لك بالشكر.
تيمون :
كلا أيها الشريف الأمين، إنك تخطئ فهم حبي؛ لقد خرجت عن ذلك المال إلى الأبد طائعا راضيا، وليس في العالم رجل يستطيع بحق أن يقول أعطي، إذا هو أخذ واسترد.
فانتدياس :
لك الآلهة من رجل كريم النفس (يقف الجميع ينظرون إلى تيمون نظرات الاحترام والكلفة والتأدب) .
تيمون :
كلا يا سادة، لقد كانت الكلفة والتأدب والحشمة صنائع الرياء؛ إنني لتؤلمني التحية الجوفاء، والكلمات الفخمة المتأدبة؛ لأنه حيث تكون الصداقة الصادقة لا تعيش الكلفة الكاذبة؛ أرجوكم يا سادة أن تتخذوا مجالسكم إلى الموائد. هلم يا صديقي العزيز (يمسك سمبرونياس)
وأنت أيها الصديق الوفي هلم إلى مكانك منها، إنني لأرحب بكم إلى نعمتي أكثر من الترحيب بنعمتي إلي (يجلسون) .
سمبرونياس :
سيدي، لقد تبين لنا ذلك وأدركناه من قبل.
الفيلسوف :
أدركتم ذلك! ها ها، لقد شنقتم الصداقة شنقا.
تيمون :
آه! ها أنت ذا أيها الفيلسوف، مرحبا بك.
الفيلسوف :
كلا، لا ترحب بي؛ لقد جئت لكي تقذف بي خارج أبوابك.
تيمون :
ضلة لك! إنك لرجل سيئ الأدب! معذرة أيها السادة، إن هذا الرجل لا يرى إلا ثائرا غاضبا، ألا دعوه ولتبسط له مائدة وحده؛ لأنه لا يريد أنسا ولا هو يصلح له.
الفيلسوف :
بل دعني على مشهد من مائدتك. أي تيمون، إنني جئت لأشهد وأرقب، ها أنا قد حذرتك.
تيمون :
إنني لا أحفل بوعيدك، إنك رجل من أهل وطني، ولهذا أرحب بك. ألا دع شوائي يسكن من حدة لسانك.
الفيلسوف :
إنني أهزأ بلحمك وأسخر من شوائك؛ لأنني لا أريد أن أتملقك. أيتها الآلهة، كم من رجال يأكلون تيمون وتيمون لا يراهم! إنني ليحزنني أن أرى هؤلاء الجمع يغمسون من دمه ثم هو يرحب بهم ويشجعهم على التهامه، إنني لأعجب كيف يجرأ الإنسان على الثقة بالناس والركون إليهم! إن ذلك وذلك الرجل الذي يجلس الآن بجانبه ويشاركه في رغيفه ويعاطيه كأسه، لأخف الناس إلى قتله إذا تنكر يوما له.
تيمون (إلى سمبرونياس) :
سيدي، إلى الكأس. هنيئا مريئا ودع الكئوس تطوف دورا.
لوسياس :
دعها تفيض من هنا يا سيدي.
الفيلسوف :
تفيض من هنا! يا لك من رجل شهم! إنه حريص في الشراب على مده وجزره! أي تيمون، إن هذه الكئوس التي يشربونها في صحتك ستمرضك. هاكم الشراب الضعيف الذي لا يجسر على أن يكون شريرا مفسدا، هاكم الماء القراح الأمين الوفي، لم يسقط أحدا ولم يلوث أحدا، إلا أن الموائد والمآدب لتنسى الأكلين الآلهة. فلنطعم الآن، فلنطعم (يأكل ويشرب) .
تيمون :
أيها القائد، ألا يزال فؤادك في الميدان صائلا حائما؟
القائد :
بل إن فؤادي لا يزال رهن إشارتك يا مولاي.
تيمون :
أظنك تؤثر أن تكون في مائدة من الأعداء على أن تكون في مجلس من الصحاب الخلطاء.
القائد :
ما أشهى إلي من لحمان الأعداء.
الفيلسوف :
ليت هؤلاء المتملقين جميعا كانوا أعداء لك حتى تقتلهم وتولم لي على لحومهم.
سمبرونياس :
ألا يقدر لنا يوما يا مولاي أن نمتحن قلوبنا حتى نظهر لك مبلغ إخلاصنا؛ إننا إذا حظينا بهذه السانحة كنا أسعد السعداء.
تيمون :
بلا ريب أيها الأصدقاء، إن الآلهة قد قدرت من قبل أن أستمد كل شيء منكم. لقد حدثت نفسي عن فضلكم وصدق حبكم بأكثر مما تتحدثون به عن أنفسكم. لم نحتاج إلى اتخاذ الأصدقاء إذا لم نحتج يوما إلى معونتهم؟ إنهم ليروحون أتفه المخلوقات إذا نحن لم نبتلهم في اليوم القائم الأسود. إنهم ليصبحون أشبه شيء بأعواد الموسيقى معلقة في أغطيتها تحفظ أنغامها الفردة الحلوة لنفسها في أجوافها، لطالما تمنيت أن أكون فقيرا حتى أكون أقرب مني الآن إليكم. لقد خلقنا لنتعاون ومن أحق من صديق بعد ثراء أخيه ماله وثراءه. لي الآلهة، ما أبهجني إذ أرى كل هذا الجمع صديقا لي ووليا، إلا أن عيني لا تستطيعان أن تمسكا ماء الدموع. فلنشرب، إلى الكأس فلنشرب.
الفيلسوف :
تيمون، إنك الآن تبكي لكي يشربوا!
لوسياس :
ألا ثق يا مولاي أنك قد أثرت في أفئدتنا كثيرا.
الفيلسوف :
كثيرا! (تسمع دقات الطبول من الخارج.)
تيمون :
ما تلك الطبول؟ (يدخل خادم.)
تيمون :
ما وراءك؟
الخادم :
مولاي، تلك سيدات يسألن دخولا.
تيمون :
وما رغبتهن؟
الخادم :
إن معهن سيدة هي رئيستهن، وهي تريد أن تدخل لتعلن رغبتهن (يدخلن) .
السيدة الأولى :
ألا حيت الآلهة تيمون العظيم، وجميع أهل مجلسك وأصحاب أنسك وسمرك. إن الحواس الخمس قد نادت بك سيدها وسلطانها، وقد نعمت في مآدبك الأذن، وساغ المذاق، ولان الملمس، وتأرج الشميم، وبقيت العين تريد أن يتم نصيبها، وقد جئنا لنجلو العين ونفرح الناظر.
تيمون :
مرحبا بكن جميعا، ولتؤهل بكن أغاريد الموسيقى.
لوسياس :
ألا ترى يا مولاي مبلغ حبك في نفوس الجميع؟ (تصدح الموسيقى، النساء يرقصن.)
الفيلسوف :
اللعنة عليكن، نعيم باطل، لي الآلهة من رقصهن، إن نعيم هذه الحياة وزهوها لهو الجنون بعينه، إنني لأخشى هؤلاء الراقصات الآن على عينه أن يطأن يوما رأسه بأقدامهن. لقد كان ذلك حقا واقعا، إن الناس يغلقون أبوابهم في وجه الشمس الزائلة الغاربة.
تيمون (بعد انتهاء الرقص) :
لقد زادت مأدبتنا بكن أيتها السيدات الجميلات حسنا وجمالا، وإنني لكن لشاكر.
السيدة الأولى :
مولاي، لقد شهدت الآن برقصنا هذا أحسن ما فينا.
الفيلسوف :
أجل؛ لأن أسوأ ما فيكن القذارة والدنس، ولا يستحق أن يشهد.
تيمون :
أيتها السيدات، إن ثمة مأدبة تنتظركن، ألا أذهبن.
السيدات :
ينحنين. شكرا يا مولاي (يخرجن) .
تيمون :
فلافياس.
فلافياس :
مولاي.
تيمون :
علي بالصندوقة الصغيرة.
فلافياس :
طوعا يا مولاي. (في ناحية)
أحليا وجواهر ولآلئ لا يزال يريد إهداء. إنني لا أستطيع أن أعارضه وهو في لجة أنسه، لا أستطيع أن أقطع عليه بالنبأ الأليم فرحته، ولكني منبئه به في فرصة أخرى، سأكشف له عن سوء ما بلغت إليه حاله؛ فقد ذهب ماله وتبدد ثراؤه. أواه! ليت للناس أعينا في أقفيتهم حتى ينظروا أبدا وراءهم (يخرج) .
سمبرونياس :
أين رجالنا؟
أحد الخدم :
هنا يا مولاي على الأهبة.
لوسياس :
علينا بخيلنا (يدخل فلافياس يحمل الصندوقة) .
تيمون :
مهلا صحابتي مهلا، لي كلمة واحدة أريد أن أقولها لكم (إلى سمبرونياس)
ألا انظر يا سيدي الكريم، إنني أتوسل إليك أن تتقبل هذه اللؤلؤة. ألا تقبلها يا سيدي وتنزل إلى لبسها؟ كريم منك ذلك.
لوسياس :
لقد غمرتني من قبل أعطيتك.
الجميع :
وقد غمرتنا جميعا.
فلافياس (يقترب منه) :
مولاي، أضرع إليك أن تستمع لي كلمة واحدة ؛ إنها ذات أمر هام يتعلق بك.
تيمون :
سأستمع لك في فرصة أخرى، ألا هات ما لديك جميعا من نفائس وطرائف حتى نستطيع أن نكرم أضيافنا حق الإكرام.
فلافياس :
مولاي، أن الأمير لوسيلاس إظهارا لحبه ومودته قد أهدى إليك أربعة من الصافنات الجياد.
تيمون :
إنني مستقبلها بأحسن القبول، دع الهدية تحل محل الكرم.
فلافياس :
إن الأمير يرجو مرافقتك غداة الغد إلى الصيد، وقد أرسل إليك يا مولاي أربعة من كلاب القنص.
تيمون :
إنني لقانص معه، دع الكلاب تحس الشوى ولترد الهدية بأعظم منها.
فلافياس (في ناحية) :
إلام هذا سيؤدي بنا؟ إنه يأمرنا أن ننثر كبرى الأعطية والمنح من خزائن قد نضبت وصناديق خلت ونفدت. إن وعوده بالعطاء تطير من فمه مجتازة حدود ما في خزائنه، حتى لقد أضحت كل كلمة منها دينا عليه يستعجله الوفاء. وا كبداه! إن فؤادي لينفطر دما أسى على مولاي (يخرج) .
تيمون :
أيها السادة، ما بالكم محجمين؟ إنكم لا تعرفون مبلغ فضلكم (إلى لوسياس)
ألا تتقبل تافهة من حبنا؟
لوسياس :
بل أتقبلها بأجمل الشكر، إنك لروح الكرم والجود.
تيمون :
آه، لقد تذكرت! إنك قلت منذ أيام قلائل كلمات مديح وثناء في جواد كنت معتليا صهوته. إن الجواد لك منذ اللحظة ما دام قد راق في عينك.
لوسياس :
سماحة يا مولاي، ما أردت بمديحي ذلك النية.
تيمون :
خذ عني هذا يا سيدي، إنني لا أعرف رجلا يمتدح شيئا إلا وكان يحبه، وأنتم يا سادة سأقول لكم ما يجول بخاطري؛ إنني سأزوركم في دوركم فردا فردا.
الجميع :
لك منا أكبر الترحيب.
تيمون :
أيها القائد، إنك جندي، وقلما يكون الجندي غنيا، ولهذا يجب أن يقدم لك الغنى مسوقا موهوبا؛ لأنك تمضي حياتك بين أشلاء القتلى، وكل ما تملك من أرض ليس إلا ميدان قتال وساحة سعير، ألا خذ ما طاب لك.
القائد :
أجل يا مولاي، أرض مجزرة. شكرا يا مولاي (يتناول) .
سمبرونياس :
نحن جميعا نعيش على رابطة وثيقة من الحب.
تيمون :
وأنا منكم كذلك.
لوسياس :
معززا مكرما ، لا حد لمعزتك .
تيمون :
أضيئوا نورا، أضيئوا نورا، إنني طوع أمركم أيها الأصدقاء الأعزاء (ينحني الجميع بالتحية ويخرجون، يبقى تيمون مع الفيلسوف) .
تيمون :
أيها الفيلسوف، لو لم تكن متسخطا غاضبا لكنت محسنا إليك مكرما.
الفيلسوف :
كلا، لا أريد شيئا من إحسانك وكرمك؛ لأنك إذا رشوتني أنا كذلك ورفدتني لم يبق من أحد يشتمك ويلعنك ويفتح عينيك، وإذا لم تترك لك شاتما لاعنا محذرا، رحت أشد عدوا إلى الطيش والجرم منك ملعونا مشتوما. تيمون، تيمون، إنك أكثرت عطاء وأطلت بذلا، وأخوف ما أخاف عليك أنك باذل نفسك بعد ذلك عاجلا في حبك مكتوب. تيمون، تيمون، ما جدوى كل هذه الولائم ونفع كل هذه المناعم الباطلة.
تيمون :
إنك إذا عدت إلى لعناتك وسخرياتك مرة أخرى، أقسمت على ألا أحفل بك، ألا سلاما لك، وتعال مرة أخرى بنغمة أخف حدة من تلك (يخرج تيمون مغضبا) .
الفيلسوف :
تيمون، تيمون، إنك لا تريد أن تسمع لي الآن وما أنت بسامع غدا. عجبا أيها الناس، تروخون للنصيحة، صما مغلقي الآذان، وأنتم للملق والمديح أشد المخلوقات أسماعا وآذانا؛ ألا ويحكم، ويحكم (يخرج مهرولا. يدخل الخادم فلافياس من ناحية الحجرات وفي يده كثير من الوثائق) .
فلافياس :
ويلتا على تيمون ويلتا، إنه لا يحفل بشيء ولا يأبه، ولا يقف عن بذخه ولا يتمهل، إنه لا يكترث بما هو فيه، ولا ينظر حوله ليرى الغمة التي تريد أن تحوطه؛ فماذا أفعل؟ وما العمل؟ إنه لا يريد أن يستمع إلي، يجب أن أكشف له عن خافية أمره، إن كثيرين من الدائنين الآن وقوف بباب القصر يطلبون وفاء ديونهم (يدخل تيمون مغضبا) .
تيمون :
فلافياس، ادن مني، اقترب، ماذا حدث للدنيا حتى أصبحت أهاجم من جهاتي الأربع بصيحات ديون ممطولة؟ ماذا صار إليه أمر الكون حتى علقت هذه الديون المحنوتة المواعيد بشرفي. إنني لفي أشد العجب من ذلك! لم لم تبسط حالي بين يدي من قبل حتى أوازن بين ما في خزائني وما في طبائعي وسجيتي؟
فلافياس :
وا أسفاه يا مولاي! إنك لم تكن تسمع لي يوما أو تحفل بمقالي، لطالما لمحت لك في ساعات فراغك فما أعرتني سمعا.
تيمون :
كفاك، كفاك، أمعاذير هذه تتشفع بها من ذنبك؟
فلافياس :
وا حزناه يا مولاي! كثيرا ما أحضرت إليك حساب منصرفك وبسطته بين يديك، وكثيرا ما طرحته وألقيته بعيدا وقلت إنك استودعت مالك في ذمتي وأمانتي ووفائي، وكنت تأمرني أن أجزي الهدية التافهة بالعطاء العظيم، فكنت أبكي وأطرق الرأس حزنا ويأسا، ولطالما خرجت عن سنن الأدب فهمست لك في أذنك أن أقبض قليلا يدك، فما أصبت منك إلا زجرا، وما نلت منك إلا رفضا. سيدي المحبوب الكريم، لقد علمت بالكارثة في الساعة الأخيرة؛ إذ لا يكفي القليل الذي بقي لديك نصف ما في عنقك من دين.
تيمون :
إذن، فبع كل أرضي.
فلافياس :
وا أسفاه يا سيدي! لقد أصبحت رهينة؛ بعضها قد حل أجله، وبعضها قد سقط حقه، وما بقى منها لا يكفي لسد فم ديونك.
تيمون :
عجبا! لقد كانت أرضي تمتد إقليما إقليما إلى تخوم بعيدة.
فلافياس :
هونا يا سيدي العظيم، إن الدنيا كلها ليست إلا كلمة في الفم ولفظة على الشفتين، ولو كانت الدنيا جميعا لك لخرجت كلها من فمك في كلمة واحدة.
تيمون :
حقا أصبت.
فلافياس :
لو كنت في شك يا مولاي من دقة حسابي أو أمانة يدي وقلمي وجدول ضربي، فأحضرني أمام جمع من أدق المحاسبين المراجعين وأخبرني لديهم، تجدني لديك الصادق الأمين؛ ألا إنني لأشهد الآلهة على صدق ما أقول الآن. عندما كانت حجرات هذا القصر مخنوقة الهواء بأنفاس الطاعمين الواغلين، وكانت الأقبية تسيل أنهارا من معتقة الصهباء، وعندما كان القصر يستعر كله ضياء وشعاعا ولألأة، ويضج بالأغاريد ومشجية الغناء؛ كنت أنطلق منسلا إلى فتات أزدرده وماء عين أرسله، وبكاء ساخن أذرفه.
تيمون :
حسبك الآن لا تزد، حسبي ما سمعت.
فلافياس :
الآلهة أشهد، لقد كنت أقول واها للسيد العظيم، كم من خدم ورق وسفلة وأوغاد اكتظوا الليلة من طعامه، وانتفخت أوداجهم من شرابه؛ من ذا الذي يقول إنه ليس لتيمون صديقا وحبيبا، أي قلب وأي رأس وأي سيف وأي ثراء في الناس لم يكن هبته ومنحته. ويلنا! ويلنا! فإذا ذهبت الأداة التي كانت تبتاع كل ذلك المديح، اختنق الصوت الذي كان يلفظه؛ ألا إنه إذ تمطر الغمامة وتولف السحابة، يهرب الذباب وتفر الهوام مدبرة.
تيمون :
حسبك وعظا، ما أنا بنادم عن عطاء أعطيت. ماذا؟ أبكاء، أبكاء؟ لم يسيح منك الدمع؟ أليس لك ضمير يوحي إليك أن تيمون لن يعدم أصحابا؟ ألا أمسك عليك فؤادك لا تذب حشاشته، فلو أنني بلوت الآن القلوب به بالاقتراض لكانت لي ثروات الناس جميعا أبذلها بسخاء، وأتصرف فيها كما أشاء.
فلافياس :
ليت ثقتك هذه تروح محققة مؤكدة يا مولاي.
تيمون :
ألا تدري أن ما بي الآن من حاجة ليس إلا نعمة أنا بها فرح فخور؛ لأنها الفرصة السانحة لابتلاء أصدقائي وامتحان خلطائي، ألا إنك ستعلم كيف أخطأت تقدير ثرائي؛ إنني أن افتقدت اليوم مالا، فقد غنيت أصحابا وأحبابا. أيها الخدم، أقبلوا إلي (يدخل فلاميناس وسرفيلياس وآخرون) .
تيمون :
إنني مرسلكم جميعا متفرقين إلى قوم مختلفين، ألا اذهبوا إلى صفوة أصحابي وأقرئوهم مني سلاما، ونبئوهم أنني اليوم فرح فخور؛ إذ سنحت السانحة لاختبار حبهم واستقراضهم شيئا من أموالهم؛ دعوا الدين خمسين ألفا.
فلاميناس :
لتكن مشيئتك يا مولاي.
فلافياس (في ناحية) :
وا أسفاه! أمل خائب.
تيمون (إلى خادم آخر) :
وأنت إلى نواب أثينا الذين يعلمون أنني خدمت شعبهم، وأجزلت العون لوطنهم، فقل لهم يرسلوا في الحال ستمائة ألف.
فلافياس :
خبل يا سيدي؛ لقد نبئت أنهم سيطرقون رءوسهم رافضين، ولن تظفر منهم إلا برد مغبون.
تيمون :
أحقا تقول! ما أنا بمصدق محالا!
فلافياس :
بل إنهم لمجيبوك بلسان واحد ورأي مجتمع أنهم لا يملكون مالا فقراء خزائن، آسفون معتذرون، وما نحن منهم ظافرون بدرهم واحد.
تيمون :
جازتهم الآلهة! أيها الرجل، ليبتسم ثغرك ولتتهلل أساريرك. (إلى خادم آخر)
ألا اذهب أنت إلى فانتدياس. (إلى فلافياس وهو يبكي)
ويحك! لا تحزن ولا تبتئس؛ إنك لرجل صدق ووفاء، ولا لوم عليك اليوم ولا تثريب . (إلى الخادم)
ألا اذهب إليه، إنه قد وارى أباه تحت أطباق الثرى، وقد أضحى بموته غنيا، وقد كان فقيرا فأغنيت، وسجينا فأطلقت، نبئه أن حاجة مست صديقه، فليذكرني بالثلاثين ألفا التي أخذها. (يخرج الخادم)، (إلى فلافياس)
فإذا وصلت هذه إلى يدك، فادفع من الديون ما عجل الوفاء به، وإياك أن تظن يوما أن ثروة تيمون في صحابة قد غرقت في اليم فماتت ورقدت إلى الأبد (يخرج) .
فلافياس (يشهق بالبكاء) :
ليتني خائب الظن، الآلهة في عونك أيها السيد العظيم، الآلهة في عونك. (ستار)
الفصل الثاني
المنظر الأول (في دهليز من دار الندوة «السناتو» نواب وسادة واقفون جماعات جماعات، يدخل الخادم فلامنياس فيقترب من جماعة منهم.)
فلامنياس :
هل السيد لوسيلاس فيكم؟
لوسيلاس :
ها أنا ذا. (لنفسه)
آه، هذا أحد خدم السيد تيمون، والآلهة إنه لمرسل إلي هدية جديدة، حقا لقد صدقت رؤياي التي رأيتها ليلة الأمس؛ فقد رأيت فيما يرى النائم إبريقا من الفضة وآنية من الذهب. (إلى الخادم)
أي فلافياس مرحبا بك، كيف حال سيدك الكريم؟
فلامنياس :
إنه موفور الصحة يا مولاي.
لوسيلاس :
يسرني السرور كله أن يكون مكتمل العافية، ولكن ما هذا الذي تخفيه تحت معطفك.
فلامنياس :
لا شيء يا مولاي، غير صندوقة فارغة جئت بها من قبل سيدي تيمون ألتمس إليك أن تملأ فراغها ذهبا؛ فقد وقعت لسيدي حاجة عاجلة إلى خمسين ألفا، فبعث بي إليك يا مولاي يسألك بذلها، وهو واثق أنك لا تضن عليه بهذه المساعدة.
لوسيلاس :
لا، لا، لا، لا. أقال هو أنه واثق من ذلك؟ وا أسفاه! إنه لرجل نبيل وله دار كريمة ومغنى زاهر، وكم من مرة طعمت من مائدته وجلست إلى ولائمه، ولكني لم أكن أذهب إلى تلك المآدب إلا لأنصح له أن يترفق بنفسه ويشفق على ثروته، وكنت أمضي إلى الجلوس إلى عشائه لأعيد النصيحة وأكرر العظة، ولكنه لم يكن لينتصح أو يقبل بسمعه، لكل إنسان ذنبه، وحسن النية في تيمون ذنبه (يدخل خادم يحمل كئوس شراب) .
لوسيلاس :
فلامنياس، إنني أعهدك رجلا عاقلا؛ ألا وف نفسك حقها، تناول كأسا.
فلامنياس :
كلا، وشكرا يا مولاي.
لوسيلاس (يتناول كأسا) :
ألا وف نفسك حقها واغتنم فرص اللذات اغتناما. (إلى الخادم الذي جاء بالشراب)
اذهب أنت عنا. (يخرج)
ألا اقترب قليلا يا عزيزي فلامنياس، إن سيدك رجل كريم معطاء سخي، وأنت رجل عاقل تدرك حق الإدراك أننا في زمن يصح فيه الإقراض، ولا سيما على صداقة عادية بلا ضمان، هاك هذه الدراهم لك أيها الفتى العاقل، وتغافل عني قليلا وقل إنك لم ترني ولم تقع عينك علي. سلاما لك (يمشي مبتعدا) .
فلامنياس :
أيعقل أن تتنكر الدنيا في أيام، ويتغير العالم في لحظات، وتتبدل الناس غير الناس؛ ألا اذهبي أيتها الدريهمات الحقيرة، وطيري إلى من يتعبدك ويدين بك (يرمي بالنقود وراء لوسيلاس) .
لوسيلاس :
آه، إنك لأحمق وخادم أبله تليق بسيدك (ينصرف عنه) .
فلامنياس :
ألا طيري أيتها الدريهمات فكوني لعنته ونقمته، يا آفة الصداقة ولست منها. أكان للصداقة هذا القلب الضعيف القلب المتنكر حتى يتبدل في ليلتين؟ إن هذا الوغد الذي أكل من طعام سيدي لا يزال لحم مولاي في جوفه، فلم تردين أيتها الآلهة ذلك اللحم غذاء صالحا ودما، وقد ارتد لصديقه سما زغافا قاتلا (يخرج، يتقدم لوسياس مع جماعة كان واقفا معها) .
لوسياس :
ماذا تقول ومن تعني؟ السيد تيمون؟ إنه أكرم صديق علي، وسيد من أشراف الناس.
أحد الناس :
إننا نعرفه، وإن كنا غرباء لديه، ولكنا قد سمعنا عنه بعض إشاعات السوء؛ لقد قيل إن أيام تيمون الجميلة قد ولت، وإن ثروته قد أفلتت من بين يديه.
لوسياس :
لقد كذب القائلون، لا تصدق عنه ما سمعت؛ فلن يحتاج تيمون يوما إلى المال.
رجل آخر :
ولكن ألم تعلم يا سيدي أن خدمه قد ذهبوا إلى قوم من أصحابه يسألون لتيمون قروضا، ولكنهم انصرفوا منكورين مخيبين.
لوسياس :
ماذا تقول؟ هل رفض الرجاء؟
الرجل :
نعم، أؤكد لك ذلك.
لوسياس :
يا له من حادث معيب! أشهد الآلهة أنني لأشعر بالخجل وتعلوني وصمة العار! أرفض الرجاء لذلك الرجل الكريم؟ يا لنكران الجميل! إنني لأعترف لكم يا سادة أنني تلقيت من تيمون الشيء الكثير من العوارف والأعطية الصغيرة؛ ذهبا وآنية ولآلئ ونفائس كثيرة، ولكنها لا تعد شيئا مذكورا بجانب ما أصاب لوسيلاس وغيره منه، ولو أن تيمون أغفلهم وذكرني وبعث إلي بخادمه، لما ضننت بشيء من مالي عليه (يدخل سرفيلياس خادم تيمون) .
سرفيلياس (لنفسه وهو متقدم) :
يا لحسن الصدفة! ها هو السيد لوسياس الذي جئت أبحث عنه. (إليه)
مولاي.
لوسياس :
آه! سرفيلياس، مرحبا بك وسلاما عليك. ألا اذكرني بخير عند سيدك الكريم الفاضل السخي، وصديقي المخلص الوفي.
سرفيلياس :
مولاي، إنه قد أرسل ...
لوسياس :
ها، ماذا أرسل؟ إنني لمدين أبدا له، إنه ما يفتأ يرسل الهدايا يوما بعد يوم، كيف أستطيع له شكرا! قل ماذا أرسل إلي الآن.
سرفيلياس :
لقد أرسل مولاي اليوم حاجته مشروحة لكن مبسوطة لسمعك، أنه قد تعثر في ضيق لا يخرجه منه ألا أن تتفضل بإقراضه شيئا من المال.
لوسياس (ضاحكا) :
إنني أعرف السيد تيمون، يريد أن يمازحني بدعابة حلوة، إنه لا ينتظر ولا ريب مني أن أقرضه خمسمائة ألف.
سرفيلياس :
ولكنه في الوقت الحاضر يا مولاي يحتاج لأقل من هذا قدرا، ولو لم تكن الحاجة ماسة ما ألحقت يا مولاي في السؤال.
لوسياس :
أجادا أنت فيما تقول؟
سرفيلياس :
والآلهة لحقا قلت يا مولاي.
لوسياس :
أي حيوان شرير كنت إذ تصرفت في المال الذي كان عندي قبل أن يجيئني سؤاله! يا لسوء الفرصة ويا لغرابة القدر! سوأة لي كيف تصرفت بالمال قبل أن يشرفني بطلبه؟! أي سرفيلياس، إنني أشهد الآلهة أنني لعاجز عن الوفاء بما طلب، وأنا لعجزي محزون متألم؛ لقد كنت أهم اليوم قبل أن تصل إلي أن أبعث إليه استقرضه مالا، وهؤلاء السادة شهداني على ما أقول، ولكني غير فاعل ذلك الآن. ألا أبلغه عني سلاما، وقل له إنني أرجو أن لا يتغير في رأيه، وإنني أعد عجزي عن إجابة سؤله أكبر نكبة أصابت كبدي. أي سرفيلياس، ألا تسدي إلي هذا الجميل، فتحمل ألفاظي هذه بأعيانها إلى مسمعيه.
سرفيلياس :
إنني لفاعل ذلك يا مولاي.
لوسياس :
وسأجزيك عن ذلك في فرصة أخرى أحسن الجزاء. (يخرج سرفيلياس)
لقد تحقق قولكم يا سادة؛ إن تيمون قد عاد معدما، ومن يرد مرة رجاؤه، تسرع إلى الهاوية خطواته (يخرج) .
السيد الأول :
أرأيت يا صاحبي مبلغ اعتراف الناس بالجميل.
الثاني :
نعم، لقد شهدت الجحود في أشنع صورة.
الأول :
لا تعجب فذلك شأن الدنيا وروح العالم والمتملقون جميعا سواسية، لقد كان تيمون يرعى هذا الأمير برعايته ويدفع عنه دينه، ولم يكن يشرب ألا وخمر تيمون الذهبية تسيل على شفتيه، ثم أنظره كيف يرتد الإنسان حيوانا مشئوما دميما.
الثاني :
إنني لم أحس يوما من شراب تيمون، ولم أنعم بألوان موائده، ولم يصل إلي شيء من أعطيته، ولكن يغضبني أن يتنكر هؤلاء الأوغاد الواغلون له ويشيحوا عنه اليوم بأبصارهم؛ ألا إن الناس قد أصبحوا يتعلمون اليوم كيف يستغنون عن الشفقة ويطردون الرحمة والفضيلة من خطائرهم؛ لأن اللؤم والدناءة والدهاء والخبث والمكر قد حلت جميعا محل الضمير من قلوبهم (ينصرف هذا الجمع، يدخل سمبرونياس قادما من الخارج ومعه لوسيلياس خادم تيمون) .
سمبرونياس :
وكيف يسألني أنا حاجته قبل سواي، وكيف يخصني أنا بهذه المهمة الثقيلة على النفس؛ لم لم يمتحن لوسياس؟ ولم لم يبل لوسيلاس؟ ثم ها فنتدياس قد راح اليوم غنيا كبير الثراء، وقد فك من قبل إساره وأطلقه من محبسه؛ أن هؤلاء جميعا مدينون له بما ملكت أيمانهم.
لوسيلياس :
لقد حككنا يا مولاي معدن هؤلاء جميعا، فألفيناهم بهرجا مزينا إذ رفضوا جميعا رجاءه.
سمبرونياس :
ماذا تقول؟ أرفضوا جميعا حاجته؟ أيأباها عليه هؤلاء ثم يبعث بها إلي؟ أينكره الجميع ثم يريد أن أكون أنا ملاذه ومفزعه؟ أيخيب رجاءه أطباؤه، ويأبي إلا أن يكون برؤه على يدي؟ لقد أنزلني منزلة سوء وانتقص مني أكبر منتقص، وأنا منه مغضب حانق؛ إذ كان ينبغي له أن يعرف مكاني منه، وقد كان أخلق به أن يسألني أنا حاجته قبلهم إذ كنت أول من تلقى منه العطاء وتقبل الهدايا، ثم لا يتذكرني إلا آخر من يتذكر! كلا، لن أهبه حاجته فأروح في أعين الناس ضحكة هزأة، وأبدو بينهم أحمق مأفون الرأي، إنني لفي سعة ترد ثلاثة أضعاف ما طلب لو أنه بعث إلي قبلهم جميعا؛ ولكن الآن إليه فأضمم جوابي إلى أجوبتهم، فإن من يمتحن شرفي فلن يعرف ذهبي (يخرج) .
لوسيلياس :
رد بديع، وجواب رائع! إنك أيها الرجل شرير في لباس جميل، ووغد في ثياب منطق جميل، لقد كنت آخر أمل سيدي ورجائه، فلم يبق له اليوم من ملجأ إلا الآلهة (يخرج) . (ستار)
المنظر الثاني (المنظر الذي في الفصل الأول في قصر تيمون يدخل فلافياس حزينا.)
فلافياس :
وا أسفاه! لو كانت الأموال ميسورة لتيمون كانتظار هؤلاء الخدم الذين جاءوا يطلبون ديون سادتهم بأبوابه لكان خيرا لنا، ولكن لم لم تقدموا أيها الأوغاد وثائقكم يوم كان سادتكم يأكلون هنا ويشربون، وينعمون بموائد تيمون؛ إنكم تخطئون بالوقوف بأبوابه متسائلين عن المال ملحفين. ألا اتقوا أيها الأوغاد إنني ومولاي قد أنهينا الخاتمة؛ فهو لا مال لديه لينفقه، وأنا لا حساب لدي لأرقمه (ضجيج من الخارج. يدخل تيمون مسرعا وهو في أشد حالات الغضب) .
تيمون :
ماذا أرى؟ أأصبحت أبواب قصري في وجهي ممنوعة الطريق؟ أتصبح داري سجني ومحبسي؟ أيكون بيتي الذي نعمت فيه ولهوت وأولمت كبقية أهل الأرض يوليني منه قلبا كالحديد قاسيا، ويرتد في وجهي قفصا للمجرم عاتيا؟ أيها الدائنون الأوغاد، اضربوا قلبي سكة ونقودا، خذوا أموالكم من دمي قطرات قطرات، مزقوني، قطعوني، ولتسقط الآلهة فوق رءوسكم. يا للأوغاد! يا للعبيد المناكيد! إنهم كادوا يمنعونني التنفس.
فلافياس :
مولاي العزيز ...
تيمون :
ألا افعل كما أمرت.
فلافياس :
ولكن يا مولاي ...
تيمون :
إنهم سيحضرون الآن، أولئك الأصدقاء الكذبة المنافقون، أجل سأولم الوليمة الأخيرة لأولئك الأشقياء.
فلافياس :
ولكنك لا تدري يا مولاي ما أنت فاعل.
تيمون :
لا تحفل بما أنا فاعل. ألا افتح مرة أخرى طريقا لمد الأوغاد وفيض المنافقين (يخرج هو وصاحبه، يدخل خدم كثيرون يحملون أواني وأطباقا مغطاة يضعونها فوق الموائد التي في صدر المكان. يدخل الأمراء والوجهاء وكثيرون من شيوخ أثينا من أبواب متفرقة تصدح الموسيقى) .
سمبرونياس :
طاب نهارك أيها الصديق.
لوسياس :
وطبت يوما أيها العزيز، إنني لأظن أن صديقنا تيمون أنما أراد أن يمتحنا إذ بعث إلينا خدمه مستعرضا.
سمبرونياس :
هذا أكبر ظني، وقد كنت أفكر في ذلك، ولكني أرجو ألا يكون قد حزن مما رأى من أصدقائه العديدين.
لوسياس :
لا أظن ذلك، وإلا لما أقبل على دعوتنا إلى وليمة جديدة.
سمبرونياس :
هذا ما أرى؛ فلقد بعث إلي بدعوة عاجلة، ناشدني فيها الحضور، وقد عرضت لي شئون أخرى استحقتني على رفض الدعوة، ولكن لبهجة الدعوة كانت أشد إغراء، فرأيت لا غناء عن الحضور فجئت.
لوسياس :
وأنا كذلك؛ لقد أردت أن أتحلل من دعوته، ولكني لم أجد عذرا أنني لآسف إذ أرسل إلي في حاجة إلى المال، ولم يكن لدي منه شيء.
سمبرونياس :
لقد كنا جميعا مثلك، فلم يدفع أحد منا حاجته. كم الدين الذي طلبه؟
لوسياس :
خمسون ألفا. وأنت؟
سمبرونياس :
مثلها.
لوسياس :
وأنت يا صاح؟
لوسيلاس :
لقد أرسل إلي بطلب، ولكن ها هو ذا قادم (يدخل تيمون في حاشية له) .
تيمون :
مرحبا بكم جميعا، كيف ترون أنفسكم؟
سمبرونياس :
في خير حال، نرجو لك الصحة والنعمة.
لوسياس :
نحن أتبع لظلك فرحين مبتهجين لنسائم الصيف.
تيمون (لنفسه) :
وأنتم من غيم الشتاء آخره. أيها السادة، إن طعامنا لا يغني عنكم هذا الوقوف طويلا، ألا شنفوا آذانكم قليلا بصدح الموسيقى وسماع النشائد حتى تقرع الساعة للمأدبة (الموسيقى والألحان) .
سمبرونياس (بعد انتهاء الموسيقى) :
أرجو ألا تكون تألمت يا سيدي؛ إذ رددت إليك رسولك صفر الكف.
تيمون :
أوه! لا تلق على هذا بالا.
لوسياس :
سيدي العزيز.
تيمون :
ألا تهلل يا صديقي وابتهج.
لوسياس :
إنني لأشعر بأشد الخجل أمامك إذ رددت حاجتك غير مقضية.
تيمون :
أوه! لا تفكر في هذا مطلقا، ألا تدانوا جميعا.
لوسياس :
إنها صحاف مغطاة.
سمبرونياس :
إنني أراهنك، إنها لأطعمة فخمة لا مثيل لها.
لوسيلاس :
لا شك، أفي ريب من ذلك؟ فإن المال والفصل الحالي كفيلان بذلك.
سمبرونياس :
كيف أنت أيها الصديق ؟ ما وراءك من الأنباء.
لوسيلاس :
ألم تسمعوا بنفي القائد السيبياويس؟
سمبرونياس ولوسياس :
السيبياويس ينفى!
تيمون (من بعيد) :
أيها السادة، ألا تقتربون.
لوسيلاس :
سأنبئكم بجلية الخبر بعد حين، والآن هلموا ننعم بالوليمة الفاخرة.
لوسياس :
إن تيمون لا يزال على كرمه القديم.
تيمون :
ليتخذ كل مجلسه، وليقبل على مكانه إقباله على رشف رضاب خليلته. ألا أجلسوا يا سادة، ودعوا اللحم أحب إلى نفوسكم من صاحبه ومقدمه، وأشركوا في مجالسكم الأوغاد، وإذا جلس منكم إلى الطعام عشرون فليكن منهم عشرون وغدا. والآن اكشفوا الأغطية عن أطباقكم أيها الكلاب والعقوا (تنكشف الأطباق، فإذا فيها ماء ساخن) .
سمبرونياس (ناهضا من مكانه محتدا) :
ماذا يقصد بهذا السيد تيمون؟
الآخرون :
إننا لا ندري ما معنى هذا.
تيمون :
لتحرم الآلهة أعينكم أن تروا وليمة خيرا من هذه أيها الأصدقاء بأفواههم، الأولياء ببطونهم وأمعائهم، هاكم دخانا وماء حميما؛ فهو أصلح طعام وشراب لكم، هذا آخر ما بقي لتيمون في الحياة، لقد دنستموه بملقكم ولوثتموه بأكاذيبكم وريائكم؛ فليغسلها الآن عنه وليرششها اليوم في وجوهكم. (يقذف بالماء في وجوههم. ضجة من الجميع)
أيها الأوغاد الأدنياء، أيتها الحشرات الواغلة، أيتها الوحوش في أثواب الحملان، أيتها الذئاب البسامة، عيشوا طويلا لتقتلكم وفاءة الإنسان ووحشية الحيوان. رويدا، رويدا، على رسلكم أتذهبون؟ رفقا حتى أدفع إليكم بالأغطية وأجزيكم أحسن الجزاء. (يقذف بالصحون في وجوههم. يتحفزون للذهاب)
ما بالكم تتحفزون وتسرعون؟ لن تكون بعد اليوم ولائم إلا حوت أوغادا مثلكم. أي أثينا تدمري، ويا داري تخربي، ويا دنيا تنكري، إن تيمون قد أرتد للإنسانية عدوا مبينا (يخرج في حالة جنون) . (الستار)
الفصل الثالث (خارج جدران أثينا فوق جبل عال، والوقت فجر قبل مطالع الضياء.)
تيمون (يخاطب المدينة) :
وداعا أيتها الأسوار التي تنهض حولي أولئك الذئاب الضارية غوري في بطن الأرض فلا تحرسي هذا البلد الحقير، ويا أيها الخدم ارتدوا عصاة متمردين، ويا طاعة الأبناء موتي في البنين، أيتها العذارى الطاهرات ارددن على أعين أبائكن قذرات دنسات، وأنتم أيها الخدم الأمناء أسرقوا أسيادكم، أسرقوا بسنة القانون وأنهبوا بوحي الشرائع، وأنت أيتها الخادمة اذهبي إلى سرير سيدك، فإن سيدتك قد أوت إلى مكان البغاء، ويا ابن السادس عشر اختطف من الشيخ المتهدم عصاه فاهو بها على رأسه، وأنت أيتها الرحمة والسلام والعدل والصدق انقلبن إلى نقيضكن، واتركن الفوضى تجلس مجلسكن، أيها البلد اللئيم ما حملت منك إلا عريا وفقرا، وما رضيت عنك إلا الغاب دارا ومثوى. هنا سأجد أشد الوحوش وحشية أرق من أهل الإنسانية إنسانية، حتى إذا تقدم تيمون في الحياة أشتد بفضه لأهل الأرض أجمعين. (ينحدر عن الجبل ويأخذه التعب فيستريح، ثم ينهض على مشرق الضياء)
أيتها الشمس الكريمة المولد، انزعي من الأرض بردها ورطبها وعفونتها ودنسها، فسممي الهواء ببخارها ودخانها، وأشرقي على الناس أغنياء وفقراء، ودعي الكبير يلتهم الصغير، والقوي يأكل الضعيف، من الذي يجرأ بعد الآن أن يقف متطاولا مستوي العنق ويقول هذا الرجل متملق كاذب، والجميع مثله كذبة متملقون؛ ليس في العالم درجة من الغنى إلا تملقت لها الدرجة التي تحتها؛ فإن رأس العالم الشيخ الوقور لا تزال تطرق إجلالا لرأس الأحمق الغني، إذن فاللعنة عليك مؤدب الناس ومجامعهم، فإن تيمون يحتقر نفسه ويعنفها. الخراب لك أيتها الإنسانية والدمار، وأنت يا أرض آتني جذورا لمأكلي وأخرجي أعشابك من جوفك لطعمي. (يحفر الأرض بفأسه)
أيتها الأرض، من يطمع في شيء غير عشبك وزرعك، فأذيقيه سمك ومهلكة كلئك. ولكن اللعنة، اللعنة، ما هذا الذي أرى؟ أذهبا أرى؟ أصفر براقا خادعا؟ كلا أيتها الآلهة، ما أنا بطالب ذهبا، أيتها السموات إنني طالب جذورا وعشبا. إن قليلا من ذهبك هذا يكفي لأن يرد الأسود أبيض، والقبيح مليحا، والباطل حقا، والحقير خطيرا، والشيخ فتيا. (يضحك)
لم هذا الذهب؟ لم هذا النضار يا آلهة السموات؟ إنه سينزع الكهنة والعباد من حضرتك، ويطرد المصلين والقانتين من معابدك. إن هذا العبد الأصفر سيقرض الأديان ويحطم العقائد، ويجعل المبروص المجذوم مقربا، ويرفع مكان اللصوص فيضعهم فوق دسوت الحكم وعروش الإمارة؛ ألا لعنة الآلهة عليك، تعال أيها العبد اللعين، يا وسيط الناس في دناءاتهم. (تسمع طبول من بعيد)
أتلك طبول أسمع؟ أبهذه السرعة تقدمون على وسوسة الذهب؟ كلا، كلا، تعال أيها الذهب فأدخل في مرقدك ولا تظهر، ولكن لنبق القليل منه الآن معي (يحفظ منه شيئا. يدخل السيبياريس وجنوده في لباس الحرب) .
القائد :
من أنت أيها الشيخ الذي تلوح هناك؟ تكلم.
تيمون :
وحش مثلك. أكل السل لسانك إذ أريت عيني شبح الإنسان مرة أخرى.
القائد :
ومن أنت وما اسمك؟ أتكون إنسانا أنت ثم يصبح الإنسان في عينك إلى هذا الحد من النعت والكره؟
تيمون :
أنا عدو الإنسانية المبغض لها، وددت لو أنك كنت كلبا حتى أوليك شيئا من الحب.
القائد :
إنني أعرفك الآن حق المعرفة، ولكني لا أعلم ماذا ألم بثرائك حتى تراءيت في هذه الحال الشنعاء!
تيمون :
إنني أعرفك كذلك، ألا أتبع الطبل منك طبلا، ألا اذهب فضع للأرض من دماء الإنسانية ثوبا.
القائد :
ما الذي أصارك إلى حالك هذه؟
تيمون :
ما أصار القمر إذ أكدى نورا، ولكني لم أستطع أن أكون كالقمر متجددا؛ إذ لم أجد شمسا أقترض منها نورا.
القائد :
أي تيمون، ماذا تريد أن أفعل لأجلك؟
تيمون :
لا شيء إلا أن تكون على رأيي.
القائد :
وما رأيك؟
تيمون :
أن تعدني من الصداقة ألوانا ولا تنجز منها لونا، فإذا لم تعدني شيئا منها فلعنة الآلهة عليك؛ لأنك لست إلا إنسانا، وإذا أنت أنجزت منها شيئا فاللعنة كذلك عليك؛ لأنك لا تزال كذلك إنسانا.
القائد :
إنني كذلك في حال سوء؛ فقد أعوزني المال أسكن به ثائرة جنودي، ولشد ما حزنت إذ علمت بأن ذلك البلد اللعين قد تناسى فضلك يوم أراد العدو أن يغلبهم على أمرهم، فحلت بينه وبين ما أراد بسيفك وثرائك. ألا سلاما لك، وخذ هذا المال أصلح به بعض شأنك (يعطيه نقودا) .
تيمون :
أمسكه عليك، فأنني لا آكل ذهبا.
القائد :
فإذا قدر لي أن أنقض بنيان ذلك البلد، فأجعله كثيبا مهيلا.
تيمون :
أفي قتال أنت وبلدك؟
القائد :
أجل، وأنا الموتور.
تيمون :
لعنة الآلهة عليهم إذ تغزوهم، وعليك إذ تهزمهم.
القائد :
ولم اللعنة علي؟
تيمون :
إذ قدر لك أن تقاتل بلادي. ألا احتفظ بذهبك وهاك ذهبا، انطلق وكن عليهم وباء جارفا لا تدع منهم أحدا، لا تشفق على الشيخ الأشيب تروعك منه فروعه البيضاء، لا تدع المرأة الأريبة تفلت من حد سيفك؛ فأنها تضم ثوبها على أداة تخريب أفعل من نفسك. لا تدع وجنة العذراء تلين من غرب حسامك، ولا يحتل الطفل الذي يبعث بابتسامة الرحمة في أفئدة الحمقى يفر من ضربتك، ألا أعدده زنيما تطالبك الآلهة بخنقه، ألا اعصب عينيك، وضع أصبعيك في أذنيك، فلا تقد إليهما صيحات الأمهات، ولا تصل إليها صرخات العذارى الغريرات، ألا انشر الفوضى وأرسل ريح الدمار. انطلق لا كلم ولا حديث، ولتفتح الأرض أفواهها فتكون للجميع قبورا.
القائد :
ألا اضربوا الطبول نحو أثينا. وداعا تيمون، إنني لم أحدث لك ضرا في حياتي.
تيمون :
حسبك أنك كنت تقول عني خيرا.
القائد :
أتعد هذا ضرا؟
تيمون :
الضر كله. انطلق عني بجندك.
القائد :
إننا نسيئه بمحضرنا، هلموا بنا (تقرع الطبول. يخرجون) .
تيمون (يعود إلى الحفر) :
أيتها الأرض، يا أمنا الأولى، ناشدتك الآلهة أخرجي من صدرك لي جذورا أسد بها رمقي. ماذا أرى أكلأة أشهد؟ حمدا لك أيتها الأرض (يأكل. يدخل إذ ذاك الفيلسوف) .
تيمون (مجفلا) :
إنسان، إنسان! الوباء، الوباء!
الفيلسوف :
لقد دلني القدم على مكانك هنا، ولقد نبئت أنك أصبحت تقتدي بي وتسلك مسلكي؛ هذه آثار حزن ضعيف حقير وثب إليك من تغير الزمان وتنكر الدنيا. ما هذا الفأس الذي في يدك؟ وهذا المكان الذي اعتصمت به؟ وهذه العيشة المسفة التي تعيش؟ وما هذه النظرات الحزينة الشاردة التي تنظر؟ لا يزال الذين كانوا يتملقونك يرتدون مطارف الحرير، ويحتسون معتقات الشراب، ويرقدون في الفراش الوثير، وتعبق منهم أنفاس الأريج الذكي، وقد نسوا أنه كان يوما في الدنيا رجل يدعى تيمون، فلا تدنس هذه الغاب باتخاذك وجه المتسخط المتألم، بل كن الآن متملقا واطلب المال من السبيل التي افتقدتك. أين الآن مفاصل ركبتيك للسجود والركوع ؟ ألا دع عنك هيئتي لا تتخذها.
تيمون :
لو كنت مثلك لطرحت نفسي عني جانبا.
الفيلسوف :
لقد نبذتها من قبل. لو كنت يوم نعمتك في جنة، فعدت الآن أحمق أبله، يا لك من مجنون! أتحسب هذه الأشجار التي شهدت مصرع النسر بعد النسر، ومنية الطير بعد الطير ستمشي الآن في مواكبك وتتبع خطواتك وتروح منك كحاشيتك وبطانتك؟ ألا ادع الوحوش التي تسرح في الغاب تتملق لك وتمدح بشأنك.
تيمون (بغضب) :
اذهب عني أيها الرجل المجنون، انطلق. لم جئت تبحث عني؟
الفيلسوف :
لأغضبك وأسخر منك.
تيمون :
ذلك عمل الوغد.
الفيلسوف :
لو أنك ارتديت ثوب الحزن هذا الذي اشتملت به لتقتل من عزتك، لكان خيرا، ولكنك تفعل ذلك الآن كرها، ولو لم تصبح متسولا متكففا لظللت إلى اليوم ذا حاشية وخدم.
تيمون :
لماذا تكره الإنسانية أنت، وأنا أولى منك بهذا الكره؟ لقد كان الناس جميعا أشبه شيء بالأوراق اللاصقة بالصفصافة العظيمة، عصفت بها ريح شاتية فتساقطت عن أغصانها، وتركت عودي عاريا، ولقد نشأت في مهاد النعمة، فكان تنكر الحياة لي عبئا لا يزل لي حمله، ولكنك بدأت الحياة في ألم، ومشيت بها في عذاب فصلبت على الألم عودا، وقويت على العذاب حملا، فلم تكره الناس وتبغضهم؟ إنهم لم يطرحوا بين يديك ملقا، وأنت لم تلق إليهم عطاء، ألا انطلق عني، ابتعد.
الفيلسوف :
ألا تزال مزهوا فخورا.
تيمون :
أجل، بأنني لستك.
الفيلسوف :
وأنا بأنني لم أك يوما غنيا رب مال كثير.
تيمون :
انطلق عني، لو كانت حياة أثينا كلها في هذه البقلة لأكلتها أكلا (يلتهم الجذور) .
الفيلسوف :
ماذا تريد أن تحملني إليها؟
تيمون :
نبئها بأن لدي ذهبا. انظر، ها أنا أضم يدي عليه.
الفيلسوف :
لا نفع منه هنا.
تيمون :
بل أكبر نفع وأجزل فائدة؛ إنه يرقد هنا هادئا ساكنا لا يحدث أذى ولا يجلب ضرا. أيها الفيلسوف، ماذا كنت فاعلا بالعالم، إذا ملكت السلطان عليه.
الفيلسوف :
أعطيه للوحوش لأتخلص من الإنسان.
تيمون :
أتود أن تكون وحشا بين الوحوش؟
الفيلسوف :
أجل.
تيمون :
أمل وحشي أرجو الآلهة أن تحققه ؛ فلو كنت أسدا خدعك الثعلب، وإن كنت حمارا أكلك الذئب، فإن رحت ذئبا استراب بك الأسد، فإن عدت وعلا ركبك الزهو والخيلاء وسقت بحياتك إلى الموت في سورات غضبك؛ وإن دبا فتكك الجواد، فإن جوادا التهمك الفهد، فإن فهدا كنت بالنمر أقرب شبها؛ وأي حيوان تكونه ترح لحيوان آخر عبدا وليا، كيف استطاع الحمار أن يهدم الجدار، وكيف جئت إلى هذا المكان؟
الفيلسوف :
وسأجيئك كلما لم أجد عملا ألهو به.
تيمون :
لن تكون مرحبا بك حتى تكون آخر حي بقي على الأرض، اذهب الآن عني أيها الشقي، يحزنني أن أفقد حجرا ألقيه عليك (يقذفه بحجر) .
الفيلسوف :
يا لك من حيوان!
تيمون :
يا للعبد المنكود!
الفيلسوف :
يا لك من أفعى!
تيمون :
اذهب أيها الشقي عني، ابتعد أيها الوغد، لقد سئمت كل شيء في هذا العالم الكاذب. أي تيمون، احفر قبرك بيدك واتخذ مرقدك بجانب ضفة النهر حتى تتلاطم الأمواج المزبدة فوق قبرك. (ينظر إلى الذهب)
وأنت أيها الملك الجميل، يا فاصل الأب من أبيه، ومدنس فراش الأزواج الطاهرات، أيها الخداع الجميل المحبوب الناعم الخجول الذي تذيب حرارة خجله برودة الجليد، أيها الإله المحظور الملموس الذي تذلل العصي المستحيل فيكون طبقا مواتيا، أيها المتكلم بكل لسان في كل غرض، يا سحر القلوب وفتنة العقول، انشر الفوضى في الناس حتى لا يكون سلطان العالم إلا للوحوش الضارية.
الفيلسوف :
وددت لو يكون ما تقول. إنني ذاهب عنك لأنبئ القوم أن لديك ذهبا، فيهرع الناس إليك من كل فج ينسلون.
تيمون :
اذهب عني.
الفيلسوف :
عش واحبب بؤسك وجنونك.
تيمون :
عش طويلا كما أنت، ومت كما أنت. (يخرج الفيلسوف)
لقد تخلصت من هذا الشبح اللعين، ماذا أرى؟ أشباحا أخرى من قوالب الإنسانية؟ ألا كل يا تيمون وأبغضهم ولا تحفل بهم (يدخل اللصوص) .
اللص الأول :
أين تراه يضع ذلك الذهب؟ لقد ساقه فقدان المال وخذلان صحابه له إلى هذا الجنون المخيف.
الثاني :
لقد سمعت الناس يهمسون بأن لديه كنزا عظيما من الذهب.
الثالث :
دعونا نهاجمه، فإن كان بالذهب عابثا أعطانا منه الشيء الكثير بلا اكتراث، أما إذا كان يريد له حفظا فكيف السبيل إلى الذهب منه؟
الثاني :
كلام معقول؛ لأنه لا يحمل الذهب معه بل يخفيه.
الأول :
أليس هذا هو؟
اللصوص :
أين هو؟
الثاني :
هو بعينه، إنني أعرفه.
اللصوص (يهجمون) :
تيمون، أنقذ نفسك.
تيمون :
ماذا أرى؟ اللصوص للآن؟
الجميع :
بل جنود لا لصوص.
تيمون :
هما معا، وأبناء حواء أيضا.
اللصوص :
لسنا لصوصا، بل قوما عضتهم الحاجة.
تيمون :
ولم الحاجة؟ انظروا هاكم جذورا وكلأ وعشبا، على مسيرة ميل منكم مائة عين فياضة نابعة وشجر ناضر وزرع أخضر، إن الطبيعة الكريمة قد وضعت على كل غصن مائدة حافلة بالطعام لكم؛ أتقولون الحاجة بعد كل هذا؟ لم الحاجة؟
الأول :
نحن لا نصبر على طعام كهذا، نحن لا نعيش على الكلأ والأعشاب والماء كالوحوش والطير والأسماك.
تيمون :
أجل، يجب لكم معها لحمان الناس ودماؤهم، إنني أعرفكم لصوصا اتخذتم السرقة رزقا. إنكم تعيشون على حرفة مكروهة، ولكنكم في الحرف المقبولة والصنائع المقررة من سرقات ولصوصية لا حد لها أيها اللصوص الأشقياء. هاكم ذهبا انفثوا به الشر والإثم، إنني ضارب لكم على السرقة أمثالا؛ إن الشمس لا تزال لصا؛ إنها بسيرها العظيم تسرق البحر اللجي أمواجه، والقمر لص أفاق جواب، يسرق نوره من الشمس، والبحر لص تذيب أمواجه من القمر جموعا أجاجا، والأرض لص تتغذي وتخرج ثمرها من سماد مسروق من الفضلات العامة؛ كل شيء في العالم لص سارق؛ اذهبوا اقطعوا الأعناق بخناجركم، جزوا الرقاب بمديتكم، إن جميع من تلقونهم لصوص سارقون، وكل شيء تسرقونه إنما تسلبون لصا مثلكم، انطلقوا ولتكن عليكم لعنة المال والذهب.
اللص الثالث :
لقد كرهني في صناعتي بحقي عليها.
الثاني :
إنني سأصدق ما قال وأجتنب حرفتي.
الأول :
لنفعل ذلك جميعا، هلموا بنا (يخرجون. يدخل فلافياس) .
فلافياس :
رحمة الآلهة! ويلتاه! أيكون ذلك الرجل الجالس هناك مولاي تيمون وسيدي؟ يا للآلهة! أكذا يضيع المعروف بين الناس؟ أكذا جزاء من يزرع الجميل في غير مواضعه؟ أي شيء ترى في العالم شر على المرء من أصدقاء ترد القلب النقي الشريف إلى خاتمة سيئة. لقد لمحني الآن ببصره، لأمثل بين يديه فأبسط حزني الصادق لعينيه، وسأظل في خدمته آخر الحياة. مولاي العزيز (يتقدم) .
تيمون :
بعدا، بعدا، من تكون أيها الإنسان؟
فلافياس :
أنسيتني يا مولاي؟
تيمون :
لم تسألني ذلك؟ لقد نسيت الناس جميعا، فإن كنت إنسانا فقد نسيتك.
فلافياس :
أنا خادمك الأمين يا مولاي.
تيمون :
إذن فإنني لا أعرفك، لم يكن حولي يوما رجل أمين.
فلافياس :
الآلهة شهدائي أنه لم يحزن خادم على مولاه حزن عيني عليك (يبكي) .
تيمون :
ماذا أرى؟ أتبكي؟ ألا ادن مني قليلا، إنني إذن أحبك؛ لأن لك قلب فتاة، وتبرأ أن تكون من الإنسانية الخشنة المتحجرة. أيها الرجل، إن الشفقة قائمة والرحمة مثبتة، عجبت لهذا الزمان؛ يبكي من ضحكك ولا يبكي من بكى!
فلافياس :
مولاي، أتوسل إليك أن تعرفني وتتقبل حزني وترتضيني خادمك كما كنت من قبل.
تيمون :
أكان لي خادم أمين؟ تكاد طبيعتي الحانقة تعود هادئة ساكنة، دعني أرى وجهك، أيتها الآلهة اغفري لي طيشي وغضبي، إنني أعترف لك بأنك جئت بإنسان واحد أمين. ألا أصدقني حقا، أليس حنانك حنانا مرائيا خداعا.
فلافياس :
كلا يا سيدي العظيم القدر، الذي سرت الريبة في نفسه متأخرة في غير أوانها، لقد كان أولى بك أن تستشعر الريبة من الناس في أيام نعماك ومباهج موائدك، ولكن الريبة لا تبدو إلا إذا الثروة اختفت، شهدائي الآلهة أن حزني عن أصدق الحب لك.
تيمون :
أيها الإنسان الأمين الأوحد في هذا العالم، هناك ذهبا لقد أرسلت إلي الآلهة من أجلك ذهبا كثيرا وكنزا، ألا اذهب وعش غنيا رخي البال، واجتنب الناس، بل أبغضهم جميعا ولا تتصدق على أحد منهم، وأعط الكلاب ما تنكره على الآدميين، دع السجون تفغر أفواهها فتلتهمهم. اذهب وداعا ولك بحق الآلهة التوفيق.
فلافياس :
بل دعني يا مولاي أبقى لأطرد الهم عنك وأوليك العزاء.
تيمون :
إن كنت للعنات كارها فلا تمكث، انطلق عاديا لا تقع عينك على ظل إنسان ما دمت حرا سعيدا، ولا تدعني أنظر وجهك إلى الأبد.
فلافياس :
بل لن أدعك يا مولاي حتى يفصل الموت بين أحدنا وصاحبه (يدخل تيمون الكهف، يدخل جمع من نواب أثينا) .
النائب الأول :
أين سيدك تيمون أيها الخادم؟ إننا نريد معه حديثا.
فلافياس :
عبثا تحاولون أن تتحدثوا وتيمون، فإنه قد أخلى سبيله إلى نفسه وحدها، فلم يعد يألف من شبه الناس أحدا إلا شبحه.
الأول :
قدنا إلى كهفه، فقد وعدنا أهل وطننا أن نكلم تيمون.
الثاني :
سر بنا إليه لنقوم بالواجب الذي كلفنا به.
فلافياس :
هاكم كهفه. (يتقدم)
تيمون، تيمون، اخرج من كهفك وحدثنا صحابا لك وإخوانا، إن أهل أثينا يحبونك جميعا في أشخاص هؤلاء الجمع. اخرج لحديثهم أيها الشريف تيمون (يخرج تيمون من الكهف) .
تيمون :
أيتها الشمس التي تدفئ الجسوم احترقي الآن والتهبي، تكلموا واللعنة عليكم.
الأول :
أيها السيد تيمون العظيم القدر، إن نواب أثينا وقضاتها يقرئونك السلام.
تيمون :
أشكر لهم تحيتهم وسأرد لهم عليها الوباء يجتاحهم لو استطعت أن أمسك بذيله لهم.
الأول :
ألا تناسى ما نحن محزونون لك من أجله، إن قضاة الشعب بإجماع آرائهم جاءوا يسألونك العودة إلى وطنك، فإن مكانا عظيما قد خلا لا يطلب غيرك جليسا.
الثاني :
إن الشعب بأسره يعترف بأن جرمه عظيم؛ إذ خلا منك بلدك، فبعث بنا إليك لنبسط ندامته بين يديك، وليقدم إليك كفارة عما اجترح في حقك وأساء به إليك.
تيمون :
الآن تفتنونني به فتونا، وتباغتونني مباغتة يسيل مني دموعا، ألا أعيروني قلب مجنون وعين امرأة حتى أبكي أيها الشيوخ.
الأول :
ألا تنزل يا تيمون إلى الرجوع إلى أثينا واتخاذ قيادة جيشها، وستستقبل بآيات الشكر وتمنح السلطان وترد هجمات السبيبايرس عن الوطن؛ فقد عاد كالديب المفترس يجتث أصول السلام في وطنه. ألا تقبل يا تيمون، تقبل.
تيمون :
إذا قتل ذلك القائد أهل وطني وذبح قومي، فليعلم أن تيمون لا يحفل بذلك ولا يأبه، ولكنه إذا أغار على البلد الجميل ودفع بالعذارى الخفرات إلى دنس الحرب الموحشة، فليعلم أنني شفقة على شبابنا وشيبنا لا أحفل ولا أكترث ما دامت خناجر جنوده لا تحفل ولا تكترث، وما دامت لكم أعناق تقطع ورقاب تنحر. إنني أدعكم إلى رعاية الآلهة.
فلافياس :
لا تتمكنوا أيها الشيوخ، إنكم تطلبون عبثا.
تيمون :
إنني كنت أكتب الساعة مرثيتي وتشهدونها غدا، إن مرضي العضال قد بدأ يبرد، اذهبوا وعيشوا وعمروا، وليكن السبياريس وباءكم وأنتم وباءه.
الأول :
لا جدوى من مخاطبته.
تيمون :
ولكني مع ذلك أحب وطني، ولست ممن يفرح للمصاب العام كما تظنون.
الأول :
هذا قول كريم.
تيمون :
أحملوا عني تحيتي إلى أهل وطني.
الثاني :
إن هذه الكلمات خليقة بك.
تيمون :
أقرئوهم عني سلاما، وخبروهم أنني سأغني عنهم أحزانهم ومخاوفهم، فأبدي لهم وجها من وجوه الرحمة والحنان، وأعلمهم كيف ينقذون أنفسهم من غارة ذلك القائد وقتاله.
النائب الأول :
هذا قول طيب، لعله سيثوب الآن إلى رشده.
تيمون :
إن لدي هنا شجرة باثقة، أريد اليوم قطعها، وأنا عما قليل مجتث أصولها، ألا نبئوا أصحابي وقومي، خبروا أهل أثينا جميعا جميعا أن من يشأ منهم فرارا من العذاب فليبادر إلى هذا المكان قبل أن تحش شجرتي ضربة فأسي، فليتشبث بأغصانها وليشنق نفسه، أتوسل إليكم إن أحملوا هذه التحية إليهم.
فلافياس :
لا تحاولوا بعد الآن إغراءه، فإنكم واجدوه أبدا كحالة اليوم.
تيمون :
لا تعودوا إلينا مرة أخرى، بل قولوا لأثينا أن تيمون قد شاد مسكنه الأخير على ضفة البحر ليغطيه البحر يوما بموجه. ألا أيتها الشمس أخفي الآن أشعتك فقد غربت اليوم دولة تيمون وزال ملكه (ينصرف عنهم متألما حزينا وهو في أشد حالات الضعف) .
الأول :
هلموا بنا، إن حزنه قد غلب الطبيعة على أمرها.
الثاني :
هلموا فإن أملنا في تيمون ميت.
الأول :
هلموا بقاتل آخر ما بقي لنا من حول. (يخرجون مسرعين)
ينهض تيمون مريضا لا يستطيع أن يجر رجليه.
تيمون :
الآلهة لي، إني أحس مد الحياة في جرز، وأرى الموت يسل مني عضوا عضوا. أيها الموت الشهي الطعم، أقبل إلي فأنك المرحب به المكرم. أيها الموت تعال إلي، فإنك النجاة العذبة لي من وحشية الإنسان ودناءة الدنيا. (يمشي مترنحا فيسقط في أقصى المسرح)، (وهو يحتضر)
هنا سترقد رفاة رجل مسكين فقد روحه المسكينة، أيها الناس لا تبحثوا عن اسمي، ولا تطلبوا لقبي، الوباء لكم يا بقية الناس بعدي، ويا جموع الأشرار الأوغاد الذين تركتهم في الأرض مروا بقبري والعنوا ما شئتم، ولكن لا تقفوا بقبري ولا تتمهلوا (يموت). (يدخل فلافياس فيبحث عنه فيجده على هذه الحال فيجري إليه.)
فلافياس :
مولاي، أي تيمون الكريم، الآلهة لي، تكلم، تكلم. تيمون ألا حديث ولا جواب؟! لي الآلهة لقد قضى تيمون باسطا ذراعيه في هذه الغاب التي لا يسرح فيها غير الوحش والسبع لكن آلهة السماء تيمون، لقد ذهبت ضحية الصداقة الكاذبة والرياء والزهو والترف، لقد مات تيمون ضحية لؤم الإنسان ودناءته؛ درس أليم في الصداقة وعبرة بالغة في الحياة. (الستار)
مسرحية زواج بالحيلة
كوميديا في ثلاثة فصول
بقلم: موليير
تعريب: عباس حافظ
فرقة عكاشة
الفصل الأول
المشهد الأول (سنارل - أمانت - لوكريس - غيليوم - جوس)
سنارل :
إف، العيشة أصبحت ثقيلة، والحياة صارت لعنة، والمصائب لا تأتي إلا وراء بعضها. آه، لقد كانت لي زوجة واحدة، ولكنها ...
غيليوم :
وهل كنت تريد أن يكون لك كبشة نسوان؟
سنارل :
ولكنها ماتت للأسف، وكل ما أتذكرها الآن، ترغرغ عيني بالدموع. صحيح أنني كنت غير راضي عن سيرها، وكنا كثيرا ما نتخاصم ونتضارب، ولكن الموت طبعا ينسي كل شيء، وربما لو كانت عايشة الآن، لكنا نزلنا في بعض شتيمة وضرب كعادتنا، ولكني أبكي عليها وأتحسر لأنها لم تترك لي من الخلفة إلا بنت واحدة، وهذه البنت هي سبب حزني وتعبي وتنغيصي؛ لأني أجدها دائما في انقباض شديد لم أر مثله في حياتي، وأراها في هم لا أعرف له سببا، وقد يئست، ولم يبق عندي حيلة؛ ولهذا السبب أنا محتاج لنصائحكم في هذه المسألة المهمة. والآن (إلى لوكريس)
أنت يا بنت أختي (إلى أمانت)
وأنت يا جارتي (إلى غيليوم وجوس)
وأنتما يا صديقي، إني أرجوكم أن تشيروا علي ماذا أفعل؟
مسيو جوس :
أما أنا، فإني أرى أن الجواهر والحلي والزينة واللطايف هي الأشياء الوحيدة التي تسر البنات، ولو كنت أنا في مركزك، لاشتريت لها في الحال طقما جميلا من الألماز أو الياقوت، أو الزمرد.
مسيو غيليوم :
وأما أنا، فلو كنت في محلك لاشتريت لها ستائر بديعة من الحرير الأخضر ووضعتها في غرفتها لينشرح صدرها برؤيتها ويبتهج فؤادها.
أمانت :
وأما أنا فلا أفعل شيئا من هذا القبيل، وإنما أجوزها في الحال، وبكل سرعة، وأعطيها للشخص الذي يطلبها بدون كلام.
لوكريس :
وأما عن رأيي أنا، فإني أعتقد أن بنتك لا تصلح أبدا للزواج؛ لأن طبيعتها ضعيفة، وروحها مريضة، والأفضل لها أن توقف حياتها للعبادة والصلاة والرهبنة، أحسن من أن تتزوج وهي بهذه الحالة، وربما تلد وتخلف العيال والأطفال ... إن هذا العالم الدنيوي لا يوافقها، وأنا أنصح لك أن تدخلها الدير؛ لأنها ستجد فيه الراحة والسرور الذي يلائم نفسها.
سنارل :
إن هذه النصائح بديعة بدون شك، ولكني أرى عليها إمارات المصلحة ظاهرة، وأظن أنكم تنصحوني بما تجدونه أوفق لمصالحكم؛ فأنت يا مسيو جوس رجل صايغ وجواهرجي؛ ولهذا تريد أن تروج بضاعتك فنصحتني بأن أشتري لها أطقم الألماز والياقوت والزمرد، وأنت يا مسيو غيليوم منجد، ويظهر أن عندك بعض ستاير تريد أن توزعها وتعتق نفسك منها، وأما أنت يا جارتي فإن الذي تحبينه تريدين أن يشترك معك فيه كل النساء؛ ولهذا السبب يسرك أن تكون بنتي مثلك في حضن رجل، وأما أنت يا بنت أختي فإن النصيحة التي أشرت علي بها وهي أنني أجعل بنتي راهبة؛ فذلك لأنك تريدين أن ترثيني لوحدك، وتفوزي بالتركة كلها ... نصائح جميلة للغاية، وفي محلها بدون شك! ولكن لا مؤاخذة يا جماعة إذا قلت لكم أنني لهذا السبب لن أنفذ شيئا منها مطلقا. (يبقى وحده)
هذه هي النصائح العصرية الثمينة، هذه هي النصائح والموضة كما يقولون.
المشهد الثاني (سنارل - لوسانه)
سنارل :
ها هي بنتي قد حضرت، إنها لا تراني ... ها هي تتنهد، ها هي ترفع عينيها للسماء. (إلى لوسانه)
صباح الخير يا عزيزتي، كيف صحتك الآن؟ وبماذا تشعرين؟ أهكذا تطلين حزينة دائما، ومنقبضة الصدر، ولا تقولين لي ماذا يؤلمك؟ تشجعي وأخبريني بمرضك. هيه، هيا يا عزيزتي أخبريني بأفكارك الصغيرة اللطيفة، بوحي بأسرار فؤادك إلى بابا الصغير الظريف، تشجعي يا بنتي تشجعي. أتريدين أن أقبلك؟ أهو. (يقبلها في جبينها - في ناحية لنفسه)
إني أكاد أجن من هذا السكوت الثقيل. (إلى لوسانه)
ولكن أتريدين أن أموت من الغم والحزن؟ ألا أقدر أن أعرف من أين جاء لك هذا الانقباض الشديد، أخبريني عن السبب وأنا أعمل كل اجتهادي في إزالة حزنك، وتنفيذ كل شيء تطلبيه، هل أنت يا عزيزتي غيرى من بنت من حبايبك وجدتيها أجمل منك؟ أم يا ترى لأنك رأيت موضة جديدة من القماش وتحبي أن تفصلي بدلة جميلة منه؟ كلا؟ إذن ألا أجل إن غرفتك ليست في نظرك أبهة مفتخرة، وتودي أن تشتري لها موبيلية بديعة؟ كلا. أيضا! طيب. هل تريدين أن أحضر لك مدرس ماهر يعلمك العود والقانون؟ كلا. ثانيا! إذن هل تحبين أحدا؟ وتودين أن تتزوجيه؟ (هنا تبدي لوسانه إشارة صغيرة تدل على الإيجاب.)
المشهد الثالث (سنارل - لوسانه - ليزت)
ليزت :
أنا شايفة يا سيدي أنك كنت بتكلم مع ستي، أمال يعني عرفت السبب في زعلها؟
سنارل :
كلا، إنها بنت فاسدة عاوزة تفرسني.
ليزت :
طيب سيبني أنا أعرف شغلي، وأنا أحايلها شوية.
سنارل :
مافيش ضرورة أبدا، ربما أنها تريد أن تبقى بالحالة دي، فمن رأيي أننا نتركها على كيفها.
ليزت :
قلت لك سيبني يا سيدي أعرف شغلي، يمكن حاتقول لي أنا كل شيء ومكسوفة أنها تقول لك، بأه كده يا ستي ما تقوليش لحد أبدا على اللي في قلبك، وتتركي أبوك كده زعلان خالص ومضايق، مافيش لزوم إنك تخبي عنا حاجة، وإذا كنت بتكسفي أنك تكلمي أدام أبوك فليه ما تكلمنيش أنا أحسن، قولي لي يا ستي بالذمة، أنت عاوزة حاجة منه، دا سيدي البركة فيه ما بيحوش عنك شيء أبدا. أنت زعلانة اللي ما يخليكش على كيفك أوي، ولا أنت مش مبسوطة من الفسح والهدايا اللي بيقدمها لك؟ هيه! يا ترى حد زعلك؟ ولا أنت بتميلي لواحد وعاوزة أبوك يجوزهولك؟ آه فهمت، فهمت، آدي المسألة، السر أهو يا سيدي عرفته!
سنارل :
إنها بنت خسرانة، ناكرة الجميل، ولا أكلمها أبدا، وسأتركها على عنادها، ولا أساعدها في شيء.
لوسانه :
أنت كنت تريد يا والدي أن تعرف السبب.
سنارل :
روحي، بربي غضبان عليك.
ليزت :
دا حزنها يا سيدي ...
سنارل :
بنت فاجرة عاوزة تفلقني.
لوسانه :
بابا، أنا أريد أن ...
سنارل :
وهذا هو جزائي في الآخر على التربية اللي ربيتها لها.
ليزت :
ولكن يا سيدي، بس حلمك شوية.
سنارل :
لا، لا، لا، أنا غضبان عليها خالص، وقلبي غير مبسوط منها بالمرة.
لوسانه :
ولكن ...
سنارل :
لا، أنا لا أود أن أشوفك أبدا.
ليزت :
ولكن ...
سنارل :
بنت خبيثة!
لوسانه :
ولكن ...
سنارل :
نكارة الجميل، قلبها أسود!
ليزت :
طيب بس ...
سنارل :
بنت فاسدة لأنها مش راضية تقول لي على اللي عاوزاه من زمان.
ليزت :
المسألة أنها عاوزة زوج.
سنارل (يتظاهر بأنه لا يسمع) :
وسأتركها.
ليزت :
زوج، زوج!
سنارل :
وأنا أكرهها وألعنها.
ليزت :
زوج، زوج!
سنارل :
وأتبرى عنها، وأقول مش بنتي!
ليزت :
زوج، زوج!
سنارل :
لا، لا، ما تكلمنيش عنها.
ليزت :
بأقولك زوج!
سنارل :
بزيادة، بزيادة، ماتكلمنيش عنها.
ليزت :
زوج، زوج!
سنارل :
لا، لا، لا، ما تكلمنيش عنها خلاص.
ليزت :
زوج، زوج، زوج! (يهرب) .
المشهد الرابع
ليزت :
صدقوا اللي قالوا مافيش ألعن من طرش اللي مش عاوزين يسمعوا.
لوسانه :
كنت أظن أنني غلطانة في كتم السر عن والدي، وكنت أعتقد أنني لما أبوح له بكل شيء لا يتأخر لحظة واحدة عن تنفيذ طلبي، ولكن ما العمل الآن؟
ليزت :
بشرفي إنه رجل بطال، وأنا أحلف لك إني حاجتهد ألبسه حتة خازوء، ولكن مغري. ولكن ليه بس يا ستي كنت بتخبي عني المسألة دي حتى النهاردة؟
لوسانه :
ولكن ما الفايدة لما كنت أقول لك عنها من أول الأمر؟ وهل تظني أني لم أكن أنتظر ما حصل الوقت أمامك؟ وأني لا أعرف إحساس والدي من جهة زواجي؟ وهل تظني إن الرفض الذي أرسله إلى الشاب الذي خطبني عن لسان أحد أصحابه لم يؤثر علي ويجعلني أيأس وأقطع العشم؟
ليزت :
إزاي! بأه الراجل المجهول اللي طلبك هو ده اللي أنت ...
لوسانه :
ربما ما يصحش إن البنت تقول كل اللي في قلبها بالصريح، ولكن أحلف لك إني لو خيروني في الجواز ما اختارش إلا هو، ومع إننا ماكلمناش لغاية الآن مع بعض، ولا وقع لساني على لسانه، ومع أنه ما صرحش لدلوقت بعواطفه نحوي، لكن كل ما نتقابل في الشارع أشوف في عينه وحركاته أمارات الحب، ولكن إيه العمل في استبداد أبوي.
ليزت :
ماتاخديش على خاطرك يا ستي، وسيبيني أنا أشوف شغلي؛ لأني ما أحبش إني أتركك كده حزينة، ولكن أنت رخرة لازم تشطري وتجمدي قلبك.
لوسانه :
وإنما حاعمل إيه يا حسرة!
ليزت :
مالكيش دعوة أنت بس، مايصحش أبدا إنه يسوقك كده إدامه ذي الوز، لازم نتخلص شوية من استبداده، ولكن على شرط إننا ما نخرجش عن الأصول، وما نجرحش الشرف. أنا مانيش عارفة أبوك عاوز يعمل بك إيه؟ دا أنت يا ستي بسم الله ما شاء الله بقيت وش جواز، يا ترى بيحسبك مالكيش قلب زي البنات اللي من دورك، ولا بيحسبك من الرخام ما تحسيش؟ ما تزعليش يا ستي لأن حاخدمك وأشوف من دي الوقت صالحك، وبكره حاتشوفي سياستي حاتكون إزاي. ولكن أبوك أهو جاي، يلا نخش أبله ما يجي، وخليني أنا أشتغل.
المشهد الخامس
سنارل :
يحسن في بعض الأحيان أن الإنسان يتظاهر بأنه لا يسمع، وهو سامع طيب، وقد أحسنت لأني لم أجادل في هذه المسألة التي لا أحب أبدا أن أنفذها، وهل في الدنيا ألعن من هذه العادة الفاسدة، وهي أنه لا بد أن البنات تتزوج، وأن الأب يفضل يكبر ويسمن ويتخن ويعزز ويدلع، لما يجي له راجل تاني يخطفها منه ويتمتع بتعبه وتربيته. لا، لا، أنا لا أوافق على هذه العادة بالمرة، وأحتفظ ببنتي وملكي ولا أعطيها لحد أبدا.
المشهد السادس (تدخل ليزت وتجري في المسرح متظاهرة بأنها لا ترى سنارل.)
ليزت :
آه! يادي المصيبة! يادي العار! مسكين يا سيدي! مسكين يا سيدي! يا ترى ألاقيك فين!
سنارل (لوحده) :
ماذا تقول هذه الملعونة؟
ليزت (وهي تجري دائما) :
آه! مسكين يا دي الأب! الله يكون في عونك! حاتعمل إيه يا سيدي لما تعرف الخبر؟
سنارل (لوحده) :
ماذا حصل يا ترى؟
ليزت (وهي تجري) :
آه يا ستي!
سنارل (لوحده) :
أنا خلاص ضعت وركبي سابت!
ليزت :
آه يا حبيبتي! آه يا حبيبتي!
سنارل (وهو يجري وراء ليزت) :
ليزت!
ليزت (وهي تجري وهو يجري وراءها) :
يا قلة البخت!
سنارل (يجري) :
ليزت!
ليزت :
يادي المصيبة!
سنارل :
ليزت!
ليزت :
يادي المصيبة! يادي المصيبة!
سنارل :
ليزت!
ليزت (تقف عن الجري) :
آه يا سيدي!
سنارل :
إيه اللي جرى!
ليزت :
آه يا سيدي ...
سنارل :
إيه اللي حصل؟
ليزت :
بنتك ...
سنارل :
آه ... آه ...
ليزت :
ما تعيطش كده يا سيدي لحسن تخليني على زعلي أفطس من الضحك!
سنارل :
أمال قولي أوام.
ليزت :
بنتك يا سيدي من كتر كلامك صعب عليها وخدت على خاطرها من زعلك، فدخلت أودتها وراحت فاتحة الشباك اللي بيطل على البحر ...
سنارل :
وبعدين؟!
ليزت :
وبعدين رفعت عينها للسماء، وفضلت تقول لا، ما يمكنش أعيش وأبوي زعلان مني، وبما إنه اتبرى عني فلازم أموت ...
سنارل :
ورمت نفسها؟
ليزت :
لأ يا سيدي، وإنما أقفلت الشباك بشويش وراحت مقلوبة على السرير، وفضلت تعيط بحرقة، وما بص إلا ألائي وشها أصفر، وعينيها انقلبت وقلبها سخسخ، وقطعت النفس ...
سنارل :
آه يا بنتي! وماتت؟
ليزت :
لأ يا سيدي، لأني أعدت أعالجها مدة لما فاقت شوية لروحها، ولكن أنا خايفة لتجي لها تاني، وخايفة كمان لماتعيش النهاردة.
سنارل :
آه يا بنتي! ... يا شامبان، يا شامبان.
المشهد السابع (يدخل الخادم.)
سنارل :
اجر هات حكما! يادي المصيبة! آه يا بنتي آه! يا ضناي آه يا عزيزتي (يسترسل في البكاء والصريخ) . (ينزل الستار)
الفصل الثاني
المشهد الأول (ليزت - وسنارل)
ليزت :
أقول لك الحق يا سيدي، أنا متوغوشة من الحكما؛ لأن فيه حكما كتير مهكعين، لا خدوا شهادات ولا يحزنون، وإنما يوعوا على فحت البحر، وواخدينها بالعافية، وزي ما تيجي تيجي، وأنا خايفة ليكونوا اللي جبتهم من العينة دي، تبأى مصيبة! ولكن حانعمل إيه بس بالأربع حكما، مش يكفي واحد من دول لقتل العيان؟
سنارل :
اسكتي، الأربع نصائح أحسن من نصيحة واحدة.
ليزت :
يعني هي بنتك ما تقدرش تموت من غير مساعدة الحكما الغلابة دول؟
سنارل :
وهي الحكما تموت؟
ليزت :
معلوم، الحكما الواقعين دول اللي واخدينها كده خبط لزق، دنا كنت أعرف واحد كان يقول إنه ما يصحش إننا نقول فلان مات من الحمى ولا من النزلة، ولكن نقول فلان مات من أربع حكما واتنين أجزاجية.
سنارل :
اخرسي، لا تشتمي هؤلاء السادة!
ليزت :
بالشرف يا سيدي دي قطتنا طابت امبارح من الوأعة اللي وئعتها من فوق السطوح، بعد ما قعدت تلات أيام لا تاكل ولا تشرب ولا تشيل إيدها ولا رجلها، وآهي الحمد لله شمت نفسها؛ لأن بختها طيب اللي مافيش في القطط حكما.
سنارل :
اخرسي قلت لك، بلا قلة أدب! ها هم حضروا!
ليزت :
خد بالك لحسن يكونوا من الحكما إياها، ويفضلوا يبلفوك ويقولوا لك باللاتيني دي بنتك عيانة خالص.
المشهد الثاني (يدخل الأطباء، وهم أربعة.)
سنارل :
ماذا رأيتم يا سادة؟
الطبيب الأول :
لقد فحصنا العليلة جيدا، لازم عندها وساخة كتير.
سنارل :
إزاي؟ بنتي وسخة!
الطبيب الأول :
إني أريد أن أقول إن عندها وساخة في جسمها، كمية أكدار شديدة.
سنارل :
آه! فهمت، فهمت.
الطبيب الأول :
ولكن ... نحن سنتشاور الآن مع بعض.
سنارل :
تفضلوا، هذه هي الكراسي!
ليزت :
آه، هو أنت هنا يا حضرة الدكتور؟
سنارل (إلى ليزت) :
وأين عرفت السيد؟
ليزت :
كنت شفته مرة عند صاحبة بنت أختك.
الطبيب الأول :
وكيف صحة خادمها الآن؟
ليزت :
بخير يا أفندم؛ لأنه مات وشبع موت.
الطبيب الأول :
مات؟
ليزت :
آه.
الطبيب الأول :
هذا لا يمكن!
ليزت :
ما اعرفش بأه إذا كان يمكن ولا ما يمكنش، أهو الراجل مات والسلام.
الطبيب الأول :
إني أقول لك إنه لا يمكن أن يكون مات.
ليزت :
وأنا أقول لك إنه مات وتعيش أنت، ودفناه كمان.
الطبيب الأول :
أنت مخطئة!
ليزت :
دانا شفته بعيني.
الطبيب :
هذا مستحيل، إن أبقراط يقول إن هذا المرض لا ينتهي إلا بعد أربعة عشر أو عشرين سنة على الأقل، وهو لم يمكث أكثر من ست أيام.
ليزت :
خللي أبقراط يقول اللي يعجبه، مدام الخدام مات خلاص.
سنارل :
اسكتي يا قبيحة، ياللا بنا نخرج، أرجو أن تتشاوروا جيدا يا حضرة الدكاترة، واعملوا معروف اتوصوا بالبنت، ولو أن العادة أن الدفع يكون بعد الاستشارة، ولكن خايف لانسى الفوزيته، تفضلوا (يعطيهم النقود، وكل منهم يعمل حركة عند أخذ فلوسه) .
المشهد الثالث (يجلسون، ثم يسعل كل واحد منهم وراء الآخر.)
الطبيب الثاني :
إن العاصمة كبيرة متسعة، وأمثالنا يتنسي جنب الحكما الكبار المشهورين؛ ولذلك لا بد للواحد منا أن يعمل سياحات كثيرة حتى إن الشغل يمشي.
الطبيب الأول :
دانا أقول إن عندي فرس طيبة لهذا الغرض، وناهيكم بالمشاوير التي تلفها طول النهار.
الطبيب الثاني :
وعندي أنا حصان بديع لا يتعب أبدا.
الطبيب الأول :
إنك لا تصدق لو قلت لك عدد الشوارع التي لفتها فرسي في هذا النهار.
الطبيب الثاني :
وكذلك حصاني أنا، وكنت قبل أن أحضر إلى هنا في مشوار طويل لعيادة مريض.
الطبيب الأول :
ولكن على ذكر المرضى، إلى أي صف تنحاز من الصفين؛ صف الحكيم ثيوفراست ولا الحكيم أرتميس؛ لأن الدكاترة اللي زي حالتنا لا يعرفون أكتر من الاتنين دول.
الطبيب الثاني :
أما أنا ففي صف أرتميس.
الطبيب الأول :
وأنا أيضا؛ لأنه كان أسرع من الثاني في قتل المريض، ولكنه كان يراعي الظروف قليلا، أليس كذلك؟
الطبيب الثاني :
بدون شك، يجب دائما أن نحتفظ بالرسميات، مهما كان الأمر.
الطبيب الأول :
وأنا شديد جدا في هذه المسألة، على شرط أن لا يكون طبعا بين الأصحاب، وقد حصل مرة أنهم جمعونا نحن ثلاثة من المعارف مع واحد طبيب لا نعرفه ولا يعرفنا، وكان عامل شاطر أوي، وكنت وقفت الشغل ولم أرض أن أمشي معهم في الاستشارة، وتركت أهل البيت يعملوا اللي يعملوه، والمرض يشتد على المريض، ولا أنا سائل ولا مهتم، ونهايته مات الراجل على طول في وسط الاستشارة.
الطبيب الثاني :
ما هو الميت ميت على التسعين، ولكن لازم فقط إننا نراعي الرسميات وألا ضاعت ثقة الناس بأمثالنا من الحكما اللي على المعاش!
المشهد الرابع
سنارل :
المرض اشتد يا حضرات الدكاترة على البنت، فاعملوا معروف قولوا رأيكم.
الطبيب الأول (إلى الثاني) :
تفضل إكلم يا دكتور!
الطبيب الثاني (إلى الأول) :
لا والله تفضل أنت.
الطبيب الأول :
هل تمزح يا دكتور؟
الطبيب الثاني :
لا يا أفندم العفو، ولكن أنا لا أتكلم الأول.
الطبيب الأول :
تفضل يا دكتور ...
الطبيب الثاني :
لا، تفضل أنت يا دكتور ...
سنارل :
يا جماعة، اتركوا التكليف من فضلكم، وتذكروا أن الحالة خطرة ومستعجلة (يتكلم الأربعة مع بعض في نفس واحد) .
الطبيب الأول :
إن مرض بنتك ...
الطبيب الثاني :
إن رأي الجماعة كلهم ...
الطبيب الثالث :
بعد ما تشاورنا ...
الطبيب الرابع :
لكي نعرف ...
سنارل :
الله الله! واحد واحد يا أسيادنا من فضلكم، ما تبقوش زي البرابرة.
الأول :
سيدي، بعد ما تشاورنا في مرض بنتك أقول لك إن رأيي أنا إن هذا المرض ناتج من حرارة الدم، ولازم ناخد لها دم في الحال.
الثاني :
وأنا أقول إن مرضها علة مزاج ناتجة عن تخمة، ونهايته أقول لك لا بد من أن نعطيها مقني.
الأول :
وأنا أرى أن المقني يموتها.
الثاني :
وأنا أرى أن أخذ الدم يقتلها.
الأول :
يعني حضرنك فاهم في نفسك أنك ماهر وأستاذ.
الثاني :
نعم، غصب عنك، أنا أستاذك، وطلعت عيني في الطب.
الأول :
وهل نسيت الرجل الذي موته في الأسبوع الماضي؟
الثاني :
وأنت هل نسيت الست التي أرسلتها إلى الآخرة منذ ثلاثة أيام؟
الأول (إلى سنارل) :
لقد أبديت لك رأيي.
الثاني :
وقد قلت لك أنا أيضا فكري.
الأول :
وإن لم تأخذ لها دم في الحال فستموت بلا أدنى شك (يخرج) .
الثاني :
ولو أخذت لها دم فستموت بعد ربع ساعة (يخرج) .
المشهد الخامس
سنارل :
أصدق مين ولا مين؟ دا شيء يحير! طيب طمنوني أنتم وقولوا لي بالصراحة فكركم وإيه اللي تشوفوه؟
الطبيب الثالث (يتكلم بتقطيع الألفاظ) :
سيدي ... في مثل هذه المسألة الكبيرة ... لازم نمشي باحتراس ... ولا نعمل شيء بسرعة ... لأن الأغلاط التي تقع منا كما يقول أبقراط تكون خطرة جدا.
الطبيب الرابع (يتلعثم في ألفاظه) :
هذا مؤكد ... يجب أن نحترس في كل شيء نعمله ... لأنه مش لعب عيال ... ولو غلطنا فمن الصعب أن نصحح الغلط أو نتلافى الخطر ... ولهذا السبب يجب أن نفكر الأول ونتدبر في الموضوع ونبحث في أسباب المرض ... ونوجد الأدوية النافعة له.
سنارل (لوحده) :
واحد بيتهجى، والتاني بيمأمأ.
الثالث :
ولهذا السبب ندخل في الموضوع ... وأقول لك إن بنتك عندها مرض مزمن ... ويخاف عليها من الموت ... إذا لم تسعف في الحال ... لأن الأعراض التي لديها تدل على وجود بخار أسود عكر بياكل في المخ ... وهذا البخار الذي نسميه في اللاتيني أتموس مسبب عن أريفة مزاج طالعة من البطن.
الرابع :
وبما أن هذه الأريفة بأه لها زمان عندها ... استوت معها ... وفضلت تدخن على المخ.
الثالث :
ولأجل أن نزيل ونطلع ونعاكس ونطرد ونغسل هذه العكننة ... لا بد من مطهر شديد ... وقبل كل شيء يصح أن نقرر أنه لا مانع من استعمال أدوية صغيرة مخففة ... يعني ملينات منظفة مروقة مثل الشرب والشربات.
الرابع :
وبعدين نرجع إلى المطهرات، وإلى أخذ الدم، إذا وجدنا ضرورة لذلك.
الثالث :
وبدون ذلك يمكن بنتك تموت ... وهذا رأينا بالصريح.
الرابع :
وكلمناك كما نكلم واحد أخ.
سنارل (إلى الثالث وهو يقطع في الألفاظ مثله) :
أقدم إليك تشكراتي الخالصة وامتناني العظيم. (إلى الرابع وهو يتلعثم مثله ويمأمأ)
وأنا ممنون جدا من هذا الاجتهاد الذي أظهرته يا حضرة الدكتور. (ينزل الستار)
الفصل الثالث
المشهد الأول (طبيب خامس - الطبيب الأول - الطبيب الثاني)
الطبيب الخامس :
ألم يخجل كل واحد منكم يا حضرات الدكاترة من هذا الطيش الذي حصل منكم، وأنتم تعرفوا إننا ما أخدناش شهادات، ولا تعلمنا الطب في المدرسة، وإنما جات لنا كده بالعافية، وآهي مشيت. ألا تعرفوا الضرر الذي ينتج من هذه المخاصمات التي تبدو منكم أمام الناس، ألا تكفي الاختلافات والمشاجرات والمناقشات التي تحصل دائما بين علمائنا وأساتذتنا على الغنى، حتى نجي إحنا نظهر أمام الناس بهذا الشكل لأجل ما يكشفوا جهلنا، ويعرفوا بلفنا ومغارزنا. أنا من رأيي أننا إن لم ننته عن هذه المشاجرات ونمشي بهدوء وفي أمان الله، ولا نظهر عيوبنا أمام العالم، نضيع بدون شك ونبقى خسرنا الجلد والسقط. أنا طبعا لا أتكلم عن نفسي، ولا لأجل مصلحتي؛ لأن الشغل عندي ولله الحمد مزروط ... تخرب تعمر ... تنشال تنهبد ... أهم الميتين ميتين، وأنا أيضا استغنيت الآن عن الحيين، والنهاية أن هذه المخاصمات لا تناسبنا، ولا تصح أن تقع من الدكاترة اللي زينا اللي بيقولوا يا ساتر استر من الفضايح. وبما أن حسن الحظ جعلنا محترمين عند الناس، وبتنطلي عليهم حيلنا، فلا لزوم أبدا إننا نخسر سمعتنا بهذه المخاصمات الخارجة عن حدها، وإنما لازم إننا نكسب من ورا تغفيلهم بقدر الإمكان، ومش بس إحنا اللي بنربح من ضعف الناس، بل إن الناس كلها بتضحك على بعض، وكل واحد في الدنيا بيجتهد إنه يجي للناس من ناحية ضعفهم، علشان يأصول منهم شيء؛ فالمتملقين مثلا ومساحين الجوخ بيكسبوا من حب الناس للعنطزة والمدح، فيفضلوا يتمسحولهم وينزلوا فيهم مدح لما يطلعولهم بشيء منهم، ومسح الجوخ أصبح الأيام دي فن هايل يكسب طيب وكثيرين اغتنوا منه، ثم المنجمين وضرابين الرمل وبتوع البخت بينتفعوا أيضا من طمع الناس وتغفيلهم وعبطهم، ولكن أكبر ضعف عند الناس هو أنهم يحبوا الدنيا؛ ولهذا السبب نحن نكسب منهم المكاسب الهائلة، مع أن الحكما الشطار أكتر منا، ولكن نحن عرفنا كيف نستخدم احترام الناس لنا؛ لأنه لم ينتج إلا من خوفهم من الموت؛ فلازم نحافظ على مقامنا، ونوافق بعض أمام المرضى وأهل المرضى، حتى إنهم ينسبوا لنا الشفا إذا حصل مرة في العمر، ويرجعوا غلطاتنا إلى القضاء والقدر. ودعونا يا جماعة ناكل عيش بجانب زملائنا الأطباء الكبار المشهورين الأساتذة، ولا فيش لزوم إننا نعاكس بعض إلى هذه الدرجة، ونقطع رزق العالم.
الطبيب الأول :
لك حق في كل هذا الكلام، ولكن الإنسان في بعض الأحيان مابيقدرش يحوش نفسه من الزعل لما بيطور.
الطبيب الخامس :
بس بأه أمال يا إخوانا، وسيبكم من الهلس ده، وشوفوا مصلحتكم قبل كل شيء، وتراضوا هنا على العيانة دي.
الطبيب الثاني :
أنا موافق، وإنما يتركني هو أمشي المقني لها كما وصفت، وأنا حبأى أمشي له كل شيء لما يقع في إيدنا بكره عيان تاني.
الطبيب الخامس :
دا كلام طيب، لك حق في كده.
الطبيب الثاني :
خلاص اتفقنا؟
الطبيب الخامس :
خلاص، نهاركم سعيد. اجتهدوا أنكم تكونوا دائما عقلا أمام الناس (يخرج) .
المشهد الثاني
ليزت :
إزاي يا جماعة؟ أنتم لسا هنا، ومش واخدين بالكم من الإهانة اللي حصلت لكم؟
الطبيب الأول :
إزاي؟ ماذا حصل؟
ليزت :
مش راجل قبيح تهجم على الحكما اللي زيكم ومن غير إذنكم رايح قاتل له واحد بطعنة سكينة في قلبه.
الطبيب الأول :
اطلعي منها بأه، أنت تملي كده تهزري وتأفشي لنا، ولكن طيب بس لما تقعي مرة في إيدنا.
ليزت :
لما احتاج للحكما اللي زيكم ابئوا عن إذني اقتلوني (يخرجان) .
المشهد الثالث (يدخل كليتاندر في لباس الأطباء.)
كليتاندر :
هيه، إيه رأيك يا ليزت في اللبس ده؟ مش باردو باين إني حكيم، وهل تفتكري إني بلبسي ده أقدر أبلف الراجل أبوها العبيط؟ مش كده كويس ولا إيه؟
ليزت :
كويس خالص، دانا كنت منتظراك على نار؛ لأن قلبي رهيف وما أقدرش استحمل أشوف اتنين بيحبوا بعض ودايبين في دباديب بعض وما تاخدنيش الشفقة عليهم، وتلائيني أحب أساعدهم وأريح قلبهم، وأنا عاوزة بأي طريقة أسحب لوسانه من أبوها وأجيبها لك علشان تجوزها، وأنت الحق يعني عجبتني ومليت مخي؛ لأني أعرف آخد بالي طيب من الرجالة، وهي بالحق عرفت تنقي صحيح، والحب عاوز مخاطرة، وأدحنا دبرنا طريقة يمكن تنجح وأخدنا الاحتياطات اللازمة، والراجل اللي حانلعب عليه الملعوب مش راجل يفهم أد كده، وإن مانفعتش وياه الطريقة دي فعندي ألف طريقة غيرها حتى نتوصل لغرضنا. انتظرني هنا دي الوقت لما أرجع لك (يتراجع إلى أقصى المسرح) .
المشهد الرابع (سنارل - ليزت)
ليزت :
يادي الفرح يا سيدي! يادي الفرح!
سنارل :
حصل إيه؟
ليزت :
افرح الآن يا سيدي وهيص.
سنارل :
علشان إيه؟
ليزت :
قلت لك افرح بأه وانبسط.
سنارل :
قولي بس الأول السبب إيه؟ يمكن صحيح أفرح وأنبسط.
ليزت :
لأ، أنا عاوزاك تفرح أبله وتهيص، عاوزاك ترقص الأول وتغني!
سنارل :
على إيه بس؟
ليزت :
بشرفي حاأقولك.
سنارل (يغني ويرقص) :
طيب أهو، لا لا لا لا ... لا لا لا! كده؟
ليزت :
بنتك يا سيدي طابت خلاص!
سنارل :
بنتي طابت؟
ليزت :
أيوه، لأني جبت لها حكيم، أما واحد حكيم تمام، حكيم مهم أوي، يعمل حقة اللي ما يعمل، ويضحك على الحكما كلهم.
سنارل :
وفين هو؟
ليزت :
دي الوقت أجيبه لك.
سنارل (لنفسه) :
لازم نشوف إذا كان حايكون أحسن من الحكما اللي جم الأول ولا ألعن.
المشهد الخامس
ليزت (تذهب وتعود بكليتاندر) :
أهو يا سيدي.
سنارل :
دا حكيم دقنه صغيرة خالص!
ليزت :
هو يا سيدي العلم بالدقون، ولا الشطارة بالهدوم.
سنارل :
بيقولوا لي يا حضرة الدكتور أنك عندك أدوية عجيبة تشفي في الحال.
كليتاندر :
إن الأدوية بتاعتي يا سيدي غير أدويتهم بالمرة، هم عندهم الشرب وتركيب الدوا، والمقيئات، واللي يستعمل من الظاهر، واللي يستعمل من الداخل، وعندهم الحقن والبلابيع والبرشام والسفوف والأدوية دي الملعونة، ولكني أنا أشفي بالكلام، بالإشارات، بالحروف، بالأحجبة، بالتعازيم، بالفلك.
ليزت :
مش قلت لك؟
سنارل :
صحيح، آدي الراجل الشاطر!
ليزت :
بما أن ستي يا سيدي لابسة ومتجهزة في الأودة التانية، فأنا رايحة عن إذنك أخليها تجي هنا.
سنارل :
أيوه، روحي روحي!
كليتاندر (وهو يجس نبض سنارل) :
بنتك عيانة أوي!
سنارل :
وإزاي عرفت كده من إيدي؟
كليتاندر :
أيوه، بالحب اللي بينك وبين بنتك.
المشهد السادس (تدخل ليزت ولوسانه.)
ليزت (إلى كليتاندر) :
آهي يا سيدي، تفضل اقعد في الكرسي ده اللي جنبها. (إلى سنارل)
ياللا إحنا بنا يا سيدي، ونسيبهم ويا بعض .
سنارل :
وعلشان إيه ؟ أنا لازم ما اتنقلش من هنا.
ليزت :
بتهزر حضرتك؟ لازم تبعد؛ لأنه في أسئلة كتيرة يحب يسألها الدكتور وما يصحش راجل يسمعها (يبتعدان) .
كليتاندر (بصوت منخفض إلى لوسانه) :
آه يا عزيزتي، آه من الفرح الشديد الذي أشعر به الآن وأنا جنبك، إني لا أعرف كيف ابتدي الكلام لأول مرة بيننا؛ لأننا كنا نتكلم الأول بالنظرات، وكنا نتفاهم بالعيون واللواحظ، وكان عندي ألف مسألة أريد أن أقولها لك، وكنت معد دفاتر طويلة عريضة أريد أن أقرأها لك، ولكني لا أجد الآن كلمة واحدة في ذهني؛ إن الفرح يمنع لساني من النطق.
لوسانه :
وأنا كذلك، إني أشعر بسرور عظيم يمنعني من الكلام.
كليتاندر :
آه يا عزيزتي! أنا سعيد لأني عرفت أنك تشعرين بالشعور الذي أحسه من نحوك، ولكن هل أنت التي اخترعت هذه الحيلة التي فرحتني بمقابلتك.
لوسانه :
ولو أنك صحيح لم تفتكر هذه الفكرة الجميلة إلا أنك فرحتني بموافقتك عليها بكل سرور.
سنارل (إلى ليزت) :
ماله كده بيكلمها ووشه في وشها؟
ليزت (إلى سنارل) :
علشان يلاحظ وشها وتقاطيعها حتى إنه يعرف المرض.
كليتاندر (إلى لوسانه) :
وهل أنت راضية عن هذه النية التي نوينا عليها؟
لوسانه :
وهل أنت راضي عن هذا العزم الذي عزمنا عليه؟
كليتاندر :
بالتأكيد، وأنا مسرور جدا بفكرة الزواج، وحاتشوفي دي الوقت أنا رايح أعمل إيه.
سنارل (إلى كليتاندر) :
الله! الله! يظهر صحيح إن البنت طابت! لأني شايفها يعني كده مبسوطة.
كليتاندر :
هذا من تأثير أدويتي؛ لأنك طبعا تعرف إن الروح لها سلطة كبيرة على الجسم؛ ولذلك عادتي أني أعالج الأرواح قبل معالجة الأجسام، فبعد ما لاحظت نظراتها وتقاطيعها وخطوط إيدها عرفت بفضل العلم الرباني إن روحها مريضة لا جسمها، وأن مرضها لم يأت إلا من فكرة بطالة عندها من رغبة فاسدة في إنها تريد أن تتزوج، وأنا طبعا لا أوافق أبدا على شيء بطال فاسد زي ده، جواز إيه وبتاع إيه! دا كلام فارغ!
سنارل (لوحده) :
آدي صحيح الراجل اللي يفهم!
كليتاندر (إلى سنارل) :
دانا طول عمري أكره الجواز وسيرة الجواز، دا شيء يئرف.
سنارل :
آدي الحكيم العال تمام!
كليتاندر :
ولكن لما كان يلزم أن الحكيم يداوي العيانين، ولما رأيت أنها صحيح مريضة، وأنه لا بد من إسعافها قبل فوات الفرصة، رأيت أني آخذها على عقلها، فقلت لها إنني جيت هنا علشان أجوزها، وفي الحال تغير وجهها وحضر لونها، وبان على عينيها الفرح، فإذا كنت تحب أننا نمشي البلفة دي عليها شوية أيام، فإننا بالطبع نشفيها بكل سرعة، فإيه رأيك؟
سنارل :
مافيش مانع أبدا، أنا موافق أوي.
كليتاندر :
وبعد كده نعطيها أدوية تانية تشفيها من البلفة دي.
سنارل :
أيوه، دا كويس خالص. اسمعي يا بنتي، حضرته يحب أنه يجوزك، فقلت له أنا أعطيها لك بكل سرور.
لوسانه :
يا حسرة! وهل ممكن؟
سنارل :
أيوه.
لوسانه :
ودي الوقت في الحال؟
سنارل :
أيوه، أيوه.
لوسانه (إلى كليتاندر) :
صحيح أنك تحب أن تكون زوجي؟
كليتاندر :
صحيح يا سيدتي.
لوسانه :
وأبوي رضي.
سنارل :
أيوه، رضيت يا ابنتي.
لوسانه :
آه، ما أحلى هذا الخبر لو كان صحيح!
كليتاندر :
لا تظني أبدا أنه غير صحيح يا حضرة المدموازيل، دانا مش بس من الساعة دي اللي بحبك وعاوز أجوزك، ولكن من زمان خالص وأنا مجنن فيك، دانا ما جيتش إلا علشان كده، ولأجل ما أقول لك الحقيقة، أقول لك أن الهدوم دي بس حيلة مني علشان أشوفك، وعملت حكيم كده لأجل ما أبقى جنبك وأطلب اللي أنا عاوزه بعدين.
لوسانه :
إذن كنت تحبني من الأول، أنا مسرورة لأنك أخبرتني بذلك الآن.
سنارل (لوحده) :
يادي المجنونة! يادي المجنونة! هي فاهمة إن المسألة صحيح.
لوسانه :
وأنت يا بابا خلاص موافق على أنه يجوزني؟
سنارل :
تمام، هاتي إيدك، وأنت هات إيدك، علشان أطمنها.
كليتاندر :
ولكن ...
سنارل (وهو فطسان على روحه من الضحك) :
لا، لازم تجيب إيدك، علشان نخليها تطمن على الأقل. حط إيدكم في إيد بعض. أهو، خلاص!
كليتاندر :
وتفضلي عشان تطمني أكتر، الخاتم ده. (إلى سنارل بصوت منخفض)
دا خاتم مكتوب عليه حجاب يشفي من توهان العقل.
لوسانه :
لازم نكتب العقد، علشان يتم كل شيء.
كليتاندر :
أنا أحب كده خالص. (إلى سنارل)
أنا رايح أجيب الراجل اللي بيكتب لي الأحجبة، ونبقى نفهمها أنه مسجل.
سنارل :
كويس أوي.
كليتاندر :
أنت يا هو، خلوا المسجل اللي جاه معاي يدخل.
لوسانه :
وكنت جايب كمان مسجل وياك؟
كليتاندر :
أيوه يا مداموازيل.
لوسانه :
أنا مسرورة كل السرور الآن.
سنارل :
مجنونة، مسكينة! فاهمة أن العبارة جد!
المشهد السابع (يدخل المسجل، فيكلمه كليتاندر بصوت منخفض.)
سنارل (إلى المسجل) :
نريد أن تكتب لنا الكتاب على الاتنين دول، وأكتب أني أعطيتها عشرين ألف جنيه في يوم العقد.
لوسانه :
أشكرك يا بابا، دا عشمي كان كده بردو!
المسجل :
خلاص انتهيت من كتابة العقد، ولم يبق إلا أن تمضوا كلكم.
سنارل :
لقد انتهى العقد.
كليتاندر :
ولكن ...
سنارل :
لا لا، لازم نمضي، يعني هي المسألة صحيح. (إلى المسجل)
ياللا إديلوا القلم علشان يمضي. (إلى لوسانه)
وأنت امضي، ياللا امضي. حتى أمضي أنا أيضا.
لوسانه :
هات العقد في إيدي.
سنارل :
لقد انتهى كل شيء الآن. (يمضي)
أنت مبسوطة دي الوقت؟
لوسانه :
ما تقدرش تتصور أد إيه.
كليتاندر :
وأنا أخذت كل الاحتياطات فأحضرت معي أيضا مع المسجل جوقة من الملحنين والراقصين لكي نحتفل بكتب الكتاب، وأنا دائما اصطحبها معي لأجل طرب المرضى بعقلهم. دعوهم يدخلوا (تدخل جوقة الملحنين والراقصين تنشد النشيد الآتي على الرقص،
1
وفي وسط اللحن يأخذ كليتاندر لوسانه ويخرجان في خفية) .
المشهد الثامن
سنارل :
أما طريقة حلوة في تطيب العيانين! فين بنتي أمال؟ بنتي هي والدكتور!
ليزت :
راحوا يقضوا شهر العسل، ويتمتعوا بالجواز.
سنارل :
جواز! إزاي؟!
ليزت :
ما هو اللي يعملوها الصغار يقعوا فيها الكبار، كنت بتحسب إنه هزار، والمسألة حاتبقى جد طول العمر.
سنارل :
يا خراب بيتي. (يجري لكي يلحق كليتاندر وابنته، فيمسكه الملحنون والراقصون وهو يحاول أن يتخلص منهم)
سيبوني، سيبوني بأقولكم. (يرقص الملحنون ويخلونه يرقص معهم بالقوة)
سيبوني! هاتوا لي بنتي! هاتوا لي بنتي! (ينزل الستار)
مسرحية الاستعمار
تمثيلية ذات أربعة فصول
تعريب: الأستاذ عباس حافظ
الفصل الأول (الساعة التاسعة والنصف مساء يوم من أيام شهر يوليو - 15 - وفي قاعة من قاعات الطعام مضاءة بالشموع مغطاة الجدران بالورق الأزرق السماوي، وهو كذلك لون البساط المفروش والأستار المسدلة. والنوافذ الفرنسية الرحيبة القائمة بين عامودين تفتح على ... تراس واسعة تلوح من ورائها أشباح الشجر في الظلام وهياكل المنازل البعيدة البادية الأنوار.
وفي أحد الجوانب مدخل مزين بالأستار، وقد رفعت عنه قليلا، وفي الناحية المقابلة لهذا المدخل باب يؤدي إلى الصالة، وعلى مائدة مستديرة صفت فوقها الأواني الفضية والأزهار والفواكه وقداح الشراب، جلس ستة أشخاص عقب الفراغ من تناول العشاء؛ أما استيفن مور فقد جلس معطيا ظهره ناحية المدخل المرفوع الستر، وهو رب الدار، رجل في الأربعين، حسن الملامح، ذو ابتسامة ساحرة، وفي عينيه تبدو أمارات الرجل «الأيدياليست» الخيالي الباحث عن الكمال؛ وعن يمينه جلس السير جون جوليان ضابط قديم، نحيل معارف الوجه، قد وخط الشيب رأسه وشاربه؛ وعن يمين هذا الشيخ جلس أخوه قسيس أستور، وهو من رعاة الكنائس، مديد القامة، أسمر الملامح، يلوح عليه التشدد والغيرة المتناهية على الدين؛ وعن يمين القسيس جلست كاترين مقبلة على المائدة، مرتفعة بها ملقية ذقنها في يديها، محملقة البصر في وجه زوجها استيفن مور ... وعن يمينها جلس إدوار مونديب، رجل شاحب اللون في الخامسة والأربعين، شديد الصلع، بديع الجبين، وعلى شفتيه ابتسامة تنفرج أبدا عن أسنانه؛ وبينه وبين استيفن مور جلست هيلين جوليان، وهي امرأة في ريعان الشباب، حسناء سوداء الشعر، منشغلة عن المجلس بأفكارها، ساهمة سابحة في التفكير، والكل يتحادثون في مناقشة حادة عند ارتفاع الستار.)
القسيس :
أنا مخالفك يا عزيزي استيفن في هذا الرأي على خط مستقيم، مخالفك كل المخالفة، ولا يمكن مطلقا أن أقرك عليه.
مور :
هذا هو رأيي الذي لا أحيد عنه.
منديب :
تذكر يا استيفن أن حربا كهذه وقعت من قبل، فهل أفادت يومئذ أراؤك الخيالية، وتصوراتك المشبعة بروح الشهامة والمروءة؛ لقد تغامز القوم عليك وأنت يومئذ نائب حدث لم يشتهر، فما بالك وأنت اليوم وكيل وزارة! إنك لا تستطيع أن ...
مور (مقاطعا) :
أجاري وحي ضميري! إذا كان هذا ما تعنيه يا منديب، فهو كلام غريب منك لا أقبله.
منديب :
إن المبادئ العالية يا صديقي قد تكون أحيانا في غير محلها ...
القسيس :
إن الحكومة هنا أمام شعب همجي لا يعرف شرعا ولا يحترم أي قانون؛ شعب من العبث في اعتقادي أن تعامله بالعطف والإحسان.
مور :
لقد خلقه الله مثلنا يا سيدي القسيس.
منديب :
إني أشك في ذلك.
القسيس :
لقد ظهر أناس لا عهد لهم ولا ملة ولا دين؛ فمن حقنا أن نعاقبهم.
مور :
أفإذا ضربت أنا شخصا ضعيفا ورفع يده فضربني، أفيحق لي بعد هذا أن أعاقبه؟
السير جون :
ولكنا لم نكن نحن البادئين بالعدوان ...
مور :
كيف ذلك يا سيدي؟ ألم نبعث إليهم نحن بالتجار والمبشرين؟
القسيس :
نحن إنما ذهبنا لتمدنهم ... فمن العجيب تبرير القتل وسفك الدم منهم نظير ذلك ... وهل نسيت يا مستر مور قتل جليف ومور لينصن؟
السير جون :
نعم ... وذلك المسكين جوم وزوجته.
مور :
لقد ذهب أولئك إلى بلاد غريبة متطوعين مغامرين، ضد شعور أهلها ... فما ذنب الشعب نفسه فيما يقع للمغامرين والمجازفين!
السير جون :
لا يمكن أن نقف وقفة المتفرج، بينما دماء أهلنا تسفك، وأرواحهم تخطف من بين جنوبهم ... هؤلاء دمنا ولحمنا.
القسيس :
أريد أن أسألك سؤالا واحدا يا استيفن؛ هل حكمنا نعمة على هذه الشعوب أم نقمة؟
مور :
قد يكون نعمة في بعض الأحيان، ولكن لا أعتقد مطلقا أن حكمنا يمكن أن يفيد شعبا كهذا؛ شعبا يختلف عنا في كل شيء كاختلاف الليل والنهار، والظلمات والنور، في اللون والدين والآداب والتقاليد ... إننا بحكمنا هذه الأمم نفسد طبائعها وفطرتها السليمة.
القسيس :
هذا كلام لا أفهمه!
منديب :
بل هذه فلسفة لا طائل تحتها، ولو اتبعت لكانت شرا على الإنسانية ووبالا؛ ليس في هذا العالم كواكب ثابتة في أماكنها، بل كل شيء في العالم يتحرك، ولا يمكن للشعوب أن يترك بعضها بعضا.
مور :
بل يمكن أن ندع الشعوب الكبيرة للشعوب الصغيرة بسلام، لا نمسها بسوء.
منديب :
لو صح ما تقول لما كانت هناك شعوب كبيرة على الإطلاق؛ نحن نعرف يا عزيزي استيفن غرامك القديم بنصرة الشعوب الضعيفة، ولكن كان يجب أن يزيل المنصب الذي أنت فيه الآن ذلك الغرام من فؤادك.
السير جون :
أنا خدمت بلادي خمسين سنة للآن، وأعتقد أنها غير مخطئة.
مور :
وأنا أرجو الله أن يهيئ لي أن أخدمها مثل هذه المدة، ولكني أعتقد أنها مخطئة.
منديب :
ليس كل ما يعرف يقال يا عزيزي مور.
مور :
ولكني قائله الليلة بلا أدنى تردد.
منديب :
أفي مجلس النواب؟
مور (يهز رأسه بالإيجاب) :
نعم.
كاترين :
رباه ... ولكن ... يا عزيزي استيفن ...
منديب :
لا ينبغي أن تدعيه يفعل يا مسز مزر، فإن هذا لهو الجنون المطبق.
مور (ينهض من مجلسه) :
يمكنك أن تقول هذا للناس ... واجعله موضوع الافتتاحية في جريدتك غدا إذا شئت.
منديب :
نعم جنون وأي جون! ... لا يحق لرجل في مركزك أن يصرح هذا التصريح في الساعة الخطيرة.
مور :
هذا شعوري الذي لا أخفيه ... أنا ضد هذه الحرب ... ضد الاستعمار الذي ستنتهي به ... والضم إلى أملاك التاج الذي ستؤدي آجلا إليه.
منديب :
يا صديقي العزيز لا تكن خياليا متهورا إلى هذا الحد ... ستقع الحرب حتما في أربع وعشرين ساعة، وحينئذ لن تستطيع أنت ولا عشرة من أمثالك أن توقفوا رحاها الدائرة.
هيلين (منزعجة) :
يا الله! ... أتقول في أربع وعشرين ساعة يا مستر منديب؟
منديب :
هذه هي الحقيقة يا مسز هيوبرت.
السير جون :
هذا الأمر لا شك فيه يا هيلين.
منديب (مخاطبا مور) :
أحقا تنوي الوقوف في وجه التيار الجارف؟
مور (يهز رأسه بالإيجاب) :
نعم.
منديب :
عال جدا.
مور :
لست أقصد بذلك الإعلان عن نفسي.
منديب :
ولكنك ستظفر به على كل حال.
مور :
يجب أن يجاهر المرء بالحقيقة، ولو أدى الأمر أحيانا إلى هذه النتيجة.
السير جون :
ولكن ليست هذه حقيقة.
منديب :
كلما كانت الحقيقة هائلة، كان الثأر من المجاهر بها هائلا بالقذف والتشهير.
القسيس (يحاول إقناع مور بالحسنى) :
أصغ إلي يا عزيزي استيفن ، لنفرض أنك على حق فيما تقول من حيث الدواعي والأسباب، وإن كنت مخالفا لك في ذلك، فلا تزال هناك نقطة جديرة بالاعتبار؛ ذلك أن ضمير الفرد يجب أن يتلاشى أمام شعور المجموع، وقد أجمعت الأمة كلها على الحرب واعتبرتها شرفا لها.
السير جون :
أحسنت يا عزيزي جيمس، وأصبت بما قلت كل الحقيقة.
مور :
إن الأمم يا سيدي تصبح أجهل ما تكون بما يشرفها وما لا يشرفها.
القسيس :
لا أوافقك على هذا الرأي.
مور :
طبعا؛ لأنها كلمة قاسية، والحق أبدا قاس لا يلين.
كاترين (مخاطبة عمها القسيس، مانعته من الكلام) :
يكفي يا عماه ... يكفي (مور ينظر إليها كأنه متألم) .
السير جون :
إذن أنت ناو أن تضع نفسك على رأس المتهوسين في هذه البلاد، فتحطم بذلك مستقبلك، وتجلب العار على أسرتك، وتخجلني أمام الناس. إنك زوج ابنتي!
مور :
ألا يجوز للرجل منا أن يتمسك باعتقاده إذا خالف فيه شعور الناس واعتقادهم ... وأنت يا سير جون، ألم تتعرض أحيانا للوقوف في هذا الموقف؟
السير جون :
كلا ... لم أقف في حياتي موقفا كهذا ضد بلادي وأمتي ووطني ... ألا فاذكر يا مور أن الخطبة التي تنوي إلقاءها الليلة في المجلس ستنشر في جميع جرائد الدول الأخرى، وسيجدون فيها فرصة علينا والتعريض بنا ...
مور (مقاطعا) :
إذن أنت تسلم بأن في ذلك تعريضا؟
السير جون (يتقهقر) :
كلا يا سيدي، لا أسلم بذلك.
القسيس :
لقد تفاقمت الحالة في تلك البلاد المتوحشة ... وأصبح من واجبنا أن نضع حدا لها بلا تردد ... ألست معنا في هذا الرأي يا عزيزتي كاترين؟
مور :
الوطن وطني على كل حال، وأنا لا أفعل إلا ما أراه في مصلحته.
منديب :
ونحن باسم هذه الوطنية نناشدك ألا تخطب الليلة.
مور (غاضبا) :
كلا كلا (تنهض كاترين وينهض كذلك القسيس) .
السير جون :
هذا سلوك يتنافى مع الوطنية.
مور :
أنا لن أناصر الظلم والاستعباد.
كاترين :
ما هذا الذي تقول يا عزيزي استيفن؟ إن أبي لا يناصر الظلم، وليس فينا أحد يناصره (وهنا يدخل هيبوبرت جوليان ابن السير جون وزوج هيلين، وهو شاب طويل القوام من الضباط) .
هيلين :
هيبوبرت (تنهض وتذهب إليه فيقفان عند الباب يتحدثان) .
السير جون :
الآن نبئنا يا مور ماذا تريد بهذا الذي تقول، فقد صبرنا عليك طويلا.
مور :
لقد آن لنا نحن الدول العظمى يا سير جون أن نغير أساليبنا تجاه الأمم الضعيفة، وليكن لنا في الكلاب أنفسها أسوة، فهل ترى من كلب كبير يؤذي كلبا صغيرا؟
منديب :
هذا قياس لا يصح على الأمم!
مور :
ليس في العالم سبب يمنع الدول من أن تكون في الشهامة والمروءة كالكلاب على الأقل.
منديب :
هل تريد يا سيدي أن تكون الطريد الفظ من المجتمع، أيرضيك أن تصبح مبادئك وأفكارك غير ناجحة.
مور :
إن هذا المبدأ الذي أدين به لن يذهب سدى.
منديب :
بل هو غير ناجح ككل المبادئ الجديدة ... سواء منها المخطئ والمصيب. إن الحماسة الوطنية لم تبلغ من نفوس الجماهير مبلغها اليوم، حرارة وسعيرا ولهبا؛ فالحذر من غضب الجماهير يا استيفن، الحذر من غضب الجماهير.
مور :
أتريدون مني مخالفة لغضب الجماهير أن أنزل عن مبدئي وأكفر بعقيدتي ... ليست النقطة المهمة يا عزيزي منديب هل أنا مصيب في رأيي أم مخطئ، وإنما المهم هو هل يجوز لي أن أفر من مبادئ إرضاء للشعب، أم يجب أن أصر عليها إرضاء للضمير.
القسيس (متذمرا) :
لقد آن لي أن أنصرف. (لكاثرين)
طاب ليلك يا عزيزتي. آه، هيبوبرت ... أستودعك الله يا بني ... طريقنا واحد يا مستر منديب، فهل تريد أن نوصلك في سيارتي.
منديب :
شكرا لك ... طاب ليلك يا مستر مور، أرجو أن تمنعيه يا سيدتي؛ فإن ما يريد هو الدمار والعار (يخرج القسيس ومنديب. تضع كاترين يدها في يد هيلين وتخرجان من الحجرة، ويظل هيوبرت واقفا عند الباب) .
السير جون :
كنت أعرف من قبل تطرفك في آرائك يا استيفن، ولكني لم أكن أتصور لحظة أن زوج ابنتي من دعاة السلام بأي ثمن كان.
مور :
لست من دعاة السلام يا سير جون، ولكني أفضل فقط ألا أحارب سوى نظيري، ومن يعادلني قوة وبأسا .
سير جون :
أرجو الله أن يعيدك إلى صوابك قبل أن ترتكب هذه الحماقة الخطرة بإلقاء الخطبة التي قلت عنها. إني ذاهب إلى وزارة الحربية، طاب ليلك يا هيوبرت.
هيوبرت :
طاب ليلك يا أبي (يخرج السير جون، ويظل هيوبرت في مكانه مضطربا متألما) .
هيوبرت :
لقد صدرت لنا الأوامر.
مور :
ماذا؟ ... صدرت لكم الأوامر! ... ومتى تسافرون؟
هيوبرت :
حالا حالا.
مور :
واها لهيلين المسكينة!
هيوبرت :
لم يمض عام على زواجنا ... بخت سيئ! (يضع مور يده على ذراع هيوبرت مواسيا ويستمر هيوبرت)
ولكن ما الحيلة! ... يجب أن ننسى عواطفنا الشخصية أمام نداء الوطن ... أصغ إلي يا استيفن ... لا تلق هذه الخطبة، فكر في كاترين، فكر في أن أبي سيكون أكثر الوقت في ديوان الحربية، وأنا في ميدان القتال. لقد سافر قبلي إليه رالف وجورج شقيقاي. فكر في ذلك كله يا استيفن، وترو في الأمر قبل الإقدام عليه؛ فإنك لا تستطيع أن تتمالك نفسك إذا تهيجت.
مور :
يجب أن أخطب يا هيوبرت ... يجب أن أتكلم.
هيوبرت :
كلا، كلا ... لا تخطب الليلة ولا تتكلم؛ فإن الحرب بادئة بعد ساعات ولا ريب. (مور يعطيه ظهره)
استيفن، استيفن، إذا كنت لا تحفل بمستقبلك، فكر في كاترين على الأقل، لا تسحق فؤادها بيدك.
مور :
وأنت؟ ... أمتخل أنت الآخر عن واجبك من أجل زوجتك؟
هيوبرت :
أنت ماض في طريق خطرة، وليس الأمر هينا كما تظن؛ فإننا ذاهبون إلى الحرب، ومن يدري ... فقد تصاب هناك بهزائم ساحقة؛ فهلا ترويت! ... هلا انتظرت حتى ترى ماذا يكون شعور الأمة هنا بعد موقعة أو موقعتين في تلك القفار النائية! ... إن تلك البلاد موحشة، وقد انتهى إلينا أن أهلها مسلحون بأحدث طراز من الأسلحة، وأنهم يحسنون الكر والفر ... أي ستيفن ... هلا عدلت عن رأيك ... هلا انتهيت عن عزمك!
مور :
يجب على المرء أن يضحي بشيء في بعض الأحيان، حتى ولو كان في مثل مركزي (وهنا تدخل كاترين) .
هيوبرت :
ولكن ليس في خطتك من أمل ... ولا نجاح مطلقا لفكرتك (يتولى مور قابلة النافذة، ويتجه هيوبرت نحو أخته مشيرا بحركة صوب مور كأنما يريد أن يترك الأمر لها معه، ثم ينصرف) .
كاترين :
ستيفن، ستيفن، أحقا عزمت على إلقاء الخطبة الليلة؟
مور :
نعم ... بلا شك.
كاترين :
ولكني أطلب إليك ألا تفعل.
مور :
أنت تعرفين شعوري.
كاترين :
ولكن الوطن فوق كل شيء يا عزيزي مور، ولا ينبغي أن تخرج عليه، وأنت لن تستطيع أن توقف رحى الحرب، ولن ينالك من هذا كله إلا بغض الناس ومقتهم.
مور :
يجب أن يكون هناك رجل شجاع الرأي، يرفع الصوت ويجهر بالحق ... ولست أشك أن هزيمتين أو ثلاثا لا بد واقعة، ويومئذ يجن جنون البلاد، وتنتابها حمى هائلة ... فلا تكون النتيجة إلا أن شعبا صغيرا يتعرض، وأمة فتية تحرم حق الحياة، ويعالجها الفناء.
كاترين :
إذا كنت مؤمنا ببلادك، فقد وجب عليك أن تعتقد أن من مصلحة الإنسانية نفسها أن يتسع لها السلطان، وتكثر أملاكها، وتنمو استعمارا ونفوذا.
مور :
هل هذا هو مبلغ إيمانك بها؟
كاترين :
نعم.
مور :
إني أحترم هذا الإيمان، ولكني لا أدين به.
كاترين :
ولكن خطبتك ستروج دعوة يستغلها المتهوسون وأعداء البلاد، وسيجعلونك عليهم زعيما. (يضحك مور ساخرا) ... نعم، سيفعلون، سيفعلون بلا شك، وستفقد يومئذ مستقبلك. نعم، لن يتاح لك على مر الأيام أن تكون وزيرا، بل ربما اضطررت إلى التخلي عن مقعدك في المجلس.
مور :
كلاب تنبح، ثم لا تلبث من العياء أن تسكت ...
كارتين :
كلا، كلا، أنا أعرفك يا عزيزي، فأنت إذا أخذت في شيء مضيت فيه إلى النهاية، ولكن ما نفع ذلك وما فائدته؟
مور :
إني أخشى حكم التاريخ ... أخشى أن يقول غدا ... إن بلادي قد اقترفت هذا الجرم، فلم يرتفع من زعمائها صوت اعتراض واحتجاج.
كاترين :
ولكن هناك كثيرون سينتصرون لهذه الفكرة ويمجدون هذا العمل.
مور :
شعراء خياليون ... لا أكثر ولا أقل.
كاترين (تغير موقفها وتحاول التأثير عليه من طريق آخر) :
زوجي العزيز ... ألا تتذكر أول عهدنا بالزواج، وكيف ذهبنا نتوغل في الطبيعة ونصعد إلى الروابي الناضرة! ... هل تذكر تهالكنا على العشب الأخضر ... وقد دفنت وجهك خلاله ... ورحت تقول ... ما أشبه ذلك بتقبيل امرأة محبوبة! ... وذلك العشب من أرض هذا الوطن! ... فهلا تحب الوطن العزيز والأرض الغالية.
مور :
أحبها ... وهل لديك في ذلك شك؟
كاترين :
إذا كنت تحبها، فلماذا لا تجيب سؤالي؟
مور :
لأني أحبها ...
كاترين :
أواه يا ستيفن! ... تصور ألمي غدا وعذابي ... سيذهب هيوبرت إلى الميدان ... وستحوي الساحة أخوي الصغيرين ... لا تتصور حالة أبي في غيابهم ... وهيلين في غياب زوجها ... أتوسل إليك ألا تلقي هذه الخطبة ...
مور :
كارتين ... لا تسأليني هذا ... إنه مطلب عسير، وأمر لا طاقة لي بتنفيذه ... أتريدين مني أن أكون وغدا جبانا؟!
كاترين (وهي منفعلة متصاعدة الأنفاس) :
ولكنك ستكون كذلك إذا أنت خطبت. (مور يرتعد من وقع هذه الكلمة، وتقف هي تنظر إليه خائفة؛ لأنها أهانته، وهنا يدخل الخادم هنري لرفع ما على المائدة، فتخفض كاترين صوتها وتقول بصوت خافت لزوجها ...)
كارتين :
أناشدك ألا تفعل (مور يعرض عنها ولا يجيب، فتنصرف مغضبة) .
مور (للخادم) :
دع هذا الآن (ينسحب الخادم بينما يظل مور مطلا إلى المائدة، ثم يرفع يده إلى عنقه كأنما يحس اختناقا، ويريد أن يخفف من ضغط الياقة عليه، ثم يملأ لنفسه قدحا من الماء ويشربه مرة واحدة، وفي هذه اللحظة يسمع صوت موسيقى في الشارع من جماعة الموسيقيين المتسولين، وقد أخذ أحدهم يعزف على المندلينا، وآخر على الكمنجة؛ فيتقدم مور نحو النافذة ويرفع عنها الستر، وبعد لحظة يعود إلى المائدة، فيتناول أوراق الخطبة وهو في أشد حالات الألم والتردد) .
مور (لنفسه) :
وغد، جبان. (يهم بتمزيق الأوراق، ولكنه يغير فكره ويأخذ في تقليبها واحدة بعد أخرى، وهو يتمتم ويغمغم بقراءتها، فيبدأ أولا بصوت منخفض، ثم يرتفع شيئا فشيئا حتى يحتدم كأنه يلقي خطابا سياسيا أمام جمهور من السامعين)
أيها السادة ... لقد كان من دواعي فخارنا الوطني أن نسمي بلادنا نصيرة الحرية وعدوة الظلم وخصيمة الاستبداد ... أفذهب اليوم هذا الفخار ... وانمحى ذلك الاسم العظيم، وتلاشى ذلك المجد الباهر؟ ألا يجمل بنا أن نضحي بقليل من كمالياتنا في سبيل الحرص على ذلك المجد والاحتفاظ بذلك الفخار! خليق بنا أيها السادة ألا نضع أمام عين التاريخ مشهدا آخر من مشاهد استباحتنا الحقوق واعتدائنا على الحريات، وإهدارنا دم الفضيلة ... إننا اليوم موشكون أن نملي إرادتنا على شعب حر ... شعب يحب بلاده كما نحب بلادنا ... ويعتز باستقلاله كما نعتز باستقلالنا ... أيها السادة ... لست أحتمل الصبر على هذه السياسة التي تصم جباهنا، بل أرى من واجبي أن أجاهركم بالحق المر ... وهو أننا إذا كنا نرعى بلادنا ... فأخلق بنا أن نكون لحرمة بلاد غيرنا راعين ... إنني أحب بلادي، ومن أجل هذا الحب أصارحكم وأكاشفكم بما في نفسي، إنني قد أسلم معكم بأن ذلك الشعب ميال إلى الشغب ... نزاع إلى القتال، ولكن الذي لا أشك فيه أنه أضعف منا قوة ... وهيهات لمثله الغلبة على أمثالنا ... وإذن ... فإنه مهما كانت الظروف الحاضرة تبرر الدخول في حرب مع أولئك الضعفاء ... فإن عملا كهذا سيقضي على سمعتنا أمام أمم العالم وشعوب الأرض ... لأن قلب الإنسانية اليوم يخفق بالعطف على الضعفاء ... وشعور البشرية في جانب الأمم المغلوبة على أمرها، التي يبغي الأقوياء انتهاك حرماتها ... وإن زعمنا أننا إنما نفعل ذلك باسم العدالة وباسم المدنية، فإن العدالة من عملنا هذا بريئة، وغدا تحكم المدنية علينا أسوأ الحكم (بينما هو ماض في خطبته، يرى شبح صبية صغيرة تجري في التراس خارج الحجرة صوب الموسيقى، ولكنها تقف على صوته عند النافذة المفتوحة مصغية إلى خطبته، وهي صبية سوداء الشعر في العاشرة من عمرها، في ثوب أزرق من ثياب البيت، وقد أمسكت بطرف ثوبها في يدها، وكانت الموسيقى قد انتهت حينئذ من عزفها. وبينما كان مور يخطب متحمسا مسترسلا في احتداده، يمسك في يده قدحا فارغا من الأقداح المصفوفة على المائدة، فيتحطم القدح في يده وتتناثر شظاياه، وعلى هذا الصوت تهرع الصبية داخلة إلى الحجرة) .
مور :
أوليف.
أوليف :
مع من كنت تتكلم يا أبي؟
مور (محملقا ببصره في وجهها) :
مع الرياح بنيتي.
أوليف :
ولكن لا رياح الليلة يا أبتاه!
مور :
ما الذي جاء بك إذن؟
أوليف (تتراءى مترددة حائرة) :
الموسيقى ... وهل كسرت الريح القدح ... أم هو الذي انكسر من يدك؟
مور :
هيا يا بنيتي اصعدي إلى فراشك قبل أن تلمحك المربية. هيا أسرعي، أسرعي ...
أوليف :
كلا يا أبتي لا أريد. (ثم تتكلم بحرارة)
إنني أشعر أن الليلة ليست ككل الليالي ...
مور :
أصبت يا بنيتي ... إنها لكذلك ...
أوليف (تمسك بيدي أبيها وتجره إليها لتهمس له) :
يجب أن أعود إلى سبيلي في السر يا أبي ... (يهم مور بالكلام، فتمنعه ابنته واضعة أصبعها على فمها)
صه ... لا ترفع الصوت! (تجري أوليف فجأة وتختفي وراء أحد أستار النافذة المطلة على التراس، وهنا يدخل شاب حاملا ورقة مطوية في يده.)
مور :
هالو ... ستيل (وفي هذه اللحظة تعود الموسيقى إلى العزف مرة ثانية) .
ستيل :
رسالة من السير جون، جاء بها ساع مخصوص من وزارة الحربية.
مور (يقرأ الرسالة) :
ابتدأت الحرب (يقف مطيلا النظر إلى الورقة بينما يظل استيل ناظرا إليه بقلق ... وهو شاب نحيل شاحب اللون، ذو عينين تدلان ببريقهما على أنه رجل مخلص وفي ... يفرح لفرح الناس ويحزن لحزنهم) .
ستيل :
الحمد لله على أن الحرب قد وقعت يا سيدي ... إنني مسرور بذلك كل السرور؛ إذ أي مصيبة كانت تقع لو أنك ألقيت تلك الخطبة.
مور: أأنت أيضا؟
ستيل (يضطرب) :
أقصد ... أنه ... ما دامت الحرب قد ابتدأت فعلا ... ف...
مور (يمزق الرسالة ويطرحها على المائدة) :
دع عنك ما تريد أن تقول، فإنه لا يقال لمثلي.
ستيل :
هل تحتاجني لشيء آخر يا سيدي؟
مور (يتناول من جيبه بعض الأوراق فيضعها على المكتب) :
أجب على هذه الرسائل (يذهب ستيل إلى المكتب ويبدأ يكتب، بينما يعاود مور النزاع الهائل الذي بينه وبين نفسه، ثم يتقدم مور إلى المائدة، فيتناول أوراق الخطبة فيخفيها في كمه ويعود إلى النافذة حيث يقف مترددا) .
مور (وهو يتحرك قليلا إلى التراس) :
يا لها من ليلة هادئة جميلة!
ستيل :
هذا الخطاب للمستشفى الخيري، فهل أقول لهم إنك سترأس الحفلة؟
مور :
كلا (ستيل ينهمك في الكتابة، ولكنه لا يلبث أن يرفع بصره حتى يجد نفسه وحيدا في الغرفة، وينهض إلى النافذة ويتلفت يمينا وشمالا ثم يعود إلى المكتب، وفيما هو يهم بالجلوس ثانيا إذ تعتريه فكرة فينزع لها ويعود إلى النافذة، وفي الحال يسرع إلى قبعته فيتناولها ويجري نحو التراس، وفيما هو يختفي تظهر كاترين قادمة من ناحية الصالة، وبعد أن تتطلع إلى المكتب، تتقدم إلى المدخل وتقف منصتة ... ثم تعود إلى الغرفة وهي في أشد حالات القلق ... وفي هذه اللحظة تتسلل أوليف بكل هدوء من خلف الستار، فتحيط خصر أمها بذراعيها) .
كاترين :
ما هذا؟ ها بنيتي! ... لقد أخفتني ... ما الذي جاء بك هنا يا شقية؟
أوليف :
كنت مع أبي.
كاترين :
وأين هو؟
أوليف :
ذهب.
كاترين :
متى؟
أوليف :
منذ لحظة، وقد ذهب مستر ستيل يجري وراءه كالأرنب (في هذه اللحظة تكف الموسيقى عن العزف) .
أوليف :
لم ندفع لهم شيئا يا أماه.
كاترين :
هيا اذهبي إلى سريرك ... لست أدري كيف جئت إلى هنا في مثل هذه الساعة!
أوليف :
لا، لا أذهب حتى تدفعي لهم شيئا لكي يعزفوا مرة أخرى.
كاترين :
خذي هذا لهم وليعزفوا دورا واحدا فقط (تعطي أوليف قرشا، فتأخذه وتجري به إلى النافذة، وتنادي على الموسيقيين وتلقيه لهم) .
أوليف :
هيا اعزفوا لنا دورا آخر من فضلكم (تعود أوليف من النافذة، فترى أمها سابحة في أفكارها، فتلتصق بها عطفا وحنانا) .
أوليف :
أماه ... أتشعرين بألم؟
كاترين :
نعم ... ألم شديد يا بنيتي.
أوليف :
أواه (يبدأ الموسيقيون في عزف دور من أدوار الرقص) .
أوليف :
هذا دور رقص ... يجب أن أرقص (تخلع نعليها بقذفهما من رجليها، وبينما هي مسترسلة في الرقص يدخل هيوبرت من ناحية الصالة، ويقف لحظة يتأملها، وتروح كاترين ناظرة إليه) .
هيوبرت :
أين ستيفن؟ ... هل ذهب؟
كاترين :
نعم ... كفى رقصا يا أوليف.
أوليف :
هل أعجبك رقصي يا خالي؟
هيوبرت :
كل الإعجاب، بديع للغاية!
كاترين :
كفى يا بنية (في هذه اللحظة يقف الموسيقيون عن العزف فجأة وهم في وسط الدور، ويسمع صياح وهتاف من بعيد) .
أوليف :
أصغ يا خالي ... أليس هذا الصياح غريبا؟ (يصغي هيوبرت وكاترين مرهفي السمع، وتطيل أوليف النظر إليهما، ثم يذهب هيوبرت إلى النافذة، بينما تقترب الأصوات شيئا فشيئا حتى تسمع بعض الشيء، وإذا الصائحون باعة صحف ينادون أخبار الحرب ... اجتياز الحدود، القتال العنيف.)
كاترين (وهي في أشد الاضطراب) :
نعم، إنه لغريب! (تسمع الأصوات واضحة من ناحيتين مختلفتين)
أغلق النافذة حتى لا نسمع هذه الأصوات المنكرة (يتقدم هيوبرت إلى النافذة، وفيما هو يغلقها تظهر المربية قادمة من الصالة، وهي امرأة عجوز حنون، فترمق أوليف بنظرها، وفي الحال تنتبه للأصوات العالية في الخارج) .
المربية :
يا لله! ... هل ابتدأت الحرب؟ (يعود هيوبرت إلى النافذة فتسأله المربية)
هل تسافر فرقتكم يا مستر هيوبرت؟
هيوبرت :
نعم يا أم.
المربية :
أواه، أواه! ولدي، ولدي!
كاترين (مشيرة إلى ناحية أوليف وقد وقفت هذه محملقة البصر) :
حسبك يا أم، حسبك ...
هيوبرت :
اطمئني يا أم ... فسأرعاه في سفرنا.
المربية :
هو خاطب، وأنت لم يمض على زواجك غير عام ... ثم تباغتكما الحرب بهذه السرعة! يا لله! ... وأنتما صغيران متهوران، سريعا التأثر، هلا حرصت على نفسك في القتال يا بني وحرصت عليه!
هيوبرت :
لا تخافي يا أم ولا تحزني، فما نحن بمتهورين (تطيل المربية النظر إلى وجهه، ثم ترفع أصبعها مشيرة إلى أوليف لتذهب معها) .
أوليف (ملاحظة أن الموقف غريب، فتستسلم وتنصرف مع مربيتها) :
طاب ليلك يا خالاه، هل تدرين يا مربيتي لماذا جئت إلى هنا؟ (تهمس في أذن مربيتها بحماسة)
هذا سر. (وفيما هي تخرج معها منصرفتين من ناحية الصالة يسمع صوت أوليف تقول)
حدثيني عن الحرب وما فيها يا مربيتي قبل أن أنام.
هيوبرت (وهو يغالب تأثره الشديد) :
سنسافر يوم الجمعة يا أختاه، فارعي هيلين المسكينة في غيابي، وأكرمي مثواهها وأنا عنها بعيد ...
كاترين :
أواه! ... وددت لو أبيح للنساء الاشتراك في الحرب مقاتلات.
هيوبرت :
إني أشعر بآلامك وعذابك الموجع يا أختاه، بينما يسلك استيفن ذلك المسلك العجيب، ولكني أحسبه عادلا عن خطته ما دامت الحرب قد ابتدأت (تهز كاترين رأسها غير مصدقة ... ثم تتقدم نحوه فجأة وتلقي ذراعيها حول عنقه معانقة محتضنة ، كأنها قد وجدت في هذه العناقة أكبر عزائها، وهنا يفتح باب الصالة، فإذا صوت السير جون يسمع من الخارج وهو يقول) .
سير جون :
حسن جدا، سأبحث عنها بنفسي.
كاترين :
أبي! (يدخل السير جون.)
سير جون :
هل تناول ستيفن رسالتي ... لقد أرسلتها إليه بمجرد وصولي إلى الوزارة.
كارتين :
أظن ذلك. (تبصر الورقة الممزقة الملقاة على المائدة)
نعم، لقد وصلت إليه.
سير جون :
إن الشوارع تضج بأخبار الحرب ... الحمد لله لأني استطعت أن أمنع هذا المجنون من إلقاء خطبته قبل فوات الأوان.
كاترين :
وهل تمكنت من منعه حقا؟
سير جون :
كيف لا؟ ... لا أظنه أحمق إلى هذا الحد!
كاترين :
أخشى أن يكون كذلك. (تذهب إلى النافذة)
سنعرف ما جرى بعد قليل (ينظر سير جون إليها طويلا، ثم يتقدم إلى هيوبرت) .
سير جون :
شجاعة يا بني، إن الوطن فوق الجميع (يشدان على يدي بعضهما) . (كاترين تتراجع عن النافذة ويظهر مستر ستيل من التراس وهو يلهث من شدة الجري.)
ستيل :
ألم يعد المستر مور بعد؟
كاترين :
كلا ... أتراه قد خطب؟
ستيل :
نعم ...
سير جون :
يا للداهية! ... وبعد أن أعلنت الحرب! (يقف سير جون متألما، ثم يدور على عقبيه وينصرف مسرعا ... وبإشارة من كاترين ينصرف هيوبرت في إثره.)
كاترين :
والآن قص علي ما جرى يا مستر ستيل.
ستيل (وهو لا يزال لاهثا مضطربا) :
لقد كنت هنا معه ... فلم يلبث أن تغفلني وفر هاربا، وأكبر ظني أنه ذهب رأسا إلى المجلس؛ فجريت في إثره، ولكني لم أكد أصل إلى أروقة البرلمان حتى كان قد وقف وراح يلقي خطبته ... لقد ساد الصمت كأن الأعضاء توقعوا منه أمرا، بل لقد جلسوا كأن على رءوسهم الطير، وأنشأ هو من الكلمة الأولى يهز مشاعرهم هزا، حتى خيل إلي أنه قد أثر في فريق منهم ... ولكن تحت ذلك الصمت الرهيب كان يلوح لي أن هناك تيارا خفيا يندفع حولهم دفعا، وعند ذلك ... نعم عند ذلك انبرى شيرات ... نعم شيرات هو الذي بدأ على ما أذكر، فإذا الغضب يتملك الجميع، وإذا الهياج يعم المجلس، ولكنه بهدوئه وجلال سكينته قد استطاع أن يهدئ من ثورة غضبهم ... يا له من موقف جلل! لم أشهد له في الحياة مثيلا! وفي تلك اللحظة سرى التهامس بين الأعضاء كخرير النهر الجائن ... بأن القتال قد ابتدأ ... حتى خفت أن يهموا به فيمزقوه تمزيقا، وتقدم منه أحدهم فراح يشده من ذيل سترته ليجلسه، ولكنه دفعه عنه ... ومضى في خطبته لا يلوي على أحد حتى انتهى من كلامه ... وانطلق منصرفا من المجلس لا يلتفت ولا يعبأ ... فخفت الأصوات وسار الصمت. جرى ذلك كله في دقائق له الله يا سيدتي! في الحق لقد كان موقفه بديعا، بديعا ... لا مثيل له! وكانت كلماته كالحمم المارقة في الفضاء، من فوهة البركان الفائر المحتدم (هنا يظهر مور على التراس خلف ستيل) .
كاترين :
طاب ليلك يا مستر ستيل.
ستيل (مجفلا) :
آه ... طاب ليلك يا سيدتي (ينصرف ستيل من ناحية باب الصالة ... تلتقط كاترين حذاء ابنتها أوليف وتقف ملقية فردتيه على صدرها ... بينما يتقدم مور نحوها في رفق) .
كاترين :
لقد أرحت ضميرك إذن ... ما كنت أظن أنك ستؤلمني إلى هذا الحد! (مور لا يجيب، كأنه لا يزال متأثرا بالموقف الذي وقفه منذ دقائق في المجلس، فتدنو هي منه قليلا قليلا)
أي ستيفن، أنا مع وطني قلبا وروحا، ألا تكون أنت كذلك أيضا؟ (يسودهما الصمت وهما واقفان وجها لوجه، وفي أثناء ذلك يدخل الخادم هنري من الصالة.)
الخادم :
لقد وصلت هذه الخطابات الآن يا سيدي من مجلس العموم.
كاترين (تتناول الخطابات منه) :
سنخلي لك الغرفة بعد لحظة لتنظفها، فاذهب الآن (ينصرف الخادم) .
مور :
فضي هذه الخطابات بنفسك (تفض كاترين الخطابات واحدا بعد الآخر، وكلما قرأت خطابا تركته يسقط من يدها فوق المائدة) .
مور :
والآن ماذا تحوي؟
كاترين :
ما كان منتظرا، وهو تخلي ثلاثة من خير أصدقائك عن صداقتك، وقطع علاقاتهم بك ... لقد ابتدأت الكارثة.
مور :
الحذر من غضب الجماهير ... أليس كذلك؟ (يضحك ضحكة هائلة)
يجب أن أكتب في الحال إلى الرئيس (تأتي كاترين بحركة نفسانية لتتقدم إليه ، ولكنها تتمالك نفسها فيما تفعل، وإنما تذهب إلى المكتب بكل هدوء فتجلس وتمسك بالقلم) .
كاترين :
دعني أسرد ما تريد أن تبعث به إليه (تنتظر حتى يملي عليها)
نعم؟
مور (ممليا) :
تحريرا في 15 يونيو. عزيزي سير تشارلس، بعد إلقاء خطبتي الليلة وهي التي صارحت فيها المجلس باعتقادي الذي لن أحيد عنه آخر الدهر. (وهنا تلفتت كاترين إليه وترفع بصرها إلى وجهه، ولكنه لا يحفل بنظراتها ... ولا يتردد فيما هو عازم عليه، فلا يسعها إلا أن تستسلم وتنكب على الكتابة)
ليس أمامي إلا شيء واحد لا ثاني له، ولا مفر منه؛ وهو أن أضع استقالتي من وكالة الوزارة بين يديك ... وقد أكون مخطئا في وجهة نظري إلى هذه المسألة، غير مصيب في اعتقادي من نحوها وشعوري، ولكني آبى أن أفر من اعتقادي، ولا أرضى آخر الحياة أن أخون مبادئي ... إن حرية الفكر قبل كل شيء، وقد آمنت بأن الضعفاء في هذا العالم ينبغي أن ينتصر لهم ضد القوي؛ ولذلك سأظل لهم نصيرا حتى الرمق الأخير. (ستار)
الفصل الثاني (بعد حوادث الفصل الأول ببضعة أيام، والوقت ضحى، ونوافذ قاعة الطعام مفتحة ينفث منها ضياء الشمس، وعلى المائدة جملة من الجرائد ملقاة في غير نظام، وقد جلست هيلين هناك محملقة البصر واجمة، وفي الخارج يمر غلام من باعة الجرائد ينادي على جرائده ... فتنهض على صياحه من مكانها وتذهب إلى التراس، بينما يدخل زوجها هيوبرت من باب الصالة، فيتقدم رأسا إلى التراس ويمشي بهيلين إلى الحجرة.)
هيلين :
أهذا صحيح؟ هل صحيح ما ينادون به؟
هيوبرت :
نعم، إن الحوادث جاءت أسوأ مما كنا نظن؛ فإن العدو تمكن من جنودنا في المضيق، ولم تستطع مدافعنا أن تنال منه شيئا ... مقدمة سيئة للغاية، وابتداء شنيع.
هيلين :
أواه يا هيوبرت!
هيوبرت :
لا جزع، لا جزع، يا أعز الناس علي! (تعطيه وجهها فيقبلها، ثم تلتفت بسرعة إلى النافذة والمدخل، وفي تلك اللحظة يفتح باب الصالة ويتقدم الخادم هنري أمام ريفورد وخطيبته.)
هنري :
تفضلا بالانتظار هنا لحظة حتى أخبر مسز مور . (يلحظ هيوبرت)
معذرة يا سيدي.
هيوبرت :
لا بأس. (ينصرف الخادم. مخاطبا ريفورد بلا أدنى تكلف)
آه ... ريفورد ... لقد جئت إذن بها معك! بديع جدا، إن أختي سترعاها في غيابنا، فلا ينزعج بالك. هل حزمت الحقائب؟ سيكون السفر الساعة الثالثة تماما.
ريفورد (وهو جندي في ثوبه العسكري الأصفر الكاكي، يلوح عليه أنه رجل ظريف، ولكن الحالة الحاضرة قد تركت على وجهه أثرا من وجوم وتألم) :
كل شيء قد هيئ يا سيدي كما قلت (هيلين تكون قد ابتعدت عن النافذة وجاءت تتطلع إلى ريفورد وإلى الفتاة الواقفة بجانبه، وهي في استحياء واضطراب) .
هيلين (برفق) :
خذ بالك منه يا ريفورد.
هيوبرت :
سيأخذ كل منا باله من صاحبه، أليس كذلك يا ريفورد؟
هيلين :
كم مضى على خطوبتكما؟
الفتاة (وهي شابة مليحة حيية) :
ستة أشهر (تجهش بالبكاء) .
هيلين :
أواه! ... ولكنه لن يلبث أن يعود سالما.
ريفورد :
لن تذهب هذه الدموع بغير ثمن، سأعرف كيف أنتقم من الوحوش لأجلها. (بصوت منخفض للفتاة)
دعي البكاء الآن، دعي البكاء.
هيلين (للفتاة) :
لا تبكي يا عزيزتي ... لا تبكي (تقف هيلين مضطربة تحاول منع نفسها من الاستسلام للبكاء، ثم تخرج إلى التراس وهيوبرت في إثرها، ويظل ريفورد وحده مع الفتاة، وهما واقفان وقفة المضطرب المخجل، بينما هي تغالب عبراتها) .
ريفورد :
لا تستسلمي للبكاء هكذا يا نانسي، وإلا عدت بك إلى المنزل؛ لا يجمل بك الضعف ما دمنا قد جئنا، وإني لأخشى أن يتغلب علي اليأس من ضعفك هذا وجزعك. ألا ترين كيف هربت السيدة؟ ... لا بكاء إذن، لا بكاء (تتمالك الفتاة نفسها، وفي هذه اللحظة يفتح الباب وتظهر كاترين ومعها أوليف، فتنظر هذه إلى ريفورد بخوف واستغراب، وتأتي معهما المربية وهي ممسكة بمنديلها كأنما كانت تبكي، وإن كانت هادئة مالكة شعورها) .
كاترين :
لقد أخبرني أخي، ويسرني أنك جئت بها.
ريفورد :
شكرا يا سيدتي، إنها متأثرة لسفري كما ترين.
كاترين :
نعم، نعم، ولكن جميل بك أن تتشجعي يا بنيتي، في سبيل الوطن ما نحمل، أليس كذلك؟
الفتاة :
هذا ما يقوله لي ريفورد دائما، وهو مسافر لا مفر من سفره، فلا فائدة إذن من إزعاجه، وأنا لا أنفك أقول له إنني سأعتصم بالصبر في غيابه حتى لا ينزعج.
المربية (وهي لا تكف عن النظر إلى ولدها ريفورد) :
أصبت يا بني، أصبت.
الفتاة :
لقد أراد ريفورد أن يطمئن علي بوجودي في رعايتك يا سيدتي، ولكني أراه متحمسا للقتال أشد الحماسة حتى لأخشى عليه منه.
كاترين :
لكل منا عزيز مسافر، فهل أنت ناوية أن تودعيه على الميناء؟ ... يجب أن نودعهم بملء الحماسة؛ ففي ذلك تشجيعهم وإنعاش أرواحهم ... هذا واجبنا يا بنيتي.
أوليف :
من يدري ... فلربما سينال مدالية أو وساما.
كاترين (تنتهرها) :
أوليف!
المربية :
ذلك أجمل به من البقاء هنا مع المتخلفين المجردين من الوطنية الذين ينادون بإيقاف الحرب.
كاترين (بسرعة لتغيير الموضوع) :
أظن أن لدي عنوانك. (وتمد يدها إلى ريفورد)
اطمئن يا بني، فسنرعاها في غيبتك.
أوليف (هامسا لأمها بصوت مسموع) :
هل أهدي إليه شكولاتتي يا أماه؟
كاترين :
إذا شئت يا بنية. (لريفورد)
حذار أخي ولنفسك، وسنرعى نحن فتاتك خلال سفرك.
ريفورد :
سأفعل يا سيدتي ... شكرا لك (ينظر متأثرا على خطيبته، كأن هذه المقابلة لم تذهب كثيرا بالتأثير كما كان يؤمل، وأما الفتاة فتحيي مودعة، وهو يؤدي السلام العسكري) .
أوليف (وقد تناولت من الدولاب باكو شكولاتة فتضعه في يده) :
شكولاتة لذيذة ومغذية.
ريفورد :
شكرا لك يا آنسة (يتبادلان الوداع بتأثر وينصرفان ومعهما المربية) .
كارتين :
واها للمساكين!
أوليف :
أماه ما معنى قول مربيتي: المتخلفين المجردين من الوطنية المنادين بإيقاف الحرب؟
كاترين (وهي تتناول إحدى الجرائد) :
تعبير فاسد يا عزيزتي ... كفى ثرثرة.
أوليف :
ولكن لي سؤال واحد ثم أسكت.
كاترين :
وما هو؟
أوليف :
هل أبي من هؤلاء؟
كاترين :
أوليف ... ماذا تعرفين من أمر هذه الحرب؟
أوليف :
هم لا يريدون أن يطيعونا الطاعة الواجبة، ونحن نريد أن نعاقبهم على عصيانهم ونأخذ منهم بلادهم، ونحن آخذوها بلا شك، أليس كذلك؟
كاترين :
هو كذلك، ولكن بابا لا يود منا أن نفعل؛ لأنه يراه ظلما، ولا يكف عن المجاهرة بهذا الرأي، ولهذا غضب الناس عليه وتألموا من كلامه.
أوليف :
ولماذا يراه ظلما؟ أظن لأننا أصغر منهم ... أليس كذلك يا أماه؟
كاترين :
كلا.
أوليف :
يا للعجب! لقد كنا دائما هكذا في التاريخ؛ ولهذا السبب كنا دائما نحارب وننتصر. إنني أحب التاريخ ... وأنت يا أماه، أمع بلادنا أم معهم؟
كاترين :
مع بلادنا يا عزيزتي.
أوليف :
إذن يجب أن أكون معكم يا أماه، ولكن من الأسف أننا لسنا في صف أبي. (كاترين ترتعش)
فهل سيؤذونه لأنه ليس في صفنا؟
كاترين :
أخشى أن يفعلوا يا أوليف.
أوليف :
إذن يجب أن نعطف عليه يا أماه أكثر من قبل.
كاترين :
نعم ... إذا استطعنا ...
أوليف :
ولكني أستطيع ... وسأفعل بلا شك (يعود هيوبرت وهيلين من التراس، وعندما ترى هيلين كاترين والطفلة تنصرف، ويذهب هيوبرت إلى النافذة) .
أوليف (وقد لمحته، تهمس لأمها) :
وهل خالي يسافر اليوم إلى ميدان القتال؟ (تهز أمها رأسها بالإيجاب)
ولكن جدي لا يسافر ... أليس كذلك؟
كاترين :
لا يسافر جدك يا عزيزتي.
أوليف :
هذا من حسن حظ خالي، أليس كذلك؟ (يدخل هيوبرت وقد جعله وجود الطفلة يتمالك جأشه.)
هيوبرت :
الآن يا أختاه ... حان الوداع ... (إلى أوليف)
ماذا تريدين أن أحضر لك معي يا طفلتي العزيزة؟
أوليف :
وهل في الحرب دكاكين؟ لقد كنت أظنها خطرة؟
هيوبرت :
كلا ... ليس فيها من خطر.
أوليف :
يا للعجب!
كاترين :
والآن يا عزيزتي، عانقي خالك عناقة طيبة. (تحاول كاترين خلال عناقهما أن تسترجع شجاعتها)
سنكون أنا وأبونا معك بالروح يا شقيقاه (لا يجترئان على العناق وينصرف هيوبرت مسرعا من فرط التأثر، فيلقى ستيل على الباب، ولكنه لا يلتفت إليه، فيتردد ستيل ويهم بأن يعود من حيث أتى) .
كاترين :
تعال يا مستر ستيل، تقدم.
ستيل :
كنت أتوقع أن أجد وفد الناخبين من الدائرة قد حضر يا مسز مور؛ لأن الساعة بلغت تمام الثانية عشرة.
أوليف (وكانت قد تناولت بعض الجرائد فكورتها في يدها) :
ألقف يا مستر ستيل (وهي ترمي كرة الجرائد فيلتقطها ستيل صامتا) .
كاترين :
هيا اطلعي فوق يا عزيزتي، اذهبي ...
أوليف :
ألا أقر هنا في النافذة يا أماه حتى أشاهد الجنود وهم يمرون؟
كاترين :
كلا ... قفي في التراس لحظة ... وبعدها يجب أن تصعدي إلى غرفتك (تخرج أوليف مكرهة إلى التراس) .
ستيل :
أخبار سيئة، وبالأخص خبر الهزيمة المؤلمة في المضيق، هل رأيت هذا المقال (يقرأ من الجريدة)
لن نتبع سخف هذا المنحرف الأحمق الذي خرج على بلاده في هذه اللحظة الأخيرة ... لقد استحق نائب طولين احتقار الوطنيين الصادقين ... (يتناول جريدة أخرى)
إن في هذه البلاد فريقا من السياسيين لا يتورعون في هذه الساعة الرهيبة من محاولة الإعلان عن أنفسهم، فمن واجبنا في مثل هذه الأزمات القوية أن نكمم أفواههم كما نكمم الكلاب المسعورة المصابة بالكلب ... ألا ترين يا سيدتي أن خصومه قد تألبوا اليوم عليه أشد تألب؟
كارتين :
لست أخاف من هؤلاء السياسيين كخوفي من أولئك الذين يأبون أبدا إلا الخروج على بلادهم واستهجان سياستها؛ إذ كل خشيتي أن يجعلوه بطلا وينصبونه عليهم زعيما ... هل تعلم ماذا ينوي أن يفعل بعد هذا؟
ستيل :
يجب علينا يا سيدتي أن ننتبه عن اعتزامه التجوال في البلاد ليخطب الناس في وقت الحرب ... نعم ... هذا هو ما ينبغي أن نفعله، وإلا كانت النتيجة سيئة للغاية.
كاترين (مصغية) :
أظن الناخبين قد حضروا ... فاذهب وابحث عنه يا مستر ستيل ... أظنه الآن في غرفته بالمجلس (يخرج ستيل وتقف كاترين متحفزة مستعدة لاستقبال الوافدين. يعود ستيل بعد لحظة ويفتح الباب لدخول الوفد، ثم ينصرف ... وإذا الوفد مؤلف من أربعة أشخاص، وهم يدخلون بتردد وتهيب كأنهم متوقعون أن الزيارة خطيرة النتائج، وفي مقدمتهم جيمس هوم، وهو رجل طويل نحيل أشيب غزير الشعر، بين الحسبي والجريء في أخلاقه ... فحينا تره متناهي الخشونة وحينا متناهي الأدب ... وهو يلوح عليه كأنه رجل مرتد بذلة من القماش الخشن «الشيفوت» لا احتفال في تفصيلها، وربطة من الحرير الأحمر تمسكها حلقة من المعدن. وفي أذياله يتقدم «مارك ويبس» رجل متوسط العمر، مستدير الوجه، شاحب، ناحل الشعر والشارب، ومن لوازمه فرك يديه معا باستمرار كأنه يبيع شيئا لزبون معتبر ، وهو ممتلئ البدن قليلا، يلبس ثيابا غامقة ويحمل سلسلة طويلة من الذهب. ومن وراءه يسير «شارلس سلدر» محام في الخمسين من عمره، بيضاوي الرأس أصلعه، وقد وضع منظارا على أنفه «بانسنيز»، ووجهه وإن كان يدل على الطيبة والحنان فلا يزال يتم أيضا على اليقظة والدهاء، وكلما تكلم خيل لسامعه أن في فمه شيئا يلوكه كالبرقوقة، أو كأن الزغطة أبدا ملازمته. وآخرهم «وليم بانج»، رجل نشيط في حركاته، مربع الكتفين، عصامي من أهل الريف، بين الخمسين والستين، أشيب الشارب، محمر الوجه، تلمع عيناه لامعانا شديدا) .
كاترين :
كيف أنت يا مستر هوم؟
هوم (يسرف في الانحناء على يدها كأنه يريد أن يظهر مبلغ استقلاله وتحرره من نفوذ السيدات) :
مسز مور! ... لم نكن نتوقع ... حصل لنا الشرف.
ديس :
كيف أنت يا سيدتي؟
كارتين :
وأنت يا مستر ديس؟
ديس :
شكرا لك يا سيدتي ... في أحسن حال.
شلدر :
كيف أنت يا مسز مور؟
كاترين :
بخير يا مستر شلدر، شكرا.
باننج :
مناسبة غير حسنة يا مسز مور!
كاترين :
هي كذلك في الواقع يا مستر باننج، تفضلوا بالجلوس (ولما تجد أنهم لا يريدون جلوسا حتى تجلس هي، تتقدم إلى المائدة فتجلس، فيأخذون مجالسهم تدريجا، وكل واحد فيهم متردد لا يريد أن يكون هو البادئ بفتح باب الحديث ... فتجد كاترين نفسها ملزمة بأن تجتذبهم إليه) .
كاترين :
سيحضر زوجي بعد لحظة؛ لأنه ذهب إلى المجلس على أن يعود حالا.
شلدر (وهو بحكم تعليمه ومركزه أرقى من الآخرين) :
حقا إنه لموقف عجيب هذا الذي رضيه المستر مور لنفسه، موقف يحار المرء في وصفه.
كاترين :
لقد قرأت تفاصيل اجتماعكم للمرة الثانية في مركز دائرتكم الانتخابية.
باننج :
هي مسألة مؤلمة يا مسز مور ... مؤلمة للغاية ... ولا فائدة من إخفاء الحقيقة، إن تلك الخطبة كانت بلا شك جنونا، وإزالة آثارها تحتاج إلى جهد كبير ... فلماذا تركته يخطب؟ نعم، لماذا تركته؟ أنا متأكد يا سيدتي أنك غير موافقة على رأيه. (يتطلع إليها، ولكنها لا تجيب بأكثر من ضم شفتيها)
أنا أقول لك يا سيدتي ما خطر لي عندما علمت بالخبر ... بل هو في الواقع ما خطر لجميع أهل الدائرة؛ إن الباعث الذي دفعه إلى هذا العمل هو أنه كان يعلم أن جنودنا كانوا قد اجتازوا الحدود وابتدءوا القتال فعلا.
كاترين :
وهل هذا يغير من خطورة الأمر في شيء؟
هوم :
كيف لا يا سيدتي؟ إن عملا كهذا هو انتهاز لفرصة سيئة، واستغلال لخطب قومي ... هذه هي الحقيقة ... أستميحك يا سيدتي المعذرة ... عن صراحتي ...
باننج :
قبل أن تقع الحرب يا مسز مور، يجب لكل إنسان أن يقول ما يشاء ...
1
الوطنية، وقد كانت خطبته شديدة اللهجة، إلى أبعد حد.
كاترين :
لقد كان عازما على إلقائها قبل وقوع الحرب، فلما ألقاها جاءت الأخبار بالمصادفة ... معلنة وقوعها.
باننج :
ربما كان هذا صحيحا ... إن كل ما نريد الآن هو أن نستوثق من أنه لن يعود إلى مثل هذا المسلك مرة أخرى (هنا يدخل مور قادما من المدخل، فينهض الجميع) .
مور :
طاب صباحكم أيها السادة (يتقدم رأسا إلى المائدة، ولكنه لا يظهر الرغبة في مصافحتهم باليد) .
باننج :
والآن يا مستر مور، لقد ارتكبت غلطة فظيعة يا سيدي ... أقول لك ذلك في وجهك مصارحا.
مور :
كما يقول كل إنسان يا مستر باننج ... تفضلوا بالجلوس (يعاودون مجالسهم تدريجا، ويتخذ مور مجلس زوجته ... فتظل هي وحدها واقفة متكئة على مسند النافذة الفرنسية، تراقب وجوههم) .
باننج :
هل قرأت التلغرافات في هذا الصباح ... إنني أصارحك يا مستر مور بأن هزيمة أخرى كهذه وأنت الملوم؛ لأن أولئك الضحايا لحمنا ودمنا ...
مور :
وأنا أيضا ... ألست من دم ولحم ... عندما تكلمت في تلك الليلة كان هناك (مشيرا إلى صدره)
إحساس يجيش وشعور يفيض فيضا.
باننج :
ولكن المسلك الذي اتخذته كان فجائيا غير منتظر ... إذ لم يكن هذا هو اعتقادك في مايو الماضي على الأقل ...
مور :
يجب في سرعة الإنصاف أن تقولوا إنني كنت يومئذ ضد سياستنا الخارجية ... لقد مضت علي ثلاثة أسابيع وأنا مع القس في نزاع هائل، حتى تغلبت أخيرا على جميع الاعتبارات في سبيل واجبي الوطني ... واعتزمت إلقاء تلك الخطبة ... والإنسان لا يصل إلى قرار كهذا بينه وبين ضميره عفوا أو في وقت قصير يا مستر باننج.
شلدر :
هي مسألة ضمير إذن؟
مور :
نعم يا مستر شلدر، وإن كانت السياسة في أكثر الأحيان لا تعرف ضميرا.
شلدر :
إن أفكارنا لم ترتفع بعد إلى مستوى أفكارك يا مستر مور (مور يضحك ... تدنو كاترين من زوجها، ولكنها تتراجع ثانية إلى مكانها كأنما سرها هذا التلطف من زوجها للزائرين. يفرك ديس يديه) .
باننج :
هناك شيء واحد قد نسيته يا سيدي ... وهو أننا انتخبناك هنا في البرلمان لتمثلنا، وأنت لا تجد في الدائرة كلها رجلا واحدا تسول له النفس أن يكلفك عنه إلقاء تلك الخطبة ...
مور :
أنا متأسف ... ولكني لا أستطيع أن أحيد عن اعتقادي يا مستر باننج.
شلدر :
المسألة ليست مسألة اعتقاد ... وتمسك به ... ولكنها مصلحة البلاد، ومصلحة الوطن.
باننج :
الأمر خطر يا مستر مور؛ لأن شعور الناس ضدك قد بلغ حدا هائلا، وقد وصلت إلينا رسائل لا تحصى ... وبعضها من قوم أخيار، ورجال أفاضل، ومن بينهم من كانوا إلى أمس فقط صفوة أصدقائك وأصحابك المخلصين.
شلدر :
لم يفت الأوان يا مستر مور، ويكفي أن يقال لهؤلاء الغاضبين المتهيجين أنك لن تفعل مثل هذا بعد اليوم ... ليهدأ شعورهم ... وتسكن ثائرتهم.
مور :
ما هذا الذي أسمع؟ ... أكتم فمي؟
باننج :
تقريبا، إن أردت الصراحة.
مور :
أتريدون مني أن أضحي بمبادئي واعتقادي ... من أجل صفتي النيابية، لو فعلت ذلك لحق لخصومي أن يسموني رجلا حقيرا سافلا (يمسك بالجرائد الملقاة على المائدة، ثم يلقيها عليها ثانية باحتقار وعنف. تبدي كاترين حركة فجائية مؤلمة، ولكنها لا تلبث أن تعاود هدوءها وتلزم مكانها) .
باننج :
ولكنا لا نسألك أن تسحب كلامك، وكل ما نريده منك أن تكون بصيرا في المستقبل.
مرو :
أمؤامرة على إسكاتي؟ ... يقال إني اضطررت إلى السكوت لأن الجرائد الزمنية ونباح الكلاب أخافني ...
باننج :
ومن الذي يستطيع أن يقول هذا عنك؟
شلدر :
يا عزيزي مور، هلا نزلت عن هذه الأفكار العالية على مستوى أمثالنا، إن مثلك في سمو المبدأ وعلو الفكر، لا يسمح له أن يعبأ لحظة واحدة بما قد يقال عنه ...
مور :
وهذا ما أشعر به، وعندي الشجاعة الكافية للثبات عليه، وإذا كان الرجل السياسي في هذه البلاد لا يستطيع أن يكون حرا في أفكاره، صريحا أمام الناس في مبادئه؛ فالسلام إذن على البلاد ... والعداء على الوطن.
باننج :
نحن لا نعيب عليك سلوكك، ولكن دماء أهلنا تسفك في تلك البلاد، وهذا ما لا نستطيع السكوت عليه ... وأمام هذه الاعتبارات لا يمكن أن نقبل من نائبنا الذي يمثلنا أن يستمر على التفوه بكلام طائش وإلقاء بيانات مستهجنة من الجميع.
مور :
أنا مدرك شعوركم يا مستر باننج؛ ولهذا لا يسعني إلا أن أقدم إليكم استقالتي من النيابة عنكم؛ لأنني لا أقبل أن أتشبث بالكرسي النيابي، بينما يأبى الذين انتخبوني عنهم أن أكون لهم مثلا.
باننج :
كلا، كلا ... لا تفعل ... ليس هذا ما نقصد ... لقد قلت ما كان في نفسك وانتهى الأمر، وقد لبثت نائبا عنا تسع سنين متوالية، فلا نريد أن تغادر مكانك.
شلدر :
نحن نريد أن نحتفظ بك يا عزيز مور ... ولا نطلب إليك إلا أن تنزل قليلا عن تشبثك، وتعدنا بإلزام الصمت ... هيا يا عزيزي تعهد لنا بذلك ... فليس في تعهدك من بأس.
مور :
إن رجلا مثلي لا يعطي وعودا رخيصة هيهات ... لا يمكن أن أعد (يسود الجميع صمت طويل، والكل ينظرون إليه) .
شلدر :
إن للحكومة أعذارا وجيهة تبرر سياستها.
مور :
لا تعدم الحكومة في أي وقت أعذارا وجيهة لتبرر سلوكها حيال الضعفاء.
شلدر :
يا عزيزي مور ... من أين لك أن تجد شفيعا لما فعل أولئك الهمج، الذين لا يحسنون غير سرقة الأنعام والماشية.
مور :
إن الذين يسرقون الأنعام لأهون والله جرما ممن يسرقون الشعوب حريتها واستقلالها.
شلدر :
إننا نطلب إليك ألا تجوب البلاد قائلا هذا على الملأ.
مور :
ولكن هذا من واجبي ... وأنا حتما منفذه (ينظرون إليه مبهوتين) .
شلدر :
ليس في بلاد دائرتنا على الأقل، وعفوا إذا قلت إننا نمنعك!
ديس :
في الحقيقة يا سيدي ... في الحقيقة ...
شلدر :
إن عصر الشهداء قد مضى وانقضى يا سيدي.
مور :
أحقا؟ ... إذن أنا مجدده.
باننج :
لا نزال نرجو أن نتغلب بالحجة عليك؛ لأنه يعز علينا أن نتخلى عنك يا مستر مور بعد ثلاث انتخابات متوالية، ألا انظر للمسألة من وجهتنا الإنسانية؛ كيف ترضى لنفسك أن تقول السوء عن بلادك؟ في الوقت الذي تسفك فيه دماء أبنائها وتنكب هذه الهزيمة الفاجعة التي تواترت أنباؤها ... ثم لا تنسى أيضا زوجتك، فإن أخاها سافر مع فرقته في أصيل هذا النهار بالذات، فهلا اقتنعت! هلا أفنيت عنها الحزن والغم! (يهرب مور من هذا الموقف إلى النافذة، ويتبادل القوم النظرات.)
مور (يلتفت إليهم) :
إن محاولة تكميم فمي على هذه الصورة عمل شنيع، عمل شنيع جدا.
باننج :
إننا إنما نريد أن ننجيك من التجربة.
مور :
لقد احتفظت بمقعدي في المجلس تسع سنين متوالية، على الشر والخير ... وفي السراء والضراء، وكنتم لي أبدا أنصارا وأعوانا ... إن فؤادي كله في عملي أيها السادة، ولست أبغي خسوفا سياسيا لنجمي وأنا ما زلت في الأربعين.
شلدر :
وهذا ما لا نريده لك ... بل هو ذا الذي يحدونا إلى التشبث بك.
باننج :
إن الصداقة تضطرنا إلى أن نكون صرحاء في وصف الشعور العام المحتوم ضدك، فلتلزم الصمت حتى تهدأ الثائرة ... أنت رجل عظيم فلا تخذلنا فيما نأمل، ولا تأبى علينا ما نريد ... لقد كنا ننتظر منك وأنت الرجل العظيم في هذا الحادث الخطير.
مور :
وهذا ما أنا فاعله.
هوم :
وما هو هذا الرأي؟ هل تسمح لي بهذا السؤال ...
مور (يلتفت إليه محتدا) :
إن دولة عظيمة كدولتنا يجب أن تكون العاملة لخير البشرية، فهل يمكن أن تكون هذه الاعتداءات الطفيفة التي ارتكبتها تلك الأمة الصغيرة ... عذرا لنا لاستلاب حريتها؟
باننج :
استلاب حريتها! ... هذا كلام لا أصل له.
مور :
حسبك يا مستر باننج ... لا تغالط ... لقد ذهبنا إلى تلك البلاد لنحتلها كما فعلنا مع سواها من ممالك وأقطار، وتصريح رئيس الوزارة الليلة الماضية جلي واضح لا يحتاج إلى تفسير ... فقد قال إذا كنا مضطرين على بذل هذه الدماء وإنفاق هذه الأموال، فيجب علينا أن نعمل عملا حاسما حتى لا نضطر إلى تكرير التضحية في المستقبل ... ومعنى ذلك أننا عاملون على ابتلاع تلك البلاد دفعة واحدة.
شلدر :
هب أن الأمر كذلك، فماذا فيه من بأس، إن هذا شأن الشعوب المتمدنة ... بل ما هي المدنية في حكم المنطق والحياة إن لم تكن ابتلاع الإنسانية الراقية للإنسانية الدنيا، لسنا نحن في ذلك ظالمين.
مور :
أنا وأنت في هذا لن نتفق ولو تناقشنا إلى الصباح ... وليست النقطة في هل أنا أم أنت المحق المصيب ... ولكن هي ماذا يجب أن يفعل الرجل الذي يدين بعقيدة من كل قلبه، ويخلص إليها بكل قواه ... فإن كان عندك في هذا رأي فهاته (يسود السكوت لحظة) .
باننج :
لقد كنت أفكر في أولئك المساكين الذين ذهبوا ضحية الحرب في ذلك المضيق.
مور :
وأنا مستطيع أن أتصورهم مثلك تماما يا مستر باننج، ولكن هل تستطيع يا عزيز أن تخبرني ماذا يكون شعورك لو أن في بلادنا الآن مئات من الأجانب، وقد جاءوا خصيصى يبغون العدوان عليها ... نعم، على بلادنا نفسها، بلادنا المعتزة برقيها، المتباهية بحضارتها ... أتهتم فقط بأولئك المساكين القتلى في المضيق، ولو كانوا هم المعتدين على بلادنا، واعتدوا على حرمة أرضنا ... لما بقي منكم رجل واحد لا يصيح اقتلوهم. اقتلوهم بل لاشتركت أنت في القتل، ولاشتركت فيه أنا نفسي مع المشتركين (تؤثر هذه الكلمات الشديدة في نفوس القوم أكثر من أي حجة أخرى، فيلتزمون الصمت) .
مور (مسترسلا) :
هل هناك فرق بين الحالتين؟ ... صدقوني لست عديما من الإحساس حتى لا أريد أن يمحى عار هذه الهزيمة التي لحقتنا، ولكن على الرغم من إخلاصي لكم، بل على الرغم من آمالي الكبار التي أتطلع إليها، وهي لا أخفي عنكم كثيرة وستزداد ولا ريب على الأيام (يخفض من حديثه)
وعلى الرغم من تألم زوجتي وعذابها الشديد، أراني ملزما بأن أرفع الصوت عاليا ضد هذه الحرب وبواعثها غير المشرفة.
باننج (يتكلم بتأثر وبصوت منخفض مستشيرا أصحابه بعينيه أثناء كلامه) :
ليس هناك رجل يا مستر مور أنا له أشد احتراما من احترامي لك، ولكني لست أدري ماذا عسى القوم قائلين حين نعود إليهم ... وإن كنت أنا شخصيا لا أستطيع أن أشترك مع الذين يريدون إكراهك على التخلي عن مبدئك وعقيدتك.
شلدر :
ليس فينا من ينكر عليه ذلك.
ديس :
حقيقة، حقيقة.
شلدر :
من فكري أن يترك كل إنسان حرا في التمسك برأيه مهما كان.
مور :
أشكرك يا مستر شلدر.
باننج :
هذا حسن ... ولكن الذي أخشاه أننا سنجد صعوبة شديدة (وينظر إلى هوم فجأة، وكان هذا قد رفع يده إلى أذنه كالمستمع، وقد تعالت من بعيد - في خفوت - أصوات الموسيقى، فينتبه الجميع إليها ويقفون منصتين) .
هوم (فجأة) :
موسيقى الحرب! (هنا يظهر شبح أوليف وهي تعدو صوب النافذة في التراس، وتلتفت كاترين كأنها تهم بمتابعتها.)
شلدر :
موسيقى المايلندرز (ينهض. تسرع كاترين إلى التراس، ويذهب الجميع واحدا بعد واحد إلى النافذة حتى يبقى مور وحده، فيمضي إلى النافذة الفرنسية، بينما تأخذ الموسيقى في الوضوح وهي تقترب. يغادر مور مكانه عند النافذة وهو في نزاع نفساني شديد يبين أثره في وجهه المتقلص وحركاته المضطربة ... يروح ويغدو في الغرفة موازنا بين خطواته والنغمة، تأخذ الموسيقى في الخفوت وهي تبتعد حتى تصبح فقط نقر طبول، ولا يعود يسمع غير صوت مواقع أقدام الجنود على الأرض، فيقف مور عند المائدة ويغطي عينيه بيديه. يعود الوافدون واحدا وراء الآخر مخترقين التراس وداخلين من النوافذ الفرنسية وقد تغيرت سحنهم وهيئاتهم، وتسير كاترين في إثرهم حتى النافذة فقط) .
هوم (بصوت غريب اللهجة كأنه يهدد) :
كلام لا ينفع، هلم فعدنا يا مستر مور إنك ستلازم السكوت ...
شلدر (في إثره) :
نعم، نعم ... يجب أن تتعهد لنا بذلك.
ديس (في إثره) :
أي نعم، يجب ... يجب ...
باننج :
لن ندعك حتى نأخذ منك هذا التعهد.
مور (دون أن يرفع رأسه) :
أنا ... أنا ... (تسمع دقات الطبول مع فرقة سائرة) .
باننج :
أتسمع هذا يا رجل ... ثم تتردد ... بينما دم أبناء وطنك يسفك في غير أراضيه؟ (يسمع ضجيج الجماهير في الخارج) .
مور :
إنني أمام هذا الإلحاح لا يسعني أن ... أن ... (تقطع عليه الكلام أصوات الضجيج والصياح في الشارع، والجماهير تهتف قائلة: لتحيا الجنود البريطانية، اسحقوهم أيها الشجعان ... اقتلوهم أيها الأبطال ... اذبحوا أبناءهم ... خذوا أرضهم ... لا تتركوا فيهم حيا، ضرجوا الأرض بدمائهم ... ثم يتلو هذا الهتاف تصفيق وصياح وتهليل يشق عنان السماء) .
مور (يرفع رأسه من بعد إطراقه) :
أذلكم نداء الوطن! كلا ... ورب السماوات كلا.
كاترين :
رباه! لقد رجع إلى تشبثه.
شلدر :
إذا كان الأمر كذلك فنحن ننصرف.
باننج :
أتعني حقا ما تقول يا مستر مور؟ إذن أنت تريد أن تخسرنا نحن أيضا (ينحني مور مودعا) .
هوم :
يا للعجب من أمرك! (ينظر بغضب إلى مور، ثم إلى كاترين ثم إلى مور)
أهكذا تريد أن تخرج على بلادك؟ إذن فلننتظر غدا هي صانعة بك (يخرجون واحدا بعد الآخر في صمت، إلا باننج ينظر إلى الوراء وهو خارج من الصالة، وعند ذلك يتهالك مور من العياء والإجهاد على مقعده أمام المائدة وكومة الجرائد المبعثرة، بينما تظل كاترين عند النافذة جامدة في مكانها لا تبرحه ... وحينئذ تتقدم أوليف) .
أوليف :
أي شكل جنودنا بديع جدا يا أماه، ولكن الناس الذين يسيرون وراءهم في ثياب قذرة، وإن كان قليل منهم نظيفي الملابس! (تدرك الصبية من شكل أمها ووجهها أن أمرا غير مألوف قد وقع ... فتنظر إلى أبيها ثم تتسلل إليه خطوة حتى تقف بجانبه ملاصقة له)
إني ... لقد سافر خالي هيوبرت ... وخالتي هيلين لا تكف عن البكاء ... ثم انظر إلى أمي ... إنها تبكي هي الأخرى (يرفع مور رأسه وينظر) .
أوليف :
أبي أبي ... ألا تكون معنا؟ ... ألا تكون في صفنا؟ ... أتوسل إليك يا أبي أن تفعل (تضع خدها لصق خده وتتمسح به، ولما تجد أنه لم يمسح خده بخدها كما تفعل معه، تغادره مبتعدة وهي تنقل نظرها بينه وبين أمها من فرط الدهشة) .
مور (بعد حركة مقاومة ومجاهدة عنيفة) :
بلادي ... وطني ... إيماني ... عقيدتي ... مبادئي ... كلا ... كلا ... لن أعصي صوت الضمير ولو أمسيت غدا في الهالكين . (ستار)
الفصل الثالث (زقاق مرصوف بالحجارة، ولكن لا رصيف فيه خلف تياترو صغير من تياتروات الضواحي، وقد لصق على جداره الشاهق الأملس الذي لا نوافذ فيه ولا فتحات، بقايا ممزقة من إعلانات قديمة عن الحفلات، ويافطة تحوي هذه الكلمة: للإيجار ... وإعلانات عديدة ممزقة، وفيها إعلان واحد لا يزال بحاله وقد كتب فيه ... أوقفوا الحرب ... خطبة في اجتماع أول أكتوبر للمستر مور، وخطاب لآخرين. والزقاق قذر تناثرت على أرضه القاذورات والأوراق المهملة والقصاصات المتطايرة، وهناك سلم ذو ثلاث درجات من الحجر تؤدي إلى الباب الخلفي للتياترو أو باب المسرح؛ والليلة حالكة السواد فلا ضياء فيها إلا بصيص ينبعث من وابور نور بعيد في الشارع، ويسمع لغط وهمهمة وصدى هتاف وصياح في مكان سحيق ... وإذا بغلام من السوقة يجري مارا صوب التياترو في طريقه، وتتلوه فتاتان من بنات العامة وهما تجريان نحو مصدر الضجيج البعيد، ثم لا يلبث الزقاق أن يقفر من المارة كما كان؛ وهنا ينفتح باب المسرح ويطل البواب برأسه على الزقاق، فينظر يمنة ويسرة ليستوثق من الطريق، ثم ينسحب ليظهر ثانية في الحال متقدما ثلاثة أشخاص في ثياب سوداء.)
بواب المسرح :
الطريق آمنة، فيمكنكم أيها السادة أن تذهبوا الآن. سيروا على الشمال، ثم اعطفوا على اليمين عند أول ناحية تقابلكم.
الثلاثة (وهم ينفضون ثيابهم ويصلحون من رباطات أعناقهم) :
شكرا لك، شكرا ...
الأول :
ولكن أين مور؟ أليس خارجا؟ (يخرج في إثرهم رابع.)
رابع :
سيخرج مور على الأثر (للبواب)
متشكر (يسرعون متفرقين ويعود البواب، وإذ ذاك يمر غلام آخر مسرعا، وينفتح الباب ثانية فيخرج مور ومعه ستيل) .
ستيل :
تعال يا سيدي، تعال.
مور :
أشعر بألم موجع يا ستيل.
ستيل (يتأبط ذراعه ويكاد يجره على درجات السلم جرا) :
لقد نجوت يا سيدي بمعونة أصحاب التياترو، فأنت مدين لهم بالحياة. (يتردد مور)
هيا بنا، هيا بنا وإلا حجزنا في التياترو ساعة أخرى، وقد وعدت مسز مور أنك راجع في منتصف الساعة الحادية عشر، وأخشى أن تقلق لغيابك الطويل، ولا سيما أنها لم ترك منذ شهر.
مور :
هيا إذن بنا ورفقا بذراعي لا تخلعه (يهبطان الدرج ويسيران مسرعين على اليسار، وفي هذه اللحظة يأتي غلام جاريا فيلمح مور، فيقف بغتة ويلف حول نفسه مبهوتا، ثم يصيح بأعلى صوته: هذا هو نعم هذا، هذا هو بعينه. وينطلق عائدا من حيث أتى) .
ستيل :
أسرع يا سيدي، أسرع.
مور (ضاحكا ضحكة مرة) :
هذا كثير جدا.
ستيل (يجذبه إلى الوراء نحو باب التياترو) :
الأفضل أن تدخل ثانية، هيا هيا (يأتي جمع من الرجال والغلمان والفتيات وهم مسرعون يجرون من ناحية اليسار، جمع من الغوغاء في حالة هياج بين عمال ومتشردين وبحارة والفتيات من العوام والطبقات الدنيا، وكأن الجمع خلال صيد أو وحوش سئمت رائحة الدم، فيجتمعون حول السلم مظهرين في مبدأ الأمر ذلك التردد الوقتي والدهشة التي تسبق الجري والانقضاض على الطريدة، ويكون مور في هذه اللحظة واقفا على الدرجة الأخيرة، فيلتفت ويحدق البصر فيهم) .
فتاة (على الحافة) :
أيهما هو، العجوز أم الشاب؟ (يدور مور بظهره ليصعد الدرجتين الباقيتين.)
شاب طويل (منفوش الشعر تحت قبعته العريضة الحافة) :
أيها الخائن المارق (يلتفت مور نحوه ثانية على صياح الهتاف والسخرية الذي تلا كلمة الشاب. تزداد الجلبة ويشتد اللغط والصياح والصفير، ولكنه ينقطع فجأة كأنما قد أدرك الجميع أنهم قد أفسدوا على أنفسهم لذتهم) .
فتاة أخرى :
لا تخيفوا المسكين (تضحك فتاة أخرى بجانبها ضحكة عالية بجلجلة) .
ستيل (وهو يشد مور من ذراعه) :
تعال يا سيدي، تعال معي.
مور (ينزع ذراعه منه ويتلفت إلى الجمهور قائلا) :
ماذا تريدون؟!
أحد المتجمهرين :
نريد خطبة.
مور :
أحقا، هذا كرم جديد.
صوت آخر :
انظروا إلى قلبه الخافق، فإنه باد على وجهه.
بحار ضخم الجثة (في المقدمة) :
سكوتا، ودعونا نسمع كلامه، اتركوا له الفرصة.
الشاب الطويل :
أتريد منا أن نسمع كلام الخائن المارق؟ (وهنا يخرج أحد الفتيان زمارة فينفخ فيها ويتعالى الضحك من الجميع، ثم يسود الصمت فجأة.)
مور :
لست أريد أن تطيلوا كلاما، سألقي عليكم رأيي بحجر واحد.
أحد الباعة :
مثل هذا؟ (ويلقي عليه جوزة فتصيبه في كتفه.)
مور :
عودوا إلى بيوتكم وفكروا، أفلو غزا الأجانب بلادكم وهاجم الغرباء دياركم، ألا تحاربون مستبسلين مستميتين كما يفعل أولئك الهمج اليوم في بلادهم.
الشاب الطويل :
كلاب غادرة! لماذا لا يطلعون لإخواننا في الخلاء؟ ولماذا يختفون في المضيق؟ وحوش سفاكة خائنة المضيق.
مور :
إنهم يحاربون على طريقتهم التي أتقونها (ينبري أحد العساكر في أقصى اللمة فيحدث جلبة وسخرية)
أخونا هذا الذي يرتدي الثوب العسكري هو الذي يسخر من كلامي ويحوشكم بي، ولكني لم أقل في حياتي كلمة مؤلمة في حق جنودنا، إنما أنا أوجه انتقادي إلى الحكومة التي أرسلت تلك التجريدة، وإلى الجرائد التي حرضتها على هذا العمل، وإليكم أنتم جميعا على أنكم رضيتم أن يجروكم من أنوفكم إلى أمر ما كنتم لترضوه لو تركتم أحرارا لا يؤثرون فيكم ولا يخدعونكم (ينبري الشاب الطويل بإحداث ضوضاء وهتاف ضد الخطيب) .
مور :
إنني أقول لكم أن ليس فيكم رجل واحد يرضى أن يهاجم شخصا أضعف منه أو أقل قوة وبأسا (أصوات في وسط الجمع) .
أحدهم :
كلام معتدل في الظاهر.
آخر :
إنه يريد التأثير عليكم.
الشاب الطويل :
كلام فارغ، كلام فارغ.
أحد البحارة (وهو يتقدم إلى الأمام فجأة) :
اسمع يا حضرة، لا تستمر في هذا الكلام أمام أناس هم زملاء في الحرب وأبناء وأخوة، وإلا عرضت حياتك للخطر؛ أحسن شيء تذهب إلى بيتك.
صوت :
واجعل زوجتك تضع لك قطنا في أذنيك (ضحك وتأرئي) .
صوت نصير :
عار عليكم يا قوم، مرحى يا مستر مور، هيا لنسمع (ولكن الأصوات تتعالى فتخفته) .
مور (يصيح فيهم) :
قفوا هذا الصياح، قفوا هذا الصياح، وأنت أيها الشاب الواقف هناك (للشاب الطويل) .
الشاب الطويل :
صه يا خائن.
آخر :
صه يا مارق.
ثالث :
إنه يستحق الإعدام هذا الخائن الذي ينتصر لأعداء وطنه وخصوم بلاده.
مور :
إن أولئك القبائل إنما تدافع عن وطنها.
صوتان :
اسمعوا اسمعوا، دعونا نسمع (ولكن الجمهور يسكتهما) .
الشاب الطويل :
كلام فارغ وثرثرة لا طائل منها.
مور (بانفعال فجائي) :
نعم يدافعون عن وطنهم لا أن يتجمهروا للعدوان على أناس غير مسلحين.
ستيل (وهو يجذبه من ذراعه) :
أناشدك الله يا سيدي ... هلم معي.
صوت :
اخرس أيها الجبان وإلا تقتل ...
مور (مستعيدا هدوءه) :
آه! أقتل! مرحى لكم! مرحى لكم! هيا أروني كيف تكون الشجاعة أمام العزل الآمنين.
ستيل (يجذبه) :
كفى يا سيدي كفى، هلم معي.
مور (ينزع ذراعه منه) :
إيه يا قوم! ها أنا ذا فهلموا (هجوم وتدافع، ولكنه ينقطع لسقوط الصفوف الأمامية، ووقع الأشخاص الذين في المقدمة على السلم. يتراجع المتجمهرون. لحظة صمت رهيبة، بينما مور يرهقههم وهو فوق الدرجة العليا دون أن يتحرك أو يبدو عليه الرعب) .
صوت :
ألا ترون أنه يحسن الكلام، إنه رجل فصيح اللسان، ولكن يا خسارة! (تتساقط فوق مور قشور البرتقال والبطاطس والجوز وتصدم وجهه، ولكنه لا يعير ذلك اهتماما.)
صوت خشن :
هكذا وإلا فلا، حمسوه قليلا وشجعوه (ضحك ولكن تنقلب الضحكات إلى عبوس يعلو الوجوه لرؤية مور وهو واقف هادئ يبتسم عن سخرية واحتقار) .
الشاب الطويل :
أيها الخائن، ما بالك واقفا هكذا كالخنزير الذكر.
ثالث :
دعونا نؤدبه على هذه الوقاحة (تصفيق وتصفير وهتاف، ويتشجع هذا المتكلم بذلك، فينزع حزامه ويضرب به قدمي مور. وإذ ذاك يتقدم ستيل إلى الأمام ليحمي سيده، ولكن مور ينشر ذراعيه ويقف محملقا ببصره في الجمع وهو هادئ، بينما يأخذهم الغضب من هذا الصمت الذي يشهدونه وهذا السكون الذي يرونه) .
الجميع :
إما أن تتكلم وإما أن تنزل، هيا أسرع وإلا قتلناك ... أنت فاهم أم لا؟ (يظل مور جامدا في مكانه لا يتحرك.)
شاب (في خلال صمت ينم على التردد والارتباك) :
سأجعله يتكلم انظروا (يتقدم للأمام فيبصق وتقع البصقة على يد مور، فينثرها عن كفه كأنها لذعة لاذع ألمته، ولكنه يظل في مكانه كما كان تام الهدوء؛ فلا تلبث الضحكات أن تنقلب رعشة استياء وتأفف من هذا العمل، ولكن هذا الاستياء لا يلبث أن ينقلب إلى غضب إذ يرون على وجه مور بسمة السخرية) .
الشاب الطويل :
تحرك أيها الحيوان، وإلا فالويل لك.
آخر :
ألقوه حجرا (تصيب مور طوبتان، فيتراجع حتى يكاد يسقط، ولكنه في خطف البصر يستقيم على ساقيه) .
صوت فتاة :
العار يا قوم العار.
صوت نصير :
يا لك من شجاع الثبات يا صاح! الثبات.
صوت آخر :
أعطوه طوبة أخرى.
صوت فتاة :
كلا لا تفعلوا، لا تفعلوا، دعوه وحده، اتركوه بسلام، هلموا بنا فإن هذا شيء مؤلم (ينظر الجميع إليه وهم صامتون، وإذ ذاك ينبري البحار الضخم من غمارهم حتى يتصدرهم) .
البحار (يتلفت إليهم آمرا) :
هيا انصرفوا، فقد طال وقوفكم (يشتت الزحام يمينا وشمالا حتى يقفر الزقاق، وإذ ذاك يبدو عسركيان من عساكر البوليس، فينظران إلى الحارة ويشاهدان آخر الجموع المنصرفة، ويرفعان بصرهما إلى الزجاج المكسور، ويخرج أحدهم دفترا صغيرا من جيبه فيكتب فيه) .
مور (وكأنما قد ثاب إلى نفسه من ذهول طويل، فيمسح يده بمنديله وينفض سترته) :
لن يزيدني هذا وأشنع من هذا إلا تمسكا وثباتا، وإن سلطان الضمير فوق كل سلطان في الأرض، ستيل هلم بنا (ينزلا من السلم منصرفين) . (ينزل ستار)
المنظر الثاني (جناح من حجرة نوم كاترين، وهو الجناح الذي يحوي النافذة، وهو مدهون باللون الأبيض اللاكيه، وهناك أربعة شموع مضاءة تسقط أنوارها على مائدة الثياب الكنصول، وهي من خشب السرو. كاترين جالسة تمشط شعرها، وفي اليسار باب مفتوح على سعته ولا يحوي هذا الجناح من الغرفة غير مقعد من خشب السرو مسند إلى الحائط بجانب النافذة، حيث يبدو الليل وتظهر السماء، وقد شاع فيها غمام يتدحرج ويمرق ذاهبا من خلا الشجر، فلا يبدو غير أشباح الأغصان المتفرقة تحت سماء مقمرة. وفيما يرتفع الستار ترى كاترين وهي منصتة مرهفة السمع والمشط مرفوع في يدها، ثم تروح تعاود تمشيط شعرها، ثم تقف عنه لحظة لتأخذ رزمة من الرسائل من درج المائدة فتقرأ، ومن خلال الباب القائم خلفها وقد انفتح في تلك اللحظة يسمع صوت الصغيرة أوليف.)
أوليف (تنادي) :
ماما ... ماما أنا صاحية (تظل كاترين مسترسلة في قراءتها، بينما تأتي أوليف من خلفها متسللة وفي ثياب النوم) .
أوليف (بجانب ذراع أمها وهي تنظر إلى الساعة التي أمامها) :
الساعة الحادية عشرة إلا ربعا.
كاترين (مستاءة) :
أوليف، أوليف.
أوليف :
لقد جئت فقط لأعرفكم الساعة لا يمكنني أن أنام إذا قلقت، وكلما نعالج النوم يستعصي، وأظنك جربت ذلك يا أماه ... ألم يأت خبر بعد عن انتصارنا عليهم (تهز كاترين رأسها نافية)
آه، لقد دعوت الله في صلاتي أن تأتينا أخبار سارة (تقف حول أمها)
ألم يأت بعد أبي.
كاترين :
لم يصل إلى الآن.
أوليف :
هل تنتظرينه؟ (تدفن وجهها في شعر أمها)
إن شعرك يا أماه بديع، بل هو جميل جدا وفوق العادة في هذه الليلة (تضطرب كاترين وتدع المشط يسقط من يدها وتنظر إلى ابنتها مجفلة) .
أوليف :
كم مضى على بابا وهو غائب عنا يا أماه؟
كاترين :
شهر ونصف.
أوليف :
يا للعجب! كأنه عندي مائة سنة، أليس هو في نظرك هكذا يا أماه؟ وهل كان يخطب كل هذه المدة؟
كاترين :
نعم.
أوليف :
وفي هذه الليلة أيضا؟
كاترين :
نعم.
أوليف :
في الليلة التي كان عندنا فيها ذلك الرجل الأصلع الذي لا شعرة واحدة في رأسه. هل تتذكرينه يا أماه؟ الرجل الذي كلما ابتسم بدت أسنانه الناصعة، في تلك الليلة يا أماه سمعت أبي وهو يخطب للرياح ويكلم الهواء، حتى لقد تحطم أحد الأقداح في يده! الظاهر يا أماه أن خطبته بديعة جدا، أليست كذلك؟
كاترين :
جدا.
أوليف :
ولكن العجيب أنه كان يخطب للرياح ويكلم الهواء، في ليلة لا رياح فيها ولا هواء يا أماه!
كاترين :
كلام في الهواء هو تعبير له معنى آخر يا بنيتي.
أوليف :
وهل يكثر أبي في هذه الأيام من هذا الكلام يا أماه؟
كاترين :
غالبا.
أوليف :
ولكن ما معنى كلام في الهواء إذن؟
كاترين :
معناه كلام لا يجد سامعين، وقول لا يجد مصدقين.
أوليف :
وماذا يفعل أبي إذن؟
كاترين :
يذهب جمع قليل من الناس يسمع خطبه، فلا يلبث الجمهور أن يقتحم المكان عليهم فيشتت الاجتماع، أو ينتظرونه في الخارج حتى ينصرف، وعندئذ يقذفونه بالحجارة أو قشور الخضراوات أو نحوها، ويسيرون خلفه مستهزئين صائحين.
أوليف :
مسكين بابا، وهل الذين يرمونه بالحجارة أناس من صفنا يا أماه؟
كاترين :
نعم، ولكنهم غير متعلمين.
أوليف :
ولكن لماذا إذن يستمر بابا على الخطب، لو كنت أنا منه لما فعلت.
كاترين :
لأنه يعتقد أن هذا هو واجبه.
أوليف :
هل واجبه نحو الإنسان أم نحو الله فقط؟
كاترين :
نحوهما معا يا بنيتي.
أوليف (تلمح الرسائل) :
آه، أهذه خطابات يا أماه؟
كاترين :
نعم.
أوليف (تتناول خطابا منها وتقرأ منه) :
يا مهجتي الغالية ... (تنظر إلى أمها)
هل يناديك هكذا دائما يا أماه؟ نداء بديع، أليس كذلك؟ (تعاود القراءة)
سأكون لديك حوالي منتصف الحادية عشرة من مساء الغد، لكي أجد لي بقربك بعض الراحة وقليلا من العزاء، بل إن نيران الجحيم ستكف قليلا من السعير. ولكن يا أماه ما معنى هذه الكلمات لأنني لا أفهمها؟
كاترين (تتناول الخطاب منها وتجمع الخطابات الأخرى فتضعها في الدرج كما كانت) :
كفى يا أوليف كفى.
أوليف :
ولكن بالله ما معناها يا أماه؟
كاترين :
بابا يعني أنه ليس سعيدا في هذه الأيام.
أوليف :
وأنت يا أماه، ألست مثله؟!
كاترين :
وأنا أيضا.
أوليف :
وأنا أيضا، هل أفتح النافذة؟
كاترين :
كلا، لئلا يدخل الضباب.
أوليف :
ضباب غريب؛ لأنه يتدحرج في السماء، أليس كذلك؟
كاترين :
كفاية يا أوليف، كفاية.
أوليف (تريد تطويل الحديث) :
ماما متى سيعود خالي هيوبرت؟
كاترين :
لا ندري يا عزيزتي.
أوليف :
أظن أن خالتي هيلين ستمكث عندنا حتى يعود، أليس كذلك؟
كاترين :
هو كذلك يا بنيتي (تمسك بها من ذرعها)
والآن ألا يكفي هذا؟ (تحاول حملها بالإكراه لتذهب.)
أوليف (وهما يمران من الباب) :
لا تستطيعي حملي يا أماه! (يضحكان. لحظة صمت)
لا أريد النوم حتى أرى أبي عند حضوره (تعود كاترين وقد همت بأن تدع الباب مفتوحا قليلا، ولكنهما تسمعا دقا على الباب الآخر، وإذا هو يفتح قليلا وإذا بالمربية تنادي) .
المربية :
هل تسمحين لي بلحظة يا سيدتي؟ (تدخل المربية.)
كاترين (تغلق باب غرفة أوليف وتتقدم نحو المربية) :
ماذا تريدين يا عزيزتي المربية.
المربية (بصوت منخفض متلعثم) :
لقد كنت أريد من الصباح ... نعم ، ولكن لم أشأ أن يكون ذلك نهارا ... لقد كنت أريد يا سيدتي أن أعلمك بأنني سأترك الخدمة.
كاترين (مبهوتة) :
وأنت أيضا؟ (تنظر على غرفة أوليف كأنما تريد أن تقول لها: وماذا تفعل البنت؟ فتبكي المربية وتختنق بالعبرات.)
المربية :
أود أن أغادر البيت حالا.
كاترين :
وتتركين أوليف؟ وما ذنب الطفلة؟
المربية :
لقد جاءني خطاب آخر من ولدي ... إنني كما ترين يا سيدتي كاترين لا يمكن أن أتحمل الإقامة في البيت، ما دام سيدي زوجك راجعا الآن إليه بعد تجوله في البلاد خطيبا ينتصر لأولئك الهمج المتوحشين.
كاترين :
ولكن يا عزيزتي.
المربية :
إن شعوري لا يشبه شعور الخدم الآخرين في البيت، فلست خائفة من الجمهور، ولا من اعتداء الضوضاء، ولا من تحطيم النوافذ، ولا أنا عابئة بالصياح في الشارع ... كلا يا سيدتي، ولكني موجعة القلب، حزينة لأنني أفكر دائما في ولدي، وأتصوره وهو نائم ملتحف السماء مفترش الغبراء، يشرب من الماء القذر الذي يسقيه المواشي والأنعام، وفي كل يوم يشهد حوله صديقا يسقط، وزميلا يموت، ومن يدري فقد يحين دوره هو الآخر في يوم من الأيام ... أواه يا سيدتي! لست أدري كيف تتحملين أنت كل هذه الآلام؟ والأخبار السيئة ترد علينا يوما بعد يوم، ثم لا يكف سيدي عن الطعن في وطنية البلاد.
كاترين :
ولكن كيف تتركينا أنت من دون الناس يا عزيزتي.
المربية (تغالب الدموع) :
إنني أشعر بأن وجودي هنا ذنب لا يغتفر، وبالأخص لأن سيدي مور عائد الليلة، والإنجيل يا سيدتي يقول إن الإنسان لا يمكن أن يخدم الله والشيطان.
كاترين :
ألا تعرفين كم يكلفه هذا العمل الذي يقوم به، ومبلغ الألم الذي يعانيه؟
المربية :
أعرف أنه يكلفه خسارة مركزه وضياع سمعته، ولا عجب، فإن ذلك وأسوأ منه هو جزاء الذين يخرجون على بلادهم.
كاترين :
ولكنه في ذلك إنما يلبي نداء ضميره.
المربية :
ويجب على الآخرين أيضا أن يلبوا نداء ضمائرهم. كلا يا سيدتي كاترين، كلا لم يكن يصح لك أن تدعيه يفعل ذلك وأنت لك ثلاثة أخوة في ميدان القتال، وأبوك تكاد تذهب نفسه من الغم حسرات، بل بالله ماذا أنت صانعة لو أن أحدا من إخوتك الثلاثة - لا قدر الله - أصيب بسوء في تلك البلاد المتوحشة، ماذا تكون الحال لو حدث لعزيزنا هيوبرت الذي ربيته من الصغر وأرضعته ...
كاترين :
كفى يا عزيزتي كفى.
المربية :
لقد قرأت في الجرائد قولهم إنه يشجع أولئك المتوحشين على بني قومه ... ويجعل الأجانب يتخذون عنا أحاديث السوء، وكل دم يسفك في تلك البلاد يقع جرم سفكه على هذا البيت ورءوس أهله.
كاترين (مشيحة عنها) :
كفى كفى لا أطيق سماعا. (تطرق العجوز برأسها متألمة، وتمشي إلى باب غرفة أوليف، فتفتحه برفق وتقف لحظة تنظر وهي تقول)
واها لك يا نعجتي الغالية! (ثم تدخل بكل لطف وتغلق الباب. تعود كاترين إلى مرآتها فتصلح من شعرها وترفق من شفتيها وتمسح عينيها، وإذ ذاك ينفتح الباب الدهليز ويسمع صوت هيلين وهي تنادي.)
هيلين :
كاترين هل أنت صاحية؟
كاترين :
نعم (تدخل هيلين وهي في ثياب النوم متلفعة، وقد بدت أمارات الحزن والغم على وجهها وهي في فزع ورعب تجري نحو كاترين فتهبط في أحضانها) .
كاترين :
يا لله! ماذا جرى يا عزيزتي؟
هيلين :
حلم مخيف، حلم مرعب (تبكي من شدة الفزع) .
كاترين :
صه يا عزيزتي لئلا تستيقظ أوليف.
هيلين (وهي شاردة البصر) :
أخذتني سنة من النوم فرأيت فيما يرى النائم سهلا فسيحا يترامى على آخر حدود البصر كأنه يلتقي والسماء أشبه بهذا الضباب الذي نرى، ثم أبصرت أشباحا سوداء هناك متفرقة، وإذا شبح منها قد أخذ ينحو رويدا حتى بدا كأنه جسم بلا رأس، وإذا بندقيته طريحة بجانبه، ثم إذا شبح آخر قد تمثل رجلا جالسا على الأرض يضمد ساقه الجريحة، فحدقت البصر وفي الحال خيل إلي أنه ريفورد تابع زوجي ... وما هي إلا لحظة أخرى حتى رأيت هيوبرت نفسه، وشهدت وجهه قاتما ناحلا، وقد أصيب بجرح بليغ هنا. (تشير على صدرها)
وإذا الدم يسيل منه غزيرا وهو يحاول أيقاف نزيفه بفمه كأنه يشربه ... (تقف عن الكلام لتأخذ أنفاسها من فرط التأثر)
وعند ذلك سمعت ريفورد يضحك ضحكة جنونية ويقول إن الرخم لا يأكل جثث الأحياء، وإذا بصوت آخر ينبعث من مكان لم أتبينه وهو يصيح: رباه! ... ها أنا ذا أموت! ... وراح ريفورد من السخط يسبه وينتهره، ولكني سمعت هيوبرت يمنعه قائلا: لا تنهره، دع المسكين في حاله. وأخذ الصوت يئن لحظة ثم يتعالى في لحظة صريخا، وإذا بريفورد يجر نفسه على الأرض زاحفا، وقد ارتد وجهه مرعبا كالأبالسة وكأنه يهم بالقتل.
كاترين :
يا له من منظر مخيف! يا له من منظر مرعب!
هيلين :
وظل ذلك الجريح المحتضر يصرخ، ورأيت ريفورد قد تناول بندقيته وعندئذ استوى هيوبرت على قدميه وراح يمشي متعثرا واهنا في إثره، ولكن قبل أن يصل إليه كان ريفورد قد أطلق النار على ذلك الجريح المستصرخ، وسمعت صوت هيوبرت وهو يصيح بصاحبه ... يا لك من وحش! ورأيته يسقط صريعا في مكانه. ولما أبصره ريفورد كذلك أخذ يئن وينتحب، ولكن هيوبرت ظل في صرعته جامدا لا يعير حراكا ... ثم استحال كل شيء إلى ظلام ... ولكن لم ألبث أن رأيت شبحا أسود كأنما هو شبح امرأة يزحف ويدلف رويدا رويدا نحو الرجل الذي بلا رأس أولا، ثم إلى ريفورد ... ثم إلى هيوبرت، وإذ ذاك لمسه ووثب هاربا وهو يصيح صياحا مرعبا يجمد له الدم في العروق (تشير إلى الغمام)
انظري هناك ... ها هي الأشباح ... الأشباح المرعبة.
كاترين (تعانقها لتنفي عنها الخوف) :
نعم يا عزيزتي نعم، لا بد أنك كنت تنظرين إلى الغمام.
هيلين (بهدوء مخيف) :
لقد مات.
كاترين :
ما هو إلا حلم.
هيلين :
ألم تسمعي ذلك الصياح؟ (تصغي)
هذا ستيفن، مغفرة يا كاترين لقد أزعجتك ولكني كنت في رعب لا يوصف فجئتك فازعة (تخرج هيلين، وأما كاترين فكان رعب هيلين قد تعدى إليها فتلتفت وهي مرعبة إلى النافذة، وتتقدم فتفتحها بسرعة وتطل منها، بينما يدخل مور. مور يتقدم إليها بلهفة مسرعا نحوها) .
كاترين (وقد تغلبت على انفعالها) :
آه.
مور :
دعيني أنظر إليك. (يأخذها من يدها إلى الشموع ويطيل النظر إليها)
ماذا فعلت بشعرك الليلة؟
كاترين :
لا شيء.
مور :
ولكنه في هذه الليلة أبدع مما رأيته من قبل وأجمل (يتناوله بلهف ونهم، فيدفن وجهه خلال فروعه) .
كاترين (تجذب جدائلها منه) :
والآن؟
مور :
ها أنا ذا أخيرا.
كاترين (مشيرة إلى غرفة أوليف) :
صه.
مور :
وكيف هي؟
كاترين :
بخير.
مور :
وأنت ... (تهز كتفيها)
يا عجبا أبعد شهر ونصف؟
كاترين :
ولماذا جئت؟
مور :
لماذا؟
كاترين :
ستعاود ما كنت فيه بعد غد، فهل يستأهل هذا مشقة الحضور؟
مور :
كاترين!
كاترين :
إن مجيئك على هذه الصورة يزيد من ألمي.
مور (يحدق فيها البصر) :
ماذا جرى لك يا كاترين؟
كاترين :
إن ستة أسابيع وقت طويل على من يجلس وحيدا ليقرأ أخبار خطبك واجتماعاتك.
مور :
دعي الحديث عن هذا الليلة (يمسك بها)
هذا ما يشعر به المسافر جواب الصحراء إذا ورد الماء أو بلغ الواحة ...
كاترين (تلحظ فجأة جرحا في جبينه) :
ما هذا بالله؟ ... هذا جرح في جبينك!
مور :
لا شيء، لا شيء.
كاترين :
أواه! دعني أطهره.
مور :
كلا يا عزيزتي، هو هين لا يستأهل.
كاترين (متولية عنه) :
لقد كانت هيلين هنا منذ لحظة لتقص علي حلما رأت فيه هيوبرت ميتا.
مور :
يا لها من مسكينة!
كاترين :
هكذا أصبحنا نقضي الأيام؛ أحلام مؤلمة، وأنباء سيئة، وانتظار طويل، واختفاء عن الأبصار، ومخافة من سخرية، وفرار من احتقار ... هذا هو كل ما عندنا من إحساسات الحياة.
مور :
اختفاء عن الأبصار ... أبسببي أنا؟ (تطرق كاترين برأسها إيجابا ويبدي مور حركة ألم شديد)
آه! لقد فهمت ولكني من رسائلك لم أكن أظن أنك لا تزالين في جزع ... يا لله! ... أنت تلوحين الليلة بهية الجمال (يلحظ فجأة أنها تبكي فيسرع إليها)
أتبكين؟ ... على الله لست أريد أن أزيدك بمجيئي عذابا ... أعود إذن من حيث أتيت. (تسحب نفسها منه وتبتعد عنه قليلا، أما هو فبعد أن يطيل النظر إليها يذهب فيجلس على مائدة التواليت، ويروح يقلب في كفه الأمشاط وأدوات الزينة مرتبكا يبحث عن كلمات يقولها، ويعالج الكلام وهو مستعص عليه)
وداعا للأمل، يجب أن لا يأمل المرء في شيء، وقد كنت أمني نفسي بعد المشاق التي تحملتها، والصعاب التي جزتها، أن أجيء الليلة إلى هنا فألقي الربيع وأجد معسول الأمل، وأظفر منك بالواحة الناضرة والعين الجارية، وأنت الحياة، والعالم كله لا شيء. (بينما هو يتكلم هكذا تتسلل هي إليه مقتربة، وإذا هي فجأة تجثو على قدميها بجانبه، وتدفن كفه في خلال شعرها، فيلتفت ليحتضنها)
كاترين!
كاترين :
نعم، ولكن غدا يبتدئ الألم من جديد، وآه وأواه يا ستيفن! إلى متى تمزق فؤادي تمزيقا؟! (يتراجع وهي في ذراعيه)
لا أستطيع، لا أطيق احتمالا.
مور :
زوجاه! ... زوجاه!
كاترين :
دع هذا الأمر جانبا، اتركه من أجلي. (تلصق بدنها به أكثر من الأول)
حسبك أني لك ... وأنني عندك العالم وما حوى ...
مور :
رب لا تخذلني.
كاترين :
سنكون معا ... وسأكون لك إذن ... إذن أنت ...
مور (مبهوتا مريعا) :
شروط إذن ... ومساومة! ... كاترين ... ماذا أسمع؟
كاترين :
ستيفن ... ستفين ... أتوسل إليك.
مور (غاضبا) :
أنت ... أنت كاترين ... تساومين!
كاترين (مختنقة) :
ستيفن ... ستيفن! (ينزع نفسه من بين ذراعيها واقفا وهو يحملق البصر إليها، ويمسح العرق المنفصد من جبينه، وتظل هي بضعة ثواني جاثية تنظر إليه مبهوتة، وإذ ذاك تطرق برأسها ثم تنهض مستوية على قدميها هي الأخرى، وتقف بعيدة عنه متزملة بوشاحها تزمه على بدنها ... وعندئذ يلتفت إليها مور وهو في أشد الألم والاضطراب.)
مور :
مساومة ... واشتراط! إذن أنا بائع نفسي للحب بيعا، ومفتد ضميري بهذا الثمن افتداء، ولكن هيهات هيهات! ما أنا بائع، ولا ضميري سلعة ليس في العالم من الذهب لمثله ثمن ... وقد عز على المشترين (من غير أن يلتفت إليها ينطلق هائما على وجهه، بينما تسقط هي على ركبتيها جامدة لا تعير حراكا) . (ستار)
الفصل الرابع (الوقت في الشفق بين الغروب والمساء. في اليوم التالي، وفي قاعة الطعام في بيت مور والنوافذ منغلقة، ولكن الأستار مرفوعة وقد جلس ستيل إلى المكتب يكتب ومور يملي عليه.)
ستيل (يقرأ ما يكتب) :
ولا شك في أننا سنلاقي صعابا كثيرة ، ولكن إذا منعتنا الإدارة في اللحظة الأخيرة من إقامة الاجتماع في المدينة، أقمناه في العراء ... فأعدوا تذاكر الدعوة لأنني على يقين أن هناك جمهورا سيحضر لسماعنا.
مور :
نعم، هذا يقيني.
ستيل :
هل أكتب المخلص ... في ذيل الخطاب؟
مور :
لا بأس.
ستيل (ينشف الجواب ويضعه في الظرف) :
أظنك علمت يا سيدي أن جميع الخدم في البيت قد غادروا خدمته إلا هنري.
مور :
مسكين هنري.
ستيل :
السبب يرجع أولا إلى الخوف؛ فقد حطم المتجمهرون زجاج النوافذ مرتين، وثانيا إلى ...
مور :
إلى الوطنية ... حقا ما أبدعها من وطنية! لأنهم غدا سيحطمون هم ألواح الزجاج، غير أن هذا يذكرني بأنك غدا ستقوم بالإجازة.
ستيل :
أواه! كلا، لست أنوي ذلك.
مور :
بل يجب يا صديقي، لقد كنت أمس مريضا، ولا بد من أن تستريح، يحزنني أنني شبكتك معي في هذه المهمة الثقيلة.
ستيل :
كان لا بد من وجود إنسان يؤدي هذا العمل معك وأنت متعب مجهود.
مور :
كلا، لا يزال عندي بقية من بأس، ومدخر من جلد.
ستيل :
ولكن هلا انثنيت يا سيدي عنه؛ إن التيار ضدك شديد، والأمل في النجاح ضعيف، فلا يستحق كل هذا التعب.
مور :
الجهاد إلى الغاية على الرغم من الشعور بأنك في النهاية تروح المغلوب المنهزم. هل في الدنيا فضيلة أجل من هذه حتى تقول إنها لا تستحق التعب؟
ستيل :
إذن أنا يا سيدي لست قائما بالإجازة.
مور :
هذا جحيمي أنا وحدي، فما لك أنت حتى تنشوي فيها وتحترق! صدقني إن أكبر ما يريح بالي أن أشعر أنني المعذب وحدي، لا أجلب العذاب لأحد سواي.
ستيل :
ولكن لا أستطيع أن أتركك يا سيدي.
مور :
يا بني العزيز، لقد كنت لي خير معوان؛ فقد أمكننا أن نتغلب إلى الآن بشيء يشبه المعجزة، ولكن بعد اليوم لا أستطيع أن أتحمل المسئولية عنك. هيا سلمني المكاتبات الخاصة باجتماع الغد (يخرج ستيل بعض الخطابات من جيبه، ولكنه لا يسلمها إليه) .
مور :
هاتها يا بني هاتها. (يمد إليه يده، ولما وجد أن ستيل لا يريد أن يسلمها إليه يقول ببعض الحدة)
هات الرسائل يا ستيل (يقفان متأثران وكل ينظر طويلا إلى الآخر، وبعد ذلك يدور ستيل على عقبه وينصرف مطرق الرأس في أشد الحزن، بينما يظل مور واقفا يتأمله وهو ذاهب وعلى شفتيه ابتسامة حزينة، ثم يضع الأوراق في محفظته، وبينما هو يغلق درج المكتب يدخل الخادم هنري صامتا) .
الخادم :
مستر منديب يا سيدي (يدخل منديب وينصرف الخادم، ويلتفت مور نحو زائره، ولكنه لا يمد إليه يده مصافحا) .
منديب (يتناول يد مور) :
لقد جئت لزيارة قصيرة يا صديقي، وحديث موجز؛ إذ أخبرتني مسز مور أنك ستعود اليوم، فهل سمعت الأخبار الأخيرة؟
مور :
ماذا فيها؟
منديب :
لقد انتصرت جنودنا.
مور :
حمدا لله.
منديب :
يا عجبا! أيسرك هذا النبأ؟ إذن أنت مثلنا لحما ودما.
مور :
نعم.
منديب :
لم لا تخلع إذن عنك ثوب الشهيد يا رجل؟ إنك بعملك هذا إنما تريد أن تحارب الطبيعة البشرية!
مور :
أأنت الذي يدافع عن الطبيعة؟
منديب :
إنك تقاوم أقوى الغرائز الإنسانية في العالم وأهمها وأشدها تمكنا، فماذا تنتظر من وراء هذه المقاومة؟ هل تريد من رجل الشارع أن يكون خياليا فيلسوفا، وأن تكون وطنيته وحبه لبلاده شهورا وفلسفة ومنطقا؟ نعم، ماذا كنت منتظرا؟ أن الإنسانية ساذجة والأمم ليست إلا مجموعة من الفطر والطبائع البريئة الساذجة؟
مور :
بل هي مجموع من الأوحال والطين والرذيلة والشر ... وما هذا الصياح الكاذب باسم الوطنية؟ ذلك إحساس أعمى في الأمم القوية، ولكنه في الأمم المغلوبة على أمرها عنوان الفضيلة والخير؛ فهل تحب أحدا من هؤلاء الذين يتصايحون في بلادنا غاضبين للوطنية، والوطن يشعر هنا (مشيرا إلى صدره)
بشيء؟
منديب :
أنت تظن أنه في وسع الناس أن يتغلبوا على نزعات غرائزهم الوحشية، ولكنهم لا يستطيعون يا سيدي، بل كل ما يعرفون من هذه الحرب وأشباهها أن هناك شيئا مشوها للصورة الذهنية التي لوطنهم وبلادهم في خيالهم، فتثور في نفوسهم حاستي القوة والبطش، فينطلقون عميا متهورين مهاجمين.
مور :
لقد كانت هذه البلاد تسمى وطن حرية الفكر ... وكانت في اعتقاد الإنسانية عامة البلاد التي يستطيع المرء فيها أن يحتفظ بحرية ضميره واستقلال رأيه، فما الذي دهاها؟
منديب :
إن للطبيعة البشرية حدودا يا ستيفن.
مور :
ولهذا لا تزال تنصح لي بأن أدع مبدئي وألتمس من عقديتي السياسية فرارا، أليس كذلك؟
منديب :
بل نصيحتي لك أن تغادر البلاد في الحال غير متردد، إن التيار سيندفع فلا يبقي لحظة عليك بمجرد انتشار أخبار النصر الأخيرة؛ هلم يا صديقي لا تمكث هنا.
مور :
شكرا لك، دعني أولا أخرج كاترين وأوليف.
منديب :
بل يجب أن تغادر الديار معهما، وإذا كنت قد خسرت المبدأ أو العقيدة، فلا معنى لأن تخسر الحياة أيضا.
مور :
ولكن عزائي أنني لم أجبن ولم ألتمس فرارا وأنا أحوج ما أكون اليوم إلى العزاء.
منديب (مرتبكا متحيرا) :
خطأ مؤلم يا ستيفن، بل حمق وتهور، والآن أنا منصرف إلى المجلس ... أمن هنا؟
مور :
من هنا السلم، ثم تجد الباب الخارجي. وداعا ... (يخرج لتوصيله. تدخل كاترين ووراءها المربية وهي لابسة ومستعدة للخروج، وقد وضعت القبعة على رأسها وتحمل حقيبة صغيرة في يدها، تذهب كاترين إلى البيروه فتأخذ شيكا وتسلمها إياه، وفي هذه اللحظة يدخل مور من التراس.)
مور (للمربية) :
أحسنت بالخروج معنا يا مربية.
المربية :
وأنت قد أسأت إلى ولدي المسكين صنعا؛ أين قلبك؟
مور :
هنا، في أقوى ضرباته، وأصح خفقاته. في الانتصار لأولئك الكفرة أعداء الله والوطن، ألا قومك ووطنك أولى بالانتصار لهم؛ لزوجتك التي ولدت في وقت الحرب، وأبيها الجندي الذي شهد الوقائع ولا يزال البطل المجاهد، أو لجدها الذي استشهد في الميدان، وهي اليوم ترى نوافذ بيتنا محطما، وتجد الغلمان في الشوارع يتهامسون عليها سخرية واحتقارا (يقف مور صامتا أمام هذه الهجمة، ناظرا إلى زوجته) .
كاترين :
ما هذا يا عزيزتي؟ ما هذا؟
المربية :
إن عملك هذا يا سيدي مناف للطبيعة؛ أتحنو على أولئك المتوحشين، ولا تحنو على شريكة حياتك. انظر إليها، هل رأيتها يوما تلوح حزينة مغمومة كهذا؛ فالحذار يا سيدي لنفسك قبل أن يفوت الأوان، وإن فلا يجدي الحذر .
مور :
كفى، كفى ، من فضلك (تقف المربية لحظة وهي مترددة، ثم تنظر إلى كاترين مليا، وبعد ذلك تنصرف) .
كاترين (لزوجها في سكوت وبكل هدوء) :
لقد جاءت الأخبار بانتصار جنودنا (يخرج غير ملتفت إليها. كاترين وهي منصتة لصدى الصياح والجلبة البعيدة المنبعثة من الشارع، ثم تجري إلى النافذة في اللحظة التي يدخل فيها الخادم معلنا) .
الخادم :
السير جون جوليان يا سيدتي (يدخل السير جون حاملا جريدة في يده) .
كاترين :
وأخيرا ... يأتي النصر.
جون :
حمدا لله عليه (يعطيها الجريدة) .
كاترين :
أواه يا أبي (تمزق غلاف الجريدة وتفضها وتقرأ بلهف)
يا للفرح! (الهمهمة البعيدة في الشارع تستمر وتتعالى شيئا فشيئا، وإما السير جون فبعد اللحظة الفرحة التي مضت بمناسبة خبر الانتصار، لا يلبث أن يطرق برأسه إلى الأرض حزينا واجما. كاترين تلحظ وجومه الفجائي فترتعب)
أبي.
جون :
وهناك أخبار أخرى.
كاترين (ترتجف) :
آه! عن أخوتي؟ ... ويلاه! هل هيوبرت ... (يطرق السير جون برأسه إيجابا) .
كاترين (وهي راعشة) :
وهل قتل؟ (يطرق الشيخ برأسه مرة أخرى، وهي تختنق بالعبرات)
الحلم، الحلم! (تخفي وجهها)
مسكينة يا هيلين! (يقفان لحظة صامتين، وإذ ذاك يرفع السير جون رأسه، فيمد إليها يده ويمس خدها المبلل بالدموع.)
السير جون (بصوت مختنق من التأثر) :
الموت نقاد.
كاترين :
يموت هيوبرت ... ويلاه!
جون :
بينما الشيوخ الفانون مثلي يعيشون، فيا لصروف القدر!
كاترين :
أبي العزيز.
جون :
ولكنا سنتغلب الآن على أولئك المجرمين وسنحطمهم تحطيما. هل عاد ستيفن؟
كاترين :
البارحة.
السير جون :
وهل فرغ من خطبه القذرة أخيرا. (تهز رأسها)
ألم ينته بعد؟ (وحينئذ يلحظ أن كاترين لا تزال ترتجف من فرط التأثر، فيمسك بيدها مواسيا)
يا بنيتي، لا تستسلمي للأسى؛ فالقتل واليتم وفقد الأعزاء اليوم في كل بيت.
كاترين :
يجب أن أذهب إلى هيلين، ولتعلن أنت الخبر له؛ لأنني لا أستطيع.
جون :
ليكن ذلك يا بنيتي (تخرج تاركة أباها لحزنه الأليم المربك، فلا تكاد تنصرف حتى يدخل مور) .
مور :
نعم يا سير جون، هل طلبتني؟
جون :
لأنعي لك هيوبرت؛ فقد قتل.
مور (مصعوقا) :
هيوبرت!
السير جون :
نعم، بأيدي الذين تنتصر لهم، وقد طلبت إلي كاترين أن أعلنك بالخبر؛ إذ ذهبت هي إلى هيلين. وقد علمت أنك لم تعد إلا أمس فقط من ... لم أجد في اللغة وصفا يكفي للتعبير عن رأيي في هذا الذي عدت منه، ولست أدري حقيقة الأحوال بينك وبين كاترين، ولكني أقول لك هذا يا ستيفن: إنك قد عذبتها خلال هذين الشهرين عذابا لم تعذبه امرأة من قبلها، ولم تطق مثله زوجة في العالم. (يبدي مور حركة تدل على شدة تألمه، ويستمر السير جون في كلامه)
وعندما اخترت هذه اللحظة معها ...
مور (يقاطعه محتجا) :
أتقول اخترت؟
السير جون :
عندما اخترت هذه اللحظة التي تتعارض مع شعورها كنت تعلم نتيجتها ... ومن يدري؛ فقد تقع هذه النتيجة أيضا مع أحد ولدي الباقيين.
مور :
ليتني أكون اليوم في مكانه، إنني لأود ذلك من صميم القلب.
السير جون :
نعم، إنني أشعر بألمك ويأسك، وأرى بعض حزنك وشقائك، وهل أشقى من رجل يفرط في بلاده، ويتهجم على وطنه؟ بل لو خيرت بين أن يبعث هيوبرت حيا ليسلك مسلكك، وبين أن يظل في الموت، وأنا المحزون عليه آخر الدهر، لأبيت أن يرد إلى الحياة، ووالله لأفضلن أن أفقد ولدي الآخرين، ولا أرى منهما واحدا مثلك ... لقد مات هيوبرت في سبيل الوطن، فقضى على كل حال سعيد.
مور :
نعم، نعم.
سير جون :
ومع ذلك تأبى أنت إلا الاستمرار على ما أنت فيه؛ فأي شيطان هذا الذي دب إلى نفسك يا ستيفن؟! وأي كبر هذا الذي سرى إليك؟!
مور :
هل تتصور أنني أعد نفسي أفضل من أحقر عسكري يقاتل هناك مع المقاتلين؟ كلا ويمين الله.
سير جون :
أنا من أمرك في عجب، لا ينتهي إلا إلى عجب؛ لقد كنت أفهم أنك المخلص المتفاني في زوجتك.
مور :
يا سير جون، ألا ترى أن الوطن فوق الزوج والولد؟
سير جون :
بلى، هذا ما أعتقد.
مور :
وذلك هو اعتقادي أيضا.
سير جون (مبهوتا مرتبكا) :
في كل ما يعمل وطني، وكل ما يغادر أو يترك؛ لست أسمح لنفسي أن أكون قاضيه إذ أجلس بمجلس الحكم عليه. إن احترامي للوطن (بكل حماسة العذاب الذي شهده من أجل بلاده، يصيح قائلا)
وطني وطني أعزز به من وطن!
مور :
وأنا من أجله لا أبخل بشيء حتى ولا الحياة.
سير جون (مبهوتا) :
أي ستيفن، لم أكن أظنك في يوم ما متهورا، بل كنت أعتقد فيك على الدوام الحكمة والإخلاص وسداد الرأي، ولكن هذا الذي أنت فيه محض جنون، وخيال متخيل.
مور :
نعم، تخيل ما هو واقع، وتصور ما قد يقع.
سير جون :
أي ستيفن، لماذا لا تقنع بما يعتقد أعظم شعب في العالم، وأكبر رجال في الأرض؛ إنه الخير المحض، والإحسان العميم؛ فقد عرفت هؤلاء الرجال وخبرتهم، وشهدت مبلغ تضحيتهم وجهادهم في سبيل رفعة الوطن.
مور :
ولكنك لا تعلم يا سير جون في أي جحيم من الأرض كنت خلال هذين الشهرين الأخيرين، وكيف رحت أرى الناس في الطريق مشيحين عني بوجوههم، وأصدقائي الأعزاء يمرون بي ولا يحييون. بل تصور كيف أمسيت أخشى البريد وما يقذفني به، والصحف وما أطالع، وذهابي إلى الفراش مع الليل وفي أذني أصداء صيحات السخرية، وهتاف الاستهزاء، وعلى أن اسمي أصبح لا يذكر إلا في معرض الرواية والتحقير.
سير جون :
لكن لك أصدقاءك الجدد، والبركة لك في مثلهم؛ فقد سمعت أن لديك منهم كثيرين.
مور :
أيعوض هذا عن البصقات التي تلقى علي كما ألقيت الليلة الماضية. إن مخاض الحرب والله لأهون يا سير جون (تزداد جلبة الجماهير في الشارع شيئا فشيئا، فيلقي سير جون رأسه نحو مصدرها) .
سير جون :
أحسبك قد علمت بخبر انتصار جنودنا، فهل بلغ من شعورك الخافي للطبيعة البشرية أن تروح لهذا النبأ أسفا متألما. (مور يهز رأسه نافيا)
إذن لا يزال هناك بقية من الأمل فيك، فهلا وقفت اليوم عند هذا الحد قبل أن تندم! أناشدك يا ستيفن لا تحطم حياتك الزوجية بيدك؛ لقد كان هيوبرت أعز إخوتها عليها وأكرم، وأنت اليوم بعملك هذا إنما تنتصر لقتلته. تصور ماذا يكون شعورها من هذه الناحية! ولتعدل عن هذا الجنون الفلسفي، أو هذا المثل الأعلى كما يروقك أن تسميه، ولتسافر بكاترين من البلاد إلى جو بعيد ردحا من الزمن، حتى يهدأ الشعور القائم اليوم ضدك، الحانق على مسلكك. هلم، هلم إليها، خذها من هذا البيت ولتسافر إلى بلد بعيد. هيا يا ولدي، فلا خير فيما أنت باغيه، ولا نفع فيما أنت طالبه.
مور :
يا سير جون، إن الذين يقاتلون هناك ويرتضون الموت، إنما يفعلون ذلك بقوة الإيمان الذي في قلوبهم، وأنا ... أنا الذي أؤمن بأن عقيدتي أثمن وأجدى على البشرية، أأفر رعبا، وأتراجع جبانا؟ كلا، ويمين الله، ما أنا به، ولا الرعب من شأني، ومنذ بدأت هذا الجهاد ومئات من الناس يلتفون حولي ويشدون أزري ويسيرون في إثري؛ هل أتخلى عنهم وألوذ بأذيال الفرار منهم؟ وأنت الجندي القديم والقائد البطل، ألم تحارب يوما وأنت مستيئس؟ ألم تقد الجند إلى المعركة بلا أمل؟ أفكنت يومئذ تسائل نفسك أي خير فيما كنت فاعلا؟ وهل ستخرج منه حيا ناجيا؟ هذا مثلي اليوم يا سيدي، هذا هو حالي؛ إن الأمل اليائس الذي في نفسي هو ألا أتخلى عن هؤلاء الذين تبعوني، هو ألا أدع هذا المبدأ العظيم، هذه الشعلة المقدسة تنطفئ وتخمد آخر الدهر؛ لا في هذه البلاد وحدها، ولكن في العالم كله؛ ولا في هذا الزمن وحده، ولكن حتى تفنى الأرض ومن عليها.
السير جون (بعد سكوت رهيب، وهو يحملق البصر مبهوتا) :
أنا متجوز معك في اعتقادك بصحة ما تقول، ولكن دعني أقول لك إن هناك شعلة مقدسة واحدة أنت اليوم تاركها تخمد وتنطفئ، وهذه الشعلة هي حب زوجتك لك، ولننظر هل في وسع أصحابك الجدد، هؤلاء المتهوسين والمخرفين من أمثالك، أن يعوضوا عليك خسارة حبها، وذهاب مستقبلك، وضياع مركزك، وفقد كرامتك عند الذين اعتادوا أن يحبوك ويحترموك. إن كان ذلك، فالبركة إذن لك فيهم، أما إذا ألقيت نفسك غدا محروما من المحبة، وحيدا من الخلان في هذه الأرض الواسعة، وإذا انتهى بك هذا المسلك على مر الأيام إلى الخراب والدمار والعار، وهو ما لا شك عندي فيه ولا ريب، فما أنا عليك بآسف، ولا أنا عليك بمشفق. والآن طاب ليلك (يمشي إلى الباب فيفتحه وينصرف غير ملتفت إليه، ويبقى مور وحده، وهو في أتم الهدوء والسكينة، بينما تأخذ الحركة والهرج والمرج في الخارج تنمو رويدا حتى ينتبه إليها، فيسير إلى النافذة لينظر منها، ثم يعود فيدق الجرس وينظر، ولكنه لا يرى أحدا قد جاء، فيشعل الأنوار ويدق ثانية؛ تدخل كاترين وهي لابسة قبعة سوداء وثيابا من لونها في ثياب الخروج، وتتكلم ببرود دون أن تتطلع إليه أو ترفع رأسها) .
كاترين :
هل دققت الجرس؟
مور :
للخدم حتى يغلقوا هذه الحجرة.
كاترين :
لقد خرج الخدم جميعا؛ لأنهم خائفون أن ينشب في البيت حريق.
مور :
وهو كذلك.
كاترين :
ولأنهم لا يعتقدون باعتقادك حتى يؤمنهم الخوف. (يتراجع مور مجفلا من الصدمة والألم)
وأنا ذاهبة مع ابنتي إلى بيت أبي.
مور (محاولا أن يفهم معنى كلماتها تماما) :
ليكن ذلك أفضل من الإقامة في فندق، أليس كذلك؟ (تطرق برأسها علامة الإيجاب)
والآن، ألا تدعيني يا كاترين أشرح لك مبلغ ألمي لك ورثائي. إن هيوبرت ...
كاترين (مقاطعة) :
حسبك لا تتكلم، لقد كان ينبغي لي أن أكون أصرح من هذا في كلمتي لك ... إنني ذاهبة ولن أعود.
مور :
ولن تعودي! حتى ولو شبت النار في البيت؟
كاترين :
هو فراق بيني وبينك آخر الدهر.
مور :
كاترين.
كاترين :
لقد أنذرتك من مبدأ الأمر، ولكنك أمعنت وتماديت.
مور (متأثرا أشد الأثر وهو في أفجع الألم) :
هل تدركين ما معنى هذا الذي تريدين؟ أبعد خمسة عشر عاما، جنبا إلى جنب، ولقاء حب بحب؟
كاترين :
وهل كان ذلك حبا؟ ... كيف يمكن أن تكون أحببت امرأة أقل منك بطولة، ودونك رفعة وخلقا؟ ...
مور :
هذا جنون يا كاترين، جنون شنيع.
كاترين :
لقد كنت ليلة أمس مستعدة، ولكنك أنت الذي أصررت وأبيت، ولن تلين إذن بعد هذا ولن تتسامح. ستيفن ... ستيفن ... إنك أرفع مكانا وأعلى درجة وشأنا، ولست أطيق أن أعيش، بل لم أرض أن أعيش مع رجل لست مساوية له ولا أنا مكافئته؛ فهذا هو الإحساس الذي انتابني فجأة منذ ألقيت تلك الخطبة، وقد قلت لك في تلك الليلة كيف تروح النتيجة سيئة.
مور (يحاول أن يطوقها بذراعيه) :
كاترين، لا تكوني قاسية إلى هذا الحد الشنيع.
كاترين :
كلا، كلا، دعنا نتصارح. الحق أن الذين يتباينون شعورا لا يتحابون؛ دعني أذهب.
مور :
يمين الله كيف أستطيع التغلب على هذا الخلاف القائم بين عقائدنا والبون الشاسع بين إيماننا ومبدئنا.
كاترين :
الليلة البارحة فهت بكلمة مرة، ولكنها لا تعدو الحق؛ وهي المساومة ... أصبت يا ستيفن، لقد أردت في الحق أن أشتري ... أردت أن أقتل فيك عقيدتك وإيمانك، فأريتني أنت قيمة عملي، وبصرتني بخافية فعلتي؛ فلن أرضى آخر الدهر أن أكون المساومة على العقائد، المشترية للضمير.
مور :
يعلم الله ما كان قصدي أن ...
كاترين :
إذا لم أكن لك بالقلب والروح، فهيهات أن أرضى أن أكون لك خليلة؛ إنه لأشنع امتهان لمعنى الزواج، وأكبر إساءة لقداسته. (مور يشعر من هول هذه الكلمة كأن لطمة أصابت وجهه، فيتراجع مذعورا مجفلا وينشر ذراعيه في موقف المدافع أمام هجمة عنيفة قاتلة)
هي قسوة مني، لست أنكر، ولكنها تدل على مبلغ علو مكانتك بالنسبة لي، فلا يصح لي إذن أن أنزلك من مستواك الرفيع إلى وهدة مستواي.
مور :
أناشدك الله يا كاترين، دعي الكبرياء وفكري ... إنني أحارب في سبيل إيماني وعقيدتي، فهل في وسع المرء أن يفعل شيئا غير هذا؟ هل في إمكانه أن يفر من إيمانه؟ ... أواه يا كاترين! فكري في الأمر وتدبري.
كاترين :
إنني لا أعمل هنا شيئا، وهذا الفراغ يخيفني، بينما يقاتل أخواي هناك ليقتلا، وأنا لهذا مزمعة الذهاب إلى الحرب لتمريض الجرحى، وستذهب هيلين معي إليها. إن لي أيضا إيمانا، وهذا الإيمان هو حبي لوطني، وهذا الحب الذي أشترك فيه مع الملايين، وإن كان حبا مسكينا ضعيفا خاطئا، لست أطيق الإقامة معك في هذا البيت، وقد قضيت الليلة البارحة فوق المتكأ مفكرة متدبرة متروية ... فلم يبق عندي من شك، ولم يعد في النفس من تردد.
مور :
وأوليف؟
كاترين :
سأتركها في بيت أبي مع مربيتها، إذا لم تمنعني من أخذها، فإن ذلك في وسعك.
مور (بهدوء) :
ولكني لا أفعل شيئا كهذا، وأنت تعرفين ذلك عني حق المعرفة؛ فأنت حرة في الذهاب، وحرة في أخذها.
كاترين (بصوت خافت) :
شكرا ... (ولكنها لا تلبث أن تلتفت فجأة نحوه بقوة تريد أن تجتذب نظرة إليها، وبلا كلام ولا أنين ولا صوت، تضع كل قوتها في تلك النظرة الطويلة)
ستيفن، ستيفن، هلا عدلت! ستيفن هلا رجعت! هلا عدت إلي! (مظاهرات الفرح بالنصر تتعالى ضوضاؤها في الخارج، فيسمعان أصوات الصفير والزمامير والقرب، وكل أصوات الفرح والسرور المختلفة.)
مور :
أأعود لأعزف في أمواج هذا البحر الزاخر، حاشا لمثلي أن يفعل، وإن حاطت به الكوارث في كل مكان (كاترين تلتفت بسرعة نحو الباب، وتتقدم إليه بخطوات فسيحة، ولكنها عند الباب تقف ثم تعود إلى نظرتها الأولى، وقد بدا وجهها رهيبا من شدة النزاع المحتدم في نفسها، بين العواطف والاعتبارات المتضاربة) .
مور :
إذن ... أنت ذاهبة؟
كاترين (بصوت مختنق) :
نعم (تحني رأسها وتفتح الباب وتخرج، ويتقدم مور إلى الأمام خطوات، كأنما يهم بأن يتبعها، ولكن أوليف تظهر في تلك اللحظة عند مدخل الباب وهي مرتدية ثوبا أبيض قصيرا، وقبعة بيضاء أيضا مستديرة) .
أوليف :
ألست آتيا معنا يا بابا؟ ... (يهز رأسه نافيا)
ولماذا لا تأتي معنا؟
مور :
لا بأس أيها العصفور الطائر، وليحرسك الله.
أوليف :
ستضطر السيارة إلى السير ببطء شديد؛ لأن الشوارع مزدحمة بالناس، فهل أنت باق لتمنعهم من إحراق البيت ... (يهز مور رأسه إيجابا)
ألا أبقى معك قليلا أنا كذلك يا أبي؟ (يهز رأسه نافيا)
ولماذا؟
مور (يضع يده على رأسها ملاطفا) :
اذهبي يا عزيزتي، اذهبي.
أوليف :
أواه يا أبي! ... ألا تعانقني قبل أن أذهب؟ (مور يقبلها في رأسها وخديها أحر القبلات)
أواه يا أبي! ما أحلى القبلات من فمك!
مور :
اذهبي أيتها الصغيرة في حراسة الله وأمانه. (تذهب ولكنها تلتفت إليه وهي ذاهبة ثم تختفي عن البصر. يتبعها مور إلى الباب، ولكنه يقف عنده، وعندئذ كأنما قد أفاق من ذهول شديد، وأدرك حقيقة الموقف الرهيب، فيجري إلى النافذة، ويطل بكل رأسه لكي يشهد الباب الخارجي للبيت وهما منصرفتان عنه. صوت أزيز طيارة، ولا يلبث بوقها أن يدوي باستمرار، والسيارة تشق طريقها في وسط الجموع المتجمهرة، فيعود عن النافذة)
وحيد من الأهل، مهجور غير مستأنس (وهنا يرتفع صوت من الخارج من خلال الضجيج والعجيج هنالك) .
الصوت :
إنه هو ... هو ... الخائن ... المارق ... الخائن ... المارق. (تبدأ المقذوفات من البندق وقشر البرتقال وأشباهها مما لا يؤذي؛ تصطدم بزجاج النافذة؛ تتزايد الأصوات)
يسقط الخائن ... ليسقط المارق (ومن خلال النافذة ترى أعلام تخفق وفوانيس صينية من الورق الملون مضاءة، وهي مرفوعة على قصب من الغاب وزانات. تنمو الجلبة بسرعة، بينما يقف مور غير مكترث لها عند النافذة يتبع السيارة ببصره، وعندئذ تصيب طوبة مقذوفة من الشارع لوحا من الزجاج فتخترقه، يتلوها ضحك شديد وهمهمة وصفير ... طوبة أخرى مثلها؛ ينظر مور لحظة نظرة احتقار شديد نحو الشارع، فيسقط ضوء المصابيح الورقية على وجهه، وعندئذ كأنما قد نسي هذا الصياح الضاج في الشارع وذهل عنه كل الذهول، فيعود إلى وسط الحجرة ويجيل فيها ببصره، ثم لا يلبث أن يترك رأسه يطرق رويدا على صدره، وهنا تشتد الجلبة في الخارج أكثر من قبل، وتدخل طوبة ثالثة من النافذة فيرفع مور رأسه ثانية، ويشبك يديه معا، ويلقي بصره أمامه غير ملتفت؛ وهنا يدخل الخادم هنري فيسرع نحو النوافذ) .
مور :
آه! هنري، لقد ظننتك غادرت الدار مع المغادرين.
هنري :
لقد رجعت يا سيدي.
مور :
أكرم بك من رجل!
هنري :
إنهم يحاولون اقتحام مدخل البيت يا سيدي، وهو عمل مخالف للقانون؛ لأنه تعد على حرمة المنازل، وانتهاك للأملاك الخاصة. (في هذه اللحظة يندفع تيار المتجمهرين إلى الحجرة، فيسرع هنري إليهم ويهم بالمقاومة، ولكنهم يتغلبون عليه، فيدفعونه إلى الخارج، فلا يعود يظهر إلا المتجمهرين، فخليط شنيع من الغوغاء؛ نساء ورجال وطلبة وكتبة عموميون وعمال في الحوانيت ، ومنهم بعض الكشافة كذلك، وقد تبادل كثير منهم القبعات، وبينهم من يلبسون وجوه المساخر، وآخرون يضعون أنوفا مستعارة، وبعضهم يحمل صفافير، وغيرهم يحمل مصابيح ملونة، وهم يلوحون بها في التراس خارج النوافذ، وقد ارتفعت الجلبة حتى لم يعد أحد يتبين شيئا. وفي المظاهرة زعماء بالطبع ورؤساء، وهؤلاء فريق من الطلبة، وعلى رأسهم شاب رياضي مفتول العضل، حاسر الرأس، طويل البدن، يتحرك القوم بإمرته، وينزلون على طاعته، وعندما يبدأ الصياح قليلا وتسكت الجلبة يصيح هذا الشاب بالجمع مناديا: إليه أيها الشجعان، هلموا إليه. فيندفع زملاؤه الطلبة نحو مور وهو الواقف في الصمت المسالم لا يقاوم، وفي الحال يحملونه بعنف فوق الأكتاف ويطوفون به الحجرة، حتى إذا داروا به مرتين بين الصفير والغناء والصياح والضوضاء، ينادي رئيس الطلبة: أنزلوه. فيسارعون إلى إطاعة الأمر بإنزاله على المائدة، وقد نقلوها إلى قرب النافذة، ووقفوا حوله ينظرون إليه.)
زعيم الطلبة :
نريد خطبة ... نريد خطبة. (تسكت الصيحات، ويلتفت مور حوله)
والآن يا جناب الخطيب، تفضل فكلنا آذان.
مور (بصوت متهدج) :
ليكن ذلك، إنكم هنا الآن بقانون القوة، لا بقوة القانون، وبقانونكم ذلك، ها أنا أمامكم، ولكم أن تصنعوا بي ما تشاءون.
صوت :
وهل في هذا كلام ... سنفعل، نعم سنفعل.
مور :
لم أكن أشك في ذلك مطلقا، ولكن لي أولا كلمة معكم.
صوت :
قلها ولا تطل (أحدهم يقلد نهيق الحمير) .
مور :
أيها الغوغاء، أنكم مصرون لا تفقهون مما حولكم شيئا، ولا تميزون بين ما يضركم وبين ما ينفعكم، ولا تعرفون صديقكم من عدوكم ... ويوم تتألب جموعكم، تمشي الأبالسة في صدوركم، ويقود الشيطان شراذمكم المعصوبة الأبصار.
الزعيم :
حبذا يا حضرة الخطيب الزعيم إن كنت عاقلا.
أصوات :
أنزلوه ... أنزلوا الخائن. ليسقط المارق، ليسقط المارق.
مور (وهو يصيح حتى ليغطي بصوته الرهيب على أصواتهم) :
أيها السذج، ما أنا بخائف شركم، ولا أنا في وجل من اعتدائكم. لقد اقتحمتم علي داري انتهاكا لحرمتها وعدوانا، وأكرهتموني على الكلام إكراها واقتصارا، فهلا أبصرتم الحق مرة ... وهلا رفعتم العصائب عن أبصاركم لحظة. (وهنا يتحمس )
أيها الذين تعتدون على الضعفاء وتمنعون حرية الكلام، وتصادرون حرية الفكر، أيها الجهلاء الذين تجردوا من نعمة العقل، والأشرار الذين عدموا طهارة الروح، إذا لم يكن عليكم هذا هو السفالة البشرية، فما معنى السفالة البشرية إذن في الدنيا وما تصريفها! وإذا كان لم يكن تصرفكم هذا جبنا فقد خلت الدنيا إذن من الجبن والجبناء. (تنقلب الجلبة على صوته، ولكنه يصيح بأعلى صوته، فيغطي عليها ثانية)
إنكم لتتكلمون عن الوطنية ... ولكن الوطنية الصادقة بريئة منكم؛ لأن وطنيتكم هي وطنية الاستعمار والأسر والغزو والقهر؛ وطنية الشر والضر.
الزعيم (وهو يمنع هجوم المتجمهرين) :
مكانكم ... مكانكم. (مخاطبا مور)
حذار يا حضرة الخطيب من التهجم بهذا الكلام الشنيع على بلادك، لقد حذرتك فاحترس. (الجمهور صياح وزمجرة.)
مور :
إن بلادي ليست هي بلادكم ... ووطني ليس هو وطنكم، بلادي أنا ووطني هي تلك المملكة العظيمة التي تأبى إرهاق الضعفاء، وترتضي أسر الأحرار والطلقاء (يرفع صوته فوق صياحهم)
في وسعكم أن تحطموا رأسي كما تحطمون زجاج النوافذ، ولكن هيهات! لن تحطموا بهذا إيماني وعقيدتي، ولن تستطيعوا أن تنالوا منها شيئا، ولو كنتم على رجل واحد ألوفا مؤلفة (تثب فتاة متهيجة من غمار الجمع، وهي منفوشة الشعر مهدولته، وتهز قبضة يدها في وجهه) .
الفتاة :
أيها الخائن، أيها المتوحش الذي تنتصر لأولئك الهمج الذين قتلوا حبيبي. (يبتسم مور لها من فوق المائدة، فتسرع هي إلى انتزاع سكين من قايش كشاف بجانبها)
ابتسم أيها النذل (تثور حماسة الجماهير، فيدفعون مور من ورائه وتتقدم الفتاة فتغيب السكين في صدره، فيترنح من الضربة ويلوي) .
مور :
اليوم أموت، وغدا تحيا الفكرة (يسقط عديم الحراك بين الصياح والهتاف والتصفير ... إلخ) .
زعيم المظاهرة (ينادي بأعلى صوته) :
سكوتا ... وقفوا مكانكم.
صوت :
رباه ... لقد مات!
الزعيم :
افسحوا ... افسحوا حتى يتنفس (يتراجع الجمهور ويتقدم بعض الشبان، فيرفعون ذراعيه ورأسه، ولكنها تسقط كالرصاص من ثقلها، فيكبون عليه ليفحصوه) .
الزعيم :
لقد انتهى (وهنا يبدأ ثانيا الهرج والمرج والتدافع والتزاحم من النوافذ، ويتقدم أحدهم فيطفئ الأنوار، فتشتد الجلبة والضوضاء، ولا يلبث الجمع أن ينفض وهم منصرفون، وتظل جثة مور طريحة في مكانها على ضياء مصباح واحد من المصابيح الملونة) .
الزعيم :
مسكين ... لقد كان شجاعا ... حريصا على مبدئه إلى آخر رمق (يلتقط من الأرض علما صغيرا كان متروكا هناك، فيرفعه على صدر الشهيد، ثم ينصرف مندفعا مسرعا. تظل جثة مور لحظة على بصيص ذلك الضياء، بينما يتعالى الصياح في الخارج) . (ينزل الستار)
المنظر الختامي (يرفع الستار في الحال عن منظر في الفجر وهو في أول طلوعه، فيرى هنالك في صدر المسرح في وسط الأشجار الناضرة، على مطالع الضياء؛ تمثال بالحجر الطبيعي على قاعدة من الحجر ... ويأخذ النور في النمو شيئا فشيئا حول القاعدة حتى تظهر هذه الكلمات بالنور.) (تمثال تذكاري لاستفين مور؛ شهيد الوطنية والمبدأ.) (جموع من الناس وقوف في خشوع، حاسري الرءوس كأنهم في صلاة طويلة، بينما يدق الأوركستر أعظم أنغام الحزن والحداد.) (ستار) (انتهت الرواية)
ناپیژندل شوی مخ