مجموعة الرسائل والمسائل والفتاوي
لحمد بن ناصر بن معمر من علماء القرن الثالث عشر الهجري
مقدمة الناشر
هذا كتاب ليس لنا فضل فيه سوى فضل الترتيب والجمع إن صح أن يسمى هذا من "باب الفضل" وإلا فالفضل للمتقدمين.
حفزنا على جمعه "هكذا" اقتراحات كثيرة من عدة إخوان فضلاء ولا شك في أن المعنيين بالتراث العلمي، والدارسين لعلوم الشريعة والعقيدة سيجدون فيه نبعًا صافيًا، ومنهلًا عذقًا رحم الله الشيخ الجليل ونفع بعلمه.
وإنا لنخص بالشكر الشيخين الجليلين عبد الله بن عبد الرحمن البسام عضو هيئة التمييز بالمنطقة الغربية وعبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ المتتبع لسير علماء الدعوة على توجيهاتهما وتشجيعهما لإخراج الكتاب على هذه الصورة العصرية حتى يتم النفع به.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
"الناشر"
1 / 3
ترجمة حياة الشيخ حمد بن ناصر بن معمر
بقلم الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ مؤلف كتاب مشاهير علماء نجد
هو العالم العلامة المحقق الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر النجدي التميمي من آل معمر أهل العيينة. نزح منها واستوطن مدينة الدرعية وقرأ فيها على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وعلى الشيخ أبي بكر حسين بن غنام نزيل الدرعية، صاحب التاريخ المشهور وعلى الشيخ سليمان بن عبد الوهاب أخي الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبعد ذلك جلس للتدريس بمدينة الدرعية فأخذ عنه العلم خلق كثير من أهل الدرعية وغيرهم من أهل نجد الوافدين إليها، نذكر من فضلائهم في هذه الترجمة المقتضبة:
الشيخ العلامة الشهيد سليمان بن الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ونجل المترجم الشيخ عبد العزيز بن الشيخ حمد بن معمر. والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين.
وفي سنة ألف ومائتين وإحدى عشرة من الهجرة طلب غالب بن مساعد شريف مكة من الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود أن يبعث إليه عالمًا ليناظر علماء الحرم الشريف في شيء من أمور الدين، فبعث إليه الإمام عبد العزيز المترجم الشيخ حمد بن ناصر بن معمر على رأس ركب من العلماء، فلما وصلوا إلى الحرم الشريف أناخوا رواحلهم أمام قصر الشريف غالب فاستقبلهم بالحفاوة والإكرام وأنزلهم منزلًا محترمًا يليق بهم، فلما طافوا وسعوا للعمرة ونحروا الجزر التي أرسلها معهم الأمير سعود بن عبد العزيز هديًا للحرم واستراحوا أربعة أيام من عناء السفر جمع الشريف غالب علماء الحرم الشريف من أرباب مذاهب الأئمة الأربعة - ماعدا الحنابلة - فوقع بين علماء الحرم ومقدمهم يومئذ في الكلام الشيخ ١ عبد الملك القلعي الحنفي وبين الشيخ حمد بن ناصر مناظرة عظيمة في مجالس عديدة بحضرة والي مكة الشريف غالب وبمشهد عظيم من أهل مكة وذلك في شهر رجب من السنة المذكورة سنة ١٢١١هـ فظهر عليهم الشيخ حمد بن ناصر بن معمر بالحجة وقهرهم بالحق فسلموا له وأذعنوا، وقد سألهم –﵀ ثلاث مسائل..
_________
١ هو الشيخ عبد الملك بن عبد المنعم بن تاج الدين بن عبد المحسن بن سالم القلعي الحنفي. ولد بمكة وتلقى العلم عن علماء المسجد الحرام وبعد أن أجيز بالتدريس جلس للتدريس بالمسجد الحرام فقرأ عليه خلق كثير ولما قدم إلى مكة محمد علي باشا الألباني بلغه أن الشيخ مريض فزاره. توفي عام ١٢٢٨هـ وله مؤلفات: ١ـ فتاوى في٣ مجلدان -٢ـ شرح على متن الأجرومتية ـ٢ـ حل الرمز على شرح الكنز.
1 / 5
الأولى: ما قولكم فيمن دعا نبيًا أو وليًا واستغاث به في تفريج الكربات كقوله: يا رسول الله، أو يا ابن عباس، أو يا محجوب أو غيرهم من الصالحين.
والثانية: من قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولم يصل ولم يزك هل يكون مؤمنًا؟، والثالثة: قال: هل يجوز البناء على القبور؟ فعكس علماء الحرم هذه الأسئلة على الشيخ حمد المذكور.. وطلبوا منه الإجابة عليها فأجاب عنها ﵀ بما يشفي الغليل، ويبتهج به من يتبع الدليل، وأصل الإجابة وحررها لهم في رسالة سماها علماء الدرعية "الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب" وقد أوردها الشيخ حسين بن غنام في الجزء الثاني من تاريخه، واختارها الشيخ سليمان بن سحمان مع مختاراته التي جمعها في رسالة وسماها "الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية" فطبعت عدة مرات، ولولا ذلك لأوردناها في ترجمتنا للشيخ حمد بن معمر المذكور، فإنها جليلة القدر، عظيمة الفائدة (*) وقد أشار إلى ما جرى بين الشيخ حمد بن ناصر بن معمر وعلماء مكة من المناظرة الشيخ محمد بن علي الشوكاني فقال في الجزء الثاني من كتابه "البدر الطالع" ص (٧) بعد ترجمته للشريف غالب بن مساعد ما نصه: وبلغنا أنه وصل إلى مكة بعض علماء نجد لقصد المناظرة فناظر علماء مكة بحضرة الشريف في مسائل تدل على ثبات قدمه، وقدم صاحبه في الدين. انتهى كلام الشوكاني. وألف رسالة عنوانها: "حقيقة التوحيد والعبادة والفرق بين العادة والعبادة" تقع في ٦٨ صفحة طبعت بمطبعة المنار بالقاهرة عام ١٣٤٩هـ.
وللشيخ حمد بن معمر غير هذه الرسالة رسائل كثيرة أجاب فيها على أسئلة علمية، لو جمعت لبلغت مجلدًا ضخمًا (*) ولكنها طبعت مفرقة في مجاميع الرسائل والمسائل النجدية، التي طبعت بمطبعة المنار أولًا، ثم بمطبعة أم القرى بمكة المكرمة ثانيًا (١) وقد ولاه الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود قضاء الدرعية من جملة قضاتها الكثيرين، وبعثه بعدما استولى على الحجاز٣ سنة ١٢٢٠هـ إلى مكة عند الشريف غالب مشرفًا على أحكام قضاة مكة المكرمة، فأقام بمكة أربع سنوات ثم توفي بها ﵀ سنة ألف ومائتين وخمس وعشرين من الهجرة، في أول شهر ذي الحجة، وصلى عليه الناس تحت الكعبة المشرفة ثم خرجوا به من الحرم إلى البياضية٤ فخرج الإمام سعود بن عبد العزيز من قصره بالبياضية وصلى عليه بعدد كثير من المسلمين صلاة ثانية قبل أن يدفن ثم دفنوه بعد ذلك بمقبرة البياضية.
_________
(*) لقد تحققت أمنية الشيخ الجليل وهذه رسائله في أجوبته قد جمعت. "الناشر"
٣ استولى الإمام سعود بن عبد العزيز على الحجاز نهائيًا سنة ١٢٢٠هـ وبعث المترجم إلى مكة سنة ١٢٢١هـ
٤ البياضية تقع بأعلى مكة شرقي القصر العالي المشهور قبل ذلك بقصر السقاف والبياضية محلها الآن محاكم التمييز الواقعة شرقي القصر المذكور.
(*) أثبتناها في أول هذا الكتاب. "الناشر"
1 / 6
قال أحمد بن محمد بن أحمد الحضراوي في تاريخه المخطوط الذي سماه "اللطائف في تاريخ الطائف" مانصه:
نقلا منه عن السيد محمد ياسين ميرغنى بن عبد الله المحجوب لما ذكر كشف الامام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود للقبة التي فوق صخرة مقام ابراهيم قال: وكان المباشر له أي لكشف القبة حمد بن ناصر، يقصد به المترجم له. ثم ذكر بعد كلام لا فائدة في ذكره أنه مات ودفن بالبياضية.
وقد ذكر المؤرخ عثمان بن عبد الله بن بشر في الجزء الأول من تاريخه ص ١٥٩ طبعة أبي بطين: أن الشيخ١ حمد بن ناصر بن معمر توفي بمكة، وخفى عليه أنه دفن بالبياضية. فلم يذكر ذلك.
وقد خلف الشيخ حمد ابنا عالما هو الشيخ عبد العزيز صاحب "منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب ". (وسنورد له ترجمة في هذه الرسالة) .
رحم الله الشيخ حمدا ورحم ابنه الشيخ عبد العزيز، وجميع مشائخ الاسلام، وعلماء الدين، انه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وسلم.
"عن كتاب مشاهير علماء نجد"
_________
١ قلت أورد صاحب "خلاصة الكلام" ذكره في معرض تحدثه عن الصلح الذي تم بين غالب والإمام سعود بن الإمام عبد العزيز قائلًا ما نصه: (ثم وصل من الدرعية عشرون رجلًا فيهم حمد بن ناصر أحد علمائهم، وكان الشريف بجدة وأعطوه كتابًا من سعود فيه إتمام أمر الصلح ونزل حمد إلى مسجد عكاش وجمع الناس وقرأ عليهم رسالة محمد بن عبد الوهاب، وقبل الشريف بمنع جميع الأمور فأمر بهدم القباب وترك شرب التنباك، وعدم بيعه، وبدخول الناس المسجد عند سماع الأذان لصلاة الجماعة في المسجد وبتدريس رسائل ابن عبد الوهاب، وترك تكرير الجماعة في المسجد الحرام، والاقتصار على الأذان في المنابر، وترك التسليم، والتذكير، والترحيم، وأبطل ضرب نوبته، ونوبة وإلى جدة، فتوجه حمد بن ناصر إلى الدرعيه يخبرهم بذلك وأرسل الشريف معه رسولًا فرجع بالجواب والشريف باق في جدة انتهى ما ذكره دحلان مع حذف يعض كلمات عدائية لا يليق ذكرها.
1 / 7
الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب
المسألة الأولى: فيمن دعا نبيا أو وليا وأستغاث به في تفريج الكربات
...
الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب
المسألة الأولى
قالوا ما قولكم فيمن دعا نبينا أو وليًا واستغاث به في تفريج الكربات كقوله يا رسول الله أويا ابن عباس أويا محجوب أو غيرهم من الأولياء الصالحين.
(الجواب) الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره وأعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادى له، وأشهد أن لااله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﷺ وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، وقفا أثرهم الى آخر الزمان.
أما بعد فأن الله تعالى قد أكمل لنا الدين، ورسوله قد بلغ البلاغ المبين، وأنزل عليه الكتاب هدى وذكرى للمؤمنين، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا﴾ وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ وقال تعالى ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ .
قال ابن عباس تكفل الله لمن قرأ القرآن واتبع ما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخر، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُون﴾ .
وروى مالك في الموطأ أن رسول الله ﷺ قال: " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنة رسوله" وعن أبي الدرداء ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: "لقد تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهار لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" وقال ﷺ: "ما تركت من شيء يقرب إلى الجنة إلا وحدثكم به ولا من شيء يقرب إلى النار إلا وقد حدثكم به " وقال ﷺ: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشد ين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور فأن كل بدعة ضلالة" فمن أصغى إلى كتاب الله وسنة رسوله وجد فيهما الهدى والشفاء وقد ذ م الله تعالى من أعرض عن كتابه ودعا عند التنازع إلى حكم غيره فقال تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾ .
إذا عرف فنقول: الذي شرعه رسول الله ﷺ عند زيارة القبور
1 / 11
إنما هو تذكر الآخر ة والإحسان إلى الميت بالدعاء له، والترحم والاستغفار له وسؤال العافية. كما في صحيح مسلم عن بريدة قال: كان رسول الله ﷺ يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا السلام على أهل الديار -وفي لفظ عليكم أهل الديار- من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية".
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: "إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء" وعن عائشة ﵂ عن النبي ﷺ: "ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مئة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه" رواه مسلم فإذا كنا على جنازته ندعوا له لا ندعوه، ونشفع له لا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى.
فبدل أهل الشرك قولا غير الذي قيل لهم، بدلوا الدعاء له بدعائه، والشفاعة له بالإستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله ﷺ إحسانا إلى الميت بسؤال الميت، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة بنص رسول الله ﷺ، فعن أنس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "الدعاء مخ العبادة" رواه الترمذي وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ رسول الله ﷺ ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة، ومن المحال أن يكون دعاء الموت مشروعًا ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله ﷺ، ثم يوفق له الخلوف الذي يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون.
فهذه سنة رسول الله ﷺ، وهذه طريقة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هل نقل عن أحد منهم بنقل صحيح أو حسن أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها، فضلًا عن أن يسألوا أصحابها جلب الفوائد، وكشف الشدائد؟ ومعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله ﷺ بالأمطار عدد كثير وهم متوافرون فما منهم من استغاث عند قبره، ولا دعاه، ولا استشفى به، ولا استنصر به، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي ﷺ بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء ولا الصلاة عندها، فإن كان عندكم في هذا أثر صحيح أو حسن فأوقفونا عليه، بل الذي صح عنهم خلاف ما ذهبتم إليه.
ولما قحط الناس في زمن عمر بن الخطاب ﵁ استسقى بالعباس وتوسل بدعائه وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقنا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. ثبت ذلك في صحيح البخاري ذكره في كتاب الاستسقاء من صحيحه.
ونحن نعلم بالضرورة أن النبي ﷺ لم يشرع لأمته أن يدعوا
1 / 12
أحدًا من الأموات ولا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله.
قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ* وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ وقال تعالى: ﴿فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ وقال تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ﴾ الآية. وقال تعالى: ﴿وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُم﴾ الآية. وقال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ .
قال مجاهد: يبتغون إلى ربهم الوسيلة هو عيسى وعزير والملائكة، وقال إبراهيم النخعي قال: كان ابن عباس يقول في قوله تعالى ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ هو عزير والمسيح والشمس والقمر.
وعن السدي وعن أبي هريرة. وعن ابن عباس قال: عيسى وأمه والعزير. وعن عبد الله بن مسعود قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرًا من الجن فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، فنزلت هذه الآية. ثبت ذلك عنه في صحيح البخاري ذكره في كتاب التفسير، وهذه الأقوال في معنى الآية كلها حق، فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابدًا لله سواء كان من الملائكة، أو من الجن، أو من البشر. فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوًا، وذلك المدعوا يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجوا رحمته، ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتًا، أو غائبًا من الأنبياء والصالحين فقد تناولته هذه الآية.
ومعلوم أن المشركين يسألون الصالحين بمعنى أنهم وسائط بينهم وبين الله، ومع هذا فقد نهى الله عن دعائهم وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعي ولا تحويله ولا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال ﴿وَلا تَحْوِيلًا﴾ فذكر نكرة تعم أنواع التحويل، فكل من دعا ميتًا من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة أو الجن فقد دعا من لا يغيثه، ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله وهؤلاء المشركون اليوم منهم من إذا نزلت به شدة لا يدعوا إلا شيخه، ولا يذكر اسمه، قد لهج الصبي بذكر أمه، فإذا تعس أحدهم قال: يا ابن عباس. أيا محجوب. ومنهم من يحلف بالله ويكذب، ويحلف بابن عباس أو غيره فيصدق ولا يكذب، فيكون المخلوق في صدره أعظم من الخالق.
وإذا كان دعاء الموتى يتضمن هذا الاستهزاء بالدين، وهذه المحادة لرب العالمين،
1 / 13
فأي الفريقين أحق بالاستهزاء والمحادة لله؟ من كان يدعوا الموتى ويستغيث بهم ويأمر بذلك؟ أو من كان لا يدعوا إلا الله وحده لا شريك له كما أمرت به رسله ويوجب طاعة الرسول ومتابعته في كل ما جاء به؟
ونحن بحمد الله من أعظم الناس إيجابًا لرعاية جانب الرسول تصديقًا له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بمعرفة ما بعث به واتباع ذلك دون ما خالفه عملًا بقوله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ .
ومعنا ولله الحمد أصلان عظيمان (أحدهما): أن لا نعبد إلا الله فلا ندعو إلا هو، ولا نذبح النسك إلا لوجهه، ولا نرجو إلا هو، ولا نتوكل إلا عليه.
(والأصل الثاني) أن لا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبدعة.. وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله أن محمدًا رسول الله، فان شهادة أن لا إله إلا الله تتضمن إخلاص الألوهية لله فلا يتأله القلب، ولا اللسان، ولا الجوارح بغيره تعالى. لا يحب، ولا خشية، ولا إجلال ولا رغبة، ولا رهبة، وشهادة أن محمدًا عبده ورسوله تتضمن تصد يقه في جميع ما أخبر به وطاعته واتباعه في كل ما أمر به، فما أثبته وجب اتباعه.
وقد روي عن البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قالوا ومن يأبى يا رسول الله؟ قال "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبي".
إذا تمهد هذا فنقول الذي نعتقده وندين لله به أن من دعا نبيًا أو وليا أو غيرهما وسأل منهم الحاجات، وتفريج الكربات، فقد ارتكب أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين حيث اتخذوا أولياء وشفعاء يستجلبون بهم المنافع، ويستدفعون بهم المضار بزعمهم. قال الله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ فمن جعل الأنبياء أو غيرهم كابن عباس، والمحجوب أو أبي طالب، وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار –بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لكونهم أقرب إلى الملك -فمن جعلهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك حلال المال والدم.
وقد نص العلماء ﵏ على ذلك وحكوا عليه الإجماع قال في الإقناع وشرحه: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعا لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ انتهى.
1 / 14
وقال الإمام أبو الوفا علي بن عقيل الحنبلي ﵀ لما صعبت التكاليف على الطغام والجهال عدلوا عن أوضاع الشرك إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم قال وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها والتزامها بما نهى عنه الشرع من ايقاد النيران وتقبيلها وتخليقها وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع عليها:
يا مولاي افعل لي كذا وكذا. وأخذ تربتها تبركًا، وافاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى. انتهى كلامه.
وقال الإمام البكري الشافعي ﵀ في تفسيره عند قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ وكانت الكفار إذا سئلوا: من خلق السموات والأرض؟ قالوا الله، فإذا سئلوا عن عبادة الأصنام قالوا: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ﴾ لأجل طلب شفاعتهم عند الله وهذا كفر منهم. انتهى كلامه.
فتأمل ما ذكره صاحب الإقناع وما ذكره ابن عقيل من تعظيم القبور وخطاب الموتى بالحوائج وإن ذلك كفر. وقال الحافظ العماد بن كثير ﵀ في تفسيره عند قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ إنما يحملهم على عبادتهم انهم عمدوا إلى الأصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين بزعمهم فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمور الدنيا، فأما المعاد فكانوا جاحدين له، كافرين به.
قال قتادة والسدى ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد ﴿إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ أي ليشفعوا لنا عنده وليقربونا ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وهذه الشبهة هي التي اعتقدها المشركون في قديم الدهر وحديثة وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بردها والنهى عنها والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له. وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه ولا رضي به بل أبغضه ونهى عنه.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ وأخبر أن الملائكة التي في السموات من المقربين وغيرهم كلهم عبيد خاضعون لله لا يشفعون عنده إلا بأذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وكرهوه ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ﴾ تعالى عن ذلك. انتهى كلامه.
وقال الإمام البكري ﵀ عند قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ﴾ الآية: فإن قلت إذا أقروا بذلك فكيف عبدوا الأصنام؟
1 / 15
(قلت) كلهم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله والتقرب إليه لكن بطرق مختلفة ففرقة قالت ليس لنا أهلية عبادة الله تعالى بلا واسطة لعظمته فعبدناها لتقربنا إليه زلفى، وفرقة قالت الملائكة ذو وجاهة ومنزلة عند الله فاتخذونا أصناما على هيئتها لتقربنا إلى الله زلفى. وفرقة قالت جعلنا الأصنام قبلة لنا في العبادة كما أن الكعبة قبلة في عبادته، وفرقة قالت اعتقد ت أن لكل ملك شيطانًا موكلًا بأمر الله فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حوائجه بأمر الله ولا أصابه شيطان بنكبة بأمر الله تعالى. انتهى كلامه.
فأنظر إلى كلام هؤلاء الأئمة وتصريحهم بأن المشركين ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله وطلب شفاعتهم عند الله وتأمل ما ذكره ابن كثير وما حكاه عن زيد بن أسلم وابن زيد، ثم قال وهذا الشبة هي التي أعتقدها المشركين في قديم الدهر وحديثة وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بردها والنهى عنها. وتأمل ما ذكره البكري رحمة الله عند آية الزمر أن الكفار ما أرادوا إلا الشفاعة ثم صرح بأن هذا كفر.
فمن تأمل ما ذكره الله في كتابه تبين له أن الكفار ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله وطلب شفاعتهم عند الله فانهم لم يعتقدوا فيها أنها تخلق الخلائق وتنزل المطر وتنبت النبات بل كانوا مقرين أن الفاعل لذلك هو الله وحده لا شريك له في ذلك.
قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ وقال تعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ إلى غير ذلك من الآيات التي أخبر الله فيها أن المشركين معترفون أن الله هو الخالق الرازق وإنما كانوا يعبدونهم ليقربوهم ويشفعوا لهم كما ذكره سبحانه في قوله: ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ فبعث الله الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يجعل معه إله آخر وأخبر ﷾ أن الشفاعة كلها له وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بأذنه وأنه لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، وأنه لا يرضى إلا التوحيد والشفاعة مقيدة بهذه القيود قال تعالى ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ وقال تعالى ﴿مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ﴾ وقال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ وقال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ وقال تعالى ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ وقال تعالى: ﴿وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ .
1 / 16
وفي الصحيحين من غير وجه عن رسول الله ﷺ وهو سيد ولد آدم، وأكرم الخلق على الله أنه تعالى " آتى تحت العرش فأخر لله ساجدًا، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: يا محمد أرفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع –قال- فيحد لي حدًا ثم أدخلهم الجنة ثم أعود" فذكر أربع مرات صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء.
وقال الإمام البكري ﵀ عند قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ﴾ نفي الشفيع وإن كانت الشفاعة واقعة في الآخرة لأنها من حيث أنها لا تقع إلا بإذنه، كأنها غير موجودة من غيره، وهو كذلك لكن جعل ذلك لتبين الرتب، وجملة النفي حال من ضمير يحشروا، وهي محل الخوف، والمراد به المؤمنون العاصون، انتهى.
وقال أيضًا عند قوله تعالى ﴿يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ دل على أن الشفاعة تكون للمؤمنين فقط. وقال الحافظ عماد الدين بن كثير عند قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ﴾ يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو الذي خلق السموات والأرض وهو ربها ومدبرها، وهم مع هذا قد اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم، وإنما عبد هؤلاء المشركون آلهة هم يعترفون أنها مخلوفة عبيد له كما كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وماملك.
وكما أخبرنا عنهم في قوله ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ فأنكر تعالى ذلك عليهم حيث اعتقدوا ذلك وهو تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ﴿وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم يزجرون عن ذلك، وينهونهم عن عبادة من سوى الله فكذبوهم.. انتهى كلامه.
والمقصود بيان شرك المشركين الذين قاتلهم رسول الله ﷺ وأنهم ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله، وطلب شفاعتهم عند الله.
وبيان أن طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم في الشدائد أنه من الشرك الأكبر الذي كفر الله به المشركين. وبيان أن الشفاعة كلها لله، ليس لأحد معه فيها شيء، وأنه لا شفاعة إلا بعد إذن الله تعالى، وأنه تعالى لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله. وأنه لا يرضى إلا التوحيد كما تقدمت الأدلة الدالة على ذلك.
ومعلوم أعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عند الله الرسل والملائكة المقربون. وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول. ولا يتقدمون بين يديه. ولا يفعلون شيئًا إلى بعد إذنه لهم وأمره فيأذن سبحانه لمن يشاء أن يشفع فيه. فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له تعالى. والذي شفع عنده إنما شفع بإذنه له. وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه. وهي إرادته أن يرحم عبيده. وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها المشركون ومن وافقهم. وهي التي أبطلها سبحانه في كتابه بقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي
1 / 17
نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ﴾ .
ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد كما صرحت بذلك النصوص فروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا لله خالصًا من قلبه" (وعن عوف بن مالك قال قال رسول ﷺ: "أتاني أت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئًا" رواه الترمذي وابن ماجه.
فأسعد الناس بشفاعة رسول الله ﷺ أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد لله وأخلصوه من التعليقات الشركية وهم الذين ارتضى الله سبحانه قال تعالى: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾ وقال تعالى ﴿يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ فأخبر سبحانه أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاه قول المشفوع له وإذنه للشافع.
فأما المشرك فإنه لا يرتضيه ولا يرضى قوله فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علقها بأمرين رضاه عن المشفوع له وإذنه للشافع. فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة. وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه سبحانه فإنه الذي أذن والذي قبل والذي رضي عن المشفوع له والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة فالرب ﵎ هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعا من أذن له أن يشفع ليكرمه. فللشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك ولهذا أثبتها الله سبحانه بإذنه في موضوع من كتابه. وبين النبي ﷺ أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد كما تقدم من حديث أبي هريرة وعوف بن مالك.
فمتخذ الشفيع مشرك لا تنفعه شفاعته. ولا يشفع فيه. ومتخذ الرب إلهه ومعبوده هو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيه. قال تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ وقال تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ .
فبين أن المتخذين شفعاء مشركون. وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم إنما تحصل بإذنه سبحانه للشافع ورضاه عن المشفوع له كما تقدم بيانه. والمقصود أن الكتاب والسنة دلا على أن من جعل الملائكة أو الأنبياء أو ابن عباس أو أبا طالب أو المحجوب وسائط بينهم وبين الله ليشفعوا لهم عند الله لأجل قربهم من الله كما يفعل عند الملوك أنه كافر مشرك حلال الدم والمال وإن قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول
1 / 18
الله. وصلى وصام. وزعم أنه مسلم. بل هو من الأخسرين أعمالًا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
ومن تأمل القرآن العزيز وجده مصرحًا بأن المشركين الذين قاتلهم رسول الله ﷺ مقرون بأن الله هو الخالق الرازق وأن السموات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن كلهم عبيده وتحت قهره وتصريفه كما حكاه تعالى عنهم في سورة يونس وسورة المؤمنين والعنكبوت وغيرها من السور -ووجده مصرحًا بأن المشركين يدعون الصالحين كما ذكر تعالى ذلك عنهم في سورة سبحان والمائدة وغيرهما من السور، وكذلك ذكر عنهم أنهم يعبدون الملائكة كما ذكر ذلك في سورة الفرقان والنجم ووجده مصرحًا بأن المشركين ما أرادوا ممن عبدوا إلا الشفاعة والتقرب إلى الله كما ذكر تعالى ذلك عنهم في سورة يونس والزمر وغيرهما من السور.
فإذا تبين لكم أن القرآن قد صرح بهذه المسائل الثلاث أعني اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية، وأنهم يدعون الصالحين وأنهم ما أردوا منهم إلا الشفاعة تبين لكم أن الذي يفعل عند القبور اليوم من سؤالهم جلب الفوائد، وكشف الشدائد، أنه الشرك الأكبر الذي كفر الله به المشركين، فإن هؤلاء المشركين مشبهون شبهوا الخالق تعالى بالمخلوق.
وفي القرآن العزيز وكلام أهل العلم من الرد على هؤلاء مالا يتسع له هذا الموضع فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس تكون على أحد وجوه ثلاثة إما لإخبارهم عن أحوال الناس مالا يعرفونه ومن قال أن الله لا يعرف أحوال العباد حتى يخبره بذلك بعض الأنبياء أو غيرهم من الأولياء والصالحين فهو كافر بل هو سبحانه يعلم السر وأخفى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
(الثاني) أن يكون الملك عاجزًا عن تدبير رعيته ودفع أعدائه إلا بأعوان يعاونونه فلا بد له من أعوان يعاونونه وأنصار لذله وعجزه. والله سبحانه ليس له ظهير ولا ولي من الذل وكل ما في الوجود من الأسباب فهو سبحانه ربه وخالقه وهو الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه، بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم، والله سبحانه ليس له شريك في الملك، بل لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، ولهذا لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فضلًا عن غيرهما، فإن من شفع عنده بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب أثر فيه بشفاعته حتى يفعل ما يطلب منه، والله تعالى لا شريك له بوجه من الوجوه.
(الثالث) أن لا يكون الملك مريدًا لنفع رعيته والإحسان إليهم إلا بمحرك يحركه من خارج فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظه أو من يدل عليه بحيث يكون يرجوه ويخافه تحركت إرادة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته.
والله تعالى رب كل شيء ومليكه وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها وكل الأسباب
1 / 19
إنما تكون بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وهو سبحانه إذا أراد إجراء نفع العباد بعضهم على يد بعض جعل هذا يحسن إلى هذا ويدعوا له أو يشفع له. فهو الذي خلق ذلك كله وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن والداعي إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده أو يعلمه ما لم يكن يعلمه. والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون إلا بإذنه كما تقدم بيانه. بخلاف الملوك المحتاجين فإن الشافع عندهم يكون شريكًا لهم في الملك وقد يكون مظاهرًا لهم على ملكهم. وهم يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك.
والملك يقبل شفاعتهم تارة لحاجته إليهم وتارة لجزاء إحسانهم ومكافأتهم. حتى إنه يقبل شفاعة ولده وزوجته لذلك فإنه محتاج إلى الزوجة والولد. حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك ويقبل شفاعة مملوكه فإذا لم يقبل شفاعته يخاف أن لا يطيعه. ويقبل شفاعة أخيه مخافة أن يسعى في ضرره. وشفاعة العباد بعضهم عند بعض كلها من هذا الجنس. فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو لرهبة.
والله تعالى لا يرجو أحدًا ولا يخافه ولا يحتج إلى أحد. هو الغني سبحانه عما سواه وكل ما سواه فقير إليه. والمشركون يتخذون شفعاء من جنس ما يعدونه عند المخلوق وقال تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ وقال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ فأخبر سبحانه أن مايدعى من دونه لايملك كشف الضر عن الداعي ولاتحويله فأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه. ويتقربون إلى الله. فقد نفى سبحانه ما أثبتوه من توسط الملائكة والأنبياء. وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه إله. وأما من أراد الله فتنته فلا حيلة فيه ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ .
1 / 20
المسألة الثانية: من قال لا إله إلا الله ولم يصل ولم يزك هل يكون مؤمنا
...
المسألة الثانية
وأما المسألة الثانية فقالوا: من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله ولم يصل ولم يزك هل يكون مؤمنًا؟
فنقول: أما من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله. وهو مقيم على شركه يدعو الموتى. ويستغيث بهم ويسألهم قضاء الحاجات. وتفريج الكربات. فهذا كافر مشرك حلال الدم والمال. وأن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وصلى وصام وزعم أنه مسلم كما تقدم بيانه. وأما أن وحد الله تعالى ولم يشرك به. ولكنه ترك الصلاة ومنع الزكاة. فان كان جاحدا للوجوب فهو كافر إجماعا. وأما أن أقر بالوجوب ولكنه ترك الصلاة تكاسلًا. فهذا قد اختلف العلماء في كفره. والعلماء إذا أجمعوا فإجماعهم حجة. لا يجتمعوا على ضلالة. وإذا تنازعوا في شيء رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول. والواحد منهم ليس بمعصوم على الإطلاق. بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ قال العلماء: الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه. والرد إلى الرسول هو الرد إلى السنة بعد وفاته. وقال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ .
وقد ذم الله تعالى من أعرض عن كتابه ودعا عند التنازع إلى غيره. فقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾ إذا عرف هذا فنقول:
اختلف العلماء ﵏ في تارك الصلاة كسلًا من غير جحود لوجوبها. فذهب الإمام أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه ومالك إلى أنه لا يحكم بكفره. واحتجوا بما رواه عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد من أتى بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة. ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.." وذهب إمامنا أحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه وإسحاق بن راهوية وعبد الله بن المبارك والنخعي وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي وغيرهم من كبار الأئمة والتابعين إلى أنه كافر.
وحكاه إسحاق بن راهوية إجماعًا ذكره عنه الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي في شرح الأربعين. وذكره في كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر) عن جمهور الصحابة ﵃.
وقال الإمام أبو محمد بن حزم: سائر الصحابة ﵃ ومن بعدهم من
1 / 21
التابعين يكفرون تارك الصلاة مطلقًا. ويحكمون عليه بالارتداد. منهم: أبو بكر وعمر وابنه عبد الله وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر بن عبد الله وعبد الرحمن بن عوف وأبو الدراداء وأبو هريرة وغيرهم من الصحابة. ولا نعلم لهؤلاء مخالفًا من الصحابة. وأجابوا عن قوله ﷺ "من لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" إن المراد عدم المحافظة عليهن في أوقاتهن بدليل الآيات والأحاديث الواردة فيها وفي تركها. واحتجوا على كفر تاركها بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" وعن بريدة بن الحصيب قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" رواه الإمام أحمد وأهل السنن، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح إسناده على شرط مسلم. وعن ثوبان مولى رسول الله ﷺ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "بين العبد والكفر والإيمان الصلاة، فإذا تركها فقد كفر وأشرك" وإسناده صحيح على شرط مسلم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ﵁ عن النبي ﷺ أنه ذكر الصلاة يومًا فقال: "من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف" رواه الإمام أحمد وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه، وعن عبادة بن الصامت قال: أوصاني رسول الله ﷺ فقال: "لا تشرك بالله شيئًا، ولا تترك الصلاة عمدًا فمن تركها عمدًا فقد خرج من الملة" رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في سننه. وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله ﷺ " من ترك الصلاة مكتوبة متعمدًا برئت منه ذمة الله" وراه الإمام أحمد. وعن أبي الدرداء قال: أوصاني أبو القاسم يعني رسول الله ﷺ أن لا أترك الصلاة متعمدًا فمن تركها متعمدًا فقد برئت منه الذمة. رواه ابن أبي حاتم. وعن معاذ بن جبل عن النبي ﷺ أنه قال: " رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة" الحديث. وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: كان أصحاب محمد ﷺ لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة رواه الترمذي.
فهذه الأحاديث كما ترى صريحة في كفر تارك الصلاة مع ما تقدم من إجماع الصحابة، كما حكاه إسحاق بن راهوية وابن حزم وعبد الله بن شقيق، وهو مذهب جمهور العلماء من التابعين ومن بعدهم.
ثم اعلم أن العلماء كلهم مجمعون على قتل تارك الصلاة كسلًا إلا أبا حنيفة ومحمد بن شهاب الزهري وداود فإنهم قالوا: يحبس تارك الصلاة المفروضة حتى يموت أو يتوب. ومن احتج لهذا القول بقوله ﷺ: "أمرت أن أقاتل
1 / 22
الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها" فقد أبعد النجعة فإن هذا الحديث لا حجة فيه لمن يقول بقتله كما سيأتي بيانه وبسطه إن شاء الله.
واحتج الجمهور على قتله بالكتاب والسنة.. أما الكتاب فقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ-إلى قوله- فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ فشرط الكف بالتوبة من الشرك وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإذا لم توجد هذه الثلاث لم يكف عن قتلهم، ولم يخل سبيلهم. قال ابن ماجه: حدثنا نصر بن علي حدثنا أبو أحمد حدثنا الربيع بن أنس عن أنس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ "من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة مات والله عنه راض" قال أنس: وهو دين الله الذي جاءت به الرسل، وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل الله ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾ قال خلعوا الأوثان وعبادتها ﴿وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ وقال في آية أخرى ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ .
وأما السنة فثبت في الصحيحين عن ابن عمر ﵄ أن النبي ﷺ قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله" فعلق العصمة على الشهادتين والصلاة والزكاة.
وقد بعث النبي ﷺ كتابًا فيه "من محمد رسول الله إلى أهل عمان. أما بعد فأقروا بشهادة أن لا إله إلا الله والنبي رسول الله وأدوا الزكاة، وخطوا المساجد وإلا غزوتكم" خرجه الطبراني والبزار وغيرهما، ذكره الحافظ ابن رجب الحنبلي في شرح الأربعين.
وروى ابن شهاب عن حنظلة عن علي ابن الأشجع أن أبا بكر الصديق بعث خالد بن الوليد وأمره أن يقاتل الناس على خمس: فمن ترك واحدة تقاتله على الخمس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ﷺ، واقام الصلاة، وايتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام. فقال سعيد بن جبير قال عمر بن الخطاب: لو أن الناس تركوا الحج لقاتلناهم على تركه كما نقاتل على الصلاة والزكاة.
وبالجملة فالكتاب والسنة يدلان على أن القتال ممدود إلى شهادتين والصلاة الزكاة، وقد أجمع العلماء على ذلك. قال في شرح الإقناع: أجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله كالمحاربون وأولى.. انتهى.
1 / 23
وأما حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ: "أمرت الناس أن أقاتل حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها" فهذا لا إشكال فيه بحمد الله، وليس لكم فيه حجة، بل هو حجة عليكم، ولو لم يكن إلا قوله "إلا بحقها" لكان كافيًا في إبطال قولكم.
وقد قال علماؤنا ﵏: إذا قال الكافر لا إله إلا الله فقد شرع في العاصم لدمه، فيجب الكف عنه، فإن تمم ذلك تحققت العصمة، وإلا بطلت، ويكون النبي ﷺ قد قال كل حديث في وقت فقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: "لا إله إلا الله" ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب إذا قالها كف عنه، وصار دمه وماله معصومًا. ثم بين ﷺ في الحديث الآخر أن القتال ممدود إلى الشهادتين والعبادتين فقال "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" فبين أن تمام العصمة وكمالها إنما يحصل بذلك، ولئلا تقع الشبهة بأن مجرد الإقرار يعصم على الدوام كما وقعت لبعض الصحابة حتى جلاها أبو بكر الصديق، ثم وافقوه ﵁.
ومما يبين فساد قولكم وخطأ فهمكم في معنى حديث أبي هريرة أن الصحابة ﵃ أجمعوا على قتال مانعي الزكاة بعد مناظرة وقعت بين أبي بكر وعمر، استدل عمر على أبي بكر بحديث أبي هريرة فبين صديق الأمة ﵁ أن الحديث حجة على قتال من منع الزكاة، فوافقه عمر وسائر الصحابة على قتال مانعي الزكاة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصلون، ونحن نسوق الحديث بتمامه، ثم نذكر ما قاله العلماء في شرحه ليتبين أن فهمكم الفاسد لم يقل به أحد من العلماء، وأنه فهم مشئوم مذموم مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأمة فنقول:
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله ﷺ، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر كيف تقاتل الناس -وقد قال رسول الله ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها" فقال أبو بكر لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، فوالله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعه. قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق.
وهذا الحديث خرجه البخاري في كتاب الزكاة، ومسلم في كتاب الأمان وهو من أعظم الأدلة على فساد قولكم، فإن الصديق ﵁ جعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب.
وقد تكلم النووي ﵀ على هذا الحديث في شرح صحيح مسلم فقال (باب) الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا
1 / 24
الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي ﷺ، وأن من قال ذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سررته إلى الله تعالى.
وقتال من منع الزكاة وغيرها من حقوق الإسلام، واهتمام الإمام بشرائع الإسلام) ثم ساق الحديث، ثم قال: قال الخطابي في شرح هذا الكلام كلامًا حسنًا لا بد من ذكره لما فيه من الفوائد قال ﵀:
(مما يجب تقديمه في هذا أن يعلم أن أهل الردة كانوا صنفين: صنف ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة عادوا إلى الكفر، وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله: وكفر من كفر من العرب ... والصنف الآخر فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام ... وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين الزكاة من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم.
وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف ووقعت الشبهة لعمر ﵁ وناظره واحتج عليه بقول النبي ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم نفسه وماله" فكان لهذا من عمر ﵁ تعلقًا بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخره، ويتأمل شرائطه، فقال له أبو بكر: الزكاة حق المال. يريد أن القضية التي قد تضمنت عصمة دمه وماله. معلقة بإيفاء شرائطها، والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما والآخر معدوم، ثم قايسه بالصلاة ورد الزكاة إليها، وكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعًا من الصحابة ﵃، ولذلك ردوا المختلف فيه إلى المتفق عليه ... فلما استقر عند عمر صحة رأي أبي بكر ﵁ وبان له صوابه تابعه على قتال القوم وهو معنى قوله:
فلما رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر بالقتال عرفت أنه الحق. يريد إنشراح صدره بالحجة التي أدلى بها، والبرهان الذي أقامه نصًا ودلالة) انتهى.
فتأمل هذا الباب الذي ذكره النووي ﵀ وهو إمام الشافعية على الإطلاق تجده صريحًا في رد شبهتكم -أن من قال لا إله إلا الله لا يباح دمه وماله، وإن ترك الصلاة ومنع الزكاة، فالترجمة نفسها صريحة في رد قولكم فإنه صريح بالأمر بالقتال على ترك الصلاة ومنع الزكاة.
وتأمل ما ذكره الخطابي أن الذين منعوا الزكاة منهم من كان يسمح بها ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم كبني يربوع فإنهم أرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم، وإنه عرض
1 / 25
الخلاف ووقعت الشبهة لعمر في أمر هؤلاء، ثم إن عمر وافق أبا بكر على قتالهم.
وتأمل قوله: واحتج عمر بقول النبي ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" وكان هذا من عمر تعلقًا بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخره ويتأمل في شرائطه. وتأمل قوله: إن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعًا من الصحابة.
وقد أشار الخطابي إلى أن حديث أبي هريرة مختصر. قال النووي ﵀ (قال الخطابي ويبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر أن عبد الله بن عمر وأنسًا روياه بزيادة لم يذكرها أبو هريرة ففي حديث ابن عمر عن رسول الله ﷺ قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" وفي رواية أنس: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا حرمت علينا دماءهم وأموالهم إلا بحقها. لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" انتهى.
(قلت) وقد ثبت في الطريق الثالث المذكور في الكتاب والسنة ورواية أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"
وفي استدلال أبي بكر واعتراض عمر ﵄ دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله ﷺ ما رواه ابن عمر وأنس وأبو هريرة، وكان هؤلاء الثلاثة سمعوا هذه الزيادة في روايتهم في مجلس آخر فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف ولما كان احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة لأحتج بها ولما كان احتج بالقياس والعموم، والله أعلم) انتهى كلام النووي.
فتأمل ما ذكره الخطابي تجده صريحًا في رد قولكم وتأمل قوله: فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف، ولما كان احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة حجة عليهم.
وبالجملة فحديث أبي هريرة حجة عليكم لا لكم، ولو لم يكن فيه إلا قوله "بحقها" لكان كافيًا في بطلان شبهتكم، فإن الصلاة والزكاة من أعظم حقوق لا إله إلا الله، بل هما أعظمها على الإطلاق. ومما يدل على بطلان قولكم وفساد فهمكم في معنى الحديث أعني حديث أبي هريرة "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" أن جميع الشراح والمحدثين لم يتأولوه على هذا التأويل الذي ذهبتم إليه فإنه حديث صحيح مخرج في الصحاح، وهؤلاء شراح البخاري ومحشوه نحوا من أربعين كما نبه عليه القسطلاني في خطبة شرح البخاري -وكذا شرح مسلم- هل أحد منهم استدل به على ترك قتال من ترك الفرائض؟ بل الذي ذكروه خلاف ما ذهبتم إليه، ولو لم يكن إلا احتجاج عمر
1 / 26