لا الإنسانية - أيها الرفاق - ولا القوة نفسها تستغني عن الحق، فأي قوة أعظم وأرهب من القوى التي أعدتها أمم أوروبا في هذه الأيام ليظفر بعضها ببعض؟ ملأت الأمم البرور والبحار والأجواء نارا وحديدا، واستنفدت رجالها وأموالها، وتركت مضاجعها وأعمالها، والتفتت إلى إعداد القوة، فجمعت في حرب واحدة ما لعله لم يجتمع في حروب العالم أجمع، ومع ذلك لم تكف أمة منها عن درء وصمة الظلم عنها، والجهر بأنها مسوقة إلى الحرب على الكره منها، وأنها لم تأت إلا حقا، ولم تعمل إلا أمرا واجبا! فإن كان الحق وهما كما يقول الثعلب وأشياعه، فما حاجة الأمم إلى الاستعانة بالأوهام؟ أليس هذا برهانا على أن القوة لا تستغني عن مؤازرة الحق ولو بلغت غايتها، وأفرغت وسعها في استتمام وسائلها؟
نعم معشر الأحياء، إن الإنسانية كلها تنصر المحق على المبطل، والإنسانية كلها تميل إلى المظلوم وتكره المعتدي، ولسنا ننكر أن الإعجاب بالقوة كثيرا ما يطغى في صدور الناس على حب الحق، ولكننا نقول إنهم إنما يعجبون بالقوة ريثما تأخذ حقها من العظمة؛ ثم يكرهونها ليعجبوا بقوة أخرى أحق بالعظمة منها. هم ينصرون القوة الحقة على القوة الكاذبة، ويكرهون أن تنخذل القوة ظلما وهي خليقة بالانتصار، فلا ضير على الحق في الإعجاب بالقوة؛ لأن الحق لا يكون في جانب قوة واحدة أبد الزمان، ولا تنسوا يا قوم أن الإنسان قد يعجب بالقوة وهو يحبها، وقد يعجب بها وهو يبغضها، فهو يحبها إذا اعتقد أن الحق معها، ويبغضها إذا اعتقد أنها على غير حق، فأي ضير على الحق في ذلك؟ أليست القوة حقيقة بالإعجاب؟ إنه يعجب بها! أليس الجور حقيقا بالبغض؟ إنه يبغضه! فلا تسرعوا إلى اتهام الفطرة الإنسانية في ميولها، فإنها متى اتفقت على ميل ما لم تحد فيه عن الصواب.
ولا أخفي عنكم أيها الأحياء أن الحق لفظة شائعة ليس لها مفاد معين محدد، فلقد نعلم ما هو الحق في هذه المسائل الصغيرة التي يتناوبها الناس في معايشهم آنا لهذا وآنا لذاك، فأينما عرفت هذه الحقوق فيجب وجوبا لا مثنوية فيه أن تنزه عن اللي والبخس، وتوضع بمعزل عن المحاباة والهوادة، فإنه ليس أقتل للهمم ولا أفسد للأخلاق ولا أكسد للمساعي والأعمال من شعور قوم بضياع الحق بينهم.
بيد أننا قد نجهل وجوه الحق المطلق المشرف على الوجود بأجمعه؛ لأن هذا الوجود لا يكاد يبين لنا حكمته فيما كان، فكيف بما سيكون؟ وكأي من نهضة كبرى شغلت التواريخ، وصعدت بأناس إلى أفخم مقاوم السؤدد، إذا كشفناها تكشفت عن عميم من المساوئ والأوضار، وألفيناها منطوية على كثير من الكذب والجهل والاقتسار، فإذا نحن قسناها بما نتحاكم إليه من مبادئ الحق اليومية، لاحت لنا كأنها عمل باطل من البدء إلى النهاية. وما خلت قط نهضة دينية أو اجتماعية من هذه الأشياء، فكيف تكون نهضات الإنسانية كلها باطلة مزيفة؟ وعلام المعول إذن في الاهتداء إلى هذا الحق أيها الرفاق؟
ثم إننا نجهل الغاية من تنازع الأمم، ومتى جهلنا الغاية فكيف نحكم على الواسطة؟
نقول أيها الأحياء: إن الوجود الذي أخفى عنا كنه أعماله لم يحرمنا من بصيص نلمح بنوره حكمته الخالدة، ونحن نعلم علم اليقين أن العقيدة هي قائدة الأمم إلى بلوغ أغراضها، فما من نهضة قط قامت على غير عقيدة ثابتة فأفلحت، وحسبنا من هذا دليلا على أن العقيدة هي الإبرة التي تتجه بنا إلى قطب الوجود ، هي الهادي إلى نياته ومقاصده، فلا معول في الاهتداء إلى الحق الأعلى الشامل الخالد إلا على العقيدة، فهي رائده وعليها سمة من سماته الأبدية، ذنوبها مغتفرة عند أياديها، ونقائصها منسية في جنب كمالاتها، على أنها لا تذنب إلا متى تزعزعت، ولا تنقص إلا إذا تشككت، أما وهي قوية مكينة، فلن تراها إلا وفي جوفها نار تصهر أوشاب الطبائع فتطهرها، كما تصهر نار البركان أوشاب الأرض فتفجرها سيلا أحمر يتأجج نارا، ويتدفق تيارا، ويطير في الفضاء إعصارا، فلا تعرف أماء هو أم لهب، وحديد هو أم ذهب؛ لكنه على أي صورة قوة جارفة صادعة، وحركة من صميم الأرض ثائرة، وإلى عنان السماء نازعة، كذلك العقائد تصهر الطبائع المختلفة، وتحيلها إلى طبيعة مدمجة حارة، لا فرق بين عقيدة في مذهب أو رجل أو وطن أو دين أو أمل كبير.
ولا عجب - والعقيدة علامة نية الوجود - أن لا يكون أثرها مقصورا على قوم دون قوم، فلعل الشعب الذي تظهر فيه لا يكون أوفر الشعوب قسطا من نفعها. وهذه ألمانيا عدوة فرنسا اللدود قد انتفعت بالثورة الفرنسية أكثر مما انتفع بها الفرنسيون، فضمت شملها وألفت وحدتها، ولولا الثورة الفرنسية لما أحست ألمانيا بحاجة إلى الانضمام، ولما صارت شيئا مذكورا في قليل من الأعوام، فالعقائد تتجمع حينا بعد حين إلى أن تهب هبوب الصرصر العاتية، فتحرك الحياة الإنسانية الراكدة، وتستفز العناصر العاملة في الشعوب والأقوام من كل فج عميق، وهي عناصر طبيعية، كالرياح التي لا تقف في مهابها، والسحاب الذي لا يهطل في مناشئه، والأنهار التي لا تجمد في منابعها، ولكنها تجري حيث يجريها القدر المجهول، من وراء حجابه المسدول، وكأنه ليس على العقائد إلا أن تتحرك فتأتي من العجائب بما لم يخالج أنصارها المتشيعين لها، ولم يدر في حسبان أعدائها الحانقين عليها، فالانقلاب الفرنسي لم ينشر في ألمانيا الحرية والإخاء والمساواة، وهي المبادئ التي كان زعماء الانقلاب يرمون إليها ويعنون بنشرها، ولكنه نفعها من هذه الطريق التي ما نظر إليها الفرنسيون ولا حلم بها الألمان، وكان له في كل أمة يد خلاف يده في سواها.
إن الفكر يقودنا إلى حيث نعرف، أما العقيدة فتقودنا إلى حيث تعرف الطبيعة، وهي أهدى منا وأبصر بغايتنا؛ كفلتنا ردحا من الدهر أيام كنا في غيابات الجهالة لا مرشد لنا إلا ما تأمرنا به أو تنهانا عنه، ولا تزال تكلؤنا وترعانا كلما أضلنا الفكر بنوره الضعيف، وما أضل الذين يرون أن الفكر وحده يحكم الدنيا ... لا أيها المفكرون! الفكر لا يحكم الدنيا ولا الإنسان، نحن بالفكر قد نفهم الحياة ولكننا إنما نحيا بالخوالج والعقائد، وإنما يحيا الذين خلقوا للحياة، أما الذين خلقوا للفكر فقد يكون حظهم من فهم الحياة كبيرا، ولكن حظهم من الحياة غير كبير، فما أخسر أمة عندها الفكر وليس عندها العقيدة! ... ما أظن فكرها هذا إلا موديا بالرمق الباقي فيها من الحياة.
وأي شيء بعيشكم أظهر ليد العقيدة في العالم، وأبين عن كنهها المعجز العجيب، وأنها لا وازع يساويها ولا باعث يفعل فعلها؛ من هذا الإجلال المقدس الذي يخص به الناس رسل الأديان وأصحاب الملل دون عامة العظماء والمشاهير؟ كم خلا في أرضنا هذه من فلاسفة مصلحين، وحكماء مرشدين، وعلماء محققين، وشعراء مفلقين، وسواس محنكين، وقواد مدربين، وصناع مخترعين؟ كم خلا من أمثال هؤلاء في الأرض ثم نسيهم الناس وأذالوهم وبقي ذكر هؤلاء النفر المعدودين أسير من كل ذكر يرام، ومقامهم عاليا فوق كل مقام، متفردا فوق رءوس الألوف من الأقوام، الذين ما زالت تقذف بهم الأرحام، وتتلقفهم الرجام، من قديم الأزل إلى هذه الأيام؟ إن خلد أولئك أحقابا خلد هؤلاء أدهارا وآبادا، وإن ذكر أولئك بين الدارسين والقراء ذكر هؤلاء في الجهر والخفاء، وظهروا في كل أرض وسماء، كأنهم كواكب السماء، لا ذرية آدم وحواء، وإن قرنت أسماء أولئك بالثناء والتكريم، قرنت أسماء هؤلاء بخالق الكون القديم، كأنهم جزء من ذلك الوجود السرمدي، وكأنهم شهدوا معه خلق العالمين العلوي والسفلي، فهل نقول: إن الفطرة الإنسانية بنيت على الزيغ، وأشرجت على الزلل، أو نقول: خدعة صادفت غفلة كما يقول الثراثرة المتفيهقون ... يسر الله لهم الأمور ما أيسر عللهم وأريح بال الباحثين معهم! أما نحن فنقول: إن هؤلاء النفر الأعلام يتبوءون بين البشر هذا المحل الأوحد الذي لا يدانيه الملك والفتح والحكمة؛ لأنهم جاءوا إلى البشر بما لم يجئهم بمثله الفاتحون والحكماء، ولأن البشر أحوج إلى العقيدة منهم إلى ثمار الأستاذين والرؤساء، وأنهم إن كان لهم تاريخ في صحيفة الحياة، فذلك تاريخ العقائد والأنبياء لا تاريخ الأقوال والآراء، أو الوقائع والأنباء، أو البخار والكهرباء.
فالمرء يصغر كل عظمة في جانب عظمة النبوة؛ لأنه مدين للأنبياء بيقينه وإيمانه، وما هو مدين لغيرهم من المشاهير إلا بعروضه وأمواله، ولن يستوي الإيمان والعروض والأموال؛ لأن المرء إذا أخلص في الإيمان يفدي العقيدة بالمال ولن يفدي المال بالعقيدة، وهو يصنع لحماية عقيدته ما ليس يصنع بعضه لحماية نفسه وولده؛ انظروا إلى العرب فإنهم فتحوا مصر مرتين: مرة على يد الرعاة، ومرة على يد المسلمين، لبثوا في المرة الأولى ما لبثوا ثم أخرجوا منها فلم يتركوا بعدهم أثرا، واستولوا عليها في المرة الثانية فأصبح دينهم دينها، ولغتهم لغتها، وفخرهم فخرها، وأصبح تاريخهم لا ينفصل عن تاريخها؛ لأنهم كانوا في المرة الأولى رواد كسب، وكانوا في المرة الثانية خدام عقيدة، فخابوا لما عملوا لمكاسبهم وأفلحوا لما عملوا لعقائدهم. وكذلك فتح العرب الدنيا يوم كانوا يذبون عن الدين، وعجزوا عن منع ذمارهم يوم صاروا يذبون عن التراث والبنين.
ناپیژندل شوی مخ