الرسالة الهادية بالأدلة البادية في تبيين أحكام أهل الردة
تأليف الإمام المنصور بالله أمير المؤمنين
عبد الله بن حمزة بن سليمان بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين.
الحمد لله الذي جعل الحمد إلى مزيد إحسانه سلما، ونصب على كل نوع من أنواعه علما، [استودع معالم دينه الذرية العلماء] وسخر بحار شرعه بعلوم السلالة الحكماء، وجعلهم في الأرض بمنزلة الكواكب في السماء، يستضاء بأنوار علومهم في ظلمات الخطوب الحوادث، ويدفع بسورات حلومهم سطوات النوب الكوارث، وصلى الله على محمد المستخرج من صفو خلاصة زيت الشجرة الإبراهيمية، المصطفى من أغصان سامي فروع الدوحة الإسماعيلية، المفضل على جميع البرية، المؤيد بالبراهين الجلية، وعلى ذريته الطاهرة الزكية، والسلالة المرضية - الذين جعلهم الحكيم سبحانه بين الحق والباطل فرقانا، وأنزل بوجوب مودتهم على جميع العباد قرآنا؛ فقال تبارك وتعالى: ?قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى?[الشورى: 23]؛ فروينا من طرق كثيرة بالأسانيد الصحيحة، منها ما يتصل إلى عبد الله بن العباس رحمه الله وإلى غيره، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل: من قرابتك الذين أمرنا الله بمودتهم؟ قال: ((فاطمة وولداها))، وروينا عن النبي أنه قال: ((مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ر كبها نجا ومن تخلف عنها هلك)) فكما أن أمة نوح كلها هلكت إلا من ركب السفينة -كذلك هذه الأمة- إلا من تمسك بالعترة وإلا بطل التمثيل النبوي، المأخوذ عن الملك العلي، وميز (حديث الكساء) من المقصود بذلك من قرابته، من الرجال والنساء، رويناه بأسانيد كثيرة إلى رجال ونساء من الصحابة عدة، يختلف بعض الألفاظ ويتفق الكل على المعنى أن النبي دعا بعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهما السلام ولفهم تحت الكساء وقال: ((اللهم هؤلاء عترتي أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)).
مخ ۲۲
وروينا بالإسناد الموثوق به إلى أبينا علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: أيها الناس، اعلموا أن العلم الذي أنزله الله على الأنبياء من قبلكم في عترة نبيكم فأين يتاه بكم عن أمر تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة هؤلاء مثلها فيكم، وهم كالكهف لأصحاب الكهف، وهم باب السلم فادخلوا في السلم كافة، وهم باب حطة من دخله غفر له، خذوا عني عن خاتم النبيين حجة من ذي حجة، قالها في حجة الوداع: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) ؛ فقرنهم بالكتاب، وجعلهم حجة مثله على جميع المكلفين، وحكمه يدور في النفي والإثبات على ثلاثة أنواع، وإن كانت فصوله كثيرة شرفه الله تعالى وعظمه: محكم، ومتشابه، ومنسوخ، لأن الناسخ من نوع المحكم؛ فالواجب الرجوع إلى المحكم، واطراح معنى المنسوخ، وكذلك الذرية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أئمة سابقون يجب الرجوع إليهم، وتابعهم منهم، يقول الله تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام: ?فمن تبعني فإنه مني?[إبراهيم:36]، ومجاهرون بالمعاصي بمنزلة المنسوخ من كتاب الله تعالى يجب اطراح معناه، ومتمسكون بأديان أهل الضلالة مع ثبوت انتسابهم إلى الذرية الزكية فهم بمنزلة المتشابه من كتاب الله تعالى لا يتبعه إلا الذين في قلوبهم زيغ [كما قال تعالى: ?فأما الذين في قلوبهم زيغ] فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم?[آل عمران:7] [والراسخون في العلم] هم المستحفظون من ذرية محمد.
مخ ۲۳
[ بدء الكلام على المطرفية ]
ولما نجم ناجم الفرقة الملعونة، المرتدة المفتونة، الضالة الغوية، المسماة بالمطرفية، وجعلت شعارها إنكار دينها لترحض درن الكفر برجس ماء الكذب، وحاكمناهم إلى الله تعالى فحكم لنا عليهم، أنفذنا فيهم أحكام الله تعالى في أمثالهم من الكفرة، ?سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا?[الأحزاب:62] ?ولن تجد لسنة الله تحويلا?[فاطر:43]، من قتل المقاتلة، وسبي الذرية، قال تعالى: ?أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر?[القمر:43] فلما كان ذلك كذلك انتشروا في الآفاق مكذبين، وبخيل محالهم ورجل ضلالهم مجلبين، فساروا بين ذلك مذبذبين، وحكوا حكايات مستحيلة، جرت بها عادتهم على مرور الدهور الطويلة، فإنهم قد ناظرونا مرارا كثيرة على وجوب الكذب لدفع الضرر، وقالوا لنا: ما ترون في رجل يمر به رجل مسلم ثم يتبعه عدوه فيسأله عنه أليس يجب الكذب لإنكاره ليسلم من سطوة عدوه؟ قلنا: بل يتأول ويصدق ويسلم الرجل فيقول: ما رأيته وينوي مذ رأيتكم، ويقسم على ذلك وهو صادق، ولولا ذلك لما قال النبي عليه السلام: ((إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب)).
ولما وضع أهل العلم في ذلك أوضاعا كثيرة سموها (الملاحن) كابن دريد وغيره قال: يقول: والله ما شكوت فلانا. معناه: حملته شكوة ويقول: والله ما رأيته -معناه ما ضربت ريته- والله ما كلمته -معناه ما جرحته لأن المكلم المجروح، والكلم هو الجرح- والله ما رأيت عليا وأنت تريد الفرس، والله ما رأيت جعفرا وأنت تريد النهر، إلى غير ذلك.
مخ ۲۴
فلو اعتمدوا ما ذهبت إليه الفرقة الملعونة لم يفتقروا إلى هذا التطويل. والرواية عن جعفر بن محمد عليهما السلام: أن رجلا طلبه في داره وكان عليه السلام يكره لقاءه فقال لجاريته: انزلي حتى تقفي إزاء الباب، ثم خطي خطا مستديرا ثم ضعي أصبعك فيه ثم قولي: ليس سيدي هاهنا.
مخ ۲۵
[ الإقرار بالسبي ونفي بعض الأكاذيب ]
فأما حكاياتهم للسبي فقد صدقوا في ذلك وحده، ولم نفعله ونأمر به ونحن نريد كتمانه، وكيف نكتم ذلك والله عز من قائل يقول: ?وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه?[آل عمران: 187] ويقول سبحانه: ?إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا?[البقرة:159،160].
فأما حكايتهم أنه وقع الوطء قبل الاستبراء، وأن المرأة الواحدة اتفق على وطئها جماعة، فذلك من كذبهم الذي قدمنا ذكره، وكيف صح لهم العلم بذلك ولم يشاهدوا لخوفهم منا وبعدهم عنا؟.
أتيت كلبا خاف رميي له .... ينبحني من موضع نائي
أو روى ذلك لهم عسكرنا؟ فعندهم أنهم ليسوا بثقات في الرواية، فما مثالهم فيما ارتكبوه من هذه الشناعة إلا مثل الثعالب والظربان إذا لحقتها الجوارح والسباع رامت طردها بالرائحة الخبيثة وقلما يغني ذلك عنها.
مخ ۲۶
أخبرونا من الذي رحض الأرض من أدرانها، وفقأ عين شيطانها، وأذهب الفواسد من هجرة يحيى بن الحسين الهادي إلى الحق عليه السلام وقد جس خلالها، وفتن رجالها، وكذلك من شظب وغيره من المغارب والمشارق، بعد توالي الأعصار، ومرور الدهور. فهل من ركب الأخطار، في نفي هذه الأوزار، يرضى بارتكاب ما حكوه من المنكر، من وطء الجماعة أو الاثنين لامرأة واحدة؟ يأبى الله ذلك، وحواجز الإسلام وموانع [حدود] الإيمان. وموالد طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية؛ فأما السبي فقد حمدنا الله تعالى عليه حيث تجددت الأحكام النبوية، والأدلة الظاهرة الجلية، الإمامية العلوية، فلا جواب في كذبهم إلا علم الصالحين باستحالة قولهم؛ لأن الأمر في ذلك كما قال الشاعر:
لي حيلة فيمن ينم .... وليس في الكذاب حيله
من كان يخلق ما يشاء .... فحيلتي فيه قليله
مخ ۲۷
[ بيان أسباب السبي ]
وأما أمر الكلام في باب السبي فقد عول علينا جماعة من الإخوان المتقدم سبقهم، الواجب حقهم، أن نشرح في ذلك شرحا كافيا، ونبين بيانا شافيا، ليكون مدحرة لشيطان المتمردين، وبرهانا لرغبة المسترشدين، وبالله نستعين، وعليه نتوكل. فأجبناهم إلى ما سألوا تعرضا لأجر الهداية، وقياما بفرض الرعاية ?أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون?[يونس:35].
مخ ۲۸
[ الردة ]
اعلم أيدك الله وهداك وحاطك وتولاك: أن الردة لا تكون إلا بعد الإسلام؛ لأن الكافر الأصلي لا يكون مرتدا، فإذا قد تقرر هذا الأصل فاعلم أن أول ردة كانت في الإسلام ردة مسيلمة بن حبيب بن قيس بن حبيب، وردة ذي الخمار المكنى عبهلة، والملقب الأسود، والمسمى كعب العنسي الخارج من حرف خبان، المستشري أمره في اليمن استشراء النار في الحطب، حتى ملك من قعر عدن إلى حلي، ومن خبان إلى نجران، وكان كل واحد منهما يدعي النبوة .
فأما مسيلمة فادعى الشركة في الأمر مع النبي، وهو معترف بصحة ما جاء به محمد من عند ربه. هذه حاله في أول أمره، ثم تبعتها [بعد ذلك] الردة فطبقت عامة جزيرة العرب، فقام طليحة في نجد في الحليفتين: أسد وغطفان وطي، وقامت هوازن على قادتها، وتميم في نتاجها؛ وأكثر جهاتها، وارتدت ربيعة ومن حالفها من قيس، ومن انظم إلى الغرور والحطم من تلك القبائل، وارتدت عمان مع لقيط بن مالك الأزدي الذي كان يقال له: ذو التاج، وكذلك مهرة وكندة بحضرموت، وسليم على قرب دارها.
مخ ۲۹
[ فرق المرتدين ]
واختلف أهل هذه الردة على أقوال شتى، وفروع وتشتت آراء، ومعظم قولهم في الجملة على ثلاثة أقوال ما شذ عنها في اللفظ رجع إليها في المعنى:
فرقة أنكروا الإسلام جميعا، وصوبوا ما كانت عليه الجاهلية وهم الأقل.
وفرقة أقروا بالإسلام جملة ولم ينقصوا حرفا واحدا إلا الزكاة فقالوا: كانت تجب تأديتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد موته يفرقها أربابها في مستحقيها؛ فخالفوا ما علم من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة، أن ما كان له من الأمر في الأمة كان للإمام القائم بالحق من بعده.
وفرقة قالوا: نقر بالإسلام، ولكن لا نقيم الصلاة، ولا نؤتي الزكاة ويكفينا الإقرار بالإسلام.
فهاتان الفرقتان مقرتان بالإسلام، شامختان بالتوحيد، يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله؛ وإنما منعوا الصدقة من القائم بعد رسول الله حتى أن جل الصحابة رضي الله عنهم قالوا لأبي بكر: لو تركتهم والصدقة حتى يتقوى أمرنا، ويرجع إلينا بعض ما نريد من قوتنا لكان أولى. فقال: والله لو منعوني عناقا مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [لقاتلتهم عليه]. ولا خلاف نعلمه بين أحد [من المسليمن] العلماء أن أبا بكر ما قاتل إلا المرتدة، فجعلوا منع الصدقة ردة، وناهدهم الحرب فهزموا المسلمين في أول يوم فقال شاعرهم - قيل: إنه الحطيئة:
فدى لبني ذبيان رحلي وناقتي .... عشية يحدي بالرماح أبو بكر
عشية طارت بالرجال ركابها .... ولله جند ما تطير ولا تجري
ولكن تدهدى بالرجال فهبنه .... إلى قدر ما أن يزيد ولا يجري
أطعنا رسول الله ما كان وسطنا .... فيا لعباد الله ما لأبي بكر
أيورثها بكرا إذا كان بعده .... وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فهلا رددتم وفدنا بزمانه .... وهلا خشيتم حس راعية البكر
مخ ۳۰
وإن الذي سألوكم ومنعتم .... لكالتمر أو أحلى لدي من التمر ولما قهرهم المسلمون بذي القصة وذي حسا وقتلوهم وأعلى الله الإسلام قال شاعر المسلمين يجيبهم -وهو زياد بن حنظلة التميمي:
أقمنا لهم عرض الشمال فكبكبوا .... ككبكبة الغزى أناخوا على الوفر
فما صبروا للحرب عند قيامها .... صبيحة يسمو بالرجال أبو بكر
طرقنا بني عبس بأدنى نباجها .... وذبيان نهنها بقاصمة الظهر
ولما غلب المسلمون عبس وذبيان على بلادها وقال أبو بكر : حرام على بني ذبيان أن يتملكوا على هذه البلاد إذ غنمناها الله تعالى.
ولما دخلوا في الباب الذي خرجوا منه طلبوا سكنى بلادهم فقال أبو بكر: ليست لكم ببلاد وقد أفاءها الله علينا وأحماها وأرعاها؛ وهذا فيما لا يجهله أهل العلم، وما كان من القوم أكثر من منع الصدقة، فكيف بمن يمنع الصدقة وأضاف إلى ذلك أنواعا من الكفر جمة، نفى فعل الله عن الله وأضافه إلى الإحالة وتأثيرات الطبائع، وأضاف أفعال العباد إلى الله بقوله: فعل العبد لا يعدوه، ولا يوجد في غيره، ومنعوا على ذلك الصدقة، ولما كتب أبو بكر إلى أهل الردة كتابا طويلا نذكر منه ما تمس إليه الحاجة.
مخ ۳۱
[ كتاب أبي بكر إلى أهل الردة ]
بسم الله الرحمن الرحيم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة أو خاصة. سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له. أما بعد.. فإن الله أرسل محمدا من عنده إلى خلقه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب بأذنه من أدبر عنه حتى صاروا إلى الإسلام طوعا وكرها، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنفذ أمر الله، ونصح لأمته، وقضى الذي عليه، وقد قال تعالى: ?إنك ميت وإنهم ميتون?[الزمر:30]، وقال: ?وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون?[الأنبياء:34]، وقال تعالى: ?وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين?[آل عمران:144] فمن كان يعبد محمدا؛ فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي قيوم لا يموت، لا تأخذه سنة ولا نوم -والكتاب طويل وإنما نذكر منه موضع الزبدة مما تمس إلى ذكره الحاجة- قال في آخره: وإني قد بعثت إليكم جيشا من المهاجرين والأنصار، والمتابعين بإحسان، وأمرتهم أن لا يقاتلوا أحدا حتى يدعوه، فمن رجع إلى الحق قبل منه، ومن أبى قاتلوه، ثم لا يبقون عليه بقية، ولا يتركون أحدا ممن يقدرون عليه، بل يحرقونهم بالنار ويقتلونهم كل قتلة، وتسبى النساء والذراري، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام فمن اتبعه فهو خير له، ومن ترك فلن يعجز الله.
مخ ۳۲
[ أحكام أهل الردة ]
فهذا كما ترى الحكم في أهل الردة بإجماع من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أنكره منكر، ولا غيره مغير، ولو جرى في ذلك نزاع لنقل كما نقل غيره من الأحداث، والحديث والإجماع أكد الدلالة، ولم يقع خلاف [كما] كان في الصدر الأول وما يليه من صدور الإسلام ولا إلى يومنا هذا في كفر الثلاث الطرق التي قدمنا ذكرها في أهل الردة، ولا وقع خلاف أن المرتدين كانوا يرتدون بأحد الثلاثة الأحوال، ولا خلاف أن المرتد متى كانت له شوكة كان حكمه حكم الكافر الأصلي، وأن دارهم تكون دار حرب، فما كانت أحكام دار الحرب كانت أحكامها وكذلك لا خلاف أن خولة بنت يزيد بن جعفر بن قيس بن مسيلمة بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدول بن حليفة بن نجيم أم محمد بن الحنفية عليه السلام كانت من سبي بني حنيفة بن نجيم، وقعت سهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فاستولدها محمداعليه السلام.
وقد ذكر ذلك الشعراء وهو لا يفتقر إلى بيان، ولكننا لا نجد بدا من مزيد بيان لضلال كثير من الأمة وسعة جهلهم في هذه المدة. قال فيه الشاعر:
أمه من حنيفة بن لجيم .... من بني الدؤل في المصاص الصميم
ومثله قول الآخر:
ألا قل للإمام فدتك نفسي .... أطلت بذلك الجبل المقاما
أضر بمعشر والوك طرا .... وقوفك عنهم تسعين عاما
وعادوا فيك أهل الأرض جمعا.... وسموك الخليفة والإماما
مخ ۳۳
وما ذاق ابن خولة طعم موت .... ولا وارت له أرض عظاما وكانت الكيسانية تزعم أنه حي مرزوق، وأنه المهدي الذي بشر الله به ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وظلما، ولهم في ذلك كلام كثير وليس هذا مما نحن فيه في شيء -أعني ذكر الحياة ومن يقول بذلك فيستقصى ذكره ونذكر ما جاء فيه -لأن قصدنا في هذه الرسالة ليس إلا بيان ذكر أهل الردة وأحكامهم، وأن المطرفية الملعونة ومن شايعها من أهل (المصانع) الجهلة حكمهم حكمهم بلا خلاف في ذلك، وإن ردتهم بوجوه كثيرة أقوال أهل الفرق الثلاث من أهل الردة داخلة في بعض أقوال هؤلاء، ولا بدنا من ذكر من سبي جملة، وما كان قول تلك الفرقة المسبية ليعلم المستبصر أن القوم في عصرنا زادوا على أهل الردة أضعافا مضاعفة، وبلغوا النهاية العظمى في الكفر، فأي حرمة بقيت لهم ولا معول على صلاتهم ولا شهادتهم كما قدمنا ذكره من أن بعض أهل الردة بقي معتصما بالصلاة وهي فرع على الشهادة. والكفر أجناس ومقالات واعتقادات وأفعال إن حصل واحد منها كفى في كون مرتكبه كافرا، وإن اجتمعت فأجدر أن يكون كافرا، بل ذلك الكفر المضاعف، ولسنا نتمكن من استقصاء ذكره، وإنما نذكر ما تيسر من ذلك مما يكون دليلا على غيره.
مخ ۳۴
[ موجب تكفير المطرفية ]
فمن الكفر: اعتقاد اليهودية، والنصرانية، والمجوسية والثنوية، واعتقاد الوثنية في أن الأصنام تضر وتنفع من دون الله تعالى، ولا خلاف بين المسلمين في كفر من ذكرنا.
وكذلك لا يتحقق الخلاف في كفر من طابقهم من هذه الأمة وصوب أفعالهم، وإن صاموا وصلوا وزعموا أنهم مسلمون، بل قد وقع التكفير بدون ذلك وهو ما رواه الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان بن الهادي إلى الحق سلام الله عليه رفعه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله : ((من أبغضنا أهل البيت بعثه الله يوم القيامة يهوديا. قال جابر: قلت: يا رسول الله وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟ قال: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)) ولا يبعث يهوديا إلا من حكمه حكم اليهود، ولا يكون حكمه حكم اليهود إلا وهو كافر؛ وإنما قلنا: إن حكم المطرفية حكم اليهود لأنا وجدنا فيهم صفة اليهود وزيادة في الكفر، وذلك أن اليهود أقرت بالله تعالى ورسله وكتبه، والبعث والنشور، والجنة والنار، واعترفت بأفعال الله تعالى أنها فعله، وأنها حكمة وصواب، محبوبها ومكروهها، وأنكرت نبوة عيسى عليه السلام وكتابه، وأنكرت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكتابه، وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء -يريدون عيسى ومحمدا عليهما السلام- فقرر الله سبحانه عليهم الاحتجاج بقوله تعالى: ?قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس?[الأنعام:91]، واعترفوا بنبوة مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي إلا نبيين، وبإنزال مائة كتاب وكتابين، وأنكروا كتابين. فكفروا بذلك على لسان عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وعلى الطيبين من ذرية محمد وسلامه.
مخ ۳۵
[ إنكار النبوة ]
وهذه المطرفية المرتدة أنكرت نبوة المائة الألف نبي والأربعة والعشرين ألف نبي، وأنكروا جميع الكتب المنزلة، وناظرونا مرارا، وحاورونا أسفارا، ولم يختلفوا في شيء من ذلك: أن النبوة فعل النبي، وأن الله تعالى ما خص أنبياءه بالنبوة ولا فضلهم بالرسالة، بل هم المختارون لذلك والعاملون له؛ وأن النبوة فعلهم. وقالوا لنا: نبا ينبو نبوا فهو نابي.
قالوا: ودلالة الفعل التصرف. قلنا: يا عدو الله، ما به من فعل الله شيء إلا ويمكن تصريفه يقول: نبت ينبت نباتا فهو نابت، ومات يموت موتا فهو ميت، وحيا يحيا حياة فهو حي، إلى غير ذلك مما يطول شرحه، وقالوا: إن من أراد كان نبيا ولا يمنعه إلا تقصيره وعجزه.
مخ ۳۶
[ إنكار القرآن ]
وأما الكتب فقالوا: لايصح نزول العرض، والقرآن وسائر كلام الله تعالى عرض، وإنما القرآن صفة ضرورية لقلب الملك الأعلى لا يفارقه ويسمونه ميخائيل، وهذا الموجود بين أظهرنا ليس بقرآن وإنما هو حكاية القرآن، وهم لا يسمعون القرآن. قالوا: وإنما يسمعون القارئ، ولهم جهالات جمة، وأقوال متناقضة.
فإذا كانت اليهود كفارا بما ذكرنا كان المطرفي زائدا على صفة اليهودية مائة ألف ضعف وأربعة وعشرين ألف ضعف الآخرين، لإنكار نبوة عيسى ومحمد وكتابيهما، والنصارى آمنت بجميع الكتب المنزلة والأنبياء المرسلة سوى محمد وقالت: إن الله تعالى ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب -يعنون ذات الباري- وأقنوم الابن -يعنون الحياة- وأقنوم روح القدس -يعنون به القدرة- فقالوا بذات وصفتين: هما الذات والذات هما. قالوا: فهو واحد على الحقيقة وثلاثة على الحقيقة. فحكى الله عنهم التثليث بذلك بقوله: ?لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة...الآية?[المائدة:73]، وبقوله : ?ولا تقولوا ثلاثة?[النساء:171] والمطرفية قالوا: إن للباري أربعين اسما هي الله والله هي، وناظروا على هذا مرارا، ولا مخالفة بينهم في ذلك فيما علمناه، وقد حكاه الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام في شعره، فقال:
وفرقة من شرار شيعتنا .... ملوا مقامي واستبعدوا أمدي
من أجل أني أنكرت قولهم .... في مثل أسماء الواحد الصمد
أسماؤه يزعمونها هي هو .... قديمة كالقديم في الأبد
وهل يكون للأشياء ويلهم .... حسا يكافئ في المعنى وفي العدد
فشابهوا قول من يقول بأقن .... وم خلاف التوحيد متحد
مخ ۳۷
[ الضرر والمرض من الشيطان ]
فذكر مشابهة قولهم للنصارى، ثم قال عليه السلام في كتاب (العمدة، في الرد على المطرفية المرتدة ومن وافقوا من أهل الردة) هذه ترجمة الكتاب، فقال عليه السلام فيه: إن المطرفي ثلاثة عشر نصرانيا وثلث نصراني؛ لأنك إذا قسمت أربعين [اسما] على ثلاثة ثلاثة كانت هذه الجملة، فقد زادوا على النصارى فيما به كفرت النصارى.
وأما المجوس فإنما كفروا حيث أضافوا النفع والضر إلى الله تعالى [وأشركوا معه الشيطان فقالوا: النفع من الباري تعالى] وهو عندهم (يزدان)، والضر من (أهرمن) -وهو عندهم الشيطان- وكذلك قالت المطرفيه: إن الضرر والمرض من الشيطان -ويحتجون بقول أيوب ?أني مسني الشيطان بنصب وعذاب?[ص:41].
قلنا: إنما أصابه الشيطان بالوسوسة؛ فأنكروا ذلك وزادوا على المجوس بأن نفوا المحبوب عن الله وقالوا: هو بإحالات الأجسام. والثنوية أضافوا النفع والضرر إلى النور والظلمة، وهما مما ليس بحي ولا قادر؛ فلا يصح أن يضاف إليهما الضر والنفع، والمطرفية أضافت الضرر والنفع إلى جميع الجمادات كلها فزادت على المجوس أضعافا مضاعفة وعلى الثنوية .
وأما الوثنية: فاعتقدوا في الأصنام أنها تضر وتنفع من دون الله، وكان في كل قبيلة صنم كما كان يعوق في همدان، ويغوث في مذحج، وهبل في قريش، وذو الخلصة في خثعم، وذو الكفين في دوس، واللات والعزى في ثقيف وهذيل، إلى غير ذلك مما يطول.
مخ ۳۸
[ الجمادات تضر وتنفع من دون الله وتأثير الطبائع ]
وهذه المطرفية تعتقد في الجمادات كلها وهي أعداد لا تنحصر أنها تضر وتنفع من دون الله فزادت على اعتقاد الوثنية أضعافا كثيرة لا تنحصر، فهم أكفر الكفرة، وأفجر الفجرة، وشر أهل الفترة المرهقة القترة، ولقد نفوا عن الله بشهادتنا عليهم وشهادة من تقدمنا من آبائنا الطاهرين، جميع أفعاله من خلق ورزق، وموت، وحياة، وزيادة، ونقصان، وأضافوا ذلك إلى إحالة الأجسام، وتأثيرات الطبائع، ونفوا ذلك عن الحكيم الصانع، وقد ذكر جدنا القاسم بن إبراهيم عليه السلام في كتاب (القتل والقتال وما يحل به سفك الدماء والمال) وهو كثير، وإنما نذكر منه نكتة. قال عليه السلام بعد كلام طويل: (يحل القتل والسبا وأخذ المال بأن ينكر من حكم الله تعالى حكمة، أو يضيف من أفعال عباد الله إلى الله، أو ينفي شيئا من أفعال الله عن الله) وكل هذه الوجوه قد فعلته الفرقة الغوية، المرتدة الشقية، المسماة بالمطرفية؛ لأنهم نفوا عن الله تعالى أفعاله، وأضافوا أفعال العباد إلى الله؛ لأن مذهبهم أن فعل العبد لا يعدوه، ولا يوجد في غيره؛ فقد نفوا أفعال الله عن الله، وأنكروا حكما لا ينحصر، وأضافوا إلى الله تعالى من أفعال العباد والقبائح ما لا ينحصر عدده في رسالتنا هذه، وقد أباح القاسم عليه السلام القتل والسبا، وأخذ المال بإنكار حكمة واحدة، أو إضافة فعل واحد من فعل الغير إلى الله. فاعلم ذلك وتأمله موفقا إن شاء الله تعالى.
مخ ۳۹
[ نفي أن يكون لله نعمة ومنة ]
ومن ذلك أنهم نفوا أن يكون لله تعالى نعمة ومنة على أحد من عباده لا مؤمن ولا كافر؛ لأنهم قالوا: المؤمن أخذ ما أخذ من الرزق جزاء على عمله، والكافر والفاسق مغتصبان لما في أيديهما، وهذا مخالف لنصوص القرآن؛ لأن القرآن جله امتنان على العباد، كسورة الرحمن وغيرها ?فبأي آلاء ربكما تكذبان? إلى آخر السورة . والآلاء هي النعم، وقد ذكرنا إنهم ردوا من صريح كتاب الله تعالى، والآي المحكم الظاهر أربعمائة آية وسبعا وثلاثين آية لا تحتمل آية منها التأويل، لو أنهم ردوا آية واحدة، أو ظاهرا واحدا لكفروا بإجماع الأمة؛ فكيف بمجموعها، وقد ذكرنا الآي وعيناها في كتاب غير هذا.
مخ ۴۰
ونذكر هاهنا ما تحتمله هذه الرسالة على وجه التنبيه على سائر الآيات؛ فمن ذلك مما يتعلق بالخلق وأنه سبحانه المتولي [له] مع كماله وزيادته ونقصانه، وذكورة [وأنوثة] قوله تعالى: ?يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما?[الشورى:49، 50]، وقال سبحانه: ?شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن?[البقرة:185]، وقال تعالى: ?لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم?[الأنبياء:10] إلى غير ذلك مما ذم به من أنكر نزول القرآن، كقوله تعالى: ?وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير * إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور * تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير * وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير?[الملك:6-11]، وقال عز من قائل: ?واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون?[يس:13-15]، وقال تعالى: ?وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون * وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون?[الأنعام:91-92]، وقال تعالى في إعجاز القرآن: ?قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا?[الإسراء:88]، وقال سبحانه: ?أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون * فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين?[الطور:33،34]، وقال عز وجل: ?أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون?[هود:13-14]، وقال جل ثناؤه: ?وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين?[البقرة:23-24]، وقال تعالى: ?أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين، بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين?[يونس:38-39].
وأما أنه كلامه تعالى وأنه مسموع فقد قال سبحانه: ?وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون?[التوبة:6]، وقال جل وعلا: ?أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون?[البقرة:75].
وأما أنه محدث، فقد قال عز من قائل: ?وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين?[الشعراء:5]، وقال سبحانه: ?ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون?[الأنبياء:2].
وأما أنه باق فقد قال جل وعلا: ?أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها?[محمد:24]، وقال سبحانه: ?أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا?[النساء:82] وجميع ذلك يدل على بقائه.
مخ ۴۳