فلقد مضى زمان كانت فيه القوة كلها من الضرب الأول؛ قوة خراب طائشة همجية. كان ذلك وركب العالم في أول مراحله، فلما تقدم الركب اصطبغت القوة بصبغة أخرى أبقى لها وللعالم من صبغتها الأولى، واستقامت الفطر على هذه الوجهة دهورا وأجيالا بأمر الطبيعة أم القوتين الطائشة والسديدة، لا بأمر عامل فضولي من خارجها؛ لأن هذا العامل الفضولي غير موجود. بيد أنه كما ينثلم المجرى أو يعوقه عائق، فيندفع الينبوغ المروي سيلا جارفا، وكما ينشعب المرجل فينطلق البخار المحرك دخانا عاصفا، كذلك تفسد الطبائع، فتنقلب قوة العظيم بلاء على قومه ووبالا لبني جنسه، فيقال لها حينئذ: قوة مدبرة من المدنية إلى الهمجية، وتعد نكسة في الخلق، وأعجوبة نصفها بشري ونصفها حيواني وحشي، وهذه هي قوة الغشمة الطامعين الذين لا يبالون شيئا في جانب قضاء أوطارهم وإظهار أنانيتهم.
وإن شئتم برهانا على أن العمل بالقوة فحسب هو خلل في الطبع، ورجوع إلى حال خلفها الإنسان وراءه ليتبدل حالا خيرا منها، فانظروا أي الناس يظهر فيهم حب التدمير، ويغلب عليهم العمل بالقوة منفردة عن الضمير. أليسوا هم الطفل والهمجي والمجنون؟ فانظروا في أي مرحلة من مراحل الخلق هؤلاء الثلاثة؛ أما الطفل فهو في أول عهده بالحياة الفطرية، وأما الهمجي فهو في أول عهده بالحياة الاجتماعية، وأما المجنون فهو مدني سلبت منه المدنية فارتد إلى الهمجية أو الوحشية؛ إذ ليس الجنون إلا نوعا من المسخ والرجعة، وآية ذلك دور المجانين، ترون فيها من يمشي على أربع تقليدا للدواب، ومن سلبت منه قوة النطق فأصبح يعوي عواء الذئاب، ويحاول الكلام كمن لم يعرف قط ما هو النطق والخطاب، ومن يأكل لحم أخيه حيا كما ينهش السبع فريسته، ويتنمر لأخيه المشفق تنمر الضيغم أخطأ قنيصته، وترون أمارات الوحشية بادية في ملامحهم ونظراتهم وإشاراتهم، فتعلمون أي مسافة بين القوة والضمير، وتهولكم هذه الهوة التي يريد الثعلب أن يسقط الخلق عامة فيها.
أرأيتم، أيها الصحاب، لو بقيت كل قوة في الأرض والسماء فوضى على نشأتها الأولى، أين كانت تكون الآن الكواكب الساطعة، والأنهار الجارية، والصناعات المعجزة، والأئمة المصلحون؟
ولو أن الثعلب ألقى خطبته هذه في مستهل الخليقة وفجر الحياة، لدن كانت كل قوة حربا على نفسها وعلى غيرها، وكان كل ضعيف قائما وحده عزلا أمام كل قوي، لما عدا الواقع ولا قال غير الحق. أما والقوة قد هجمت في ألف ناحية قبل أن تنتهي إلينا، وحاولت كل محاولة تستطيعها قبل أن تحل بنا، وعرفت جهد ما تقدر عليه إذا انفردت بنفسها، وقصارى ما تبلغ إليه إذا أعلنت حكمها باسمها، فاليوم قد اضطرت أن تلقي مقادتها لشيء أكبر منها، وخرجت من تلك التجارب مهذبة مستقيمة. ويا للعجب يا قوم! إن الذي هذب القوة وأبطل حكمها الأعمى هو القوة لا سواها.
أقول يا للعجب، ولا عجب هناك، لو أنعمتم النظر معي في الأمر، وعرفتم أن القوة إنما سلمت للحق بعد أن أذعنت لقوة أكبر منها، فكأنها نقضت شريعة القوة من جهة لتؤيدها من جهة أخرى، وما ظلمها الحق ولا غلب عليها الضعف، ولكنه نظم صفوفها وحمى الكبير والصغير منها، فحفظها من التخاذل والضياع.
معشر الأحياء:
كأني بأول قوي عرف نفسه، فاعتز بسطوته وأعجبته قدرته، وأقبل يهز سيفه على رأس الضعيف ويقول له: إنك أضعف مني، فاصدع بأمري ، وألحق وجودك بي، وسلمني زمامك، واعمل لي لا لنفسك، وإلا أبدتك وهشمتك وجعلتك ترابا لقدمي. فرعب المسكين مما سمع، وتلفت الضعفاء بعضهم إلى بعض وقد علموا بعد حين أنهم مقصودون بهذا الوعيد فردا فردا، فأجلبوا وتألبوا وصاروا باجتماعهم أقوى من أقوى الأقوياء، فكروا إلى ذلك المتمرد الجبار قائلين: إنك أضعف منا، فاصدع بأمرنا، وألحق وجودك بوجودنا، وسلمنا زمامك، واعمل لنا لا لنفسك، فإن أطعت أطعنا، وانتفعت بقوتك وانتفعنا، وإن أبيت أبدناك وهشمناك وجعلناك ترابا لأقدامنا ... فعلم القوي منذ ذلك الحين أن عليه واجبا كما أن له حقا، وكذلك نجم الحق بجانب القوة.
لا تقولوا يا قوم: حسدوه. فليس من الحسد أن يرفع القتيل يد القاتل عن عنقه.
ولا تقولوا: ظلموه. فما ظلمك من ردك إلى الحكم الذي ترده أنت إليه، ولا جار عليك من يعاملك بالقسطاس الذي تعامله به.
ولا تقولوا: أخطئوا وضلوا. فإن ما تفعله النفوس بداهة بوحي الطبائع وإلهام الحياد ذودا عن كيانها وإبقاء لجنسها وإعلاء لشأنها، لا يكون خطأ أو ضلالا، ولو جاز ذلك لكان الخطأ أصدق من الصواب، والضلال خيرا من الهدى.
ناپیژندل شوی مخ