مجمع الآداب في معجم الألقاب
تأليف
كمال الدين أبو الفضل عبد الرزاق بن أحمد
المعروف بـ «ابن الفوطي الشيباني» المتوفى سنة ٧٢٣ هـ
تحقيق
محمد الكاظم
[المجلد الأول]
ناپیژندل شوی مخ
المقدّمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله على ما ألهم، وله الشكر على ما أنعم، والثناء بما قدّم، والصلاة والسلام على خير خلقه، وأفضل بريّته، وخاتم رسله، مولانا ومقتدانا أبي القاسم محمّد، وعلى سائر الأنبياء والأولياء والشهداء والصالحين والصدّيقين، لا سيّما على أمل الثوّار، وإمام الأحرار وسيّد الأبرار، بقيّة الله في خلقه، وحجّته على بريّته، الذي يطهّر الله به الأرض من دنس الشّرك والنّفاق والظّلم والإرهاق، الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر، عجّل الله فرجه، وسهّل مخرجه، وجعلنا من أنصاره وأعوانه، آمين ربّ العالمين.
وبعد، فهذه مقدّمة وجيزة حول الكتاب وكاتبه وتقييمنا له، وكنّا قد عزمنا سلفا أن نؤخّر كتابتنا هذه الى آخر الكتاب وبعد الانتهاء من تنظيمه وتنضيده وتصحيحه حتى تكون أتمّ وأكمل، بيد أنّا حينما قدّمنا الكتاب برمّته للطّبع وانتهى القائمون بأمره من إنجاز نصفه وصفّ حروفه، طلب منّي بعضهم تقديم ما أردت تأخيره وتعجيل ما أردت تأجيله، فلبّيت رغبته رغم أنّ نسخة الكتاب لم تكن لديّ، فسجّلت هاهنا ما ساعدتني به الحافظة والانطباعات العامّة عن الكتاب ومؤلّفه، على أمل أن نقدّم لكم في آخر الكتاب كافّة النقاط المستخرجة من هذا الكتاب مرتّبة ومنمّقة بحسب الترتيب الزمنيّ ممّا يرتبط بالمؤلّف واسرته وتأليفه
1 / 5
ونشاطاته الفكرية والاجتماعية.
المؤلّف
ولا نورد هنا ما كتبه الآخرون عنه، ففي مقدّمة الدكتور مصطفى جواد والاستاذ القاسمي الكفاية فلاحظ، بل نحاول أن نقيّم شخصيّة المؤلّف حسبما لمسناه من كتابه هذا وتعرّفنا عليه بواسطة قلمه.
أمّا من الناحية العلمية فهو لا يتمتّع بإتقان فنّ من فنون العلم، على الرغم من مزاولته لفنّ التاريخ والحديث والرّجال والأدب وغيرها، واشتهاره ببعضها، فهذا كتابه ينبئك بالحق عن ضعفه ووهنه في كافّة المجالات ولا ينبئك مثل خبير.
وأمّا من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، فهو من المتسكّعين على أبواب الملوك والسلاطين واللاّهثين خلف التجّار والأشراف والامراء دون أن يكون رأسا فيها، بل من المتطفّلين الذين لا يتمتّعون بإرادة حازمة ولا قرار صائب كيما يتحكّم بالظروف والأحوال والاتجاهات بدلا من تحكّمها به.
وأمّا من الناحية الدينية فهو وإن كان اسما وإرثا مسلما حنبليّا، ألاّ أنّه خال من التعصّب لمذهبه، بل وحتى الالتزام بمسائل الدين وضرورات الاسلام بشكل عام ممّا أفقده الاتّزان والاعتدال والسير على اصول قويمة وآداب رشيدة وسنن منجية، فشأنه شأن الكثير من الناس وأسلافهم في السير حسب الظروف الاجتماعية في حقّها وباطلها، فكأنّ الحق بالكثرة والغلبة والتحكّم والتسلّط لا الاهتداء بسنن الأنبياء والأولياء وكتب السماء وما والاها ومخالفة البدع والأهواء مع أنّه شاهد انهيار الحكم العبّاسي الجائر الفاسد وتزلزل أرباب الثروة والمكنة وتشتّتهم ودمارهم ومجيء الحكم المغوليّ الغاشم وما جرّ ذلك من ويلات ونكبات لأرباب الدنيا وطلاّبها، مع ذلك كلّه لم يعتبر ولم يتزوّد من دنياه الفانية للدار الباقية، هذا في الجانب العمليّ، أمّا الجانب النظري فإنّه كان يعي الكثير من امور الحق والباطل، وما عليه الناس من مواصفات حسنة وسيّئة، ﴿فَلِلّهِ الْحُجَّةُ﴾
1 / 6
الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ، فوعي الانسان غالبا أكثر من عمله، بل إنّ الاهتداء النظري حتمي ولو بصورة نسبية، أمّا الاهتداء العمليّ والسلوكي اختياري ﴿إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِرًا وَإِمّا كَفُورًا﴾، فتبقى الجوانب النظرية ومشاهداته قابلة للمناقشة وللأخذ أو الرّدّ.
الكتاب
وقد جمع فيه بين معلوماته ومشاهداته الشخصية وبين ما استقاه من كتب التاريخ والحديث والرّجال ... التي كانت متوفّرة لديه بحسب شغله كمشرف على خزانة الكتب بالمستنصرية ببغداد وبالرصد بمراغة، وبحسب ارتباطاته العامّة مع العلماء والامراء ورحلاته وتنقّلاته في مدن العراق وإيران.
وأغلب المترجمين هم من أعلام القرن السادس والسابع والثامن.
أمّا معلوماته الشخصية فيعدّ قسما منها المنبع الوحيد أو المهم للتعرّف على أوضاع ورجال العهد الإيلخانيّ المغوليّ وخاصّة بما يرتبط بإيران والعراق، وذلك بعد سقوط الدولة العبّاسية، فالمعلومات الواردة عن نصير الدين الطوسيّ وأمثاله في هذا الكتاب في ثناياه اعتمادا واستطرادا كثيرة بحيث لو تجمع ويضمّ بعضها الى بعض تصير ترجمة وافية وموسّعة.
وإذا لاحظنا عدم تعصّبه الآنف الذكر وانفتاحه على مختلف التيّارات، وجدنا للكتاب ميّزة هامّة وهي سرد الحقائق والأوضاع كما هي دون تحامل أو تعنّت. إلاّ أنّه يؤخذ عليه في معلوماته الشخصية كثرة الأوهام والتخليط والتصحيف في الأسماء والأوصاف والألقاب والنّسب ممّا يبيّن بوضوح ضعف ضبطه وعدم دقّته. وأيضا قد يورد أسماء وألقابا لا فائدة فيها سوى تكثير السّواد وتضخيم الكتاب، فبدلا من أن يكون الهدف بيان الملقّبين الموجودين والمشهورين بتلك الألقاب وذكر حياتهم حتى يتسنّى للمراجع معرفة أسمائهم وأوصافهم، صار الهدف وكأنّه زيادة الألقاب والتفنّن في اختراعها واختلافها
1 / 7
بأسباب واهية حتى لو لم يكن المترجم يعرف بذلك نفسه ولم يلقّبه أحد قطّ به.
وأمّا معلوماته التي استقاها من الكتب المصنّفة فكثيرة، وفي مقدّمتها تآليف ابن أنجب وابن النجّار وابن الدبيثيّ والسمعانيّ وابن عساكر والقطيعيّ وابن الصابئ والعماد الاصبهانيّ وابن الشعّار وابن الجوزيّ وياقوت والسلفيّ، ولا يزال بعض المصادر التي ينقل عنها مفقودة أو مخطوطة لكنّها في الأغلب مطبوعة ومتوفّرة، بيد إنّ المصنّف لا يلتزم حرفيّا بنقل النّص عن تلك الكتب بل يغيّر ويبدّل دون إشارة، شأنه شأن الكثير ممّن تقدّم عليه من المؤلّفين أو تأخّر كابن كثير وغيره.
أسلوب التحقيق
باشرنا العمل في هذا المجال على أساس ما أنجزه المرحوم الدكتور مصطفى جواد والاستاذ القاسمي فهذّبناه وذهّبناه، فدقّقنا في كافّة التعاليق على الطبعة الاولى؛ فما وجدناه صحيحا وكاملا أو كان غير مخلّ بالتحقيق أبقيناه في محلّه ووضعناه بين قوسين إشارة الى أنّه منهما، وأضفنا من التعاليق ما رأيناه مناسبا لعمل التحقيق بالاستعانة من الكتب المطبوعة الموجودة لديّ، وحاولنا جهد الامكان ذكر مصادر الترجمة حتى للمذكورين استطرادا في هذا الكتاب، واستخرجنا كافّة الأحاديث المذكورة في الكتاب استطرادا، وعملنا للكتاب فهارس متنوّعة شاملة للأعلام والمترجمين والمدن والنّسب والكتب، فصار الفهرس مفتاحا للتطلّع على خبايا الكتاب وزواياه حسبما شاء المراجع، ورتّبنا الكتاب والفهارس حسب تسلسل التراجم وأرقامها ولم نغيّر شيئا من ترقيم الدكتور مصطفى جواد سوى ما اشتبه عليه الأمر في عزّ الدين، حيث جعل مجموعة من الملقّبين بعز الدين في آخر الملقّبين بعز الدين وفتح لهم عنوانا باسم ملحق الملقّبين بعز الدين الذين ضاعت أسماؤهم من الكتاب، بينما المصنّف لم يكن من خطّته وضع ملحق لأي باب من أبواب الكتاب ولم يفعل ذلك قطّ، بل ولم يكن بحاجة الى ذلك، إذ أنّه جعل كافّة من وجده بعد الفراغ من التصنيف في
1 / 8
مكانه، وهذا القسم الذي جعله الدكتور في الآخر هو من أوّل الكتاب كما يؤكّده ترقيم النسخة الخطّيّة بل وترتيب الأسماء بالمقدار الذي تعرّفنا عليه يدلّل عليه.
هذا ما تيسّر لنا على سبيل الاختصار، ونترككم أوّلا مع مقدّمة الاستاذ مصطفى جواد، ثمّ في بداية حرف الكاف مع مقدّمة الاستاذ القاسميّ، وفي نهاية الكتاب مع ذكر النقاط المستخرجة من هذا الكتاب حرفيّا حول المؤلّف وبحسب الترتيب الزمني، وربّما استدركنا بعض ما فاتنا ممّا ينبغي استدراكه هناك.
ولم نبق شيئا من أمر التحقيق إلاّ وأنجزناه حسب الوسع والحاجة، سوى أنّنا لم نوفّق الى يومنا هذا من عرضه على المخطوط حتى نتأكّد تماما من موافقة الفرع للأصل وإن كنّا لا نزال في صدد تحصيل نسخته وإنجاز ذلك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
قم المقدّسة - عيد الفطر المبارك عام ١٤١٤ هـ.ق محمّد الكاظم
1 / 9
مقدّمة الدكتور مصطفى جواد
على الطبعة الأولى
تقدمة وتبيان
أعظم كتب الألقاب في تاريخ العرب هو «معجم الألقاب» تأليف كمال الدين أبي الفضل عبد الرزّاق بن أحمد المعروف بابن الفوطيّ البغدادي المؤرّخ الأديب المولود ببغداد سنة ٦٤٥ هـ، المتوفّى بها سنة ٧٢٣ هـ.
وتاريخ الألقاب عند العرب والمسلمين واسع الميدان، بعيد المدى (١)، قد ألّف فيه المتقدّمون والمتأخّرون، والقدامى والمعاصرون، ممّا هو مذكور في فهارس الكتب، وتراجم العلماء. إلاّ أنّ «مجمع الآداب المرتّب على معجم الأسماء في معجم الألقاب» الذي أشرنا إلى مختصر اسمه أبسط تأليف في الألقاب، وتلخيصه المعثور على جزءين منه، لا يزال يحتل الصدارة في هذا الفنّ من فنون التاريخ؛ بما حوى من أفانين الألقاب ووفارة الملقّبين؛ وما تحلّى به من الترتيب والجدولة طولا وعرضا، وأفقيّا وعموديّا (٢)، وتلك الوفارة في الملقّبين كان نتيجة لكثرة مطالعة المؤلّف لكتب التاريخ والأدب، ولكثرة الكتب في ذينك الفنّين. وقد
_________
(١) (وأغرب ما في تطوّر «اللّقب» استعماله للمدح والتعظيم بعد أن كان للذم والاحتقار، قال الله تعالى: «ولا تنابزوا بالألقاب».وقال فزارة: أكنّيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقّبه فالسوأة اللّقب)
(٢) (راجع النموذج المصوّر من الأصل في هذا الكتاب).
1 / 11
تهيّأ له ذلك بكونه، سنين كثيرة، من القوّام على شؤون أعظم دارين للكتب في عصره، وهما: دار كتب المدرسة المستنصريّة ببغداد؛ ودار كتب الرّصد بمراغة في أذربايجان، فلذلك يعدّ كتابه أجزل كتب الألقاب فائدة، وأجمع كتب التاريخ للتراجم ذوات الألقاب، مضافا إلى أنّه أرّخ ملوكا وسلاطين وأعيانا وعلماء وأدباء وشعراء وذوي فنون، في عصر قلّ فيه المؤرّخون، وقلّت فيه التواريخ في المشرق، وندرت كتابة التاريخ فيه باللغة العربيّة، وإلى أنّه لم يقتصر في التأريخ على قطر دون قطر؛ ولا على عصر دون عصر، منذ أيّام الجاهليّة حتى الرّبع الأوّل من القرن الثامن للهجرة؛ فنشر هذا التراث العظيم الكريم كان من أوجب الواجبات الأدبيّة.
وفي هذه السنوات الأخيرة توفّر أحد الباحثين الفضلاء، وهو حسن باشا أحد الدكاترة في التاريخ ومدرّسيه في كليّة الآداب بجامعة القاهرة، على تأليف كتاب في الألقاب (١) الاسلاميّة؛ وممّا يبعث على الاستغراب في عمله الأدبي أنّه لم يطّلع على تلخيص معجم الألقاب الذي هو العمدة في هذا الباب، ولا استفاد من كتاب الحوادث ... ولا من الجامع المختصر لابن الساعي. وها نحن أولاء نترجم المؤلّف بشيء من التفصيل.
_________
(١) (هو كتاب «الألقاب الاسلامية في التاريخ والوثائق والآثار» طبع بمطبعة النهضة المصرية سنة ١٩٥٧ م في ٥٧٧ صفحة مع الفهرس).
1 / 12
ابن الفوطيّ (١)
٦٤٢ - ٧٢٣ هـ
١٢٤٤ - ١٣٢٣ م
في اليوم السابع عشر من المحرم سنة ٦٤٥ الهجرية، ولد في درب القوّاس من المحلّة الخاتونية الخارجة عن دار الخلافة العبّاسيّة في شرقيّ بغداد، وليد مبارك العمر، مأمول الخير، منتظر المستقبل، هو الوليد الذي قدّمه إلينا التاريخ باسم «كمال الدين أبي الفضل عبد الرزّاق بن أحمد بن محمد المعروف بابن الفوطيّ البغداديّ المؤرّخ الأخباري المحدّث».
ولد ابن الفوطيّ في بيت من بيوتات أعيان الحنابلة، كان يدّعي النسب الى العرب، والانتماء الى الأمير الكبير معن بن زائدة الشيباني منهم؛ وكانوا من أهل مرو بخراسان، كالإمام أحمد بن حنبل الشيباني، صاحب المذهب، ومن قبيلته نفسها على حسب دعواهم، وكانت محلّتهم الخاتونية الخارجة بحكم مجاورتها لدار الخلافة العبّاسيّة من مواطن أرباب الثراء، وأهل الوجاهة والجاه، وذوي الجدّة واليسار، ولمّا ولد دعي أحد المنجّمين؛ وهو مجد الدين أبو الفرج محمّد بن
_________
(١) (ينبغي أن يلفظ بضمّ الفاء وفتح الواو نسبة إلى جمع الفوطة كعادة العرب في نسبتهم أهل الفنون والصناعا والمهن والبضاعات كالأمشاطيّ والخرائطيّ والطيوريّ والقدوريّ والمحامليّ، فإذا أمكن صوغ «فعّال» عدلوا إليه وهو أقدم من ذلك كالعطّار والخمّار والحدّاد «غير السجّان»، قال السمعاني في الأنساب في ضبط الفوطيّ عموما: «الفوطيّ بضمّ الفاء وفتح الواو في آخرها الطاء. هذه النسبة الى الفوط وهي نوع من الثياب» ولا وجاهة لغير هذا الوجه من النسب).
1 / 13
محمّد الموصليّ المنجّم، لعمل مولده على حسب طريقة أهل التنجيم، فعمله كما كان يعمل عليه القوم لأولادهم.
وكان والده تاج الدين أحمد بن محمّد من الوجهاء والمختلفين الى مجالس الزهّاد والصالحين والمحدّثين والادباء والمتصوّفة؛ وكان أخوال والده من بيّاعي الفوط فعرف بابن الفوطيّ نسبة الى أخواله، وجاء في نسبه أيضا «ابن الصابونيّ»، وكانت والدته من بيت معروف بالرئاسة والتقدّم في الدولة العبّاسيّة؛ ومشهور بنسب «الظهيريّ» فعمّها كمال الدين أبو شجاع محمد بن سعيد بن الظهيريّ، كان تارة حاجب باب النوبيّ كما في سنة ٥٨٣ هـ من خلافة الإمام الخليفة العظيم الناصر لدين الله؛ وتارة حاجب باب المراتب كما في سنة ٦٠٢ هـ؛ وكان حاجب باب يتولّى شؤون الأمن والشرطة في بغداد؛ وحاجب باب المراتب يتولّى حجابة آخر أبواب دار الخلافة، وهو مدخل شريف من مداخل دار الخلافة.
كان مولد ابن الفوطيّ في خلافة المستعصم بالله الشهيد آخر الخلفاء العبّاسيّين ببغداد، وكانت خلافته برهة اختلال في شؤون الدولة، واضطراب في الحكم والسلطان، وتضاؤل في جسم الدولة العبّاسيّة، أدت الى نحولها وانحلالها، ثمّ الى سقوطها وزوالها على يدي الطاغية هولاكو بن تولي بن جنكيز خان التّتار.
وكان لابن الفوطيّ أخ اسمه عبد الوهاب، ولقبه بدر الدين، لم نعلم من أحواله شيئا سوى ما هو آت في سيرة أخيه.
وقد نشّئ ابن الفوطيّ تنشئة أبناء الأعيان في ذلك الزمان؛ وحضر مند الصّبا مع والده مجالس الوعّاظ والصوفيّة المذكّرين والادباء الرّواة؛ ولقي معه الزهّاد والدّعاة الى الله تعالى، فتبرّك بهم وباركوه على قلّة هذه الوجهة عند الحنابلة، وندور المولّين لها منهم، وأحضره والده أيضا مجالس كبراء المذهب الحنبليّ في أيّامه. واتّصل بأبناء الامراء الادباء؛ كما ذكر في ترجمة أبي نصر
1 / 14
محمّد (١) ابن الأمير سيف الدين أيدمر المستعصميّ، مؤلّف كتاب «الجوهر الفريد وبيت القصيد (٢). قال: هو «من أبناء الامراء الأعيان العظماء، ذكر لي أنّه ولد ببغداد رابع رجب سنة تسع وثلاثين وستمائة ... وكان بيني وبينه معرفة وصداقة واتّحاد منذ سنة خمسين [وستمائة]، ولمّا قدمت بغداد كنت أتردّد الى خدمته ويشرّفني أيضا بحضوره ...».
ودرس مقامات الحريريّ، وسمع الحديث النّبويّ مع ذي قرابته قوام الدين أبي الفضل عبد القاهر بن محمد بن الفوطيّ. فقد قال في ترجمة: «كان شابّا ذكيّا، اشتغل (٣) على والده موفّق الدين، ودرس عليه كتاب الألفيّة لابن معطى، وكان رفيقي في حفظ المقامات الحريريّة وسماع الأحاديث النبويّة، على شيخنا الصاحب الشهيد محيي الدين يوسف بن الجوزي استاذ الدار (٤). وسلم ببغداد في الواقعة؛ وتعلّم صنعة التجارة ومهر فيها، ونسب إليه أنّه كان يكاتب ملوك الشام، وأرادوا تصديعه فهرب الى دمشق (والفرار ممّا لا يطاق من سنن المرسلين)،
_________
(١) (ترجمته في الملقّبين بفلك الدين من هذا الكتاب، وذكر له ابن الطقطقي خبرا في التاريخ الفخري حدّث به المؤلف في وقعة بغداد المشهورة سنة ٦٥٦ هـ واستباحة هولاكو، وكان ابن أيدمر في عسكر الخليفة المعتصم بالله).
(٢) (كتاب جمع فيه مؤلّفه ما يتمثل به من أبابيت الشعر على حسب حروف المعجم منه جزء بدار كتب مشهد الامام عليّ الرضا بطوس العتيقة المعروفة اليوم بمشهد ولم يعرف أحد اسمه، وذكره مؤلّف أعيان الشيعة «١: ٤١١» ولم يعرفه، وفي خزانة الفاتح باستانبول نسخة من الجزء الأوّل وثلاث نسخ من الجزء الثاني، وكلّها باسم «الدرّ الفريد وبيت القصيد» تأليف محمد بن سيف الدين أيدمر «١: ٤٤٨» من فهرس المخطوطات المصوّرة بالجامعة العربية).
(٣) (اشتغل في اصطلاحهم أيامئذ معناه «درس» و«أشغل» معناه «درّس»، وكثر استعمالهم للإشغال أي التدريس والاشتغال أي الدراسة).
(٤) (يعني استاذ دار الخلافة العبّاسيّة وهو ممّن قتلهم هولاكو صبرا سنة ٦٥٦ هـ).
1 / 15
ومات بدمشق سنة سبع وثمانين وستمائة ... (١)».
وكانت دراسته المقامات على موفّق الدين أبي محمد، عبد القاهر بن محمد ابن الفوطيّ المذكور؛ قال في موجز سيرته: «كان من الادباء الأعيان والفضلاء البلغاء، أرباب البيان الفصحاء ... وكان خال والدي، وحفّظني المقامات الحريريّة، وأسمعني بقراءته جامع الترمذي وغيره ... واستشهد في الوقعة سنة ست وخمسين وستمائة».
ومن الأحاديث التي سمعها على محيي الدين يوسف بن الجوزي «الأحاديث الثمانيّة»، ويرويها محيي الدين بن الجوزي عن الخليفة المعتصم بالله.
ومن الشيوخ المدرّسين الذين حضر مجالستهم، كمال الدين أبو الحسن علي بن محمّد بن وضاح، الشهراباني الأصل، البغدادي، الفقيه الحنبلي مدرّس الحنابلة في المدرسة المستنصرية، قال: «وقد رأيته قبيل الواقعة وتردّدت اليه في خدمة والدي - رحمهما الله -»، ومن الشيوخ الادباء الرّواة الذين حضر مجالسهم مع والده، كمال الدين أبو الحسن علي بن عسكر، الحمويّ الأصل البغدادي، ووالده عسكر الحموي التاجر كان سيّد ياقوت الروميّ، والى نسب سيّده عسكر انتسب «حمويّا»، فعرف بياقوت الحمويّ. قال في سيرته الموجزة:
«كان صدرا كاملا، ورئيسا فاضلا، وكان من جيراننا في المحلّة الخاتونية الخارجة، وحضرت مجلسه في خدمة والدي تاج الدين [أحمد] في جماعة كانوا يسمعون عليه (معجم الادباء) بروايته عن مصنّفيه ياقوت مولاهم. ثبّتني في ذلك شيخنا جلال الدين بن عكبر»، وإنّما ثبّته جلال الدين عبد الجبّار بن عكبر، لأنّه كان صبيّا يومئذ.
وحضر مجلس فخر الدين أبي الحسن علي بن محمد الخفاجي الشاعر الناسخ قال: «كان صديق والدي، رأيته كثيرا، وسمعت إيراده للأشعار ... وكان
_________
(١) (راجع ترجمته في الملقّبين بقوام الدين من هذا الكتاب).
1 / 16
طيّب الإنشاد، عذب الإيراد، توفّي بعيد الواقعة».
وكان من رفقائه في أوّل سماعه أيام الصّبا مجد الدين أبو المعالي نصر بن عبد الله بن أحمد الحربي الحنبلي الأديب، ومحبّ الدين أبو سعد أحمد بن عبد الواحد البصريّ الشاهد العدل؛ وقوام الدين أبو الفضل محمد بن الفوطيّ المذكور آنفا.
وقد ظهر ميله مبكّرا الى الأدب والتاريخ وعلم النّسب، فضلا عن علم الحديث المشهور بين الحنابلة، وزاد من إقباله على علم النّسب وجدانه أهله ينتسبون الى معن بن زائدة الشيبانيّ، وقد ولّد ذلك في نفسه التفوّق والترفّع، وإن عرف بالتواضع ووطاءة الجانب في آخر عمره، لما قاساه من أحداث الزمان، ولما أناءه من عبء السنين الفادح. وذلك الولوع بعلم النّسب ساعد على تكوّن ملكته التاريخيّة؛ فلا أنساب بلا تاريخ؛ وقد أخذ منذ عنفوان شبابه يقيّد مواليد الشيوخ ووفياتهم، ويثبّت في مجموعه فوائدهم، على عادة طلاّب الحديث الفوقة.
1 / 17
ابن الفوطيّ أسيرا في أيدي المغول
ولمّا بلغ ابن الفوطيّ السنة الرابعة عشرة من عمره أي سنة ٦٥٦ هـ، دخل المغول بغداد فاتحين، بقيادة طاغيتهم الجبّار هولاكو؛ فقتّلوا أهلها تقتيلا، ونكلوا بهم تنكيلا، وسلبوا ونهبوا وعذّبوا وفعلوا الأفاعيل. وكان من القتلى الخليفة الشهيد المستعصم بالله وابناه الأكبر والأوسط أحمد وعبد الرّحمن؛ وأسروا الشبّان والصبيان واسترقّوهم وسخّروهم، فكان عبد الرزّاق بن الفوطيّ وأخوه عبد الوهاب في جملة أسرى المغول من بغداد، جرى عليهما الاسترقاق، وتعذّر على أخيه الإباق، فقد بقي حتى سنة ٦٥٩ هـ أسيرا مستعبدا، وذكر عبد الرزّاق في كتابه «تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب» هذا أنّه هو نفسه كان أسيرا أيضا سنة ٦٥٧ هـ، فقد قال في ترجمة قطب الدين عبد القادر (١) بن حمزة الأهريّ الحكيم الصوفي: «رأيته سنة سبع وخمسين [وستمائة]، وكنت أسيرا، فدعا لي وأنفذني الى كليبر، الى صاحبه شمس الدين حبش الفخّار، فأقمت تحت كنفهم مديدة»، وبقي أسيرا حتى سنة ٦٥٩ هـ، فقد هرب فيها من الكفّار وتحرّر.
ولم نجد في هذا الخبر تفصيل كيفيّة كونه أسيرا، ولا وجدنا السبب في استطاعة الشيخ قطب الدين الأهري إنفاذه الى قرية كليبر، كما لم نعرف حقيقة أسر المغول له، فنعلم مقدار تصرّفه في المعيشة أسيرا، غير أنّه افتدى أخاه بدر الدين عبد الوهاب المقدّم ذكره، ودفع في فدائه مائة دينار (٢)، وهي قسط من أقساط الفدية صغير أو كبير. قال في ترجمة كمال الدين أبي الفضل محمّد بن أبي الفضائل النخجواني الطبيب المتصوّف: «كان حكيما فاضلا، له معرفة بالتدبير (٣)
_________
(١) (راجع ترجمته في الملقّبين بقطب الدين من هذا الكتاب).
(٢) في ترجمة عزّ الدين بيكلار: ولمّا اشتريت أخي ساعدني وأنفذ لي مائة دينار.
(٣) (لا تزال كلمة التدبير مستعملة في مصطلحات الأطبّاء بسورية وهي غير معروفة
1 / 18
والعلاج والتقدير. قدم أهر الى خدمة مولانا قطب الدين الأهريّ، ليشتغل عليه، ولبس الخرقة من خدمته (١) (كذا)، وأقام بزاويته، واجتمعت بخدمته سنة ثمان وخمسين وستمائة، وكان قد رأى لي مناما، وأنا يومئذ صغير السنّ، أسير، بشّرني بالخلاص، وأن يرتفع قدري، فحصل لي ببركته ما رآه لي، والحمد لله على إفضاله».
وبعد هرب ابن الفوطيّ من أيدي المغول وتحرّره؛ انضوى الى الحكيم الفاضل العليم وزير الطاغية هولاكو نصير الدين أبي جعفر محمد بن محمد الطوسيّ، ولم نقف على الطريقة التي سلكها في الانضواء إليه، غير أنّنا نعلم أنّ نصير الدين كان حكيما واسع الافق، بعيدا عن التعصّب الأعمى، علميّ النزعات، ولولا انضمامه أو ضمّه الى بطانة هولاكو الطاغية الجبّار، لأجمعت الامّة على تعظيمه وتبجيله وإجلاله، وأيّا كان الأمر، فقد صار كمال الدين ابن الفوطيّ في عداد طلاّبه وأتباعه، ولعلّه اختاره لما رآه عليه من أمارات الأدب، ولما فيه من الرغبة في العلم والفلسفة وتعلّم الفارسيّة.
_________
= بالعراق).
(١) (لو قال «من يديه» لسجع سجعة غير مصطنعة، وأجاد التعبير).
1 / 19
ابن الفوطيّ في دار العلم النصيريّة
ولمّا أنشأ نصير الدين الطوسيّ دار العلم والحكمة والرّصد بمراغة من مدن أذربيجان، وهي أوّل مجمع علمي حقيقي «أكاديميّة» في القرون الوسطى بالبلاد الشرقية، فضلا عن الأقطار الغربية الجاهلة أيّامئذ، أسند إليه الخزن في خزانة كتب الرّصد؛ وقد كان النصير الطوسي جمع فيها أربعمائة ألف مجلّد، حملها إليها من مختلف الأصقاع. وحضر ابن الفوطيّ قسما من دروس النصير؛ وعني بتعلّم الخطّ وتجويده عناية تامّة؛ وكتب على بعض الخطوط المنسوبة، أي ذات الطريقة الفنّيّة المنسوبة الى أحد مشاهير الكتّاب الخطّاطين، فأجاد الثلث، والنسخي التعليقيّ، كما هو واضح من خطّه في «مجمع الآداب» وكان يكتب بذلك الاسلوب الدروس وغيرها من المجموعات لنفسه وغيره، قال في ترجمة كمال الدين أفلاطون الهندي: «هو ممّن قصد حضرة مولانا [نصير الدين الطوسي]- طاب ثراه - بمراغة، سنة ثمان وخمسين وستمائة؛ ولم يك عنده استعداد لتحصيل، بل كان يدئب نفسه في كتابة ما يريد أن يقرأه من دروس الحكمة، وتتعسّر عليه معرفتها، فكان مولانا نصير الدين يأمرني أن أكتب له درسه، فقلت له يوما: هب أنّي أكتب درسه، [أ] أحفظه عنه؟».
1 / 20
إقامته في مراغة وتكوّن ثقافته وعائلته
باشر ابن الفوطي الخزن بخزانة كتب الرصد بمراغة؛ وطالع كثيرا من كتبها على اختلاف أنواعها وموضوعاتها، وجمع منها مجاميع، واقتبس، وصنّف، وألّف، واستخلص لنفسه منها، ونسخ لغيره توريقا، واتّصل بفئات من العلماء والادباء وأرباب الفنّ وأهل السياسة، على تباين أجيالهم واختلاف بلادهم ومللهم؛ فاتّسعت ثقافته العلمية، وثقافته الأدبية، وثقافته الاجتماعية. وخرج من الدائرة الضيّقة التي كان فيها ناشئا، وسلخ صباه عليها، وقضى عنفوان شبابه بها. ورأى في مراغة - وهي يومئذ عاصمة الدولة الايلخانية - ما لم يره في مدينة اخرى سوى بغداد، من مظاهر التمدّن، ومجامع العلماء، وزمر الواردين من طلاّب العلم، وروّاد الجاه، وخطّاب الولاية والإمارة والوزارة، وعبّاد الملك والمناصب، والمعتفين والمسترفدين والشاكرين والشاكين. فضلا عن رخاء العيش وهناءته والرفهنية والدّرز للذين لا يزاولون الحرب والسياسة بأنواعها.
وتزوّج ابن الفوطيّ بمراغة زوجا لمّا أقف على جيلها ولا على مذهبها. إلاّ أنّ الغالب على الظنّ أنّها كانت حنبليّة المذهب مثله؛ فولدت له - أو اخرى غيرها وهو الظاهر - من الذكور أبا المعالي محمّدا (١) وأبا سهل؛ ولم أقف على غير
_________
(١) (عثرت على ترجمة له في ذيل تاريخ الذهبي تأليف تقي الدين بن قاضي شهبة الدمشقي في وفيات سنة «٧٥٠ هـ» قال: «مولده في ذي القعدة سنة خمس وثمانين وستمائة وسمع ... ولبس من الرشيد بن أبي القاسم الخرقة، ولبسها الرشيد من شهاب الدين السهروردي وخرّج له والده مشيخته والحافظ زين الدين بن رجب أحاديث ثمانيّات وروى عنه، وكتب الخطّ على ياقوت المستعصميّ وأضرّ في آخر عمره ولازم المسجد وكثر تهجّده وعبادته»، وذكر له أبياتا زهديّة ثلاثة، وقد روى عنه ابن رجب المذكور في ذيل طبقات الحنابلة. وكون مولده في سنة ٦٨٥ هـ يدلّ على أنّه ولد ببغداد).
1 / 21
كنيته المذكورة، وقد ذكر ابن الفوطيّ أنّ ابنه أبا سهل تزوّج بنت قطب الدين سنجر بن عبد الله الرومي الصاحبيّ. ومن الثابت عندنا أنّ ابن الفوطيّ ولدت له بنت بمراغة، ثمّ تزوّجها رجل خراساني مؤدّب اسمه علي بن عمر فولدت له مولودا سماه عمر، وكنّاه أبا المجد، ولقبه مجد الدين. قال ابن الفوطيّ في تلخيص سيرته: «مجد الدين أبو المجد عمر بن علي بن عمر الخراساني ثمّ المراغي المؤدّب ... أبو المجد سبطي، ولد بمراغة سنة ثمان وسبعين وستمائة ...».
وإذا حسبنا أنّ كلمة الولد تعني «الابن» في ذلك العصر وبعض ما قبله وبعض ما بعده، وكما استعمله هو وآخرون قبله يثبت عندنا أنّه كان له من الأولاد الذكور أكثر من اثنين، فقد قال في بعض التراجم: «وقد كتب الإجازة لي ولأولادي سنة ثمان وسبعين [وستمائة]».
وقد ذكر ابن الفوطيّ مرارا رجوعه إلى بغداد سنة ٦٧٩ هـ؛ إلاّ أنّه لم يذكر أنّه استصحب عائلته إليها، بل ذكر أنّه احتاج الى نفقة لعياله بمراغة؛ فأنفذ الى بعض الفضلاء بكتب من كتبه، ليرهنها عنده على عشرين دينارا؛ فأعاد إليه الكتب والدنانير تفضّلا منه.
كان رزق ابن الفوطيّ ممّا يجري عليه وهو طالب علم، وخازن كتب الرّصد، وناسخ ومورق للهوين المعنيّين بالكتب؛ فقد ذكر أنّه نسخ بمراغة سنة ٦٦٦ هـ كتاب «الزّبدة (١) الطبّيّة» المجدول. وكان يتجر بالكتب فيشتريها ويبيعها، ولم يكن ذا سعة في الرّزق في مراغة، ولا في غيرها من البلدان التي أقام فيها، وقد ثبت عندنا أنّه بعد عوده الى بغداد كان ينسخ الكتب للناس توريقا أيضا، ويستوفي الاجرة للعيش (٢) بها، وهذه القلّة في الرّزق أثّرت في سيرته، وذلك
_________
(١) (جاء في كشف الظنون «زبدة الطبّ للخوارزمشاهي وهو مجلّد يشتمل على حقائق الأبدان الظاهرة ودقائقها الباطنة».وقال ناشره: «هو لزين الدين اسماعيل بن الحسن الحسيني الطبيب المتوفّى سنة ٥٣١ هـ» ولعلّه إيّاه أراد).
(٢) (من الكتب التي نسخها ببغداد كتاب «الأحكام المبنيّة على التنجيم» وهو محفوظ -
1 / 22
ظاهر فيما يقوله في أثناء التراجم من استرفاده واستعانته واعتفائه؛ ولا أخشى أن أقول: من استجدائه الأدبيّ.
وقد توفّي نصير الدين الطوسيّ، شيخ ابن الفوطيّ والحفيّ به والمفضّل عليه سنة «٦٧٢ هـ» وبقي بعده «المجمع العلمي» الذي سمّيناه دار العلم والحكمة، والرّصد اللّذان أنشأهما بمراغة على أحسن أحوالهما في رعاية أبناء له ثلاثة فضلاء وجهاء، هم صدر الدين علي، وأصيل الدين حسن، وفخر الدين أحمد، وقد ولي أحمد بعد أبيه غالب مناصبه، وبقي ابن الفوطيّ على خزنه بخزانة كتب الرّصد؛ فكان بيده مفتاح الرّصد أيضا، ولبث في كنفهم ورعايتهم، وقد ألّف بمراغة فيما ألّف كتاب «تذكرة الرّصد».وسمّاه في موضع آخر «كتاب من قصد الرّصد»؛ وروى عن الزوّار نثرا وشعرا في مقاصد مختلفة، وأتقن اللغة الفارسية ليستطيع العيش في بلاد الفرس، ويعايش زوجته الفارسية اللغة، كما هو الظاهر وقرأ دواوين المشهورين من الشعراء الفرس ونثّارهم؛ كديوان المعزّي، والعنصريّ، واللاّمعيّ، وأشعار أحمد ابن نيّال المراغي ورسائله الفارسية؛ فضلا عن دواوين لشعراء عرب ورسائل لنثّار من نثّارهم. وقد ألّف مجموعا أدبيّا بالفارسية، ومدح رجالا بأنّهم يحسنون الفارسية، وفي ذلك دلالة على علمه بها.
وقد سمع ابن الفوطيّ في بلاد العجم، في كينونته الاولى بها، طائفة من شيوخ الحديث، وأهل الأدب والشعراء. وضمّن مشيخته للمحدّثين ما أشرنا اليه آنفا من تقييد الوفيّات بالمواليد، وإثبات الأحاديث والفوائد والأناشيد.
فممّن استجازهم لنفسه من أشهر المشاهير «سعدي» الشاعر الفارسيّ الكبير الشهير، صاحب الديوان المعروف، ومؤلّف «كلستان (١)» أي روضة الورد
_________
= اليوم في خزانة الكتب الملّيّة بطهران من إيران، كتبه لأبي الحسن علي بن نصير الدين محمد الطوسيّ، ومنها على الظاهر الكامل في التاريخ لعز الدين بن الأثير، والمجلّد الثاني منه محفوظ بدار الكتب الوطنية بباريس).
(١) (ترجمه الى العربيّة من المتأخّرين الاستاذ الأديب محمّد الفراتي ونشرته وزارة -
1 / 23
وغيره. وطاف ابن الفوطيّ في البلاد الفارسية، وأقام في عدّة بلدان منها، فقويت ثقافته بالدراسة، والنساخة، والمطالعة، والسّماع، والمحاضرة، والمحاورة، والمدارسة، والمجالسة، والمحادثة، والتطواف، فضلا عمّا كان حفظه في أيّام صباه ببغداد، وقد كنّا ذكرنا بعض ما بعثه على الولوع بالأنساب والتاريخ والتراجم، وكانت حصائل ثقافته الأدبية، تآليفه التي اضطمت عليها صفاح التاريخ، والتي ذكرت أسماؤها في كتبه، ونرى من الواجب علينا أن نذكر أنّنا لم نجد له أثرا حكميّا ولا فلسفيّا، مع وصف المؤرّخين له بالحكيم والفيلسوف، ومع ذكرهم أنّه درس الحكمة والفلسفة على النصير الطوسيّ، ومع قوله: إنّه كان يكتب الدروس لبعض التلامذة.
_________
(١) - الثقافة والإرشاد القومي بدمشق سنة ١٣٨١ هـ - ١٩٦١ م أوّل كتاب من سلسلة روائع الأدب الشرقيّ).
1 / 24