والله ييسر لنا كل صعب، ويهيئ لنا من أمرنا رشدا.
عبد الوهاب عزام
18 من ربيع الأول سنة 1365ه
20 من فبراير 1946م
العرب ومواطنهم ولغتهم
تخلد الأمم على وجه الأرض، وتحيا على مر الدهور، وتثبت في صفحات التاريخ، بأسباب وقوانين، ويختلف حظها من الخلود ومن المجد باختلاف هذه الأسباب المواتية والقوانين السارية، قوة وضعفا، وإبطاء وإسراعا، وضيقا واتساعا، وهي أسباب متصلة متشابكة يؤدي بعضها إلى بعض ويمسك بعضها بعضا، من هذه الأسباب صلاحية الموطن، والقوة الحسية والمعنوية، والثبات للحادثات، والاحتفاظ بالخصائص، والاعتداد بالنفس والثقة بها، وحضارة الأمة وأثرها في العالم، وقدرتها على الأخذ والإعطاء في معترك الأمم، والمكانة بين الناس، وعظم التاريخ على مر الدهور.
فأما الوطن فقد منح الله العرب موطنا فسيحا وسطا بين المواطن، فياضا بالخيرات، بعيدا من الآفات المدمرة.
موطن العرب جزيرتهم التي ولد فيها تاريخهم، ثم مثواهم القديم الذي عرفهم فيه التاريخ منذ تحدث عن البشر، بين هضب إيران وجبال طوروس والبحر الأبيض، ثم متقلبهم الذي نشرهم فيه الإسلام إلى بحر الظلمات وأواسط إفريقية. وهو موطن شاسع الأرجاء يقع معظمه في الإقليم المعتدل، وقليل منه في الإقليم الحار، وتجري فيه ثلاثة من أعظم أنهار العالم: النيل ودجلة والفرات، وتتقسمه السهول الخصبة والبراري والصحارى والجبال، وتمتد سواحله على بحر العرب والبحرين الأحمر والأبيض. هذا الموطن العظيم يكفل الحياة القوية، والعيشة الغنية، والثبات على الخطوب، والبقاء على الزمان، وقد جعل الله مهد العرب جزيرة ممتازة محدودة بالبحار من معظم جهاتها، فحفظت هذا الجنس القوي بمعزل من تقلب الجماعات، بعيدا من طرق المهاجرات، فبقي يطبع الأجسام القوية والطباع السليمة والفطر الخالصة، ثم يمد بها أجزاء الموطن العربي الكبير كلما نالت الخطوب من أهله أو أترفتهم الحضارة، ما زال يقذف بهم موجة بعد موجة كالنهر العظيم المتدفق من قنن الجبال، بعد ينبوعه من الشوائب، واطرد مجراه إلى الغاية المقدرة له، ونبتت على عبريه الزروع والأشجار، وحييت الأمم.
وما تزال جزيرة العرب خلاقة ولادة فياضة ممدة لأقطار العرب بالقبيل بعد القبيل، فإن بليت الأمم فهذه الأمة لا تبلى، وإن أفنت الأقوام الحوادث فالعرب لا تفنى، وإن نضب معين الأمم فلن يغيض الدم العربي الخالص ما دامت أنهار الله جارية في أرض الله، وما دامت شمسه وهواؤه ينميان الأجسام، ويطبعان الأقوام.
ما تزال هذه الجزيرة المحتجزة ببحارها وصحاراها، المتمنعة بحزونتها وشدتها، البعيدة عن سبل المشرق والمغرب، المتأبية على الاختلاط والامتزاج، تحفظ الجنس العربي خالصا بين حدودها، وتمد به العرب المهاجرين نقيا قويا يرد إليهم ما أوهنت الحضارة من أبدانهم ونفوسهم.
ناپیژندل شوی مخ