صرير دواليب تجري في الأوحال، وصفير سوط يلعب في الهواء، ووقع حوافر الخيل، وصراخ بعض أولاد الأزقة - أصوات سمعها أبو طنوس وهو خارج مع الكاهن من المدينة.
أما الكاهن فلم يكن ليسمع شيئا من تلك الأصوات؛ لأنه كان مكبا على كتاب الصلوات الذي بيده. ومن معجزات الكهنة أنهم يستطيعون أن يصلوا دون أن يفكروا بشيء غير الصلاة. فلما انتهى الكاهن من عمله الصالح، نظر إلى رفيقه نظرة السيد إلى خادمه، وسأله عن اسمه، واسم قريته، ثم سأله عن أحواله، فأجابه أبو طنوس؛ قائلا: «لو كانت أحوالي كأحوالك، أيها المحترم، لما كنت أركب في العربة مع رجل لا أعرفه؛ بل كنت أقتني عربة خصوصية.»
ينظر الكاهن إلى الناس نظر السيد إلى عبيده، ولا يحدثهم بغير اللهجة التي تناسب هذه العقلية غير المسيحية، إلا إذا بدا من محدثه ما يستوجب الخروج عن القاعدة.
دهش الكاهن بجواب أبي طنوس، فغير لهجته في الحال. أجل، قد أزالت جرأة المكاري شيئا من كبرياء الكاهن، ثم حلت المباحثة الأخوية مكان الحديث الذي يبدأ وينتهي بكيف حالك؟ وكيف حال أهل البيت؟ - أتظن، يا ابني، أننا أصحاب ثروة. - أظن وأعتقد وأتيقن ذلك يا محترم. أنا أقول لك إن خيرات هذا الجبل كثيرة بالنسبة إلى مساحته وحالته الطبيعية. وعندما كنت أركض وراء البغال، وأجوب الجبال من الطرف الجنوبي إلى الشمال، تحققت أن أغنياء لبنان «العوام» يعدون على الأصابع. وتحققت أيضا أن العامة المؤلفة من شركاء ومكارين وفلاحين لا تملك شيئا؛ فأين خيرات الجبل إذن؟ بأيدي من هي؟ بخزائن من جمعت المجيديات والليرات؟ من هم الذين يأكلون غلات الجبل؟ أقسم بالله وبجميع القديسين، إني صفر اليدين، مع أني كنت في أميركا، وكسبت كثيرا من المال، ثم خسرته. وأنا الآن لا رزق لي، وبيتي مرهون لشيخ القرية. ولست أنا وحدي. إخواني في الفقر كثيرون، والرهبان الذين خدمتهم كمكار يزدادون غنى كلما ازددت أنا فقرا. هم يسمنون، وأنا كما تراني أهزل. ولا أكاد أملأ بطني وبطون أولادي حتى أمسي مديونا للدير وللبقال والسمان في المدينة.
الكاهن :
أرى أن اليأس متحكم فيك ، يا ابني. اذكر قول السيد المسيح، ولا تحسد أصحاب النعمة، ولا تشته مال قريبك. القناعة، يا ابني، كنز لا يفنى.
أبو طنوس :
لا تحرك في السم، يا محترم. اعلم أني سحت كثيرا، وشاهدت كثيرا، وفكرت كثيرا. أنت تقول لي: القناعة كنز لا يفنى، وأنا أقول: أيها المداوي، داو نفسك. ما أجمل أمثالكم، يا محترم! وما أبعد أعمالكم عنها! أمثالكم مثل الطعم تضعونه في الصنارة لتصطادوننا نحن الأسماك في بحر المجتمع الإنساني. إني أعرف هذه الأمور كلها. قد سبرت غوركم، واطلعت على خفاياكم، وفتشت في زوايا قلوبكم، وقلبت صفحات نفوسكم. إني أعرفكم كما أعرف بغلي. إني أعرفك، أيها الرجل! أنت كاهن وأنا مكار. أنت تسلك في الحياة السلوك الذي أساسه الكذب والرياء، ونتيجته المداهنة والاستبداد؛ التدليس لمن هم فوقك، والاستبداد بمن هم دونك. أما أنا؛ أنا مكار. أنا أحد العامة. أنا صفر إلى الشمال، ولكني مع ذلك لا أستحل سرقة شعير جار لأطعم بغلي. أنتم تبشرون بالقناعة، وتجمعون في أكياسكم وصناديقكم المال. أنتم تنهون عن الشر، وقلما تعملون عملا مجردا من الغايات الشخصية الخبيثة. أنتم تأمرون بالصوم والتقشف، ورئيسكم لا يأكل غير الطيور، ولا يشرب غير النبيذ المعتق. أنتم تبشرون بالمحبة، وتدسون الدسائس بعضكم لبعض؛ طمعا بالمناصب والألقاب، وطمعا بالمال. أنتم تحثوننا على التواضع والوداعة، ونحن نذكركم بشموخكم وكبريائكم. أنتم تعلموننا الطاعة والخنوع، ونحن نعلمكم كيف يكون الحلم مع القوة، والوداعة مع السيادة، والمحبة مع الحرية، والعدل مع العلم، والإنصاف مع المساواة، والنجاح العام مع الحكم الديمقراطي العام.
وقف أبو طنوس في كلامه ليشعل سيكارته، ثم قال: أراكم حاملين دائما شبكة الصيد، وفيها كلمة منمقة أم مثل سائر - فيها الطعم - للسمك الناطق - لنا نحن الرعية. ولكني أقول لكم: تحذروا، أيها الآباء المحترمون. قد أدركت الأسماك أسراركم، وعلمت نياتكم ومقاصدكم. وستجتمع ذات يوم على شبكتكم المقدسة، فتسحبها إلى قعر البحر، وتسحبكم وراءها. لا أنكر أنكم بارعون في التبشير بما لا تعتقدون، وأنكم ماهرون في ردعنا عما تتسابقون أنتم إليه. أنتم تنذرون النذور الثلاثة: الطاعة، والعفة، والفقر؛ ولكنكم تنذرون نذرا رابعا، وتنذرونه سرا، وهو أن لا تتقيدوا بنذوركم. لا تؤاخذني، أيها المحترم، إذا صارحتك بما في قلبي، وكشفت لك عن مكنونات صدري، منذ زمن طويل أترقب هذه الفرصة، منذ رجوعي من أميركا وأنا أسأل الله أن يجمعني بكاهن في البرية لأفرج عن نفسي، في البرية لأني لا أحسن التوبيخ أمام الناس. لسنا - معشر الفقراء - مثلكم نوبخ علنا؛ ليقال إننا من الصالحين الأتقياء. قل لي بالرب الذي تأكل جسده، وتشرب دمه كل يوم، هل أنت من الصالحين الأتقياء؟ هل أنت وضميرك في وفق وارتياح؟ هل أطعمت يوما جائعا؟ هل كسوت عريانا؟ هل سقيت عطشانا؟ هل آسيت مريضا؟ وهل أويت طريدا في حياتك؟ لا تؤاخذني، يا محترم، إذا قلت لك - أقول ولا فخر - إني خلصت ذات يوم بغلا من الموت. وأقول ولا فخر إني أفضل أن أكون مكاريا، أو راعي غنم من أن أكون كاهنا. - يا لك من شقي! - أخطأت. أنا، يا محترم، مكار. - ألا تنتهي وقاحتك؟ - أنا عبدك المطيع، يا محترم، ولكن يحق للعبد في هذه الأيام أن يسأل السيد. فقل لي ... - اصمت، يا كافر. - أنا مسيحي، يا محترم. - قد احتملت منك ما لا يحتمله الله من إبليس، فهل تريد أن تجربني أكثر من ذلك؟ - أريد أن أذكرك، أيها المحترم، بأني مكار ... فقير جاهل، وأنك كاهن عالم، تقي، نقي. - إلى أي حد تواصل هذه الجسارة؟ هذه الوقاحة؟ - إلى حيث تنتهي فضيلتكم المزيفة. - الله يطرد الشيطان. - آمين - اصمت، يا لعين! - مبارك أنت يا محترم! - اصمت! اصمت! - أنت خادم الله، يا محترم. - لا تضطرني أن أخاطبك بغير لساني. - أنت بحر الصبر والفضيلة، يا محترم. - لا تضطرني أن أرفع عليك يدي. - تباركني بنقمتك. وأنا السعيد وإن كنت لا آكل جسد الله كل يوم. - أحمل هذه العصا للكلاب ولك ...
إذ ذاك رفع الكاهن عصاه، وضرب بها المكاري، فاقتبل هذا الضربة؛ هادئا باسما وهو يقول: اضربني ضربة ثانية وثالثة. اضربني، يا أخي. هو ذا خدي الأيسر؛ قد برهنت لك على أنك مثلي إنسان، ولست بكاهن، فصرت أحبك وأجلك. اضربني أو عانقني، واحدة من الاثنتين. ارمني خارج العربة، أو ضمني إلى صدرك. أنت أخي، وأنا أحبك وأجلك، وأشعر بما تشعر به؛ فهل لك أن تحبني، وتشعر بشيء من شعوري؟ إذن تعال أقبلك، فتقبلني قبلة الإخاء والمحبة ... لماذا أنت صامت ساكن؟ لماذا لا تقبلني؟ لماذا لا تضربني؟ لماذا لا تبصق علي، وتلعنني، ثم ترفسني؟ وقد أهنتك، وذلك حبا بك. إذن أنا أحبك، أنت أخي، والأب الذي في السماوات هو أبو الناس كلهم؛ فلماذا لا تقبلني ولا أقبلك قبلة الإخاء؟ أنت لا تزال إنسانا مثلي، ولا أزال مسيحيا مع كل بغضي لخدام المسيح في هذا الزمان.
ناپیژندل شوی مخ