دخلت «سوزان» على ماجدولين في غرفتها فرأتها جالسة جلسة الحزين المكتئب، ورأت ذلك الكتاب في يدها فاختطفته منها قبل أن تتمكن من إخفائه، فقرأته ثم ابتسمت وقالت لها: لم يبق على خطيبك هذا يا ماجدولين سوى أن يأمرك بأن تشوهي وجهك، أو تفقئي إحدى عينيك، أو تجدعي أنفك، أو تهشمي مقدم أسنانك، حتى تبذأك العيون، وتقتحمك الأنظار، وتقشعر لرؤيتك الأبدان، فلا يجرؤ أحد على أن يقول لك بلسانه، أو بينه وبين نفسه: إنك جميلة أو فتانة، وأن تحملي بيدك قيثارة رنانة تطوفين بها أنحاء البلاد كما كان يفعل شعراء اليونان والرومان في عصورهم الأولى وتتغنين عليها بمدحه والإشادة به، وتنشدين أناشيد الثناء على حسنه وجماله، فما أقل عقله، وأقصر نظره، وأجهله بالحياة وشئونها! إني لأحسبه قد أعد لك في بيته منذ الساعة قفصا من حديد يستقبلك به يوم تزفين إليه ليسجنك فيه، ثم يقف على بابك حارسا يقظا يصونك من عبث العيون وفضول الأنظار، فلا ترين إلا وجهه، ولا تسمعين إلا صوته، ولا تشعرين بوجود أحد في العالم سواه.
فقالت ماجدولين: إنك تتهمينه يا سيدتي بما ليس فيه، فهو من أحسن الناس أدبا، وأشرفهم نفسا، وأطيبهم قلبا، ولكنه محب، وكل محب غيور، قالت: أعاذني الله وإياك من حب يختلس الحياة اختلاسا، ويأتي عليها بأسرع من ضربة السيف، وكرة الطرف، والله لو جاء في خطبتي ملك من ملائكة السماء يحمل على رأسه تاج الملأ الأعلى ويمهرني بالجنة التي أعدها الله للمتقين وما فيها من حور وولدان وروح وريحان ويعدني بالخلود الدائم والنعيم الذي لا يفنى على أن يضعني في قفص مثل هذا القفص الذي أعده لك هذا الخطيب المأفون لآثرت موت الفجأة والتغلغل في أعماق السجون والفرار إلى أديرة الصحاري المنقطعة على الرضا به، والنزول على شرطه.
ثم نهضت قائمة وقالت: محال أن أخاطر بك وبمستقبلك يا ماجدولين، وأن أتركك فريسة في يد هذا الوحش المفترس، ينغص عليك عيشك، ويكدر صفو حياتك، ويقتطف زهرة شبابك الغضة قبل أوانها، ثم حيتها وانصرفت إلى مخدعها.
فقضت ماجدولين بعد انصرافها ليلة ليلاء لا تستريح فيها من الضجعة إلا إلى القعدة، ولا من القعدة إلا القومة، تتلمس بارقة الصواب في هذه الدجنة الحالكة فلا تهتدي إليه، وتقلب أمرها ظهرا لبطن فلا يزيدها التلقيب إلا جهلا، حتى غلبتها السنة على عينيها فنامت. (54) من أوجين إلى استيفن
صدر أمر القيادة العليا للتهيؤ للسفر بعد بضعة أيام إلى جهة لا نعرفها، ويقول ضابطنا: إن هناك ستكون الواقعة الكبرى التي يفصل فيها في مستقبل الحرب، ولا أعلم ماذا يعده القضاء لي في ذلك اليوم، فإن قدر لي الله النجاة فسأكتب إليك، وإن كانت الأخرى فستقرأ اسمي بين أسماء القتلى في جريدة الحرب، ولا يحزنك في ذلك اليوم مصيري، فهو مصير كل رجل شريف.
لي إليك حاجة يا «استيفن» أرجو ألا تضن علي بها: قد بلي سرجي ووهت علائقه، ولم يبق معي من المال - بعد ما أنفقت عطائي كله في هذا الشهر بين اللعب والشراب - ما أبتاع به سرجا غيره، فابعث إلي بعشرين فرنكا قبل مرور عشرة أيام، فإن فاتك أن ترسل إلي في ذلك الوقت فلا ترسل إلي شيئا، فإنه لا يصلني، وتحيتي إليك وإلى السيدة ماجدولين. (55) العرس
استطاع «استيفن» بعد سفر صديقه «إدوار» أن يستفضل جزءا من مرتبه الشهري، فاجتمع له بعد بضعة أشهر خمسون فرنكا، استأجر بسبعة منها الحلة التي ذهب بها إلى ملعب الأوبرا لرؤية ماجدولين، وابتاع بخمسة تذكرة الملعب، غير ما أنفق على طعامه وشرابه وسفره، وبقي معه بعد ذلك اثنان وعشرون فرنكا، فلما عاد إلى «جوتنج» لبث بضعة أيام ينتظر كتابا من ماجدولين ردا على كتابه الأول فلم يأته، فساء ظنه، ووقع في نفسه أنه قد أغضبها وآسفها فيما كتب به إليها، فاشتد حزنه وغمه، وكتب لها رسالة أخرى يعتذر إليها فيها عما ورد في رسالته الأولى، فكتبت إليه أنها كانت عاتبة عليه في سوء ظنه بها، واشتداده في مؤاخذتها، وأنها قد قبلت عذره، وسألته ألا ينقطع عن زيارة الملعب لتراه، فعزم على أن يسافر يوم الأحد ليراها ويلتمس السبيل إلى مقابلتها بكل وسيلة، ليجدد لها اعتذاره بنفسه، ويشكر لها صفحها عنه ورضاها.
فبينما هو جالس في غرفته صباح اليوم الذي عزم فيه على السفر إذ جاءه كتاب أخيه، فحزن عند قراءته حزنا شديدا، وذكر أنه لا يملك من متاع الدنيا غير هذه القطع القليلة وأنه في حاجة إليها لينفقها على زيارة ماجدولين، فلبث حائرا لا يدري ماذا يصنع، ثم غلبته عاطفة الحب على كل عاطفة سواها، فقام ليهيئ نفسه للسفر، وابتاع نعلا جديدة؛ لأن نعله القديمة كانت قد بليت وبلغت آخر درجات الاحتمال، فعجز عن استئجار الحلة التي استأجرها في المرة الأولى، فلم يجد بدا من أن يستصلح حلته التي يلبسها، فرتق فتوقها، وصبغ بالمداد الأسود ما ابيض من خيوطها، ثم ركب عجلة وسافر إلى «كوبلانس» في الساعة الأولى من الليل، فأكل في بعض المطاعم الصغيرة، ثم ذهب إلى الملعب فلم ير ماجدولين في مقصورتها، فلم يقلق لذلك كثيرا وقال: لعل لها شأنا شغلها عن التبكير، وهي آتية ما من ذلك بد، وأقبل على المسرح يتلهى بالنظر إلى فصوله، فرأى بين القطع الممثلة مشهد رجل من أرباب الثراء والنعمة قد استهام بحب امرأة واستهامت به، ثم نزلت به نكبة من النكبات المالية فتنكرت له، وبرمت به، وعزمت على مقاطعته والرحيل عنه، فجثا الرجل بين يديها يستعطفها ويسألها ألا تفعل، فأبت وصارحته بالسبب الذي يدعوها إلى مقاطعته، وقالت له فيما قالت: «إن المرأة لا تحب الرجل أبدا، بل تحب فيه نفسها، فإن كان من أرباب المال أحبت فيه زينتها ولهوها، أو من أرباب الجمال أحبت فيه لذتها وشهوتها، فإن لم يكن أحد الاثنين، فهي لا تحب إلا هذين.» فاشمأز «استيفن» عند سماع هذه الكلمة، وقال في نفسه: إنهن يمثلن أخلاق البغايا الفاسقات، ويزعمن أنهم يمثلن أخلاق النساء عامة، ها هي ذي ماجدولين تكاد تعبدني حبا، وما أنا من أرباب الجمال فتحب في شهوتها، ولا من أرباب المال فتحب في زينتها، ولقد أراد الله بها خيرا إذ كفاها مئونة سماع هذه الكلمات المنفرة، ولو سمعتها لآلمتها ونالت من نفسها منالا عظيما.
ثم انتظر بعد ذلك ساعة فلم تأت، فلم يبق له أمل في مجيئها، وعلم أن هناك شأنا عظيما عرض لها فشغلها عن الحضور، فاشتد عليه الأمر كثيرا، ورأى ألا بد له من الوقوف على شأنها قبل العودة إلى قريته، وخشي أن تكون مريضة، فخرج من الملعب ومشى في طريق قصر «سوزان» وهو لا يعلم كيف يلتمس السبيل إلى الوصول إليها حتى داناه، فرأى أنوارا كثيرة تتلألأ في أبهائه وحجراته، وتتدفق من نوافذه وكواه، وسمع ألحانا مختلفة تتردد في أنحائه، ورأى الخدم رائحين غادين في صحونه وأفنيته يحملون على أيديهم آنية الشراب وصحف الطعام، فعلم أنها وليمة عامة، ولكنه لم يدر ما المراد بها، فدنا من الباب، فرأى عجلات كثيرة مصطفة أمامه، ورأى حوذيا متكئا على كرسي عجلته، فسأله: ما هذه الليلة الحافلة في هذا القصر؟ فصعد الرجل نظره فيه وصوبه ثم قال له وهو لا يفارق متكأه: إنه عرس السيدة «سوزان» ابنة صاحب هذا القصر، فاطمأن وهدأ، وعلم أن ما بصحابته من بأس، وعزم على الانصراف، ثم حدثته نفسه أن يحتال لرؤيتها ولو على البعد لحظة واحدة قبل انصرافه، فمشى إلى ظلة دانية من ظلل القصر فوقف تحتها يفكر في الوسيلة التي يتذرع بها إلى الدخول، فما لبث أن رأى عجلة مقبلة تحمل بعض الكبراء، ورأى الخدم يهرعون إليها فانفتل من مكانه واختلط بهم كأنه واحد منهم، ولا تختلف هيئته عن ذلك إلا قليلا، ثم نزل الزائر فمشى بين يديه مع الماشين حتى اجتازوا فناء القصر ووصلوا إلى قاعة الرقص، فدخل الرجل ودخل معه الخدم وبقي هو وحده على الباب يستشف من ألواح زجاجه ما وراءها من المناظر، فرأى الراقصين والراقصات يسبحون في بحر من الهناء والسرور، ويطيرون في أجواء مختلفة من اللذائذ والمناعم، فظل يدير عينيه بينهم يفتش عن ماجدولين حتى لمحها ترقص مع رجل، فتبينه فإذا هو صديقه «إدوار»، فلم يأبه لذلك كثيرا، إلا أن ما راعه وأزعجه وكاد يطير بلبه أنه رآها ترقص في ثوب رقيق شفاف لا يكاد يحجب جارحة من جوارحها، وخيل إليه أن صدرها ملتصق بصدر مخاصرها، وأن رأسها ملقى على كتفه، وخدها تحت متناول لثماته، وأنه يحتضنها أكثر مما يخصرها، فأن أنينا مؤلما وقال في نفسه: ماذا فعلت بك الأيام يا ماجدولين؟
وحدثته نفسه أن يقتحم الباب ويتغلغل بين الزائرين حتى يبلغ مكانها ويلقي عليها نظرة عتب وتأنيب ثم يعود أدراجه، ولكنه استحيا لها ولنفسه أن يراه الناس في هذه الأثواب الجافية الغليظة، فتماسك على مضض، وأنشأ يسري عن نفسه ويقول: هذا شأن جميع الراقصين والراقصات، وهذه أثوابهم التي يلبسونها، ومواقفهم التي يقفونها، برهم وفاجرهم، تقيهم وعاهرهم، فلا ألومها ولا أعتب عليها، فلتلبس ما تشاء من الثياب، ولترقص مع من تشاء من الرجال، فحسبي منها أني أنا الشخص الوحيد الذي يتيمها ويملأ فراغ قلبها من بين هؤلاء جميعا.
ناپیژندل شوی مخ