د پلاټون د میلمستیا: خبرې په مینه
مائدة أفلاطون: كلام في الحب
ژانرونه
تاريخ الفلسفة اليونانية
أفلاطون - حياته - مؤلفاته - فلسفته
الفيلسوف الأعظم أرسطوطاليس
الفلسفة بعد أرسطو
الأفلاطونية المستحدثة
خاتمة وخلاصة ما تقدم
الإنسانية والتقدم
مائدة أفلاطون
تاريخ الفلسفة اليونانية
أفلاطون - حياته - مؤلفاته - فلسفته
ناپیژندل شوی مخ
الفيلسوف الأعظم أرسطوطاليس
الفلسفة بعد أرسطو
الأفلاطونية المستحدثة
خاتمة وخلاصة ما تقدم
الإنسانية والتقدم
مائدة أفلاطون
مائدة أفلاطون
مائدة أفلاطون
كلام في الحب
تأليف
ناپیژندل شوی مخ
محمد لطفي جمعة
تاريخ الفلسفة اليونانية
(1) أصول الفلسفة اليونانية - مدينة يونان - الشعر يعد الطريق للفلسفة
لم تولد الفلسفة في بلاد يونان ذاتها، إنما ولدت بين ظهراني الإغريق الذين كانوا يعيشون على شواطئ آسيا الصغرى، وفي جزر بحر إيجه، وكان ظهورها في الوقت المناسب بعد أن مهدت لها الطريق الأشعار الطويلة، والأعياد الدينية، والحروب الداخلية، وبعد أن بدأ الشعراء الحكماء يدونون خواطرهم وتأملاتهم، وبعد أن ولد علم الكائنات، وترعرع في القرن السابع ق.م.
ملأ هؤلاء الإغريق البعيدون عن وطنهم البحار بسفنهم، وطافوا أنحاء الأرض في سبيل التجارة، وأسسوا مدنية، وهذه المدنية الراقية، وعلاقاتها بالأمم المختلفة، وسياحات أربابها في المحيط والتطورات التي اقتضتها أعدت الأفكار للفلسفة.
وكل المدن التي كانت منتثرة على الشواطئ، فضلت حريتها واستقلالها على الانضمام لبعضها البعض، لتكوين وحدة سياسية، ولم تتم تلك الوحدة إلا لمحاربة الفرس؛ إنما كانت علاقاتها ببعضها البعض مستمرة.
وكانت تنطلق في كل أربع سنين من كل المدن والجزائر السفن الكبرى مملوءة بالهدايا، والقربان، والرجال، والنساء، مزينين ومزينات للاحتفال بعيد أيونيا في جزيرة ديلوس، وقد امتزجت بهذا العيد الديني الألعاب الرياضية والرقص، وهذان أعدا فن النحت بإعداد الأبدان الحية، وفي ساحة كبرى كان الشعراء ينشدون قصائدهم، والمنشدون قصائد غيرهم، وفي الساحة العامة كانت تنصب سوق تتبادل فيها المتاجر؛ فيحضر الأثيني بفخاره، والميليزي بصوفه، وأهل أيونيا بزيوتهم الطيبة، وعطور جزيرة العرب، وتبر القوقاز (قولشيت)، والأحجار الكريمة، والأقمشة الغالية، كل من مصدره.
وكانت كل مدينة منشقة على ذاتها، وقد استبدلت الملكية البطريرقية (سيادة الوالد) التي كانت في زمن هوميروس بنظام أوليجاركي، ثم اختفى هذا النظام. وقد اقتضت هذه الأحوال وضع قوانين جديدة ؛ عامة وخاصة.
وكان التشريع صعبا في هذه المدن القوية لارتباك الحياة ونموها؛ لذا قام الشعراء الأقدمون وأوائل الفلاسفة بأعباء السياسة، واشتغلوا بها باعتبار أفضليتهم.
وفي شعر هوميروس لا يختلف التعليم الأدبي عن الحقائق ونتائجها، ثم بدأ التفكير ضعيفا عند هزيود؛ وذلك لعلاقته بعواطف الشعراء. يذكر هزيود خلافه مع أخيه بيرسيه عندما يكتب فيقول: «العراك نوعان؛ الأول مذموم ومخيف، وهو الخصام والدعوى، والثاني شريف وعظيم، وهو مباراة المتفننين وأرباب الصنائع.» وقد أوحى إليه ما قاساه من ظلم الملوك ديوان «البلبل والباشق»، ومما جاء فيه: «لتتحارب الحيوانات المتوحشة والأسماك والطيور، ولتفن بعضها بعضا؛ لأنه ليس بينها عدل؛ أما البشر فقد أعطاهم زفس العدل، وهو أحسن الأشياء.» وفي قصيدة «العمل والأيام»: السعادة في العمل والفضيلة، وبهما يحصل الإنسان على بركة الرب، ورضى «المشتري»، وبهما يتقي شر الكذب والظلم.
ناپیژندل شوی مخ
هذا أول أشكال الفلسفة العملية، وليس لدينا إلا نبذ من النثر والشعر الموضوعين في القرون الثلاثة 9-6 قبل المسيح، ثم ظهر الحزن (وهو علامة الأمم المتعبة المفكرة) في شعر ممزم الأزميري الذي ولد عام 632ق.م.، وهو يتغنى بذكر الشباب، ويتحسر على الشيخوخة. وتيونين دي ميجار الذي ولد عام 580 يقول: «أفضل شيء لأهل الدنيا ألا يولدوا، ولا يروا أشعة الشمس المشرقة، ولكن إذا ولدوا، فالأفضل الخروج إلى عالم الخفاء بأسرع فرصة، وأن يرقدوا تحت الأرض.»
ومن حكماء هذا العصر الحكماء السبعة الذين لم تعرف أسماؤهم، وحاولوا أن ينشروا الأفكار الأدبية في جمل قصيرة بدون تطويل، وجملهم عبارة عن حقائق مفرغة في قالب سهل؛ وهي إما ثابتة بذاتها، أو قائمة على سلطة دينية.
وكذلك الشعراء صولون وفوسيلت وتيوجينس، عبروا في شعرهم عن نتيجة الخبرة الإنسانية، وخطر العنف، وضرورة الاعتدال في الحياتين، الخاصة والعامة، وفي الوقت نفسه كانت السريرة الأدبية تتطهر، ثم ظهرت فكرة الله.
يناجي أرشيلوك الشاعر الرب زفس: «زفس أيها الأب الأعلى، يا من تحكم من أعلى السماء، وترى ما يفعله الناس من خير وشر، أنت تعلم ما هو عدل، وما هو ظلم في عالم الحيوان ، إذا كان زفس صاحب القدرة كلها، فكيف يسود الظلم؟!»
ومثله يقول تيوجتيس: «من ذا الذي يرى الظلم في العالم ثم يحترم الأرباب؟ زفس أيها الأب الأعلى انصر العدل.» هذه الثورة ضد الدين هي الفلسفة الأولى.
إن قصيدة الأعمال والأيام هي أقدم تعبير للفلسفة العملية، وقصيدة التيوجوين التي تنسب إلى هيزود هي أول شكل من أشكال الفلسفة النظرية، واسم هيزود أول الأسماء.
وفي القرن السادس ظهر نوع الأورفزم من الأناشيد؛ فإن أونوماقريط - أحد العلماء الذين كانوا محيطين ببسترات - نشر أغاني مقدسة باسم أورفيه 520-540ق.م.، وقد استنزل فيها الوحي من الأساطير القديمة، ومن الأفكار التي كانت ذائعة ومنسوبة إلى الشعراء الأقدمين، وكل ما نعرفه عن الأورفين وصل إلينا من «الإسكندريين» الذين شوهوا تلك الأغاني بأن جعلوها خليطا من سائر الأفكار، وأعطوها صبغة مقدسة بأن نسبوها إلى الحكماء الأول.
ومن الأغاني التي استمدت من الأساطير فكرتها، أغنية جميلة على الليل والزمان اللذين يلدان الحب ذا الجناحين المذهبين (إيروس)، فينمو ويكبر وينحني، فيكون ظهره السماء بنجومها، ومن نور عينه يخرج القمر والشمس، ومن دموعه يخرج الجنس الإنساني البائس، وابتسامته تخرج شعب الآلهة المقدس.
وفي القرن السادس أيضا كتب فيرسيد بالنثر عن الطبيعة والأرباب، وما دونه من الكوزمولوجيا لا يزال مرتبطا ارتباطا شديدا بالتيوجونا، ولكنه يفوق ما دونه هيسود.
ويمتاز فيرسيد بأمرين؛ الأول أنه ميز المواد اليابسة (الأرض) عن غيرها كالمواد الجوية، وفرق بين المادة والقوة التي تدبرها.
ناپیژندل شوی مخ
ويلاحظ المطلع على تلك الفترة من تاريخ الفلسفة أن فكرة واحدة كانت سائدة، وهي فكرة النظام والتناسب والانسجام؛ فهي الفكرة السائدة في ما يدونه الحكماء والمشترعون وغيرهم ممن يريدون أن يسود الانسجام. (2) تقسيم الفلسفة اليونانية - بيان عن الفلسفة السابقة لسقراط - تقسيم الفلاسفة السابقين
يمكن تقسيم الفلسفة اليونانية التي تتصل بها الفلسفة اللاتينية إلى ثلاثة أقسام أو فترات:
القسم الأول يبدأ بطاليس عام 600ق.م.، وينتهي مع سقراط، والفلسفة في هذا القسم هي عبارة عن علم الكائنات الشامل لسائر عناصر الوجود. وفي القسم الثاني فتح سقراط للفلسفة بابا جديدا؛ فرفع المنطق والأخلاق على الطبيعيات. والقسم الثالث يبدأ بآراء المحدثين من أتباع فيثاغورس واضعي «نيوفيثاغورزم»، ويمتد إلى نهاية الفلسفة القديمة، ويمتاز هذا القسم بامتزاج الفلسفة اليونانية بالروح الشرقي، وتفوق الحكمة الآلهية والتصوف.
كان الفلاسفة الأيونيون (اليونان الأقدمون) طاليس وأناكسيماندر وديوجين دابولوني، والفيثاغوريون، والآليات كلهم يبحثون عن مادة الأشياء.
وفي عهد هيراقليت أصبح السؤال المهم هو معرفة قواعد صيرورة الأشياء، وما يطرأ عليها من التطور، وطريقة النظر إلى المادة الأولى التي يتكون منها الشيء، وعليها يتوقف فهم قواعد الصيرورة والتغير، ثم إن إمبيدوكل والفلاسفة الأتوميست وأنا كساجور تأثروا بآراء بارمنيد ضد التحول والتعدد؛ فقالوا بأنه ليس هناك صيرورة، ولا هلاك بمعنى الكلمة، ويفسرون سائر المظاهر الطبيعية باتفاق واختلاف العناصر الأولى (التجاذب والتنافر).
رأينا في اليونان أن الشعراء يسبقون الفلاسفة؛ ولذا كانت المسائل التي حلها الشعراء الحكماء جمة مهمة؛ فهم يتساءلون عن معرفة تكوين الأرض، وظهور الإنسان، وقد قبل الفلاسفة ميراث الشعراء؛ أي إنهم اهتموا بما اهتم به أولئك، ولا يزال مجال بحثهم ماديا؛ أي أصل الأرض، وأصل الإنسان، ولكن طريقة البحث تغيرت، وتغير طريقة البحث أدى إلى صعوبة الاهتداء إلى حلول تلك المسائل غير المحدودة؛ فإنه لا يمكن تعليل الأشياء بتحول مادة أولية، كما أنه لم يكن ممكنا تعليلها بتاريخ الأرباب؛ ولذا عرضت صعوبات جمة؛ فتقوى العقل البشري بطول البحث، وساد المنطق شيئا فشيئا على علم الكون، وساد البحث في الانتقال من الواحد إلى المتعدد، وإمكان التحول والصيرورة، والذي يهم الباحث هو هذا الانتقال الفكري من الطبيعي إلى المنطقي، ومن النظر في الكون إلى النظر في ذاته. (3) آراء الفلاسفة الأول
طاليس أول الفلاسفة الأيونيون كان من أهل ميلت، ومن معاصري كريسوس وصولون، ويفرض ميلاده عام 640ق.م.، ويقول أرسطو في كتابه «ما وراء الطبيعة» جزء 1، قسم 3 / 983 ب20: إن طاليس لم يقل بشيء سوى استبدال المحيط، وما عبر عنه علماء التيولوجيا بالعنصر الرطب، وهذا التغيير قد أحدث ثورة في الأفكار. ويشير أرسطو إلى أن العلم الذي كان متعلقا بأهداب الشعر قد بدأ ينفصل عنه، وأصبح القول بالآراء الشخصية من أهم الأمور؛ كذلك الدفاع عنها بالجدل وطرق البحث العقلي، ولم يكن ذلك مبنيا على الأساطير المقدسة، إنما على مراقبة الطبيعة بالذات. قال طاليس: «إن كل الموجودات مملوءة بالأرباب.» ومن المرجح في رأي أرسطو أن طاليس تمثل المادة الأولى حية، وهذا رأي الأقدمين في الكاوس (الفوضى الأولى)، وأنها قادرة على توليد الأشياء بذاتها.
أناكسيماندر، وهو من أهل ميلت ولد 611ق.م.، أخذ أول مبدأ لذاته اللانهاية، وقد تخيل اللانهاية مادة غير محدودة مؤلفة من اختلاط عدة مواد موجودة في جثمان أو جرم لا يمكن تمييزه.
ثم تلاه أناكسمين من ميلت أيضا، وأصغر سنا من أناكسيماندر، وقد يكون تلميذه، اتخذ الهواء بداية لكل شيء، ويعتقد أنه لا نهاية له، وأنه حي، وأنه يعتنق العالم بأسره، وأنه بحركة مستمرة يولد الموجودات، وكل شيء ينتج عنه بالتكثيف والتخلخل.
ثم تلتهما فترة وقعت فيها حروب الفرس، وجاء ديوجين دابولوني، وهو أصغر من أناكساجور (وعاش 450-480)، ولا ريب أنه اجتمع به بأثينا التي صارت عاصمة الفلسفة، وقد قال بأن الكائن الأول ينبغي أن يكون مادة كسائر الأشياء، وينبغي أن يكون ممتعا بالفكر؛ فإنه إن لم تصدر الأشياء كلها عن مادة واحدة لا يمكن تعليل أثرها في بعضها البعض سلبا وإيجابا، وأن قياس الكون وترتيبه، حيث كل شيء سائر في طريق الخير، يظهران بوضوح ذكاء المبدأ الأول، وهذا المبدأ هو الهواء المفكر الذي يحكم الأشياء ويسودها جميعا؛ لأنه يخترقها جميعا؛ لأنه مادتها.
ناپیژندل شوی مخ
إن المعروف عن فيثاغورس وتلاميذه قليل، والتعويل في القول عنهم هو على كتب أرسطو، وعلى بعض نبذ نادرة من مؤلفات فينولاوس.
ولد فيثاغورس في ساموس نحو 588، وكتب زينوفان وهيراقليت كلاما عنه، ومن الراجح أنه ظهر أولا في وطنه، ثم انتشر اسمه في إغريقية الأيونية، وتصعب معرفة حقيقة الأساطير التي نسبت إليه السياحة في مصر، وأشوريا، وكلدانيا، وبلاد الفرس، والهند، والمؤكد أنه سافر حوالي عام 540 إلى إيطاليا، واستوطن كروتون، وتوفي عام 500 بمتابونته، ولا يعلم إن كان موته قبل ثورة مدن الإغريق الكبرى ضد النظام الذي وضعه، والجمعية التي ألفها أو بعدها، ولم يكن فيثاغورس فيلسوفا فقط، بل كان مصلحا سياسيا ودينيا.
وقد ألف فيثاغورس جمعية دينية سياسية علمية انتشرت من كروتون إلى سائر مدن إغريقية الكبرى، وكان يشترط للدخول فيها مدة يقضيها العضو من قبيل التجربة قبل الانضمام النهائي، وكان الأعضاء يتعارفون بإشارات سرية، وكان مفروضا عليهم التعاون، ومساعدة بعضهم بعضا، وواجبهم نحو الرئيس الطاعة المطلقة، وأشهر فلاسفة هذه المدرسة الفيثاغورية: فيلولاوس أحد معاصري سقراط وديموقريط، وقد جاء إلى طيبة، وتعلم عليه سيبيس وسمياس وتيميه دي لوفر، والشاعر الهزلي أبيسام وأرخنياس دمارنت، ونورد رأي أرسطو في أتباع فيثاغورس نقلا عن كتاب «ما وراء الطبيعة» قسم 501، قال إنهم تغذوا بلبان الرياضيات، وتأثروا بشدة الشبه بين الأرقام والموجودات، فظنوا أن عناصر الأعداد هي عناصر سائر الموجودات، وأن السماء كلها انسجام واحد ورقم واحد؛ فكان العدد هو المادة والشكل، بل إن الأعداد هي الأشياء بعينها، وينتقد عليهم أرسطو أنهم يخلطون إلى هذا الحد بين الأجسام الطبيعية وبين الأرقام الحسابية؛ أي بين الأشياء ذات الثقل والخفة، وبين الأشياء التي لا ثقل لها ولا خفة.
يقول الفيثاغوريون إن العدد الذي هو مادة الأشياء له في ذاته عناصر (عنصران) هما الزوج والفرد؛ فالزوج هو اللانهاية، والفرد هو النهاية، وكل شيء مركب من النهاية ومن اللانهاية؛ كل شيء هو عدد وانسجام، وما العدد إلا انسجام الزوج؛ والفرد انسجام النهاية واللانهاية؛ فالانسجام لا ينفصل عن العدد، بل هو العدد ذاته. فإذا كان النظام سائدا في العالم؛ فهذا لأن عناصر الأشياء - أي الأعداد - هي القاعدة والنظام، بل هي موسيقى ذلك الانسجام، وهنا ترى فكرة الترتيب والقياس والانسجام سائدة على سائر آراء فيثاغورس وأتباعه.
وغاية تعليم فيثاغورس هي البحث عن الكائن، والحقيقة في العدد، وليس هناك غاية للتمييز بين ما هو محسوس وما هو معقول؛ بل امتزج عندهم التعقل والخيال والشعر والدين والعلم والسياسة، وكل حالات النفس، وأوضاع الفؤاد، وصور الفكر ممتزجة عندهم في وحدة محسوسة مرتبكة.
أشهر فلاسفة مدرسة إيليات هم: زينوفان وبارمنيد وزيفون الإيلي.
ولد زينوفان دي كلفون عام 569، وساح من بلد إلى بلد يكسب قوته بنشيد شعره، ولجأ أخيرا إلى إيلية، وهي مستعمرة أسسها الآبقون من الفرس عام 544، وبدأ زينوفان تعليمه بهجمات شعواء على أرباب العامة؛ ففي النبذتين 6 و7 من مؤلفاته ما يأتي: «لو كان للثيران والأسود أياد لصنعت لنفسها آلهة على شكل أبدانها؛ إن هوميروس وهزيود نسبا للأرباب كل ما يشين البشر، ويقلل من أقدارهم.» ثم ختم قوله بتوحيد الله وهو يقول في وصفه: إنه رب لا يتعب، ويدبر الموجودات كلها بقوة فكره. يقول أرسطو: ولم يفصل زينوفان الله عن العالم، إنما نظر في السماء بمجموعها، ثم قال إن الواحد هو الله، وقد خلط الكون بالله، وقرر أن الواحد لا يتحول ولا يتغير، ثم كان ينبغي لزينوفان أن ينفي التغير والتحول عن العالم كما نفاهما عن الله، ولكنه لم يصل إلى ذلك، بل قال بأن العالم لا يتحول في مادته، وقد يتحول في شكله. (3-1) بارمنيد
أما بارمنيد الذي يدعوه أفلاطون بالعظيم، فقد كان أكثر شجاعة وإقداما؛ فإنه تغالى في تقرير مبدأ زينوفان فأنكر بتاتا التغير والصيرورة والتعدد، ولا يعترف بسوى الحقيقة الواحدة أو الكائن الواحد الأبدي الذي لا يتغير. (3-2) زينون
كان زينون صديق بارمنيد وتلميذه، وقد ولد بإيلية في أوائل القرن الخامس، حوالي 490، ولعب دورا سياسيا مهما كما فعل أستاذه، ونسب إليه أرسطو فضل وضع المنطق، ثم إنه قام بتأييد مذهب بارمنيد. (3-3) شأن مدرسة إيلية
وكان لمدرسة إيلية أثر مهم في تكوين الفلسفة السابقة لسقراط؛ فوافق إمبيدوكل والأتومست وأناكساجور بارمنيد على القول بأن الكائن الحقيقي هو أبدي غير هالك. وقد نشأ عن القول بهذا الفكر رأي جديد في الحياة والطبيعة. (4) الطبيعيون المحدثون: أولهم هيراقليط ولد عام 504
ناپیژندل شوی مخ
إن هيراقليط أخذ بعلم الهيلوزويسم
Hylozoisme ،
1
ولكنه كان يهتم بتحول الأشياء وتغيرها أكثر من اهتمامه بمادتها؛ فلذا هو يخالف بارمنيد الذي كان معاصرا له، وهكذا يمكن فصل هيراقليط عن الفلاسفة الأقدمين الذين كانوا يهتمون بالمادة، ووضعه في طليعة الحركة الفلسفية التي كان هو من أوائل رجالها ، ومن أهم تلاميذه كراتيل الذي كان من أساتذة أفلاطون، وقد اشتغل هيراقليط بالسياسة، وحارب الديموقراطية، وكان غامض العبارة حتى إنهم لقبوه بهيراقليط الغامض.
وكان هيراقليط هذا يقول بأن الكل يتحرك، والكل يسيل، والكل يصير الكل، والكل هو الكل. ومن قوله: النهار والليل والنوم واليقظة والشباب والشيخوخة كلها أشياء واحدة، والطين الذي تصنع منه سائر الموجودات هو مادة واحدة تتشكل بأشكال مختلفة. إن العالم محتاج إلى التحريك لئلا يعتريه الفساد. لا شيء موجود؛ الكل هو الوجود. الكل يشمل المتناقضات، وقانون الصيرورة يعود إلى قانون اتفاق الأضداد؛ أي كون الأضداد هي الأشياء بذاتها، وكل الأشياء تولد من هذا العراك.
وهيراقليط يبحث في هذه الفوضى عن الانسجام؛ لأنه لا يقول بالمصادفات وبحدوث الأشياء اتفاقا وعرضا. ومن قوله أن النفوس الجافية لا تعرف أن الخير والشر يجتمعان في أثر واحد كما يجتمع في الانسجام العود والقيثار، وكل له أنغام مخالفة لأنغام الآخر؛ وهذا الانسجام هو القانون الإلهي. (4-1) إمبيدوكل
إمبيدوكل من أغرب وأعجب هؤلاء الفلاسفة الأقدمين؛ فهو شاعر وخطيب سياسي ونبي مطهر؛ فيقوم بالمعجزات ويحيي الموتى ويوقف الأوبئة، ويطوف شوارع أجريجتيه محزما ومتوجا بتيجان خضراء، ومعبودا كأنه بعض الأرباب، وقد انتحل من الفيثاغوريين تعاليمهم الدينية والأدبية؛ وعلم الكائنات الذي قال به هو توفيق بين بارمنيد وهيراقليط؛ فهو يعترف بوجود بعض المواد التي لا تخلق ولا تهلك، وينسب كل تغير وتحول إلى انفصال وارتباط تلك المواد؛ لا شيء يعدم ولا شيء يخلق؛ فليس هناك إلا انفصال وارتباط العناصر. والعناصر أربعة: الأرض والماء والهواء والنار. والقوى المحركة هي الحب وهو مبدأ الاختلاط والاتحاد، والبغض وهو مبدأ الانفصال والانحلال. (4-2) ليوسيب
لا يعرف عنه شيء تقريبا، ولا يمكن تمييزه عن تلميذه وصديقه ديموقريط (460)، وكان غنيا جدا، ووقف أمواله على السياحة والأبحاث العلمية، وقضى خمس سنين يجاور علماء الهندسة المصريين، ولا يعلم عن تاريخ سفره إلى أثينا شيء، وهو كإمبيدوكل يريد التوفيق بين التعدد والصيرورة؛ أي التجربة. والحل الذي لجأ إليه ديموقريط هو القول بالجوهر الفرد (أتوميزم)؛ فقال: إن الكائن ليس هو الواحد كما ظن بارمنيد، إنما هو مكون من عدد غير محدود من الذرات والوحدات الأبدية غير المنقسمة متشابهة، متحركة على الدوام في الفراغ غير المحدود؛ فبقاء الكائن أمر يمكن التوفيق بينه وبين التحول. لا شيء يأتي من العدم، ولا يمكن هلاك شيء من الموجودات، إنما الميلاد والنمو والموت يمكن تفسيرها بارتباط وانفصال الذرات الأولية المتحركة في الفراغ؛ وتغيير الصفة يرجع إلى تغيير الوضع في الفراغ. ويعلل ديموقريط هذه الحركة بحركة سابقة لها، وهكذا ينسب الحركة السابقة إلى حركة أسبق من الأولى.
وقد انتقد أرسطو هذا الرأي، وقال كان الأولى به أن يقول بأن هذا السؤال لا جواب عليه؛ لأن الأشياء كانت على ما هي عليه أبدا؛ وأنه لا مجال للبحث عن قاعدة أو قانون. (4-3) أناكساجور
من أهل كلازومنيس، ولد عام 500، وتوفي عام 428، أحد الفلاسفة الأيونيين، جاء أثينا وأقام بها ثلاثين عاما، وبها تلقى عليه العلم أيربيد، وشاهد تشييد البارتينون، وعرف فيدياس، وصادق بريكليس، وحظي بحديث أسبازيا.
ناپیژندل شوی مخ
وقد حاول مثل إمبيدوكل وديموقريط أن يوفق بين رأي بارمنيد، وبين التجربة فقال: إن اليونانيين يسيئون القول عندما يتكلمون عن الميلاد والهلاك؛ لأنه لا شيء يولد، ولا شيء يهلك، إنما الأشياء موجودة، تتألف وتتحد ثم تنفصل، وإن التغيير في الأشياء ناشئ عن تحول موضعها في الفراغ. وهو يقول بأن عناصر الأشياء وجدت منذ الأزل، وأن كل شيء يمكن تقسيمه إلى اللانهاية، إلى أجزاء متشابهة ذات صفات مختلفة؛ والعشب الذي يأكله الثور يتحول إلى دم وعظم وعضل؛ لأنه يشمل الدم والعظم والعضل. وبعبارة أخرى كان رأي أناكساجور هو الذي قال به بعد ذلك جوردنانو، وباسكال، وليبنتز. (أ) رأيه في أصل العالم
في أول الوجود كان الخلق مضطربا مرتبكا؛ فلأجل خروج العالم من تلك الفوضى اقتضى ذلك تداخل قوة محركة مدبرة آمرة مرتبة؛ وهذه القوة هي العقل، والذي يمتاز به العقل هو البساطة والقوة والعلم. ولكن لم يكن لأناكساجور رأي واضح في الفرق بين الروح والمادة؛ فهو يتكلم عن العقل بعض الأحيان، كما يتكلم ديوجين دابولوني عن الهواء المفكر، ويقول عنه إنه أخف وأنقى الأشياء، وإن كل الكائنات المفردة تحتوي على أجزاء منه، وإن أرواحها تقرب إلى الكمال بقدر ما تحتوي من مادته. ويرى من ذلك أن أناكساجور هو أول من أدخل في الفلسفة فكرة قانون روحاني يرتب العالم وينظمه. إن أناكساجور لفت نظر العقل الإنساني نحو ذاته، وبذا أعد فلسفة جديدة، وهي فلسفة السفسطة التي اشتغلت بالفكر عن الموجودات. (5) أصول السفسطائية - السفسطائيون المشهورون، وآثارهم في تكوين الفلسفة
كانت الفلسفة اليونانية في أول أمرها غزيرة بالآراء، وأنظمة الفكر، وطرق البحث؛ فقد وضع هيراقليط أكبر قواعد علم الخوارق عندما قال إن كل شيء يتغير إلا قانون التغير ذاته، كذلك بارمنيد ينكر الصيرورة (التجربة)، ولا يعترف بغير حقيقة واحدة، وهي حقيقة الواحد المتحد بذاته الأبدي. وقد اكتشف ديموقريط في المادة سيادة الروح على الموجودات، ولكن كل قاعدة كان يقول عنها صاحبها إنها عبارة عن الحقيقة ذاتها؛ فإذا كان العالم باقيا كما هو، والمعضلة المطلوب حلها لا تتغير، فلماذا تتعدد الحلول؟ هذا هو الذي دعا الفكر إلى التنبه والحذر من خطئه، وكانت حال بلاد اليونان السياسية والاجتماعية تقتضي وجود خطباء حاذقين يلعبون بالأفكار، ويهمهم الفوز على الجموع أكثر مما يهمهم قول الحق؛ لذا نشأ فريق السفسطائيين، ولم يؤلف السفسطائيون مدرسة فلسفية بالمعنى الصحيح، وكانوا ينكرون الحق والخير المطلقين، ولم يكن لهم غاية سوى الانتفاع بالأشياء، وسنأتي على آراء أشهرهم.
أشهرهم بروتاجوراس وجورجياس وبروديكوس وتراسيماك وأيونيديم.
أما بروتاجوراس فقد اتخذ نظام هيراقليط بداية لتعليمه، ولكنه أغفل ذكر العقل العام الذي قال عنه هيراقليط إنه سبب الانسجام، ووحدة الذات في المتناقضات، إذا لا يبقى سوى حوادث خارقة للعادة وحركة مستمرة.
وليس يوجد باب للمعرفة إلا الحواس الخمس؛ فالإنسان أصبح مقياس الأشياء، وكل معرفة نسبية بالنسبة للروح التي تعرف؛ فلا يخرج الإنسان من ذاته، والحكيم كطبيب النفس لا يمكنه أن يخلق فيها أفكارا أصح وأصدق من الأفكار الموجودة بها، ولكنه يمكنه أن يوجد بها أفكارا أنفع وأجمل؛ فالحكمة هي صنعة الإسعاد.
وجورجياس ولد عام 427، وجاء إلى أثينا سفيرا لمدينة ليونتيم، وهي وطنه بصقلية، وقد اتخذ تعريف بارمنيد للكائن، وطبق هذا التعريف على الكائنات الحساسة، ويستنتج أن الكائن ليس في مكان ما؛ لأنه لا شيء يوافق تعريف الوجود. وجملة تعليمه في ثلاثة آراء؛ الأول أن لا شيء موجود، وأنه لو وجد شيء فلا يمكن معرفته، ولو فرضنا وجود الكائن، وأمكن معرفته فلا يمكن له أن يعرفه لغيره. قال بروتاجوراس إن كل حكم يصدره الإنسان حق. وقال جورجياس إن لا حكم حق، يقول لو كان كل حكم حقا فهو قاصر على التعبير عن الظاهر، وإذا كان كل حكم غير حق، فمعنى هذا أننا لا نستطيع إلا فهم الظواهر.
يقول السفسطائيون الذين انتقدهم أفلاطون وسقراط انتقادا مرا إنه ليس هناك علم، إنما هناك آراء، وليس هناك حقيقة، إنما هناك ما يشبهها، وإن الخير نسبي كالحق، وروح الأدب هي فن الفوز. ومن أقوالهم أن الأرباب اخترعها واضعو القوانين ليرهبوا البشر، وأنه ليس هناك عدل، ولا ظلم، ولا حق، ولا باطل، وأن القوانين ما وضعت إلا للضعاف الذين لا يستطيعون مخالفتها، وأن الخير هو القوة، وهو فرح السيادة على الأشياء والفوز على الموجودات، وكون القانون الوحيد الذي يقيد الرجل هو إرادته.
وظهور السفسطة دليل على اضمحلال الفلسفة اليونانية القديمة، وبداية تقدم في الفكر، وأول عهد للبحث في مسائل معضلة لم تخطر للأقدمين على بال. (6) سقراط العظيم والفلسفة السقراطية
لم يكن سقراط فيلسوفا فقط، بل كان فيه من صفات الرسل والأنبياء، وكان يعتقد أنه تسلم من الأرباب رسالته، فتفرغ لتلك الرسالة، وكانت نفسه تحدثه بإصلاح وطنه إصلاحا أدبيا ودينيا، وأنه ما كان يستطيع أن يرد لبلاد الإغريق مجدها بدون أن يستردوا فضيلتهم؛ فنشر طريقة جديدة للاهتداء إلى الحقيقة، وإخراجها واحدة ثابتة من كل المظاهر المتعددة قليلة الثبات. وكل ما يحبه في الحق هو الخير الذي هو الشرط الأول للحق؛ والمنطق مرتبط في نظره بالآداب؛ لأنه أداتها.
ناپیژندل شوی مخ
ولد سقراط في أثينا عام 470، واشتغل بصنع التماثيل كأبيه، ثم تركه واشتغل بالحكمة والوعظ، وكان قوي البدن، شجاعا يقابل الأخطار بصدر رحب، وكان يعتقد أنه يوحى إليه بما يقول، وكان يعادي سائر الطبقات؛ فاتهم الشعراء بأنهم يقولون ما لا يعلمون، واتهم رجال السياسة بأنهم ضيعوا مجد الوطن، واتهم السفسطائيين بفساد الأخلاق. وقد ذهبت به شجاعته إلى هلاكه، فاتهموه بالثورة، ونسبوا إليه السخط على نظام حكومة وطنه. وقد اتهمه ملتيوس وليكون وأنيتوس، وأرادوا عقابه بالموت ليكون مثلا فيتقوى الدين الوطني، ويظهر مبدأ الديموقراطية على غيره من المذاهب؛ وليراجع دفاعه عن نفسه أمام القضاة في محادثات أفلاطون (أبولوجي - كريتون - فيدون) فإنه من أجمل وأبلغ ما نطق به الإنسان.
ولم يكتب سقراط شيئا، إنما نعرف تعاليمه بالنقل عن تلاميذه ومن قرءوا عليه؛ على أننا نجد في محادثات أفلاطون نظريات أفلاطون ذاته وضعها على لسان معلمه. أما زينوفون في «الباقيات» و«المائدة» فهو يشرح بدقة أتم آراء سقراط، ويهتم بما يهمه ويلذ له من علم الأخلاق وقواعده العلمية. فأفلاطون فيلسوف متغال، وزينوفون ليس كذلك، فينبغي لنا، والحال هذه، المقارنة بينهما، والرجوع إلى ما كتبه أرسطو في هذا المعنى. إن الفلاسفة الأول أرادوا أن يعرفوا كل شيء فلم يقدروا، وأعطوا الناس حلولا متناقضة؛ أما سقراط فقد كان أكثر منهم تواضعا، وبديلا من أن يلفت الإنسان إلى الأشياء يكفيه أن يلفته إلى ذاته. فأول قاعدة من الطريقة السقراطية هي أن يعرف الإنسان نفسه؛ لأن الحقيقة ليست بعيدة عنا، إنما هي فينا ومنا. وعلى كل فإنه في نفوسنا يمكن وجود الطريق المنطقية الكافية للوصول إلى الحقيقة. كان السفسطائيون ينكرون العلم، ومع ذلك كانوا يجدون لكل مسألة جوابا؛ أما سقراط فكان يقول: كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئا. ومعرفة جهل الإنسان صفة كبيرة؛ لأنها عبارة عن الإلمام بالعلم، وعرفان حدوده، والاقتدار على التمييز بين الحق والباطل. وقد اكتشف سقراط طريقتين للوصول إلى الحقيقة: الأولى سلبية، وهي الهزء، وهي تنجي من الخطأ، وتطهر وتسهل لنا التمكن من الحقيقة. والأخرى إيجابية ، وهي الميوطيقي أو التوليد، وهي تمكننا من الحقيقة التي لا يمكن أن نكتشفها إلا فينا، والخلاص من الغلط، واكتشاف الحقيقة شكلان من عرفان النفس.
ولم يكن سقراط يقصد تثبيط همم الناس بالهزل، إنما يريد تخليصهم من الغلط، ويعدهم للوصول إلى الحقيقة؛ فإن اكتشاف الإنسان جهله هو بداية عرفانه ذاته؛ إنما المعلم لا يسلم زمام الحقيقة لتلميذه، ولكنه يساعده على استخراجها. قال سقراط: «إن صنعتي كصنعة المولدة، ولكني أولد الرجال لا النساء، وأعتني بالنفوس لا بالأجسام.» فالعلم لا يسلم قياده، ولا يوهب إنما هو حاضر في النفس البشرية التي لا تملكه إلا إذا تركته يفيض منها، والعلم يكمل المعرفة التي يصل إليها الإنسان إذا عرف ذاته؛ فعمل الأستاذ هو مزاولة الموطيقي أو التوليد؛ أي صنعة معاونة النفوس على «وضع الحقائق» التي لا تحتاج إلا لأن تولد؛ فما هي إذا الطرق المنطقية التي تسهل توليد الحقيقة؟ أجاب أرسطو على هذا السؤال أن هناك أمرين ينسبان إلى سقراط؛ الأول المقالات القياسية (الاستدلالية)، والثاني التعريفات العامة؛ فكان سقراط بطريقته يظهر غرور الفصاحة السفسطائية بتعيين معاني الألفاظ تعيينا دقيقا، وبوضع تعريفات تعبر عن طبائع الأشياء، وتمكن النفس من الحقيقة التي تستخرجها بعمليات منطقية تشبه الأعضاء الطبيعية للذكاء الإنساني؛ ولأجل الوقوف على حقيقة فكر سقراط نرجع إلى ما جاء في محادثة فيدون التي وضعها أفلاطون؛ قال سقراط في هذه المحادثة (ن96): «وأخيرا سمعت واحدا يقرأ في كتاب قال عنه إنه كتاب أناكساجور: «إن الذكاء هو قاعدة وقانون سائر الأشياء؛ فانشرح صدري لأنني فطنت إلى حسن تلك القضية، فقلت في نفسي إذا كان الأمر كذلك فإن الذكاء سيحول الأشياء إلى الخير العام؛ فإذا أراد الإنسان أن يجد سبب كل شيء، وكيف يولد، وكيف يهلك، وكيف يوجد، فما عليه إلا أن يبحث عن أحسن حال يكون عليها الشيء».» (6-1) آداب سقراط - القوانين الإلهية - علم الفضيلة
نظريات دينية
يقول سقراط: إن القانون هو العقل، وإن العقل هو الطبيعة ذاتها، وإن القوانين الحقيقية هي غير المكتوبة، بل التي سطرتها الأرباب في قلوب البشر. إن من لا يطيع القوانين الإنسانية قد يسلم من العقاب، ولكن من يستخف بالقوانين الإلهية لا يسلم من العقاب، والعقاب يتلو الزلة، فتنتظم الحال، ويعود الترتيب بالتكفير عن الذنب. إذا كان الخير هو الحقيقة ذاتها، وإذا كان من الخطأ يخرج العقاب بضرورة طبيعته، فمن المستحيل أن الإنسان يعمل الشر بإرادته؛ لأن الإنسان يريد الخير لذاته على الدوام، فإذا كان الخير هو الحقيقة بعينها، فخير الفرد لا يمكن فصله عن خير المجموع. إذا فالإنسان عندما يخطئ إنما هو يخطئ لذاته، أو يجني على نفسه، وحيث إنه لا يريد إلا الخير، فهو كلما يفعل الشر يكون مخطئا، وكل خطيئة أدبية هي غلطة، ولا يمكن إنقاذ البشر من الخطايا إلا بتعليمهم، ولا لزوم للتمييز بين النظرية والعمل؛ لأن من يملك علم الخير يرى وحدة ذاته مع السعادة، ولا يمكنه إلا أن يعمل الخير، فالإنسان يعمل كما يفتكر. فالفضيلة هي إذا علم، فالحكيم هو الذي يفتكر في الخير، ويعمل الخير، فإذا كانت الفضيلة علما فيمكن تعلمها. والحق أنه لا يوجد إلا حقيقة واحدة هي الحكمة، إنما تعددت أسماؤها بحسبما تكون علاقة الإنسان مع ذاته، ومع أمثاله أو مع الله. وإذا نظرنا إلى الحكمة وعلاقتها بالإرادة تصير هي الشجاعة، والشجاعة هي علم الأشياء التي تخشى، والاعتدال علم السرور، والعدل هو علم ما يستحقه كل إنسان، والصلاح هو علم واجباتنا نحو الأرباب.
وهنا نشير إلى آراء سقراط في الصداقة، وآرائه في العمل، وقوله في المرأة التي يريد جعلها رفيقة الرجل، ومساوية له (راجع كتاب أيكونوميكوس، تأليف زينوفون 1 و3 و7 و9).
أما آراؤه في السياسة فهو يميل إلى الأرستوقراطية، ويريد حكومة أصلح الرجال وأحكمهم؛ وحاجة المدينة إلى العلم كحاجة الفرد، فلا تحصل على الخير المطلق إلا من طريق العلم.
وقد أعطى سقراط دليلين على وجود الإله؛ الأول بالعلل الفعالة، والثاني بالعلل النهائية. والدليل الأول هو القول بأن ما فينا ينبغي أن يوجد في العلة التي خلقت العالم؛ قال سقراط: «أحط العلم كله بفكرك تستطع، ولكن بدنك ليس إلا جزءا ضئيلا من الأرض. وأقول كذلك عن الرطوبة وغيرها من العناصر التي تتكون منها الأرض، كلها عظيمة مهولة، ولكن من كل عنصر منها يدخل بدنك جزء يسير، وأنت تظن أنك وحدك امتزت بالعقل.» وسقراط يظهر إعجابه بترتيب العالم والنظام السائد، وهو معجب بإعداد كل عضو في بدن الإنسان لما خلق له، ثم ينتقل من المصنوع إلى الصانع؛ أي من المخلوق إلى الخالق؛ أي من العالم إلى الله، ويرتفع إلى فكرة إله أكبر من سائر الآلهة، ويقول إن الآلهة الأخرى التي تعطينا الخيرات إنما تعطينا إياها دون أن نراها، أما الذي يرتب العالم بما فيه من أشياء جميلة وخيرة، ويحكمه بأسرع من الفكر يعمل أمامنا أعظم الأشياء، ولكن بدون أن يمكننا من رؤيته؛ فرب سقراط هو العين التي ترى كل شيء، وتسمع كل شيء، وهو حاضر في كل مكان، وساهر على كل ما في الوجود؛ ألم يكن هذا دليلا على وجود الله في نفس الفيلسوف؟! كما كان يقول إنه يسمع في نفسه صوت الله. وقد قال سقراط بخلود النفس تبعا للعدل الإلهي؛ فإن النفس خالدة؛ لأنها منفصلة عن البدن وسائدة عليه؛ ولأن لها حياة خاصة بها. وإن الإنسان يرى البدن ينحل ويفسد، والروح لا يراها أحد بعد الموت، ولا في الحياة؛ ولأنها أقدس ما فينا، ولذا ترجع إلى الله. كن ذا أمل في الموت، ولا تفكر إلا في حقيقة واحدة وهي أن الشر لا يلحق برجل الخير أثناء حياته، ولا بعد مماته؛ لأن الأرباب لا تتخلى عنه مطلقا. (6-2) ما كتبه العرب عن سقراط (أ) اسمه
معنى سقراط باليونانية المعتصم بالعدل، وهو ابن سفرونسقس، ومولده ومنشؤه وميتته بأثينا. (ب) وصفه الطبيعي
كان سقراط رجلا أبيض، أشقر، أزرق، جيد العظام، قبيح الوجه، ضيق ما بين المنكبين، بطيء الحركة، سريع الجواب، شعث اللحية غير طويل، إذا سئل أطرق حينا، ثم يجيب بألفاظ مقنعة، كثير التوحيد، قليل الأكل والشرب، شديد التعبد، يكثر ذكر الموت، قليل الأسفار، مجدا لرياضة بدنه، خسيس الملبس، مهيبا ، حسن المنطق، لا يوجد فيه خلل، مات بالسم وله مائة سنة وبضع سنين. (ج) عائلته
ناپیژندل شوی مخ
خلف من الولد ثلاثة ذكور، ولما ألزم التزويج على عادتهم الجارية في إلزام الأفاضل بالتزويج ليبقى نسله بينهم، طلب تزويج المرأة السفيهة التي لم يكن في بلده أسلط منها ليعتاد جهلها، والصبر على سوء خلقها؛ ليقدر أن يحتمل جهل العامة والخاصة. (د) ملخص تاريخه
قال القاضي صاعد في كتاب طبقات الأمم: إن سقراط كان من تلاميذ فيثاغورس، اقتصر من الفلسفة على العلوم الإلهية، وأعرض عن ملاذ الدنيا، ورفضها، وأعلن بمخالفة اليونانيين في عبادتهم الأصنام، وقابل رؤساءهم بالحجاج والأدلة فثوروا العامة عليه، واضطروا ملكهم إلى قتله، فأودعه الملك الحبس تحمدا إليهم، ثم سقاه السم تفاديا من شرهم، وله مناظرات جرت مع الملك محفوظة. (ه) طريقة تعليمه
بلغ سقراط من تعظيمه الحكمة مبلغا أضر بمن بعده من محبي الحكمة؛ لأنه كان من رأيه ألا يستودع الحكمة الصحف والقراطيس تنزيها لها عن ذلك، ويقول: إن الحكمة طاهرة مقدسة، غير فاسدة، ولا دنسة، فلا ينبغي لنا أن نستودعها إلا الأنفس الحية، وننزهها عن الجلود الميتة، ونصونها عن القلوب المتمردة. ولم يصنف كتابا ولا أملى على أحد من تلاميذه ما أثبته في قرطاس، وإنما كان يلقنهم علمه تلقينا لا غير، وتعلم ذلك عن أستاذه طيماتاوس؛ فإنه قال في صباه لم لا تدعني أدون ما أسمع منك من الحكمة؟ فقال له: ما أوثقك بجلود البهائم الميتة، وأزهدك في الخواطر الحية! هب أن إنسانا لقيك في طريق فسألك عن شيء من العلم، هل كان يحسن أن تحيله على الرجوع إلى منزلك، والنظر في كتبك؟! فإن كان لا يحسن فالزم الحفظ. فلزمه سقراط. (و) سبب محاكمته
ولما أكثر سقراط على أهل بلده الموعظة، وردهم إلى الالتزام بما تقضيه الحكمة السياسية، ونهاهم عن الخيالات الشعرية، وحثهم على الامتناع عن اتباع الشعراء، عز ذلك على أكابرهم، وذوي الرئاسة منهم، واجتمع على أذاه عند الملك والإغراء به أحد عشر من القضاة في ذلك الزمن، فتكلموا فيه بما أفسد عليه قلب الملك، وزينوا له قتله، والراحة منه، وخيلوا له أنه إن بقي في دولته أفسدها، وربما يخرج الملك بأقواله عن يده، فقال الملك: إن قتلته ظاهرا ساءت سمعتي، واستجهلني أهل مملكتي، والمجاورون لي؛ فإن قدر الرجل لديهم كبير، وذكره في الآفاق سائر. فقالوا نتحيل له في سم نسقيه، فاسجنه أياما. فأمر بسجنه. (ز) مدة حبسه
لما حبس الملك سقراط بقي في الحبس أشهرا بعد فتيا قضاة مدينة أثينا بقتله، وسبب ذلك أن المركب الذي كان يبعث به في كل سنة إلى الهيكل المرسوم بهيكل أبولون، وهو الذي تحمل فيه الهدايا في كل سنة إلى ذلك الهيكل لا تتلف نفس علانية بإراقة دم ولا غيره حتى يرجع إلى أثينا، وأنه عرض للمركب في البحر عارض منعه من المسير، فأبطئ قتله تلك الشهور، فلم يقتل حتى انصرف المركب. (ح) اجتماع أصحابه به في سجنه عن رواية خفراطيس «كنا جماعة من أصحابه نختلف إليه، نتوانى في كل يوم في الغلس، فإذا فتح باب السجن دخلنا إليه، فأقمنا عنده أكثر نهارنا؛ فلما أن كان قبل قدوم المركب بيوم أو يومين وافيت في الغلس فأصبت أقريطون، وقد سبقني، فلما فتح الباب دخلنا معا فصرنا إليه؛ فقال له أقريطون إن المركب داخل غدا أو بعد غد، وقد أزف الأمر، وقد سعينا في أن ندفع عنك مالا إلى هؤلاء القوم، وتخرج خفيا فتصير إلى رومية فتقيم بها حيث لا سبيل لهم عليك.» (ط) رفضه الفرار «فقال سقراط: يا قريطون، قد تعلم أنه لا يبلغ ملكي أربعمائة درهم، وأيضا فإنه يمنع من هذا الفعل ما لا يجوز أن يخرج عنه. فقال له أقريطون: لم أقل هذا القول على أنك تغرم شيئا، وإنا لنعلم أنه ليس لك ولا في وسعك ما سأل القوم، ولكن أموالنا متسعة لك بذلك، وبمثله أضعافا كثيرة، وأنفسنا طيبة بأدائه لنجاتك، وألا نفجع بك. فقال: يا قريطون، هذا البلد الذي فعل بي فيه ما فعل هو بلدي وبلد جنسي، وقد نالني فيه من حبسي ما قد رأيت، وأوجب علي فيه القتل، ولم يوجب علي لشيء أستحقه، بل لمخالفتي الجور، وطعني على الأفعال الجائرة وأهلها، والحال التي وجب علي بها عندهم القتل هي معي حيث توجهت، وإني لا أدع نصرة الحق، والطعن على أهل الباطل والمبطلين، وأهل رومية أبعد مني رحما من أهل مدينتي؛ فهذا الأمر إذا كان باعثه نصرة الحق، فهي حيث توجهت واجبة علي؛ فغير مأمون هناك علي مثل ما أنا فيه، ثم لا يعطف واحد منهم على رحم يفديني بها. فقال له أقريطون: فتذكر ولدك وعيالك، وما تخاف عليهم من الضيعة، وارحمهم إن لم تشفق على نفسك. فقال: الذي يلحقهم من الضيعة برومية كذلك، ولكنهم ها هنا أحرى بألا يضيعوا معكم. خبرني يا أقريطون: لو أن الناموس مثل رجلا، فقال لي يا سقراط، أليس بي اجتمع أبواك وبي كان تأديبك، وبي تدبير حياتك؛ أكنت أقول لا، أم أقول الحق الذي هو الإقرار بذلك؟ فقال له: بل الحق. قال سقراط: أفرأيت إن قال لي أفي العدل أن يظلمك ظالم فتظلم آخر؛ أفكان يجوز لي أن أقول نعم؟ قال له أقريطون: لا يجوز ذلك. قال له سقراط: فإن قال أفخروجك من الصبر على ما حكم به الحاكم خروج عن الناموس ونقص له أم لا؛ أيجوز أن أقول ليس بنقص وخروج عن الناموس؟ فقال له أقريطون: لا يجوز ذلك. فقال له سقراط: فإذا لا يجب إن ظلمني هؤلاء القضاة أن أظلم الناموس.» (ي) اعتقاده في الأحلام
ودار بينهما في ذلك كلام كثير، فقال له أقريطون: إن كنت تريد أن تأمر بشيء فتقدم فيه؛ فإن الأمر قد أزف. فقال: يشبه أن يكون كذلك؛ لأني قد رأيت في منامي قبل أن تدخل علي ما يدل على ذلك. (ك) يوم إعدامه
فلما كان ذلك اليوم الذي عزموا فيه على قتله بكرنا كالعادة، فلما جاء قيم السجن فرآنا فتح الباب، وجاء القضاة الأحد عشر، فدخلوا ونحن مقيمون على الباب، فلبثوا مليا فخرجوا من عنده، وقد قطعوا حديده ، ثم جاءنا السجان، فقال: ادخلوا، فدخلنا وهو على سرير كان يكون عليه، فسلمنا وقعدنا، فلما استقر بنا المجلس نزل عن السرير، ونزل معنا أسفل منه، وكشف عن ساقيه فمسحهما وحكهما. (ل) أقواله قبل موته
ثم قال ما أعجب فعل السياسة الإلهية! كيف قرنت الأضداد بعضها ببعض؟! فإنه لا يكون لذة إلا وتبعها ألم، ولا ألم إلا وتبعته لذة؛ فإنه قد عرض لنا بعد الألم الذي كنا نجده من ثقل الحديد في موضعه لذة. وكان هذا القول سببا للقول في الأفعال النفسانية. ثم اطرد القول بينهم في النفس حتى أتى على جميع ما سئل عنه من أمرها بالقول المتقن المستقصي، ووافى ذلك منه على مثل الحال التي كان يعهد عليها في حال سروره من البهج والمزح في بعض المواضع، وكلنا نتعجب منه أشد التعجب من صرامة نفسه، وشدة استهانته بالنازلة التي قد نهكتنا له لفراقه، وبلغت منا، وشغلتنا كل الشغل، ولم يشغله عن تقصي الحق في موضعه، ولم يزل شيء من أخلاقه وأحوال نفسه التي كان عليها في زمن أمنه الموت، وقال له سيماس في بعض ما يقول له، وأمسك بعض الإمساك عن السؤال، إن التقصي في السؤال عليك مع هذه الحال لثقل علينا شديد، وسماجة فاحشة، وإن الإمساك عن التقصي في البحث لحسرة علينا غدا عظيمة لما نعدم في الأرض من وجود الفاتح لما نريد. فقال له: يا سيماس، لا تدعن التقصي لشيء أردته؛ فإن تقصيك لذلك هو الذي أسر به، وليس بين هذه الحال عندي وبين الحال الأخرى فرق في الحرص على تقصي الحق. (م) أقواله قبل موته
ثم قال: إنا وإن كنا نعدم أصحابا ورفقاء أشرافا محمودين فاضلين، فإنا أيضا إذ كنا معتقدين متيقنين بالأقاويل التي لم تزل تسمع منا، فإنا نصير إلى إخوان أخر فاضلين، أشراف محمودين، منهم أسلاؤس وأيارس وأرقيليس وجميع من سلف من ذوي الفضائل النفسانية. وعدد أقواما غير من ذكرنا. فلما تصرم القول في النفس، وبلغوا من سؤالهم الغرض الذي أرادوا سألوه عن هيئة العالم، وما عنده من الخبر في ذلك. (ن) رأيه في الأرض
فقال: أما ما اعتقدناه وبيناه فهو أن الأرض كرية، وأن الأفلاك محيطة بها، ومحيط بعضها ببعض، الأعظم بالذي يليه في العظم، وأن لها من الحركات ما قد جرت العادة بالقول به، وسمعتموه منا كثيرا، فأما ما وصف أناس آخرون فإنهم وصفوا شيئا كثيرا. ثم قص قصصا طويلة في ذلك مما ذكره الشعراء اليونانيون القائلون في الأشياء الإلهية كهوميروس وأرفاؤس وأسيدوس وأبيدقليس. (س) خطبة الموت
ناپیژندل شوی مخ
فلما فرغ من ذلك، قال: أما الآن فأظنه قد حضرت الساعة التي ينبغي أن نستحم فيها فلا نكلف النساء إحمام الموتى في صيوان الحكم؛ فإن الأرماماني - يعني السياسة - قد دعتنا، ونحن ماضون إلى زاوس.
وأما أنتم فتنصرفون إلى أهاليكم، ثم نهض ودخل بيتا يستحم فيه، فأطال اللبث فيه، ونحن نتذاكر ما نزل بنا من فقده، وإنا نعدم أبا شفيقا، ونبقى بعده كاليتامى، ثم خرج إلينا وقد استحم؛ فجلس ودعا بولده ونسائه، فأتي بهم، وكان له ابنان صغيران وابن كبير فودعهم، وأوصاهم بالذي أراد، وأمر بصرفهم. فقال له قريطون: ما الذي تأمرنا به أن نفعله في ولدك وأهلك وغير ذلك من أمرك؟ (ع) وصيته بنفسه
فقال: لست آمركم بشيء جديد، بل هو الذي لم أزل آمركم به من الاجتهاد في إصلاح أنفسكم؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك سررتموني، وسررتم كل من هو مني بسبيل. فقال له أقريطون: فما الذي تأمرنا به أن نعمل إذا مت؟ فضحك، ثم التفت إلى جماعتنا، فقال: إن قريطون لا يصدق بجميع ما سمع مني، ولا أن الذي يخطب ويخاطبه منذ اليوم هو سقراط، ولا يظن أن الذي يفعل ذلك به ليس إلا جسد سقراط، وأنا أظن الآن أنني سأفر منكم بعد ساعة، فإن وجدتني يا قريطون افعل بي ما تشاء.
جلاد فيلسوف
فأقبل خادم الأحد عشر قاضيا فوقف بين يدي سقراط، فقال له: يا سقراط إنك حري مع ما أرى وما عرفته منك قديما ألا تسخط علي عندما آمرك به من أخذ الدواء اللازم باضطرار؛ لأنك تعلم أني لست علة موتك، وأن علة موتك قضاء الأحد عشر، وأني مأمور بذلك، مضطر إليه، وأنك أفضل من جميع من صار إلى هذا الموضع، فاشرب الدواء بطيبة نفس، واصبر على الاضطرار اللازم؛ ثم ذرفت عيناه وانصرف عن الموضع الذي كان واقفا فيه بين يدي سقراط. فقال سقراط: تفعل ذلك. ثم التفت إلينا، فقال: ما أهيأ هذا الرجل! قد كان يدخل إلي كثيرا، فأراه فاضلا في مذهبه. ثم التفت إلى أقريطون، فقال له: مر الرجل أن يأتي بشربة موتي إن كان قد سحقها، وإن كان لم يسحقها فليجد سحقها، وليأت بها. فقال أقريطون: الشمس بعد على الجدار، وعليك من النهار بقية. فقال له سقراط: قل للرجل حتى يأتي بالشربة. فدعا أقريطون غلاما له فأفضى إليه بشيء، فخرج الغلام مسرعا، فلم يلبث أن دخل ومعه الرجل، وفي يده الشربة.
تجلده وصبره لدى الموت
فنظر إليه كما ينظر الثور الفحل إلى ما يهابه، ثم مد يده لتناولها منه، والتفت إليه، وقال له: يمكن أن تخفف من هذه الشربة شربة لإنسان آخر. فقال: إنما يدق منها ما يكفي الرجل الواحد. فقال له: أنت عالم بما ينبغي أن يعمل إذا شربت، فأمر بذلك. قال: ليس هو إلا أن تتردد بعد شربها، فإذا وجدت ثقلا في رجليك استلقيت. فشربها؛ فلما رأيناه قد شربها رهقنا من البكاء والأسف ما لم نملك معه أنفسنا، وعلت أصواتنا بالبكاء، فأقبل علينا يلومنا ويعظنا، ثم قال: إنما صرفنا النساء لئلا يكون مثل هذا، فأما الآن فقد كان منكم أعظم. فأما أنا فسترت وجهي، وكنت أبكي بكاء شديدا على نفسي؛ إذ عدمت صديقا مثله. ثم سكتنا استحياء منه، وأخذ في التردد هنيهة، ثم قال للرجل: قد ثقلت رجلاي. فأمره بالاستلقاء، وجعل يمس قدميه، ثم غمزها، فقال له: هل تحس غمزي؟ قال: لا. ثم غمزه غمزا شديدا، فقال له: هل تحس غمزي؟ قال: لا. ثم غمز ساقيه، وجعل يسأله ساعة بعد ساعة هل تحس؛ فيقول لا. ورأيناه يجمد أولا فأولا، ويشتد برده حتى انتهى إلى حقويه، ثم غمزه فلم يحس بذلك، فكشف عنه، وقال لنا: إذا انتهى هذا البرد إلى قلبه قضي عليه. ثم قال سقراط لقريطون: لسقلابيوس عندنا ديك، فأعطوه إياه، وعجلوه. فقال له قريطون: نفعل ذلك، وإن كنت تريد شيئا آخر فقل. فلم يجبه وشخص ببصره. فأطبق أقريطون عينيه وشد لحييه. (7) الفلاسفة السابقون لأفلاطون من تلاميذ سقراط ويسمون مجازا أنصاف سقراط
كان تعليم سقراط متينا ومركبا بحيث لا يمكن أن تتشعب عنه عدة تعاليم، ولم يهتم كل من تلاميذه إلا بما ينفعه بالذات؛ فاكتفى الميجاريك من أتباعه
Megarique
بالمنطق، واهتم السيرانيك
ناپیژندل شوی مخ
Cyrènaique
والسينيك
2
بالأخلاق، وقد أظهرا وحدة الحق والخير والعلم والفضيلة، ولكن لم يستبن هؤلاء الحكماء حاجة الأخلاق إلى المنطق، وحاجة المنطق إلى الأخلاق، ولكن أفلاطون وحده تمكن من فهم مجموع آراء الأستاذ؛ فأضاف إلى تعاليمه آراء الفلاسفة السابقين، وكون من التعاليم كلها تعليما جديدا محبوك الأطراف، وسع المبادئ المتناقضة. (7-1) أريستيب مؤسس مذهب برقة الفلسفي (سيرانيك)
ولد في سيرين عام 435، وعاش أمدا في بلاط دينيس عاتية سرقصة، وقد قابل بالبلاط أفلاطون، ولكن لم ينل أفلاطون رضى الملك لما كان عليه من الحرية وكرامة النفس مثلما نالها أريستيب بتذلله وخنوعه. ومبدأ أريستيب أن الإنسان لا يعلم إلا ما تشعر به الحواس، وأن ما يسبب شعورنا هو خارج عنا، كما أننا لا نعرف كنه ما يشعر به غيرنا من الناس، وأنه ليس هناك فكر، ولا حكم، ولا علم.
كان سقراط يرى أن الفضيلة شرط السعادة، وأن العلم شرط الفضيلة، وأن السعادة ليست بعيدة عنا؛ لأنها في السرور الحالي الوقتي؛ أي في حركة الشعور الحاضر، فلا نهتمن بالمستقبل؛ لأنه ليس لنا، وليس شيء أفضل من السرور، وليست الفضيلة إلا في التماس السرور. والحرية الحقيقية كائنة في تحرير الشخص من رغباته.
ومن تلاميذه أفيمير الذي قال بأن الأرباب ما كانوا سوى رجال ممتازين، وقد مجدهم الناس بعد موتهم. ومن تلاميذه هجسياس قال بأن اللذة غاية الحياة، ولكنها ليست تابعة لإرادتنا، ولكن الألم يحيط بنا، ويصيبنا بأشكال مختلفة؛ فأفضل الأشياء للإنسان أن يموت. وكان هجسياس هذا يعيش في الإسكندرية لعهد البطالسة، وقد سموه خطيب الردى. (7-2) مدرسة السينيك (مذهب المستخفين بزخرف الدنيا)
رئيسها أنتيستين ولد في أثينا عام 444ق.م.، أثرت فيه بساطة سقراط، وتواضعه، واستغناؤه عن سائر الأشياء الفائضة، وكان قبل أن يتلقى عن سقراط تلميذا لجورجياس، وكان منطقه سفسطائيا؛ فأنكر الفكر العام، وسائر الحقائق العلمية، ويقول بأن الفضيلة هي الخير الأعلى، وكل ما عداها لا شيء، وأنه لا ينبغي الفرار من العمل والألم، إنما ينبغي بالعكس أن يبحث عنهما، وكان هيرقل نموذج الفضيلة.
وكان أنتستين يلتقي بتلاميذه بمكان اسمه سينوسارج، ومن هذه الكلمة كان أول اسمهم (سينك)، وتنسب تلك التسمية أيضا إلى لفظ الكلب في اليونانية، وكان يقول إن أعقل الرجال هو أقلهم رغبات، وأقدرهم على احتقار الطيبات التي يحبها غيره، والحرية هي الخلاص من الشهوات، وإن من يملك الفضيلة لا يفقدها بعد ذلك، وإن الحكيم يكتفي بذاته؛ لأنه يملك كل شيء. وقد أدى هذا التفريط في العناية بالأشياء إلى تشويه مبدأ أتباع أنتستين، وصار علما على ديوجين الكلبي أعظم المستخفين بالدنيا. (7-3) مذهب الميجاريك
أما إيقليد دي ميجار فقد آوى تلاميذ سقراط وأتباعه بعد موته، واشتهر بالمنطق، وتعليمه الفلسفي مزيج من تعليم سقراط وبرمنيد، وقد تكلم عنه وفند آراءه أفلاطون في محاورته (السفسطائي)، وكان يقول: ليس في العالم إلا الخير، توحد في الجوهر، وتعدد في الأشكال (الأعراض)؛ فالواحد هو الخير، والعناية هي الخير، والله هو الخير، والعقل هو الخير، وما ليس خيرا فليس له وجود مطلقا، وهو ينكر التعدد والصيرورة، ويقول بأن العالم ليس فيه إلا ما نراه من الظواهر، وأن الآراء باطلة، وتعلمها لا يؤدي بالقائلين به أن يسيروا بعيدا.
ناپیژندل شوی مخ
أفلاطون - حياته - مؤلفاته - فلسفته
ولد أفلاطون بأثينا، وقال بعضهم بأجينا عام 428، وكان جده لأمه من أولاد صولون، وجده لأبيه من نسل كودروس آخر ملوك أثينا، وبدأ يتلقى العلم على سقراط عام 408.
وبعد أن مات أستاذه آواه إيقليدس بميجاره، ثم سافر بعد ذلك سفرة طويلة حملته إلى سيرين؛ حيث درس الرياضيات على تيودور المطماطيقي ، ثم قصد مصر فآسيا الصغرى، وسافر في الأربعين من عمره إلى إيطاليا، فتعرف إلى أتباع فيثاغورس، ثم ذهب إلى صقلية وسرقصة، وتقرب إلى ديون صهر دنيس العاتية، ولكن حرية فكره لم ترض دنيس فباعه عبدا رقيقا، وشراه صديق له ورده إلى أثينا، ففتح مدرسة للفلسفة في حدائق أكاديموس (أكاديمية). وبعد أن مات دنيس العتيق بقليل عاد أفلاطون إلى سرقصة طمعا بمودة دنيس الصغير؛ لأنه كان في وطنه وحيدا مرتابا في أمره بلا تأثير؛ لذا هاجر ظنا منه أنه يلقى بصقلية مجالا للعمل؛ لأنه كان يريد صنع الخير، وكان ذا ثقة بنفسه، وخيل له أنه سيعيد إلى سرقصة مجدها إذا حقق فيها مبادئه السياسية، وقد استقبله دنيس استقبالا حسنا، ثم ما لبث أن مل أفكار الإصلاح التي شرحها له أفلاطون، وبعد قليل نفي ديون صديق أفلاطون، واضطر أفلاطون للفرار. ثم سافر عام 361 مرة ثالثة إلى صقلية، وأراد أن يوفق بين ديون المنفي، ودنيس الصغير، ولكنه لم ينجح في مسعاه، وكان في خطر الموت لولا تداخل أرخيتاس دي تارنت أحد أتباع فيثاغورس، فعاد أفلاطون من سفرته، وقد انقشعت عنه غيوم الخيالات والآمال في البشر، فتفرغ إلى الحكمة، وذهب إلى الفلسفة بكليته، ومات عام 347. (1) محاورات أفلاطون
توجد باسم أفلاطون خمس وثلاثون محاورة، بعضها مشكوك في صدق نسبته إليه، والبعض ترجح نسبته، وبعض كتب ورسائل سابعها أحقها بالنسبة إليه، ويمكن ترتيب محاورات أفلاطون بحسب ترقيه الفكري؛ فقد كان في أول الأمر تحت تأثير سقراط، فاشتغل بمسائل الآداب، وكتب خلال تلك الفترة أتريفون ومينون، واحتجاج سقراط على أهل أثينا وكريتون وبروتاغوراس وجورجياس.
وفي الفترة الثانية بدأ يكون تعليمه، وكذلك أخذ يكتب محاورات نصيبها من النظريات الفكرية أكثر من نصيب الأولى، وهي تيتونس والسفسطي وفيلبوس وبارميد وكراتيل ومدبر المدينة.
وفي الفترة الثالثة تمكن من أفكاره تمام التمكن، وأخذ يكتب النوع الثالث من محاوراته، وهي التي جمعت بين دقة المنطق وجمال الشعر، وهي المائدة وفيدون وتيماوس والنواميس والجمهورية أو السياسة المدنية. (2) نظرية المعرفة - درجاتها الأربع - المنطق الصاعد - التذكر - المنطق الهابط - التقسيم
اشتغل أفلاطون قبل كل شيء بالعلم، وغاية العلم في نظره - أي الشيء المدرك - هو الوجود بعينه؛ أما المنطق وما وراء الطبيعة فلا يمكن فصلهما. والمعرفة هي العمل، ومن يعرف الخير يفعله، ولا توجد إلا فضيلة واحدة وهي الحكمة، ومنطق الأفعال لا ينفصل عن منطق الأفكار؛ فتعليم أفلاطون كله قائم على نظرية المعرفة.
قال هيراقليط إن الموجودات تسيل، وإن معنى الميلاد هو الموت؛ فمن المستحيل على العقل في تلك الحركة الدائمة أن يحيط بمعجزة أو ظاهرة من ظواهر الطبيعة؛ لأنه لا يوشك أن يحيط بها حتى تفر؛ قد يكون هذا حقا فيما يشمل ظواهر الحياة؛ أي الحياة الحسية، ولكن هل يصبح كل علم مستحيلا، وكل معرفة حلما؟ كلا، إن كل ما يمكن أن نوافق عليه السفسطائي هو القول بعدم العلم بالموجودات الحسية، ومن يتعلق بالحواس لا يمكن له إلا الحصول على ظن؛ أي عادة انتظار حدوث ظاهرة بعد أخرى. والظن يشمل نوعين من المعرفة: الإيمان، وهو يقع على المحسوسات الظاهرة؛ فتعرف به الأشجار والأحجار والحيوانات والأشخاص. الثاني هو التخمين، وهو يقع على صور الأشياء المحسوسة. والظن حكم غير مسبوق بالتأمل، والذي يعول عليه يكون علمه محدودا به، ولكنه لا يرى، ومثله كمثل المنجمين الذين يقولون بالغيب ولا يعلمون عما يقولون شيئا. وقد يفيد الظن من وجهة عملية، ولكنه غير موثوق به، وهو في تحول مستمر؛ لأن موضوعه هو ما يولد وما يهلك.
ولكن فوق العالم الحسي يوجد العالم الفكري، وفوق ما يمر يوجد ما يبقى، وفوق الظواهر الأصول الثابتة التي لا تتحول والحقائق الأزلية؛ فالعالم العقلي هو موضوع العلم الحقيقي، والعلم الحقيقي يشمل نوعين من المعرفة: الأولى قوة التعليل أو الفكر، وهي تبتدئ بمعنى وتنظر في سائر نتائجه، وغايتها الانتقال انتقالا منطقيا من معنى إلى معنى بدون اهتمام بقيمة المعنى الأول، وهذه القوة تعد وتحقق الذكاء الخالص أو البصيرة الذي هو فعل بسيط مباشر، والمشاهدة الفعلية تصل إلى المبادئ والقواعد، وتستعين بالفروض التي تقدمها قوة الفكر والفهم للوصول إلى المعاني الفعلية، وغايتها القاعدة العليا، والمبدأ الأول المستغنى بذاته غير المحتاج للفروض.
فتعليم أفلاطون يشمل أمرين هما غاية المعرفة: الأول العالم الحسي، والثاني العالم المعقول؛ الأول يدرك بالظن، والثاني يدرك بالعلم، وكل من الظن والعلم له نوعان من المعرفة.
ناپیژندل شوی مخ
وعمل الإنسان هو أن ينتقل من المنتقل إلى الثابت، ومن الظواهر إلى الكائنات، ومن الظن إلى العلم، وهذا مشكل يظهر أنه مستحيل الحل ما دمنا في عالم الحس، ولا نحيط فيما حولنا إلا بالظواهر، وكيف ونحن مساجين في الزمان نستطيع الارتفاع إلى الأزل؟
على أن طريقة أفلاطون في الوصول عن طريق المعلومات العادية من الظاهر إلى الكائن طريقة معقولة، وليست طريقة صوفية، ولكنها لا تتم لنا إلا بانتقال بطيء منطقي. وبين الظواهر والحقائق المعقولة عدة وسائط ترشدنا من الواحدة إلى الأخرى، ولكن بين المحسوسات والمعقولات هوة لا يمكن أن يملأها المنطق. وملاحظة الظواهر يمكن أن تعلمنا قوانين الظاهر، ولكن لا يمكنها أن تعطينا الوجود المعقول.
يقول أفلاطون إن المعنى غير مستنتج، إنما هو مشاهد، وعمليات المنطق الانتقالية لا عمل لها إلا إعداد الإدراك الذي يكشف لنا عن المعنى؛ ولكن كيف يمكننا، ونحن مغموسون في الظاهر، إدراك الحقائق الأزلية؟ قال سقراط من قبل إن العلم لا يأتي من الخارج، وإن الإنسان يجد حقيقة ذاته من ذاته وفي نفسه، وإن الأستاذ لا يستطيع إلا توليد الحقائق التي تحملها نفس تلميذه بواسطة الأسئلة الدقيقة. وأفلاطون يفسر الميوطيقي (التوليد) بالتذكر، فيقول: إن النفس عاشت قديما في السماء بقرب الأرباب متفرغة إلى التأمل في الأرواح؛ فالعالم العقلي هو بيئتها، ولكن في القوانين السائدة أن النفوس التي تغيب عنها الأرواح تفقد أجنحتها، وتسقط في جثة أرضية؛ فالحياة الأرضية هي سقطة، وانحطاط. وذكرى الوطن السماوي غامضة فينا، ولكنها غير ميتة؛ فعندما نرى في الأرض في نظام الطبيعة صورة النظام العقلي الذي سبق للنفس التأمل فيه تتبدد الظلمات، ونجد حالا في نفوسنا الأفكار التي كانت حية كامنة ولم تمت.
البصيرة أو الذكاء الخالص (المدرك) يعده الفكر المنتقل ، وهذا الفكر المنتقل يتبع قاعدة مطروحة كفرض (الواحد - المتعدد الوجود - العدم) إلى آخر نتائجه، وكذلك العقل المدرك يتبعه العقل المنتقل الذي يمعن النظر في المعنى لينيره، ويكشف عن علاقاتها بغيرها، وأسلوبه أن يضع أصلا يفترضه، ويستنتج منه نتائجها إلى آخرها، واكتشاف علاقات الأفكار ببعضها البعض أهم أعمال المتكلم. وبعد أن يعبر عن وحدة المعنى بالتعريف ينبغي بالتقسيم تبيين أجزائها؛ فحياة الفكر هي في الانتقال من وحدة المبدأ إلى تعدد النتائج، ومن وحدة النوع إلى تعدد الأجناس، وفي تبيين علاقات الأفكار ببعضها البعض؛ فالوحدة المطلقة التي قال بها بارمنيد هي السكوت والموت. والتعدد المطلق الذي قال به تلاميذ هيراقليط هو الفوضى والاضطراب، وفي الحالين يستحيل الفكر والقول، والحكم يقتضي الجمع بين الأنواع. لا ريب في أن المعنى لا يستطيع أن يصير مناقضا لذاته، ولكن هذا لا يقصد به أن صفتين؛ أي نوعين مختلفين متناقضين، لا يمكنهما أن يتحدا في موضوع واحد، بحيث يصير هذا الشيء الواحد في حين واحد متشابها وغير متشابه، واحدا ومتعددا، ولا مانع من أن جوهرا يكتسب من علاقته بالجواهر معنى أو صفات أخرى، ما دامت هذه الصفات الأخرى لا تلاشي الجوهر الذاتي؛ فإذا كان الإنسان إنسانا فما الذي يمنعه أن يكون في الوقت نفسه خيرا؟ إن اكتشاف العلاقات التي تربط المعاني، وتتبع المشاركة المتبادلة بين الجواهر هذا هو العلم بعينه. (3) الكلام وما وراء الطبيعة - المعاني - علاقتها ببعضها وبالعالم الحسي
المنطق وما وراء الطبيعة لا ينفك أحدهما عن الآخر، وأفلاطون يعتقد أن هذين العلمين غير متعددين، بل هما علم واحد؛ والأمر الحقيقي المعقول هو أنهما ممتزجان، والحركة المنطقية التي ترفعنا إلى المعاني تمكننا من إدراك الوجود الحقيقي. والفكرة في نظر أفلاطون ليست هي الفكرة العامة؛ وذلك لأنهما لا تتكونان بعمليات متشابهة، ولأجل التعميم ينبغي مقارنة عدة أفراد فيجرد كل من صفاته الشخصية، ثم يعبر عن صورتها العقلية بعبارة واحدة؛ فالتعميم هو فكرة انتقالية، والفكرة في نظر أفلاطون تعطى لنا بإدراك مباشر تعده العمليات المنطقية، ولا يمكن لها أن تحل محله. وفي المحل الثاني الفكرة العامة تعبر عن وسط، فلا تستطيع أن تتجاوز الحقيقة؛ لأنها مستنبطة منها، وأضيق منها؛ أما الصفة المميزة للفكرة في نظر أفلاطون فهي الكمال والنقاء المطلق بدون اختلاط، بخلاف الأشخاص المتعددة المتغيرة؛ فإن الصفات فيها لا تكون صافية وكاملة، والمساواة الحقيقية هي التي لا تقبل غير المساواة، والوحدة الحقيقية لا تقبل التعدد، والتعميم يقودنا من تجربة إلى تجربة إلى معنى الكائن غير المحدد، وهو أفقر وأفرغ المعاني. والأمر على عكس ذلك فيما يتعلق بالكلام؛ فإنه يصل بنا إلى أصدق أنواع الحقيقة، وإلى الكائن الذي هو مبدأ سائر الوجود، وإلى الخير الأعلى الذي يشمل في ثروته سائر أنواع الكمالات. ثم إن الفكرة العامة هي إدراك أي فعل من أفعال العقل لا وجود له خارج العقل. أما أفلاطون فيقول: إن المعنى موجود حقيقي، موجود في ذاته لا في شيء لا يكون هو إلا صفة له، ووجود المعنى على هذه الصورة هو وجود أزلي لا يتحول؛ فالظواهر تمضي وهو باق، ويوجد على الدوام شيء يجعل في حيز الممكنات وجود الإنسان الذي يولد ويموت، وهذه الحقيقة التي يمكن فهمها، والتي كمالها سبب سائر الكمالات التي يظهرها الإنسان، هي فكرة الإنسان، بل هي الإنسانية بذاتها.
إن الأفكار تكون جملة أو تعددا، ولكن الوحدة هي قانون العقل الذي لا يقف إلا عند المعقول الأعلى؛ أي فكرة الفكر، وعند المبدأ الذي يجمع بين سائر الكمالات.
يقول أفلاطون: إن سائر الكائنات المعقولة تستمد من الخير وجودها وجوهرها، وفي أواخر حدود العالم المعقول توجد فكرة الخير التي تدرك بصعوبة، ولكن متى أدركت يستنتج مدركها أنها سبب كل جميل، وكل خير؛ فإذا كانت فكرة الخير هي علة سائر الأشياء الجميلة الخيرة، فهي إذا المبدأ الذي يضم سائر الفكر وأنواع الكمالات.
فلفظ الكلام هو قاعدة أو مبدأ الوجود، والمعنى هو الخير، هو هذا الشيء المستغني الذي لا يفرض شيئا آخر، بل هو الله.
وإن إله أفلاطون وإن كان فكرة فإنه في عرفه حي وحقيقي؛ يقول أفلاطون : هل يمكن أن يقنعونا بسهولة بأن الحركة والحياة والنفس والمعنى لا تلائم الوجود المطلق، وأن الكائن لا يعيش، ولا يفكر، وأنه باق بلا حركة، وبلا نصيب في الذكاء العظيم المقدس.
ويعطي أفلاطون دليلا على وجود الإله، وهو دليل المحرك الأول؛ أي بالعلة الفعالة، فيقول: كيف يظن أن ما يحركه الغير يكون هو مبدأ التحول والحركة؟ والله هو مبدأ الحركة في العالم، ولكن الذي يثبت وجود الخير الأعلى هو وجود الخير في الطبيعة وجودا ظاهرا. والدليل الثاني هو بواسطة العلل النهائية إذا كان من الحقيقي أن الحركات والثورات في السماء وفي سائر الأجرام السماوية تشبه حركة الذكاء، وتشبه عملياته وتعليلاته، فينبغي أن نستنتج أن روحا مملوءا بالخير يحكم هذا الكون، وأنه يقوده كما يريد.
ناپیژندل شوی مخ
ولكن لماذا خلق الله العلم؟ الجواب أن الله خير، والخير لا يبخل بخير ما؛ لذا خلق العالم على أحسن حال؛ ولذا جعله على شكله، وهذا الإله الخالق هو في الوقت نفسه عناية. ثم يقول أفلاطون بمبادئ المستبشرين، وينكر الشر المطلق، والعالم هو أفضل العوالم الممكنة الخلق، ويكفي أن نرد ما يبدو لنا كأنه بغير نظام في مكانه لنفهم سببه وعلته، والذي يعتني بالأشياء كلها قد وضعها بحيث تؤدي إلى خير المجموع وحفظه، وكل جزء لا يلقى ولا يفعل إلا ما يلائمه؛ فأنت أيها الزائل الضئيل مهما كان صغرك فإنك - لا شك - داخل ضمن النظام العام، وتضيف إليه بدون انقطاع؛ فإذا ضجرت فهذا من جهلك أن الخير الخاص بك لا يعود عليك وعلى المجموع حسبما تقتضيه قوانين الوجود العام. (4) الأخلاق السياسية
إن النظريات وتطبيقها مرتبطة ببعضها ارتباطا تاما في نظر أفلاطون؛ فإنكار الحقيقة هو إنكار الخير، فإذا لم يكن سوى الظواهر والخوارق فليس هناك إذا إلا شعور حسي، فيكون السرور نهاية الإنسان. وقد واصل أفلاطون تفنيد آراء السفسطائيين الذي بدأ به سقراط، وهو يمهد السبيل لتعليمه في الأخلاق والمعرفة والوجود بنقض الأغلاط التي شوشت العقل، وكان تراسيماك وكاليكليس من تلاميذ السفسطائيين يقولون بأنه لا توجد قوانين طبيعية، وإنما توجد نظامات اجتماعية، وأن الرجل الماهر القوي يمكنه أن يتحرر من سائر القيود، وينطلق في طريق شهواته؛ فحاربهم أفلاطون، وقال بوجود قانون للأخلاق غير معتمد على رغبات المقننين، ويمكن للعقل أن يكتشفه بالتعمق، وينبغي أن تتجه أنظارنا نحو فكرة الخير، وأن نوفق بين الخير وبين أعمالنا؛ لأن فكرة الخير هي الله ذاته، وفضيلة الإنسان هي في كونه يشبه الله، ومشابهة الله تكون بإدخال الانسجام في سائر عناصر الطبيعة الإنسانية، وبهذا يحدث تقليد النظام المعقول الذي يكشفه لنا علم الكلام؛ فينبغي إذا أن نعرف الإنسان لنعرف كيف ينبغي أن يكون.
النفس مكونة من ثلاثة أجزاء؛ الشهوة، وهي تشمل سائر الرغبات، وسائر الانفعالات الدنيئة، ثم شهوة الغضب التي تؤدي إلى الشجاعة، وهي قاعدة بين الحس والفكر، ثم العقل. ولكل جزء من النفس جزء في الجسم يقابله؛ فالشهوة مكانها في أسفل البطن، والشجاعة في الصدر، والعقل في الرأس. ويشبه أفلاطون النفس بعجلة يسحبها جوادان؛ الواحد أسود جموح مستعد على الدوام للثورة، والثاني أبيض كريم يهدي رفيقه إذا حسنت قيادته، ولكنه يجمح معه إذا لم تحسن قيادته يد قوية يقظة؛ فالجواد الأسود العاصي هو الشهوة، والأبيض الكريم هو الشجاعة، والقائد هو العقل، فينبغي للعقل أن ينتفع بالشجاعة، ويستعين بها على الشهوة. يقول أفلاطون: إن لكل جزء من النفس فضيلة تقابله؛ فالفضيلة المقابلة للشهوة هي الاعتدال، ووظيفتها هي رد الشهوات إلى حد الاعتدال، والفرار من الإفراط، وتجهيز النفس بفصلها من الجسم لفهم الحق. وفضيلة شهوة الغضب هي الشجاعة، ووظيفتها التمييز بين ما يخشى وما لا يخشى، وهي تولد عند تحويل شهوتها، وهي خادمة العقل ضد الانفعالات التي تقلق الذكاء. والاعتدال والشجاعة هما شرطا الحكمة، والحكمة هي فضيلة العقل، ولأجل الارتفاع لدرجة الحقيقة ينبغي الخلاص من أوهام احترام الذات، ومن العواطف غير المنظمة التي يولدها فساد الجسم. والعدل هو الفضيلة التي تولد من امتلاك الفضائل الأخرى؛ فهو الانسجام الداخلي واتفاق النفس وذاتها؛ أي عندما يقوم كل جزء من النفس بوظيفته؛ فتطيع الشهوات الشجاعة، وتطيع الشجاعة العقل ، حينئذ يولد العدل.
وكثيرا ما يدخلون إلى فكرة الفضيلة عنصرين آخرين هما: الحرية والعادة؛ فالحرية تبتكر الفضيلة؛ أي تبدأ بممارستها، والعادة تمكننا من الفضيلة. وأفلاطون يحتقر الفضيلة التي لا ترتكز إلا على العادة؛ لأنها غير محققة كالظن، وهي توافق النمل أو النحل، ولا تلائم الإنسان. والفضيلة غير تابعة لحريتنا، إنما هي علم، ومن يعرف الخير يفعله؛ فكون الإنسان فاضلا يرجع إلى امتلاك علم الخير. ويعترف أفلاطون بأنه يمكن للإنسان أن يكون رأيا دقيقا عما ينبغي فعله، ومع ذلك لا يفعله؛ ولذا يوجد الخلاف بين النظرية والعمل، وإذا فسد العمل فلا بد من كون النظرية فاسدة. وكل من يفهم الخير حق الفهم فهو لا شك خير. إن أشقى الناس حظا، وأجدرهم بالإشفاق هو الظالم الذي يتمتع بدون عقاب بثمار جرائمه. المريض لا يرفض الألم الذي يشفيه، بل يلتمسه، ويطلب النار والحديد، والظلم أشد الآلام، ولا يشفي النفس منه إلا العقاب؛ فلا ينبغي للظالم أن يستر داءه، كل ينبغي له أن يقدم نفسه للقاضي كما يقدم المريض ذاته للطبيب. إن التكفير عن السيئات باحتمال العقاب هو أفضل الأشياء بعد براءة الذيل؛ أي إن أفضل الناس بعد البريء يكون الجاني الذي احتمل العقاب.
وهذا يدل على اعتقاد أفلاطون بحياة مستقبلة، وقد ذكر في فيدون سائر الأدلة التي استعملها من جاءوا بعده في إثبات خلود النفس؛ فقال: إن الموت هو انحلال العناصر المكونة للبدن، وإن النفس لا تنحل؛ لأنها نقية بسيطة، ولو قالوا إن النفس ليست سوى انسجام البدن، يقول: إننا ما رأينا الانسجام يجاهد ضد الأداة التي أخرجته، على أننا كثيرا ما رأينا النفس تجاهد ضد البدن لتخلص من كثير من شهواته.
ثم إن غاية العقل البشري هي المعقولات والخالدات؛ فلها إذا ميل، وارتباط بالله. والنفس تشبه ما هو مقدس وخالد ومعقول وبسيط ومتحد بذاته؛ فإذا كانت هكذا وطبيعتها كما ذكرت، فإذا خرجت من البدن بدون أن تسحب معها منه شيئا تحولت نحو ما لا علاقة له بالمادة مثلها، فإذا بلغت هذه الغاية ملكت السعادة الحقيقية. وأخيرا ينبغي مكافأة الأخيار، ومعاقبة الأشرار. ولا يمكن فصل الأخلاق عن السياسة؛ فواجب الحكومة تكوين وطنيين فضلاء؛ إن الحكومة لم توجد لأجل الفرد، والفرد ليس إلا عنصرا من عناصر الحكومة، فينبغي أن يخضع لها. وفي المدينة كما في الكون يسود قانون واحد، وهو بذل الفرد في سبيل المجموع، والجمهورية الكمالية هي شخص شركي، ووحدة حية، أعضاؤها الأفراد. ويوجد للحكومة نظام أخلاقي، وحال نفسية كما للأفراد، ولا يخالفانهما. وكما أن للنفس ثلاثة أجزاء كذلك في المدينة ثلاثة أصناف من الناس؛ الأول صنف العمال الذين يشتغلون ليشبعوا الشهوات، ثم فريق المحاربين، وعملهم حماية المدينة من الخارج والداخل، ثم فريق الحكماء، وهم أصحاب حق الحكومة. وهذه الأصناف تشبه الشهوات والإرادة والعقل، ولكل صنف من أهل البلد فضيلة؛ فللعمال فضيلة الاعتدال التي تبقيهم في حالهم، فلا يحاولون الخروج منها، وللمحاربين فضيلة الشجاعة، وللقضاة فضيلة الحكمة، وإذا أطاع كل فريق الفريق الذي هو أعلى منه، والمعترف له بالسيادة ينتج الانسجام، والانسجام يخرج فضيلة العدل. ولأجل أن يأتي أفلاطون على عواطف حب الذات ليجعل المدينة كائنا واحدا ضحى أفلاطون بكل ما يقوي في الفرد عاطفة الفردية، ويعطيه حياة مستقلة داخل حياة الحكومة.
وأراضي الجمهورية ملك مشاع لسائر السكان، وليس هناك حق الملك ولا الأسرة، والأملاك والنساء شائعة؛ والأطفال هم أبناء المدينة، وينشئون معا، وحيث أن لا أسرة تصير الجمهورية أسرة كبرى، ولكل وطني حق الأبوة على سائر الأطفال عندما يبلغون سنا معلوما؛ هذا ما شرحه أفلاطون في جمهوريته، ولكنه في القوانين خفف وطأة تلك الآراء، ورضي بعدم إشاعة النساء والملك، وقبل وضع قوانين مكتوبة، ولكن الحكومة تحتفظ بسائر قواها، ولها حق ضمان طاعة القوانين الأدبية، وسيادة الفضيلة، واستعمال القوة في ذلك إن فشلت في استعمال الترغيب باللين؛ وليس للفرد حق سوى القيام بواجباته، واستعمال فضيلته في تقوية المدينة التي هو أحد عناصرها، وأداة من أدوات وجودها، وقد ينشأ عن خلط الآداب بالسياسة نوع من الظلم الفلسفي، وهو استبداد يبذل الخير الحقيقي الحر في سبيل خير ظاهر. •••
ويرى مما تقدم أن أفلاطون كان شريف النسب من وجهتين؛ فكان حفيد ملك ومشترع، ولولا بغضه للديموقراطية ولولا التقاؤه بسقراط لكان من رجال السياسة أمثال بيركليس. وإن عنده تنتهي الحكمة المحكية، وتبدأ الحكمة المكتوبة؛ فإنه رأى شيخه سقراط يستهين بالكتب، ولكنه لم يستهن بها، ودون خمسا وثلاثين محاورة ضمنها خلاصة آرائه، وآراء شيخه، وله الفضل الأعظم في تعليم أرسطو وتهذيبه، وإرشاد خطواته الأولى في الفلسفة، وقد تعاشرا عشرين عاما على ما كان بينهما من التباين العظيم في الفكر والخطط، ولكن أدب الحكمة وكرامة النسب كفتهما الشقاق، وعندنا أن فلسفة أفلاطون المدنية والأدبية مستمدة مما استفاده من مصر؛ فقد رأى فيها نظاما ثابتا منذ عشرة آلاف سنة بفضل تقسيم الأمة إلى طبقات معينة، واستئثار الطبقات العالية بالملك، وتذليل الطبقات النازلة للخدمة والصناعات؛ كذلك ساح في إيطاليا، وتأثر بآراء أتباع فيثاغورس وبارمنيد وإمبيدوكل، ولكنه لم يخضع لأحد منهم؛ لأن أثر سقراط كان في نفسه أقوى، ولما ألقى عصى التسيار، وعاد إلى وطنه، وشرع في التعليم أخذ يطبق الهندسة على السياسة، وفي هذا أثر من فيثاغورس. وكان أفلاطون أول الفلاسفة النفعيين، وقال بأن اللذة والألم هما اللذان يحركان الإنسان في كل سبيل، وهو موجد التصوف في أوروبا بكتاباته، وكان يعتقد أن حب الفلسفة كحب النساء قوة، وقال بالبعث بعد الموت والثواب والعقاب؛ ولا شك عندنا في أن هذه الآراء استأذنت عليه من سياحته في مصر. أما نظامه المدني في الجمهورية فمستمد من حياة مصر وأسبرطة، ومن آراء أناكساجور، وله كلمة عالية وهي قوله: لن تصلح الدنيا حتى تصير ملوكها فلاسفة أو فلاسفتها ملوكا، وقد تحققت رغبته فصار إسكندر تلميذ تلميذه ملكا فيلسوفا، ولكن الدنيا لم تصلح. وجاء بعده الرواقي ماركوس أوريليوس الروماني، ولكن الدنيا لم تصلح، وجاء المأمون العباسي، ولكن الدنيا لم تصلح! لأتباع أفلاطون الحق أن يردوا علينا بأن هؤلاء ملوك صاروا فلاسفة، ولم يصلحوا ولا يظهر فساد رأي أفلاطون إلا إذا رأينا فلاسفة تولوا الملك، ولم يصلحوا، وهيهات أن يتحقق هذا الحلم!
وكان ينتقد نظام الحكومة في أثينا، ويطعن في الديموقراطية، ويأمر بعقاب الملحدين، ويأمر بالاعتقاد بوجود الله، وكان قليل الثقة بالكتب، وفي أواخر أيامه عدل نظريته في المثل الأعلى تحت تأثير تلميذه أرسطو، ولو أن أفلاطون استطاع عقاب الملحدين بقانون نظامي لكان أول ضحايا هذا القانون تلميذه الأعظم أرسطوطاليس. (5) ما كتبه العرب عن أفلاطون
هو ابن أرسطون أحد أساطين الحكمة الخمسة من يونان، كبير القدر فيهم، مقبول القول، بليغ في مقاصده، أخذ عن فيثاغورس
ناپیژندل شوی مخ
1
اليوناني، وشارك سقراط في الأخذ عنه، ولم يشتهر ذكره بين علماء يونان إلا بعد موت سقراط. وكان أفلاطون شريف النسب في بيوت يونان، من بيت علم، واحتوى على جميع فنون الطبيعة، وصنف كتبا كثيرة مشهورة في فنون الحكمة، وذهب فيها إلى الرمز والإغلاق، واشتهر جماعة من تلاميذه المتخرجين عليه، وسادوا بانتسابهم إليه، وكان يعلم الطالبين الفلسفة وهو ماش، وسمى الناس فرقته المشائين،
2
وفوض في آخر عمره المفاوضة والتعليم والتدريس إلى أرشد أصحابه،
3
وانقطع إلى العبادة
4
والاعتزال، وعاش ثمانين سنة. وكان أفلاطون من قديم يميل إلى الشعر، وأخذ منه بحظ متوفر، ثم حضر مجلس سقراط فرآه يذم الشعر وأهله، ويقول: هي خيالات تشعر بالخلائق لا على الحقيقة، وطلب الحقائق أولى؛ فتركه عند ذلك أفلاطون. ثم انتقل إلى قول فيثاغورس في الأشياء المعقولة، ويقال إنه عاش إحدى وثمانين سنة، وعنه أخذ أرسطوطاليس وخلفه بعد موته؛ وقال إسحاق إنه أخذ عن سقراط، وتوفي أفلاطون في السنة التي ولد فيها الإسكندر
5
وهي السنة الثالثة عشرة من ملك الأوخس، وكان ملك مقدونيا في ذلك الوقت فليبوس وهو أبو الإسكندر.
ناپیژندل شوی مخ
وقد ذكر ثاؤن ما صنفه أفلاطون من الكتب ورتبه، وهو كتاب السياسة فسره حنين بن إسحاق في كتاب النواميس، نقله حنين، ويحيى بن عدي، وكان يسمي كتبا بأسماء الرجال الطالبين لها، وهي في فنون متعددة؛ منها كتاب الجنس في الفلسفة، كتاب لاخس في الشجاعة، كتاب أرسطوطاليس في الفلسفة، كتاب خرميذس في العفة، كتابان سماهما الفيناذس في الجميل، كتاب أوتوذيمي في الحكمة، كتابان سماهما أقناه، كتاب جورجياس، كتاب أوتوفرن، كتاب أسين، كتاب فاذن، كتاب قريطن، كتاب ثالطلطس، كتاب قيلوطوفن، كتاب قراطولس، كتاب سوفسطن، كتاب طيماؤس (أصلحه يحيى بن عدي)، كتاب قرمانيذس، كتاب فدرس، كتاب مينس، كتاب أبرخيس، كتاب مانكسانس، كتاب أطليفرس، كتاب طبماؤس (ثلاث مقالات)، كتاب المناسبات، كتاب التوحيد، كتاب في العقل والنفس والجوهر والعرض، كتاب الحس واللذة، كتاب مسطسطس، كتاب تأديب الأحداث، كتاب أصول الهندسة، وله رسائل موجودة. وقال ثاؤن: أفلاطون يرتب كتبه في القراءة، وهو أن يجعل كل مرتبة أربعة كتب؛ يسمى ذلك رابوعا،
6
وعرف أفلاطون وشهر في زمن أرطخشاست من ملوك الفرس، وهو المعروف بالطويل اليد، وهو يشتاسف الملك الذي خرج إليه زرادشت، والله أعلم.
وقال ثاؤن: إن أفلاطون بن أرسطون بن أرسطوقليس من أهل أثينا، وكانت أمه فاريقطيوني ابنة غلوقون، وكان من كلا الوالدين شريف الآباء، وأمه هذه المذكورة من نسل سولن الذي وضع نواميس لأهل أثينا، ورد عليهم مدينة سلمينا التي انتزعها منهم أهل ماغارا، وكان لسولون أخ يقال له ذرونيذس يذكره أفلاطون كثيرا في شعره، وكان لذرونيذس ابن يقال له أقريطس، وقد ذكره أفلاطون في كتاب طيماؤس، وابن قريطس فلسخروس، وابن فلسخروس غلوقن، وابن غلوقن خرميذس، وأخت خرميذس
7
فاريقطيوني، وتسمى أيضا يقطوني، وأفلاطون ابنها، فأفلاطون سادس من سولن، وأما جنس أبيه أرسطون فإنه ينتهي في النسب إلى قودرس بن مالتوس المنتسب إلى فيسذون، وكان مالنتوس جده شجاعا مقداما ذا رأي وخديعة، ولما حارب أهل بواطيا أهل أثينا لفساد جرى بينهم، ودامت الحرب فيما بينهم، وقتل المقاتلة فيما بين الفريقين مل كل واحد منهم ما هو فيه، وكان المستولي يومئذ على ملك بواطيا أقسانتس، وعلى أثينا أوموطي؛ فطلب أقسانتس مبارزة أوموطي فذل ولم يبارزه، وجبن عن ذلك، فخرج مالنتوس جد أفلاطون من أثينا، وقال أنا أبارزه على شرط إن غلبته ملكت، فرضي أوموطي بذلك؛ فخرج أقسانتس ملك بواطيا وبارزه مالنتوس جد أفلاطون، فلما تقاربا قال له مالنتوس: انطلق، ثم عد إلي فلما حول أقسانتس وجهه ضربه مالنتوس من خلفه خدعة فقتله؛ ومن ذلك الوقت عمل ذلك اليوم عيدا عند أهل أثينا، وسمي عيد الخدعة، وكان يسمى في ذلك الوقت باليونانية أباطينوريا، والآن يسمى أباطوريا، وكان هذا الأمر سبب هذا العيد، وابنه قودرس سلم نفسه إلى العدو ليخلص أهل مدينته، ورضي بأن يلبس لباسا رثا، وأن يموت دونهم.
8
ويونان يبالغون في أفلاطون، ويعظمونه، ويقولون كان مولده إلهيا، وكان طالعه طالعا جليلا، ويحكون في ذلك حكايات هي بالأسمار أشبه، فأضربت عن ذكرها؛ وقالوا إنه لما عزم على ترك الشعر الذي يعانيه ويبالغ في تعلمه، عندما سمع عن سقراط ما سمعه في أمره، عزم على المضي إلى سقراط والأخذ عنه فلسفة فيثاغورس، وقد كان شاركه فيها على فيثاغورس إلا أنه لم يبالغ فيها لاشتغاله بالشعر، وإن سقراط رأى في المنام كأن رخا كركيا قاعد على حجره، وأنه زغب وطلع ريشه للوقت، فطار نحو السماء وهو يصوت بصوت إلهي مطرب جميع الناس، فلما جاءه أفلاطون للتعلم تأوله ذلك الطائر، وأن صوته وكلامه سيشغل الناس بهما عن غيرهما، وقد قيل إنه في أول أمره اشتغل بالشعر إلى أن بلغ فيه الغاية، وصنف وسمع كلام فيثاغورس، وهو ابن دون العشرين سنة، ووضع كتبا في الألحان، ثم بعد ذلك أراد الفلسفة فمشى إلى أصحاب أراقليطوس، وكانت لهم طريقة في الفلسفة، وهي اليوم مجهولة، فسمع منهم، وتحقق أن طريقتهم في الحكمة يتعين عليها الرد، وأراد أن يجاهد نفسه في طلب الفلسفة الحقيقية فقصد سقراط؛
9
لأن فيثاغورس كان قد مات، وتصدر بعده سقراط؛ فصادف سقراط وهو يخطب الجماعة المجتمعة إليه، وكان قد جمعهم إليه ذيونوسيوس، فلما سمع كلامه حرص كل الحرص على طلب الحكمة الفيثاغورية، وترك ما كان عليه، وأحرق كتب الشعر والأحاديث، وأنشأ يقول:
ناپیژندل شوی مخ
يا أيها النار ادني من أفلاطون
فإن به الآن إليك حاجة ما
وهذه طريقة الشعر اليوناني، وكان عمره إذ ذاك عشرين سنة، وسمع من سقراط بعد ذلك ، ولازمه مدة خمسين سنة حتى بلغ في الأمور العقلية إلى منزلة فيثاغورس ، وفي سياسة المدينة الفاضلة إلى مرتبة سقراط، وشهد له بذلك أهل العلم في زمانه.
وكان لرغبته في العلم شديد الطلب له، كثير الحث والبحث في تحصيل الكتب بما يمكنه، حتى إنه أمر ديون أن يبتاع له من فيلولاؤس ثلاثة كتب مخزونة عنده من كتب فيثاغورس فابتاعها له بمائة دينار؛ ولشدة طلبه في العلم وحرصه على جمع الكتب سافر إلى صقلية ثلاث دفعات ليحصل منها الكتب، ويطلع على أسرار حكمة الأمور الإلهية؛ فأول دفعة سافر فيها إليها كان لعزمه أن يرى النار التي تخرج هناك من الأرض دائما، تخف في الصيف، وتزيد في الشتاء،
10
وكان المستولي على صقلية في ذلك الوقت رجل يوناني قد تغلب عليها اسمه ذيونوسيوس، وكان جبارا قد ملك البلاد باليد لا بالأصالة، ولما سمع بقدوم أفلاطون أمر بإحصاره، فلما حضر إليه صادف عنده سقراط،
11
وقد جمع له علماء الجزيرة، وهو يخطبهم على ما تقدم ذكره وشرحه، ولما حضر أفلاطون المجلس طلب منه جبار صقلية هذا المذكور أن يتكلم بشيء من خطبه وشعره، فخطب خطبا كثيرة بحضرته، وكان فصيحا عذب الألفاظ، محكما لما يورده في طريقته التي هو عليها، وقال في بعض خطبه إن أجود السير وأفضلها التي تكون على الناموس والسنن؛ وظن الجبار ذيونوسيوس أنه قصده بهذا القول لأجل تغلبه بغير استحقاق لما وليه، فأسرها في نفسه، ولم يبدها، وكان هذا الجبار يعاني الشعر وشيئا من الحكمة غير المحققة، وله تلاميذ في ذلك وأصحاب، وإذا سمع بعالم تحيل في إحضاره ومناظرته وإقامة الحجة على صحة قصده الذي هو عليه، واتفق أن قال لأفلاطون: هل ترى في أصحابي سعيدا؟ وظن أن أفلاطون سيقول بحضور الجمع إنك سعيد، فيحصل له بهذا القول مرتبة توجب له الاستحقاق لما تغلب عليه؛ فقال له أفلاطون غير محاش له: ليس في أصحابك سعيد. فسأله بعد ذلك وقال: فهل ترى أنه كان من القدماء سعيد؟ فقال: كان فيهم سعداء غير مشهورين، وأشقياء اشتهروا، وعناه بذلك، فأسرها الجبار، ولم يبدها له. ثم قال له الجبار : فأراك على هذا القول لا ترى أن أرقليس من أهل السعادة أيضا - وأرقليس هذا كان شاعرا من شعراء يونان، وكان قد عمل أشعارا، وذكر فيها هذا الجبار، ووصفه ولحن تلك الأشعار، وجعلها في هياكل جزيرة صقلية يذكر بها في كل وقت، وكان هذا الجبار يعظم الشعر والشعراء؛ لأجل ذلك يثبت لمدحه أصلا؛ فقال له أفلاطون مجيبا عن سؤاله: إن كنا نرى أن أرقليس كان كالذي ينبغي أن يكون، من كان من نسل أذيا؛ يعني المشتري، فباضطرار ينبغي أن تظن به أنه سعيد، وأما كان كما وصفتموه، أنتم معاشر الشعراء، وكانت سيرته على ما تذكرون، فإنه عندي من الأشقياء، وذوي رداءة البخت. فلما سمع ذيونوسيوس الجبار من هذا القول لم يحتمل جرأته، وأمر به فدفع إلى بوليذس الذي كان من أهل الأقاذامونيا، وكان قد وفد على هذا الجبار ليهادنه على بلاده، وأمر الجبار بقتل أفلاطون فأخذه بوليذ، وذهب به إلى أغنيا مدينته، وأبقى عليه ولم يقتله، وباعه من رجل من أهل النهروان اسمه أنتاقرس، وكان هذا الرجل يحب أفلاطون، ويتشبه بأخلاقه وإن لم يره قبل ذلك، وإنما كان يسمع ما ينقل إليه من أخباره، وكان الثمن الذي ابتاعه به ثلاثين منا فضة.
وكان لذيونوسيوس الجبار نسيب اسمه
12
ناپیژندل شوی مخ
ذيون قد حضر مجالس أفلاطون بصقلية، وسمع كلامه ومال إليه كل ميل، ولما سمع ما جرى على أفلاطون عز عليه، ولم يمكنه مجاهرة الجبار، فسير في السر ثمن أفلاطون، وهو ثلاثون منا إلى النهرواني مبتاعه وسأله بيعه منه، فلم يفعل النهروانى ذلك، وقال هذا حكيم مطلق لنفسه، وإنما وزنت المال لأنقذه من أسره، وسيصير إلى بلاده في سلامة وخير، فلما سمع ذيون نسيب الجبار هذا القول استرجع الثمن، وسيره إلى أقذاميا، واشترى به بساتين هناك، ووهبها لأفلاطون، فمنها كانت معيشته مدة حياته، ولما تحقق ذيونوسيوس خلاص أفلاطون وسلامته ندم على فعله، وتحيل في استصلاحه، وكتب إليه يستميله وتعذر إليه من فعله، ويسأله ألا يذكره بشر في خطبه وأشعاره، فأجابه أفلاطون بأن قال: ليس عندي هذا الفراغ، ولا يمكنني أن أتفرغ له، ولا أجد زمانا خاليا أذكر فيه ذيونوسيوس.
وسار
13
أفلاطون إلى صقلية مرة ثانية ليأخذ من الجبار المقدم ذكره كتابا في النواميس كان وعده به، ولم يعطه إياه. وكان أفلاطون قد عزم على تصنيف كتاب في السير، وهذا الكتاب من موداه، فلما وصل إلى صقلية وجد ذيونوسيوس الجبار مضطرب الأمر، قد فسدت عليه البلاد والرجال، وهو في شغل عما قصده بسببه فتركه وعاد.
ثم سار إلى صقلية دفعة ثالثة، وسببه أن ذيون نسيب الجبار قام عليه، وتغلب على أكثر البلاد، وكاد أن يستولي، وعلم أفلاطون بذلك فسار مصلحا بين الجبار ذيونوسيوس ونسيبه ذيون؛ لعلمه بمحبة ذيون له، وقبوله من قوله. وكان أفلاطون يرى أن إصلاح المدن من الفساد الداخل عليها من المتكلمين لازم له من طريق الحكمة والسياسة المدنية، ويريد بذلك إيصال الراحة إلى الرعية، فلما وصل إلى صقلية أصلح بين الرجلين، ونزل كل واحد منهما منزلته، ووعظهما فاتعظا، وعاد إلى بلاده. وقد كان أهل بلاده أتينس على سيرة وسياسة لا يرضاها أفلاطون، فقيل له لم لم تغيرها، فقال هذه سياسة قديمة قد مرت عليها الدهور، ونقلهم عنها فيه عناء شديد، وربما أدى إلى قيل وقال أحتاج أن أستعين فيه على قومي بغيرهم فيكون ذلك سبب هلاكهم بوساطتي فلا أفعل. ثم جسهم فثاروا، فسكنهم وثبتهم وتركهم على ما هم عليه، وانبسط عذره عند من قال له ما قال، ولازم مدرسته، وارتزق من مغل البساتين وتزوج امرأتين؛ إحداهما يقال لها الستانيا من بلاد أرقاديا، والأخرى أقسوثيا من بلاد فليوس، وكانت نفسه في التعليم مباركة، تخرج عليه جماعة علماء اشتهروا من بعده؛ فمنهم أسبوسبوس من أهل أثينا، وهو ابن أخت أفلاطون، وأقسنوقراطيس من أهل خلقيدونا، وأرسطوطاليس من أهل أسطاغيره، وبرقلوس من أهل نيطس، واستياؤس من بارنتوس، وأرختس من أهل طارلطيني، وزيون من سوراقوسا، وأمقلاس من أهل اصطنادس، وأرسطوس وقورسقس من أهل أسكبسيس وطيمالاؤس من أهل قوزيقوس، وأؤن من لمساقوس ومناديموس من أهل أراثرس، وأراقيلدس من آبوس ، وتياثالس وقالبوس من أتنيس، وديماطريوس من أنتفيبوليس، وغير هؤلاء كثير. وكان أفلاطون إذا حضره أصحابه للتعلم قام على رجليه، وألقى عليهم الدروس من العلم، وهو يمشي حول البساتين التي وقفها عليه ذيون فيأخذون عنه ما يلقيه عليهم وهم على تلك الحالة، فسموا المشائين بذلك (هذا خطأ وقع فيه القفطي كغيره).
ولما استكمل إحدى وثمانين سنة من عمره مات ودفن بالبساتين في أقاذاميا، وتبع جنازته كل من كان بأثينا، والذي خلفه من التركة البساتين المذكورة، وخلف مملوكين وقدحا وجاما وقرطا من ذهب كان يلبسه وهو غلام، وهو لباس أشراف يونان في ذلك الزمان. وأما ما صار إليه من ذيونوسيوس جبار صقلية ومن غيره من الأصدقاء فإنه أنفقه في تزويج بنات أخته، وفي الإحسان إلى الأصدقاء؛ لأنه كان من أهل الرياضة والإيثار يعلم غيره السياسة، فكيف لا يستعملها، ولما قبر كتب على قبره بالرومي ما تفسيره بالعربية: «ها هنا موضع رجل وهو أرسطوقليس الإلهي، وقد تقدم الناس وعلاهم بالعفة وأخلاق العدل؛ فمن كان يمدح الحكمة أكثر من سائر جميع الأشياء فإنه يمدح هذا جدا؛ لأن فيه أكثر الحكمة، وليس في ذلك حسد.» هذا من الجهة الواحدة على القبر، ومن الجهة الأخرى: «أما الأرض فإنها تغطي جسد أفلاطون هذا، وأما نفسه فإنها في مرتبة من لا يموت.»
الفيلسوف الأعظم أرسطوطاليس
ولد أرسطو في بلدة ستاجيريا (أسطاغير) في مقدونيا في سنة 384 قبل المسيح، وكان أبوه نيكوماكوس عالما طبيعيا، وكان طبيبا لأمينتاس الثاني ملك مقدونيا، وقد تعرف أرسطو صغيرا بفيليب ابن أمينتاس في بلاط أبيه فتصادقا، ولما مات والداه وهو فتى تولى شأنه بروكسينوس، وبعث به في السابعة عشرة من عمره إلى أثينا ليتعلم على أفلاطون الذي كان قد جاوز حد الستين فلم يجده؛ لأن أفلاطون كان في صقلية في إحدى الرحلات التي سبق الكلام عليها؛ فبقي أرسطو في انتظاره ثلاث سنين قضاها في التعلم والدرس والاستعداد لتلقي الحكمة؛ فلما عاد أفلاطون والتقى بتلميذه كان أرسطو في العشرين من عمره، وأفلاطون في الخامسة والستين، وبقي أرسطو يتعلم على أفلاطون سبع عشرة سنة؛ فإن أفلاطون مات في الثانية والثمانين من عمره، وكان أرسطو أنبغ تلاميذ أفلاطون، وكان يسميه عقل المدرسة، ويسمي بيته بيت القارئ، وقيل عن حب أرسطو في الدرس إنه كان خشية النعاس ليلا يقبض بيده على كرة من نحاس، ويضع تحتها طستا من نحاس، فإذا أخذته سنة من النوم سقطت الكرة على الطست فنبهته فيعود إلى عمله، وقد بقي أرسطو في أثينا إلى أن مات أفلاطون في 347ق.م.، وقيل إنه مات وهو يكتب.
وكان أرسطو أثناء هذه المدة يزور وطنه، ويلقى الملك فيليب، وقد حفظ لنا التاريخ الكتاب الذي بعث به فيليب إلى أرسطو يذكر فيه مولد ولده إسكندر، ولما مات أفلاطون كان إسكندر في التاسعة من عمره، ومما يجدر بالذكر أن أرسطو أخذ يدرس البلاغة في أثينا في حياة أستاذه، ولما مات أفلاطون ترك أرسطو أثينا، وكان قد تزوج من بيثياس، وهي ابنة متبناة لأحد تلاميذه هرمياس، وكان يحب زوجته التي ماتت في عنفوان شبابها، وأوصى بأن يدفن رفاتها إلى جانب رفاته. ولما بلغ الثانية والأربعين من عمره دعاه فيليب إلى تعليم ولده إسكندر وهو في الرابعة عشرة من عمره، فقبل الدعوة، وسافر إلى بلاط فيليب حيث قوبل بالإجلال والإكرام، وقد شيدت لذلك مدرسة خاصة، وانضم إلى الإسكندر أولاد النبلاء، فصارت كمدرسة الأنجال التي أنشئت في مصر في القرن التاسع عشر، فأحب الإسكندر معلمه حبا جما، وتعلم عليه أربع سنين، ولما بلغ إسكندر الثامنة عشرة عينه أبوه خليفة ملكه أثناء غيبته في حملة على بيتنيا، واستمر أرسطو في بلاط فيليب إلى أن صار إسكندر ملكا، وقد أقام أرسطو في مقدونيا سبع سنين، ثم تركها في التاسعة والأربعين من عمره، وعاد إلى أثينا، فوجد مدرسة أفلاطون يديرها ابن أخته الذي قلبها «مهندسخانة»، فعينت حكومة أثينا لأرسطو مدرسة الليسيوم بجوار هيكل أبولون.
وكان أرسطو قصيرا ضئيلا حسن الهندام مصابا بإمساك مستعص، وكانت على وجهه النحيل نظرة استخفاف وسخرية لا تفارقه، وقد ألف كثيرا في خلال ثلاث عشرة سنة؛ أي من التاسعة والأربعين إلى الثانية والستين، وكان إسكندر يمده بالمال، فمنحه ثمانمائة تالنت
ناپیژندل شوی مخ
1 (وزنة من الذهب)، وكان يبعث إليه من الهند بعجائب المخلوقات ليستعين بدرسها على كتبه في التاريخ الطبيعي.
ولما مات إسكندر انقلب أهل أثينا على أرسطو بتهمتي الإلحاد وصداقته لأهل مقدونيا، وحاولوا قتله، فانسحب في 322ق.م وهو في الثانية والستين من عمره (وهو السن الذي سافر فيه أفلاطون من أثينا) إلى شالسيس بأيوبيا، وكان له بها أقارب وثروة ونفوذ، وهذا لم يمنع أهل أثينا من الحكم عليه بالإعدام غيابيا، وقد مات فعلا في السنة التالية بمرض العلماء، وهو ضعف المعدة في الثالثة والستين من عمره.
قبل أن يظهر أرسطو بثلاثة أو أربعة قرون نشأت الفلسفة اليونانية على شواطئ آسيا الصغرى كما أسلفنا في أول هذه النبذة؛ أي في وطن الشاعر هوميروس ناظم الإلياذة، وكان الفضل في ظهورها لطاليس دي ميليه أو الملطي وفيثاغورس دي ساموس وزينوفان دي كولوفون.
وأول من أطلق على الحكمة اسم الفلسفة فيثاغورس؛ فهو يدعى بحق أبا الفلسفة وواضع اسمها.
وإذا تكلمنا عن سقراط العظيم الذي لخصنا مبادئه وآراءه فلا يمكن فصله عن تلميذه وحبيبه أفلاطون؛ فأحدهما مكمل للآخر، وسقراط إن لم يكن والدا لأفلاطون فقد كان والد روحه، وموجد فكره؛ ولذا نجد في مؤلفات أفلاطون كل آراء سقراط وتعاليمه مشروحة وموضحة، ولا يخلو كتاب من كتب أفلاطون، حتى ولا محاورة صغيرة من محاوراته، من ذكر سقراط، والذي يقرأ مؤلفات أفلاطون يظن أنها كلها لمؤلف واحد، والحقيقة أن بعضها أفكار أفلاطون على لسان سقراط، وبعضها أفكار سقراط سبكها أفلاطون في أسلوب جميل عذب، آية في البلاغة والإبداع.
أما أرسطو أو أرسطوطاليس كما يسميه العرب، فهو الفيلسوف اليوناني بحق؛ لأنه مكمل أعمال أسلافه من الحكماء، وقد ارتبط بالفلاسفة القدماء عن طريق أفلاطون أستاذه، فكأنه تلقى فلسفة سقراط بعد أن مرت بعقل أفلاطون الروحاني الفكر، السامي الخيال، الشعري الحكمة .
إن الفلسفة اليونانية تمتاز بأمور كثيرة، منها أن خدمتها أعظم العقول التي عرفها التاريخ مثل عقول هيراقليط وأناكساجور وسقراط وأرسطوطاليس، ومنها أنها لنشأتها في أمة بغير عقيدة لم تكن خاضعة لأنظمة دينية أو لسلطة خفية تعمل على خنقها من وراء ستار، مثل ما وقع في أروبا في القرون الوسطى، ولابن رشد.
ولم يكن الفلاسفة اليونان في حاجة إلى النفاق والرياء للتوفيق بين الحكمة والدين كما هو شأن الحكماء في البيئات المتدينة؛ فإن الفيلسوف الصادق إذا نشأ في وسط متدين يكون حتما بين نارين؛ فإما يقول ما تمليه عليه حكمته وعلمه، وفيهما ما لا يتفق مع العقائد الدينية تمام الاتفاق. وإما يسعى في التوفيق بين الفلسفة والدين، وفي هذا ما فيه من الخروج على الحكمة والدين معا، وإغضاب أهل الدين وأهل الحكمة معا كما كانت حال جاليليه الذي ألقوه من حالق لقوله بدوران الأرض، وابن رشد الذي بصقوا في وجهه لحرية فكره.
أما الفلسفة اليونانية فكانت حرة طليقة، ولم تكن خاضعة لأي مؤثر خارجي، ولم يكن الفلاسفة اليونانيون مرغمين على قبول آراء أو معتقدات لم تمحصها عقولهم.
لقد شاءت الأقدار أن تنشأ الفلسفة اليونانية بعيدة عن عراك الدين والعقل؛ فليس في آرائهم نضال بين الفكر الحر الطليق والتقاليد الموضوعة المصطنعة، وشاءت الأقدار للفكر اليوناني أن يحلق في سماء الحكمة بغير قيد ولا شرط؛ لأنه لم يكن لدى الأمم اليونانية كتب مقدسة تنص على أمور معينة، وتحدد أصل الخلق، وتشرح تاريخ الإنسان والطبيعة على طريقة معينة.
ناپیژندل شوی مخ