إن كل المدن التي مررنا عليها مرور العابرين لا تخرج عن كونها أمثلة على ارتفاع مدن البشر وازدهارها، وتعرضها بالأمس واليوم - ربما أكثر من أي وقت مضى - للسقوط والانهيار، فهل نقول إن هذه المدن كانت تحمل بذور الفساد والهلاك من بداية أمرها، وأنها كانت وما تزال حفيداتها كذلك أبعد ما تكون عن «اليوتوبيات» التي تصورها الأدباء والفلاسفة في مختلف العصور والحضارات، أو عن المدن الفاضلة على حد تعبير الفارابي (255-339ه/870-950م) في كتابه المشهور؟ هل يمكننا القول بأن بعضها قد اقترب من المثال البعيد أو المستحيل في مرحلة من مراحل تطوره التاريخي والحضاري على أقل تقدير، أم نصفها - في بعض مراحل عمرها أيضا - بما وصف به هذا الفيلسوف المتصوف ما سماه بالمدن الجاهلية أو الجاهلة، والمدن الفاسقة والمبدلة والضالة، هذا إن لم نسمها المدن الظالمة أو المظلومة؟ وهل يصلح المثل الأعلى الذي رسمه كتاب المدن الفاضلة أو اليوتوبيات لأن تقاس عليه المدن الواقعية التي تضطرب بأنفاس بشر واقعيين تتضارب مصالحهم وطباعهم ونزعاتهم وأحلامهم، مع العلم بأن صور «اليوتوبيات» نفسها وملامحها وأهدافها قد تنوعت إلى حد التعارض والتناقض بين اليوتوبيا المجردة إلى حد الاستحالة، والمذهبية إلى درجة التصلب وإنكار طبيعة البشر، واللامعقولية المغرقة في التشاؤم من المستقبل المخيف إلى الحد الذي وصفت معه باليوتوبيات المضادة «وإن لم يمنع هذا من تحقق بعض تنبؤاتها المرعبة بصورة جزئية، على الأقل في مجتمع الإرهاب والتجسس والتصفية وغسل المخ كما في رواية 1984 لجورج أورويل، أو مجتمع تصنيع البشر وتفريخهم كما في رواية العالم الشجاع الطريف لألدوس هكسلي». (6) لنصل الآن إلى «ماهاجوني» هذه المدينة «غير الفاضلة» أو اليوتوبيا المضادة التي ترسم نموذجا أسود السخرية للمدينة «الرأسمالية» الواقعية واللامعقولة في آن واحد. والحق أن صاحب هذه الأوبرا المضادة «وهذا هو الذي سنعرض له بعد قليل» وهو الشاعر والكاتب المسرحي الاشتراكي الشهير برتولد برشت (1898-1956م)
3
لم يصرح بأن أوبراه يوتوبية أو مضادة لليوتوبيا. ولكن من الواضح أنها تقدم أبشع نموذج يمكن تصوره للمجتمع الرأسمالي بكل شره وقسوته وموبقاته. وهذا النموذج نفسه ينطوي ضمنا على الإحالة إلى ضده، ألا وهو نموذج المجتمع الاشتراكي الذي يفترض الشاعر خلوه من صور العسف والقمع واستغلال الإنسان واستعباده.
ولا بد من الحديث عن هذه الأوبرا والظروف التي أحاطت بكتابتها والأهداف التي ابتغاها برشت من ورائها، بجانب الحديث عن محتواها وشكلها وشخصياتها ومواقفها التي تجسد في جملتها الجحيم الرأسمالي على الأرض، وذلك قبل أن نناقش مشكلة المدينة اليوتوبية الفاضلة التي تطرحها بديلا عن ذلك الجحيم لكن نتحقق من وجودها أو عدمها. (7) تبدأ هذه الأوبرا بالشروع في تأسيس مدينة الذهب ماهاجوني، فبالذهب يمكن أن تقام مدينة الجنة أو جنة المدن التي يذهب إليها المتعبون الساخطون على المدن القديمة، مدن الفوضى والضجيج التي لم يبق فيها شيء يمكن أن يتمسك به الإنسان؛ لأن الشر قد انتشر في كل مكان، والرحمة والأخوة اختفيا من الأرض. وتطالعنا اللوحة الأولى بثلاثة مغامرين هم فيللي وموسى ومعهما تاجرة نشطة تدعى الأرملة بجبيك. لقد توقفت بهم عربة نقل قديمة في منطقة جرداء إلا من نفر يعملون في استخراج الذهب، وتغادره محملة برجال امتلأت جيوبهم بالذهب! وتقترح الأرملة أن ينصبوا خيمتهم ويرفعوا فوقها علما ينبه السفن الرائحة الغادية إلى مدينة السعادة واللذة والأحلام التي تقترح إقامتها في المكان نفسه، ونفهم من كلام الأرملة أنها لن تكون نسخة من مدن الضجيج والصراع والعمل والشقاء التي «تسيل تحتها المجاري وينتشر فوقها الدخان» بل ستكون الفردوس الذي يباح فيه كل شيء، وتمر أيام الأسبوع بلا عمل، ويتوافر «الجن والويسكي ولحم الخيول والنساء»، ويجلس الرجال كسالى بجانب الجدران وهم يدخنون ويتأملون منظر الغروب.
ويوافق الجميع على تأسيس مدينة الحب والأحلام الجديدة التي ستكون كالشبكة تصطاد كل طائر يمر، وتعوض اللاجئين إليها عن حياة الضياع التي عاشوها في المدن اللعينة التي عصفت بها رياح الغدر والجريمة «فماتت السكينة، وفقد السلام، والأمان». (8) ستكون ماهاجوني إذن هي النموذج؛ الضد للمدن القديمة التي يعذب فيها الإنسان ويستعبد ويهان، وستقدم البديل عن فساد الرأسمالية بالمزيد من الفساد الرأسمالي، وسرعان ما تنمو المدينة الجديدة وتزدهر. فما هي إلا أسابيع قليلة حتى يهاجر إليها «الحيتان وأسماك القرش»، وتفد إليها «جيني» ومعها ست عاهرات يغنين بالإنجليزية أغنية «ألاباما» التي يسألن فيها عن أقرب بار، ويؤكدن أن «السيدات» لا يستغنين عن الرجال والدولارات، وإلا هلكن كما تهلك الحيوانات. ولا تكاد تمر سنوات قليلة - كما تقول اللوحة الرابعة - حتى تزحف مواكب الساخطين من المدن اللعينة إلى جنة المدن ماهاجوني. ومن هؤلاء الساخطين أربعة رجال قضوا سبع سنوات من عمرهم في قطع الأشجار من غابات ألاسكا وسط البرد والثلوج، ثم جاءوا إليها وفي جيوبهم أوراق بنكنوت، وعلى أفواههم أغنية «هيا إلى ماهاجوني» التي تقول إنها جديرة بأن يعيشوا فيها لأن هواءها رطب منعش، وفيها الويسكي وموائد البوكر، ولا أحد يلقي عليهم بالأوامر والنواهي والتعليمات .
ويهبط الرجال الأربعة - باول أكرمان وياكوب شميت وهينريش ميرج ويوسف ليتنر الذي يسمونه ذئب ألاسكا - ميناء ماهاجوني فتستقبلهم الأرملة النشطة مرحبة، وتعرض عليهم كل المتع الممكنة وفي مقدمتها النساء. ويحتاج الأمر إلى شيء من المساومة والفصال، وتضطر التاجرة إلى تخفيض أسعارها مرتين حتى ترضي الزبائن العائدين من ألاسكا، في جيوبهم ذهب، وفي عظامهم برد الشتاء. ويهم الأربعة بالاتجاه إلى المدينة فيلفت أنظارهم رجال يحملون حقائبهم.
في طريقهم إلى الميناء لانتظار السفينة التي تقلع بهم. ويقول أحد الزبائن إن شيئا لا بد أن يكون فاسدا في المدينة، وإلا ما تركها هؤلاء المسافرون. وتخفض الأرملة أسعارها للمرة الثالثة، وتغني جيني مع العاهرات الست طالبة من باول أكرمان أن يجلس على ركبتها ويشرب من كأسها، فيصمم الرجال الأربعة على الذهاب إلى ماهاجوني!
وتعلن اللوحة السابعة أن للمشروعات الكبرى أزماتها، ومنها بطبيعة الحال هذا المشروع الرأسمالي لمدينة الغرائز والأحلام، كما تعرض اللافتات على المسرح إحصائية بالجرائم التي ترتكب في ماهاجوني وبحالة الأسعار المتقلبة فيها. ويؤكد فيللي وموسى أن تجارة المدينة لم تحقق الأرباح المنتظرة منها، وتشكو الأرملة الجشعة من قسوة الحياة عليها! وتخيب آمال الحطاب الطروب «باول أكرمان» في المدينة بعد أن يرى لوحة كتب عليها «ممنوع»؛ لأنه دخلها وهو يعتقد أن كل شيء فيها مباح. لقد سئم الشراب الرخيص، والتدخين، والنوم والسباحة، كما سئم الهدوء الذي يسودها والحياة البسيطة والطبيعة العظيمة؛ ولهذا قرر أن يتركها إلى مدن أخرى أكثر صخبا وضجيجا، وألا يرجع إليها أبدا مهما حاول أصدقاؤه إقناعه لأن فيها جرعة السلام زائدة، وفي الحياة راحة ليس اسمهما الملال والسأم، وفي الوجود جنة ليس اسمها الفراغ والعدم، وبعد الإقناع والتهديد من جانب أصحابه الذين لا تأخذهم الشفقة به حتى يرتد لوعيه ويصبح إنسانا، يجرونه معهم إلى المدينة وهو يبكي متوسلا: «من قال بأن لدي الرغبة في أن أصبح إنسانا.» (9) وتطالعنا اللوحة العاشرة بكارثة توشك أن تقع على رأس ماهوجوني؛ ففي خلفية المسرح كتابة بحروف ضخمة تقول: «الطيفون.» تعقبها كتابة أخرى تحذر أهالي ماهوجوني بهذه الكلمات: «الإعصار يتحرك نحو ماهاجوني.» وتئن الجوقة باكية: «أواه للحدث الخطير، أواه من هول المصير.» إن مدينة السرور والأفراح يزحف نحوها الخراب، والجوقة حائرة لا تدري ماذا تفعل في الليلة المرعبة: «أي جدار ها هنا يحميني. وأي كهف ها هنا يئويني؟»
ويشتد إعصار الرعب في قلوب سكان المدينة في انتظار الإعصار الحقيقي. وبين اليأس والرجاء تحاول جوقة الرجال أن تهدئهم وتشد أزرهم: «تماسكوا، لا تقلقوا من نذار الدمار، إذا انطفت من أرضنا الأنوار، لا تيأسوا وكونوا أقوياء، هل ينفع البكاء من ينازل الإعصار.» وبينما تتردد نغمة عدمية لا تخطئها الأذن في أغنية العاهرة المسكينة جيني التي لم تجد السعادة ولا الحب في ماهاجوني ولا في أي مكان: «وأينما ذهبت لا أمل هناك، وحيثما وجدت، مصيرك الهلاك، وخير ما تفعله، أن تنزوي في صمت، حتى يجيء الموت.» تفاجأ بصديقها باول أكرمان، الذي سبق الكلام عنه يقتحم حصار الخوف والوجوم بضحكاته المجنونة، وصيحات أغنيته التي يمجد فيها الإنسان بكلمات تذكرنا بالعبارات الشهيرة التي تقولها الجوقة في مسرحية أنتيجونا لسوفوكليس: «شر هو الإعصار والطيفون شر منه، وأسوأ الشرور كلها الإنسان!»
ويواصل الحطاب باول أكرمان غناءه ودعوته للمرح واستباحة كل متعة ممكنة في كل لحظة متاحة قبل أن يداهمهم الموت وينزل الستار، ويسترسل في عدميته المادية المستفزة التي تسري في إنتاج برشت الغنائي والمسرحي منذ مسرحيته المبكرة «بعل» إلى آخر أعماله الناضجة، ويحاول أن يقنع أهالي ماهاجوني بارتشاف اللحظات الباقية في كئوس حياتهم التي توشك أن تتهشم دون أمل في أن تلتئم من جديد: «لا تحلموا أن يرجع الصباح من جديد، فكل راحل مضى على الطريق لا يعود.» ولماذا يقلقون إذا كانوا سينتهون في آخر المطاف وينفقون مثلما ينفق كل حي، يعود للتراب للظلام الأبدي، ولن ترى عيونه، أشعة النهار، فليثبتوا إذن في مواجهة الإعصار، وليكونوا إعصارا أقوى منه! لأن كل ما يجلبه الإعصار من دمار، وكل ما يحدثه الطيفون من جنون، يمكنهم أيضا أن يجلبوه ويحدثوه بصورة أقوى وأشد، وكيف يفعلون هذا؟ بالتخلي عن كل أمل أو عزاء والاستسلام لجنون المرح والسعادة والكبرياء. (10) هكذا يكتشف الحطاب البسيط دستور السعادة البشرية، ويعلن إنجيل الفردية الرأسمالية التي تبيح للإنسان أن يسرق ويغتصب حقوق الآخرين ويقتحم بيوتهم وينتهك أعراضهم ويفعل ما يعجبه ويفكر فيما يحلو له وينفذه على الفور.
ناپیژندل شوی مخ