إن نشاط الرذيلة وشطاطها أحرص من أن يترك للفضيلة المتئدة المترفقة في سيرها شيئا وراءه تبلغه فتلتقطه، فلأغامر في ميدان هذه الحياة مغامرة، فإن ظفرت فذلك ما رجوت، أو لا، فقد أبليت في حياتي عذرا.
وكان يهذي بأمثال هذه التصورات وهو يضرب في أرجاء الغرفة ذهابا وجيئة بخطوات واسعة متلاحقة، ثم وقف بغتة وألقى نظره على الجثة المسجاة أمامه وقال: لقد أصبحت ميتا أيها الرجل، فلا يعنيك من المال الذي تركته وراءك شيء، ولا شأن لك بمن يخلفك عليه من بعدك أكان صديقك أم عدوك، أم أقرب الناس إليك، أم أبعدهم عنك، ولقد كان جديرا بك وأنا صديقك وحميمك الذي واساك وجاملك في ساعاتك الأخيرة، وقام لك بما لم يقم لك به صديق ولا حميم، حتى أضاع آماله ومستقبل حياته في سبيلك، أن توصي إليه بمالك، فهو أحوج إليه من ابن عمك السعيد المجدود الذي لا يبالي أزاد مالك على ماله أم نقص منه؟ فأنا قائم عنك بعد موتك بما فاتك أن تقوم به في حياتك.
ثم أدار ظهره إلى الجثة ومشى إلى الخزانة وكانت على كثب منه، فوضع يده على مفتاحها فشعر برعدة شديدة تتمشى في أعضائه، وخيل إليه أن الغرفة كلها عيون ترقبه وتحدق في وجهه، وأن روح الميت تلقي عليه من نوافذ جثتها نظرات شزراء ملتهبة يكاد أوارها يصل إليه فيحرقه، فتريث في مكانه قليلا ثم تماسك واستجمع لبه وأناته وأدار المفتاح، فدار الباب على عقبه وصر في دورانه صريرا خشنا، فارتعد وتمثل له أن صوتا أجش من أصوات الحراس الأشداء يهتف به ويخاشنه، فابتعد عن الباب خطوة، ثم التفت يمنة ويسرة فلم ير شيئا، فقال: إنها خيالات الشقاء تلاحقني في كل مكان، ومد يده إلى الأوراق يقلبها على نور مصباح ضعيف كان في يده حتى عثر بالسفاتج التي يريدها، فما وضع يده عليها حتى شعر أن دمه الذي كان يغلي في عروقه غليان الماء في مرجله قد هدأ وبرد، حتى كاد يقف عن الجريان، وأن قطرات باردة من العرق تتحدر من جبينه على وجهه متتابعة، وأحس في نفسه بذلك السكون العميق الذي يشعر به الهائج المصروع بعد استفاقته من صرعته.
وقد خيل إليه أن الخزانة التي أمامه تهتز وتضطرب ويموج بعضها في بعض، ثم ما لبثت أن استحالت إلى مرآة صقيلة لامعة، فوقع نظره على صورته فيها، فامتلأ قلبه خوفا وذعرا، وأنكرت نفسه نفسه، فقد رأى في أسارير وجهه تلك السحنة المنكرة التي يعرفها في وجوه المجرمين، ورأى في عينيه تلك النظرات الطائرة الشاردة التي ينظر بها المحكوم عليه بالموت إلى سيف الجلاد حين يلمع فوق رأسه، فظل يرتعد ويضطرب، وظلت الأوراق تتساقط من يده واحدة بعد أخرى، وإنه لكذلك إذ أحس بيد ثقيلة قد وضعت على كتفه، فلم يأبه لها في أول الأمر، وظنها بعض الخيالات التي لا تزال تعاوده منذ الليلة، إلا أنه لم يلبث أن أحس ببرودتها فوق كاهله، فتهالك في نفسه وتجمع تجمع المتوقع ضربة هائلة تسقط على أم رأسه، ثم التفت قليلا قليلا ليرى ما دهاه، فإذا الميت واقف خلفه عاري الجسم ينظر إليه بعينين جامدتين، فصرخ صرخة عظيمة ودفعه بيده دفعة شديدة فسقط على الأرض بعيدا عن مضجعه الأول ، فرنت عظام رأسه على أرض الغرفة رنينا شديدا، فاختبل وأصابه مثل الجنون، وألقى المصباح من يده فانطفأ فازداد رعبه وفزعه، وهرع يطلب الباب للفرار منه فلم يهتد إليه، فظل يعدو في أنحاء الغرفة ويتلمس جدرانها مقبلا مدبرا، لا يعثر حتى يقوم، ولا يقوم حتى يعثر، وقد خيل إليه أن الجثة تعدو وراءه وتتعقبه حيثما ذهب، حتى أعياه الجهد، وعجز عن الحركة، فسقط مغشيا عليه.
ولم يكن ما رآه في هذه المرة خيالا بل حقيقة لا ريب فيها، فقد عاودت الميت الحياة لحظة ففتح عينيه للمرة الأخيرة فرأى باب خزانته مفتوحا، ورأى إنسانا لا يعرف من هو يقلب أوراقه، فدفعه الحرص الغريزي الذي لا يفارق الإنسان مبدأ ساعات حياته إلى نهايتها إلى الوثوب على قدميه والإهواء بيده على كتف السارق، ثم كان ما كان من سقوطه على أرض الغرفة، فكان في سقطته القضاء عليه.
لم يستفق «استيفن» من غشيته حتى طلع الفجر وأرسل بعض أشعته من نافذة الغرفة، ففتح عينيه وظل ينظر حوله يمنة ويسرة، فرأى المصباح الساقط والخزانة المفتوحة، والأوراق المبعثرة، والجثة الملقاة، فذكر كل شيء، وقام يتحامل على نفسه، فأعاد كل شيء إلى مكانه، ونقل الجثة إلى مضجعها، وأسبل عليها غطاءها، ولم يلبث أن جاء الطبيب، فلما رأى الصدع الذي في رأس الميت قال لاستيفن: أحسب أن المريض قد ثار من فراشه في ساعته الأخيرة ولم يكن معه من يتولى شأنه فسقط بعيدا عن مضجعه فأصابه ما أصابه، فارتعد «استيفن» وقال: نعم يا سيدي، ولقد كنت نائما في تلك الساعة فلم أستطع مساعدته ولم أستيقظ إلا على صوت سقطته، فاحتملته إلى مكانه، وكان أسفي لذلك عظيما، فلم ير الطبيب بأسا فيما قال، وانصرف لشأنه.
وما انقضى النهار حتى دفن الميت وحضر دفنه وارثه، وسافر «استيفن» إلى «جوتنج» وهو يردد في طريقه قوله: «ويل لي من مجرم أثيم!» فما وصلها حتى كان قد بلغ آخر درجات الاحتمال فسقط في فراشه مريضا مدنقا، لا يفارقه خيال تلك الليلة الهائلة التي كابدها لحظة واحدة. (58) إدوار
علق «إدوار» بماجدولين منذ الليلة التي رآهما فيها «استيفن» من وراء ألواح الزجاج يرقصان معا، فأنشأ يختلف إلى منزل «سوزان»، وكان يمت إليها بحبل قرابة ليرى حبيبته ويستدني قلبها، وكان من أقدر الناس على مثل ذلك؛ لعذوبة يعرفها له النساء في أخلاقه، وحلاوة تجتذب قلوبهن في أحاديثه، فأنست به وبمحضره، وأعجبها منه أنه كان يسرد عليها كلما جلس إليها أحاديث المحافل والأندية، ويطرفها بغرائبها ونوادرها، ويذكر لها أسماء الراقصين والراقصات وفضل ما بينهم في البراعة والافتتان، ويشرح لها أنواع الرقص غريبه وشرقيه، قديمه وحديثه، وتاريخ كل نوع منه ومنشأه ومصيره، ويقص عليها قصص الغرام التي تنشأ كل يوم في قاعات الرقص بين النساء والرجال، وكانت حديثة عهد بذلك كله، فلم يكن شيء من الأشياء أعجب إليها من ذكره وترديده، وكان إذا جرى ذكر «استيفن» بينهما أثنى عليه وأطراه، وقص عليها طرفا من نوادر طفولتهما وصباهما، وما مر لهما في حياتهما الأولى من بؤس ورغد، وشدة ورخاء، ثم يصف لها بلهجة الحزين المتفجع حياة البؤس والشقاء التي يحياها اليوم في «جوتنج» وغرفته التي يسكنها، وأثاثها الذي تشتمل عليه، وثيابه التي يملكها، ثم يتبع ذلك بالتوجع له، والتألم لبؤسه وشقائه، ومحاربة الدهر إياه في مساعيه وأغراضه، فتصغي إلى حديثه وتقبل عليه إقبالا عظيما.
ولم يزل بها حتى خلبها ووقع من نفسها، وأصبحت لا تكاد تصبر عن مجلسه ساعة، ولا تزال تفتقده وتسائل نفسها عنه كلما غاب عنها، وهي تظن أنها إنما تحبه من أجل «استيفن»، ولو كشف لها عن دخيلة نفسها لعلمت أنها قد بدأت تنسى «استيفن» من أجله.
ولقد أعجبت «سوزان» تلك الصلة التي نشأت بين صديقتها وقريبها، ورضيت عنها الرضا كله، ورأت أن الله قد أراد به وبها خيرا، فرزقه أفضل الفتيات جمالا وأدبا، ورزقها خير الفتيان ثروة وجاها، وكانت تعرف شيئا عن عيوب «إدوار» ولكنها كانت ترى أنها عيوب خاصة به لا تتعداه إلى غيره، وكانت تعتقد أن المرأة لا ترى في زوجها الغني الذي يملأ فضاء بيتها نعمة ورغدا عيبا واحدا مهما كثرت عيوبه، فأنشأت تسعى سعيها للبلوغ بهما إلى الغاية التي تريدها لهما، فأشارت على «إدوار» أن يتودد إلى الشيخ «مولر» ويداخله مداخلة الصديق صديقه، وقالت له: إنه رجل مفتون بحب النبات والزهر، فلا يعجبه إلا الحديث عنهما، ولا ينزل من نفسه المنزلة العليا إلا من يعلم أنه يشاركه في العلم بهما، والاهتمام بأمرهما، وكان «إدوار» قد درس شيئا من علم النبات في مدرسته، فاستعان ببستاني حديقته على معرفة ما كان يجهله منه، وغرس في حديقة بيته بعض أنواع الزهر الغريبة، وعرف خصائصها وصفاتها، ثم خالط الرجل وداخله، ودعاه إلى بيته وأراه حديقته، ومشى معه في كل مكان، وجاراه في كل حديث، فلم يلبث أن أعجبه ووقع من نفسه، وهكذا أصبح أثيرا عند الأب وابنته. (59) سريرة المرأة
ناپیژندل شوی مخ