ذكرى جلسات جلسناها، وآراء تبادلناها، وأغان رددناها، على موسيقى الساقية الفضية، تحت صنوبرة هرمة، بالقرب من دير قديم مهجور، في الجبل الذي نرجو أن يعود إليه الذين هجروه من أبنائه، ويهجره - ولو لمدة قصيرة - أولئك الذين لم يروا من العالم سواه.
نيويورك، سنة 1904م
المكاري والكاهن
عجل يا أخي، عجل. العربة تنتظر في الخان.
حاضر، يا عم. ستة عشر غرشا ومتاليك.
دفع الرجل القيمة، وأخذ السلع، فربطها في منديل أحمر كبير، ثم علقها في عقفة عصاه، وحملها على كتفه، وهرول إلى الخان.
هو أحد الفلاحين في جبل لبنان، أولئك الذين ينزلون إلى مدينة بيروت من حين إلى حين ليبتاعوا حاجات بيوتهم. أسرعت، فأجملت، فقلت إنه أحد الفلاحين، بينما أن مهنته الخاصة هي غير الفلاحة والزراعة، هو من تلك الطبقة التي يحتقرها الناس، رغم أن البلاد لا تستغني عنها. هو أحد المكارين الذين يقضون في الفلاة معظم أوقاتهم، وفي خدمة اللبنانيين يجدون وراء البغال.
يمتاز المكاري اللبناني بثلاث مزايا كبيرة ما عدا الصغيرة؛ أولها: سب الدين، فهو مثل الجندي الإنكليزي، لا يحسن الكلام دون أن ينقطه ويحركه بالمسبات. وثانيها: خفة الروح، فالنكتة هي غالبا في جيبه، أو على لسانه. وثالثها: الذكاء الفطري. هذه المزايا الثلاث تجعل المكاري مؤنسا فكها، وقلما تجتمع كلها في غير المكارين، فقد يكون الوجيه ذكيا، ولا يكون خفيف الروح، وقد يكون الراهب مزاحا، ولا يكون ذكيا، وقد يسب الفلاح الدين وهو بليد ثقيل الدم. على أن هناك فلاحا يشابه المكاري فيما امتاز به، وهو الشريك المرابع للدي؛. وهؤلاء الشركاء هم غالبا أذكياء مجان. ولا عجب، إذا كانوا كذلك يجدفون.
أما المكاري فهو يكثر من المسبات؛ لأن أكثر مشاغباته مع الحمير والبغال، وهؤلاء لا يعرفون من أساليب الجدل والإقناع غير أنهم يحرنون ثم يرفسون. أما أنه مجان؛ فذلك لأن أكثر أشغاله هي مع الرهبان. وأما ذكاؤه الفطري، فإن له أسبابا عدة ظاهرة وخفية، فالخفية نتركها للعالمين بالغيب، ونذكر من الظاهرة ما هو - في نظرنا الضعيف - الأهم.
يقضي المكاري معظم وقته في العراء - في العزلة - في سكينة الطبيعة وجمالها - بين الجبال، وفي الأودية والسهول، فيكثر من مناجاة نفسه، ولا غرو؛ إذ ليس له في تجواله أن يحدث غير رفاقه. وأصحاب المهنة الواحدة ذوو كفاءة في نظر أنفسهم، فقلما يستفيد بعضهم من بعض.
ناپیژندل شوی مخ