فتعال إلي يا «استيفن»، ولا يحل بينك وبين ذلك أنك سترى مرة ثانية وجه ذلك البلد الذي أبغضته واجتويته وخرجت منه ناقما عليه، واغتفر كل شيء من أجلي. (48) الحياة الجديدة
سافرت ماجدولين مع أبيها إلى «كوبلانس»، ونزلت في ضيافة صديقتها «سوزان»، فأدهشها منظر القصر وأبهاؤه وحجراته، وما يشتمل عليه من أثاث ورياش، وما يتلألأ في جوانبه من زخرف وآنية، وأعجبها منظر الوصائف في إقبالهن وإدبارهن، وما يتراءين فيه من ألوان الثياب وأنواع الأزياء، حتى خيل إليها وهي واقفة أمام المرآة تنظر إلى نفسها وإلى موقفهن بجانبها أنهن فوق أن يخدمنها أو يسعين بين يديها، بل تمثل لها أنهن يسخرن في أعماق نفوسهن بمنظرها ومنظر ثيابها القروية القصيرة المخططة التي خاطتها بيدها، وكثيرا ما كانت تحدثها نفسها كلما بدت لها حاجة من الحاج أن تقوم إلى قضائها بنفسها خجلا منهن وحياء، والله يعلم كم نالها في مبدأ أمرها من حيرة وارتباك كلما جلست إلى طعام أو شراب، أو شهدت مجمعا، أو حضرت ملعبا، وكم كابدت من عناء في صياغة نفسها على أوضاع تلك الحياة الجديدة التي انتقلت إليها حتى أسلست واستقادت.
وكانت «سوزان» قد أعدت لها أنواع الأقمشة من حرير ومخمل وخز وصوف وفرو، فخاطت لها خياطة ماهرة ثوبا للرقص، وآخر للملعب، وآخر للمائدة، وقمصا للبيت، وغلائل للنوم، فرقصت وغنت وأنست بمنظر الراقصات والمغنيات، وتحدثت بأحاديث فتيات «كوبلانس»، وذهبت مذاهبهن في آرائهن وتصوراتهن، ولذت لها هذه الحياة الجديدة لذة عظيمة، وملأت ما بين جوانحها حتى غلبتها على أمرها، فتضاءل في نظرها كل شيء في ماضيها إلا حبها لاستيفن. (49) الفتنة
دخلت ماجدولين على «سوزان» ذات ليلة في غرفتها الخاصة في القصر، وهي غرفة بديعة فاخرة، قد كسيت أرضها وجدرانها بالقطيفة الحمراء المطرزة، وأسبلت على نوافذها وأبوابها ستائر حريرية بيضاء تتراءى في خلالها أسلاك الفضة اللامعة، وتدور في أطرافها ألوان الفصوص المتلألئة، وانتثرت في جوانبها وأركانها المقاعد الثمينة، والمناضد الجميلة، وآنية الفضة، فقالت لها «سوزان» حين رأتها: لقد أرسل إلي خطيبي اليوم هدية الزواج، فهل تحبين أن تريها؟ قالت: لا أحب إلي من ذلك، ففتحت «سوزان» الصناديق أمامها واحدا بعد آخر فإذا عقود ودمالج وأساور وأقراط مصوغة أجمل صياغة وأبدعها، مرصعة بأنفس اللآلئ وأثمن الجواهر، فدهشت ماجدولين لمنظرها، وظلت تقلبها بين يديها ساعة، ثم تناولت قرطا من الماس فوضعته في أذنيها، فاقترحت عليها «سوزان» أن تتقلد الحلية بأجمعها لترى منظرها عليها، ففعلت، ووقفت بها أمام المرآة، وأقبلت بها وأدبرت، فقالت لها «سوزان»: ما أحوج جمالك يا ماجدولين إلى مثل الحلية! وما أحوج هذه الحلية إلى مثل هذا الجمال! وإني لا أتمنى على الله شيئا سوى أن أراك خطيبة رجل من ذوي النعمة والثراء يحبك ويستهيم بك، ويكلأ فضاء حياتك هناء ورغدا.
ثم أنشأت تصف لها قصرا بديعا ابتناه لها خطيبها في إحدى ضواحي «كوبلانس» وأعد لها فيه من أسباب النعمة والرفاهية ما لا يعد مثله أصحاب التيجان لنسائهم وحظياتهم، وختمت حديثها بقولها: و«فردريك» فوق ذلك فتى جميل ساحر، لا تقع العين على أبدع ولا أظرف منه، وهو يحبني حبا شديدا، ولا أحسب أن الذي أضمر له من الحب أقل مما يضمر لي، فأطرقت ماجدولين هنيهة ولم تكن قد أفضت إلى صديقتها حتى الساعة بسر حبها لاستيفن، ثم رفعت رأسها وقالت: هل تكتمين سري يا «سوزان» إن أفضيت به إليك؟ قالت: نعم، ومن يكتمه إن لم أكتمه؟
فقصت عليها قصتها مع «استيفن»، وذكرت لها ذلك العهد الذي أخذه كل منهما على صاحبه أن يعيش له، وألا يفرق بينهما إلا الموت، فقالت «سوزان»: إني أذكر أنك كتبت لي عنه وكان حديث عهد بالنزول بداركم، إنه غير جميل ولا جذاب، قالت: نعم هو كذلك، ولكنني أحببت فيه أخلاقه أكثر من كل شيء، وإن رجلا يخاطر بنفسه من دون الناس جميعا في سبيل إنقاذ غريق لا يعرف من هو حتى أنقذه وكاد يهلك دون ذلك لهو أشرف الرجال، وأنبلهم قصدا، وأعلاهم همة، ولقد شهدت أنت بنفسك ذلك المنظر، وكتبت لي عنه، وعلمت منه أكثر مما أعلم، قالت: أهو الرجل؟ قالت: نعم، قالت: إني أذكر ذلك، ولقد أعجبت به في ذلك اليوم إعجابا عظيما، وهل هو غني؟ قالت: لا، ولكنه يسعى إلى الكفاف من العيش وسيناله، وحسبي منه أن يحبني حبا لا يحبه أحد أحدا، قالت: ما أقبح المهر يا ماجدولين إذا كان كله حبا، إنك تريدين أن تتبتلي وتستوحشي وتهجري العالم كله بجماله ورونقه إلى غرفة خاملة في أحد المنازل المهجورة المنفردة تقتلين فيها نفسك هما وكمدا.
فصمتت ماجدولين ولم تستطع أن تقول شيئا، لا اقتناعا برأي صديقتها، بل حياء منها وخجلا، ثم افترقتا. (50) الملعب
جلست ماجدولين و«سوزان» في مقصورة الأوبرا، وجلس بجانبهما «ألبرت» ابن عمة ماجدولين، و«اشميد» ابن عم «سوزان»، وهما فتيان جميلان متأنقان في ملبسهما وحليتهما، شأنهما في حياتهما شأن أمثالهما من الفتيان الأثرياء المستهترين الذين تنقسم حياتهم كلها إلى ساعتين اثنتين: واحدة للضحك والسرور، والأخرى لتصبي النساء واستغوائهم، فينفقون على الأولى عقولهم، وعلى الثانية أموالهم، حتى لا يبقى لهم من هذا ولا ذاك شيء.
جلسا يقلبان النظر في وجوه الجالسين في المقاصير المقابلة لهما، فإن وجدا وجها جميلا تغامزا وتهامسا، أو قبيحا ضحكا وسخرا، ثم علا صوتهما بالضحك والسخرية، فلم تلبث «سوزان» أن اشتركت معهما، ثم تبعتها بعد قليل ماجدولين، ولم يكن ذلك من شأنها أو مما يلتئم مع مزاجها، ولكنها فعلته مجاملة لهما، ثم لم تلبث أن طربت لهذا الأسلوب من المجون وأنست به، فأخذت فيه أخذهما، وبينا هي تقلب نظرها في المقاصير المجاورة لمقصورتها إذ رأت امرأة في سن الشيخوخة تلبس زينة الفتيات وحليتهن، فلفتت نظر أصدقائها إلى ذلك، فضحكوا لفطنتها ضحكا عاليا رنانا، لا لأن هناك فطنة تستحق الإعجاب والإطراء، بل لأنهم أرادوا أن يجازوها مجاملة بمجاملة، ومصانعة بمصانعة، فخدعها هذا الإطراء، فاسترسلت في نكاتها ومجونها حتى كادت تستأثر بالحديث وحدها من دونهم جميعا.
وإنهم لكذلك إذ هتف «ألبرت» وأشار إلى رجل جالس على كرسي في مؤخرة الصفوف وقال: هل رأيتم أعجب من هذا القرد اللابس ثوب الإنسان؟ فقال «اشميد»: أذكر أني رأيت هذا الوحش المستأنس مرة قبل اليوم ولا أدري أين رأيته؟ وقالت «سوزان»: أظنه قدم الملعب الساعة، فإني لم أره قبل هذه اللحظة، وما أحسبه إلا الشيطان الذي كانوا يخيفوننا به صغارا ولا نراه، فقال «اشميد»: إن حلته وإن كانت ثمينة فاخرة فهي من الحلل التاريخية التي لا يلبسها إلا الممثلون، فأجاب «ألبرت»: لعله سرقها من قبور الفراعنة أو دور الآثار، فإن من يملك مثل هذه الحلة الثمينة لا يعجز أن يشتري مشطا يمشط به شعره المشعث، فقالت «سوزان»: لا عار على الرجل أن يكون قبيحا، ولكن القبيح أن يلبس ثيابا جميلة تختلف صورتها عن صورته فتلفت الأنظار إلى قبحه ودمامته، ثم التفتوا جميعا فرأوا ماجدولين قد تراجعت إلى الوراء وهي ترتعد وتضطرب وقد استحالت حمرة وجهها إلى صفرة كصفرة الموت، فسألوها ما بالها؟ فزعمت أنها مقرورة وأنها تشعر برعدة في جسمها، ودوار في رأسها، ولم تكن صادقة فيما تقول، ولا يمكن أن تصدقهم فيما تقول؛ لأن الرجل الذي يسخرون منه ويتناولونه منذ حين بألسنتهم ويذهبون كل مذهب في تحميقه وتجهيله والسخرية به؛ إنما هو خطيبها الذي تحبه وتستهيم به، فأمسكوا عن الضحك هنيهة وأقبلوا عليها يعللونها حتى هدأ ما بها، فانصرفوا إلى الرواية يشاهدون فصولها، وعادت هي إلى مجلسها الأول، وظلت تخالس «استيفن» النظرة بعد الأخرى حتى انتبه لها فحياها بابتسامة خفيفة لم يشعر بها أحد غيرها، ثم ما لبثت الرواية أن انتهت فنهضوا للانصراف، وألقت ماجدولين على «استيفن» نظرة ضمنتها معنى شكرها إياه على اهتمامه بها، وحضوره لرؤيتها، ثم انصرفوا. (51) الرجل والمرأة
ناپیژندل شوی مخ